array(1) { [0]=> object(stdClass)#12962 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

الآثار الاجتماعية والثقافية المترتبة على خلل التركيبة السكانية في دول الخليج

الثلاثاء، 01 آذار/مارس 2011

بات ما يعرف بموضوع (التركيبة السكانية) في دول الخليج العربية يحظى باهتمام متزايد من وسائل الإعلام المختلفة والمؤسسات المعنية بالموضوع من حيث علاقته بمهامها ومسؤولياتها، وحرص المسؤولون والسياسيون والباحثون وغيرهم من المواطنين على إثارة هذه القضية بدافع لفت الأنظار إليها ومخاطرها وآثارها المهددة اجتماعياً وثقافياً وأمنياً كإسهام منهم في توعية المجتمع الخليجي بأبعاد هذه القضية، ونشرت مقالات وألقيت محاضرات تنذر بأن المنطقة في خطر داهم نتيجة للخلل في التركيبة السكانية المتمثل في ارتفاع أعداد غير المواطنين بوتيرة متصاعدة أدت إلى انخفاض نسبة المواطنين إلى الوافدين بصورة لافتة جداً.

لقد تعددت وتنوعت المواقف بشأن (التركيبة السكانية)، ومعظمها اتسم بالتشاؤم الشديد والخوف على مستقبل الإنسان والمجتمع الخليجي من الانعزال والتقلص إلى درجة أن البعض توقع وحذّر من ذوبان شبه كلي، بحيث تصبح نسبة المواطنين من جملة السكان أقل من خمسة في المائة في بعض دول الخليج العربية.

أما البعض الآخر، وهم قلة، فاتخذ موقفاً أكثر موضوعية وواقعية، حيث يدعو المعنيون إلى دراسة الموضوع من خلال عمل جماعي يضطلع به المختصون والخبراء يتلخص في صياغة علمية لطبيعة وأبعاد القضية وآثارها واقتراح المقاربة والمنهج والسياسة الواقعية لعلاجها، إلا أن معظم المواقف المعلنة حتى الآن، وإن اختلفت في حدتها وفي درجة ما تعلنه من احتجاج أو نقد، تستند إلى أدلة وظواهر آنية، وتبقى في معظمها تعاميم تشوبها المبالغة والتهويل. وهكذا يظل الحديث عن (التركيبة السكانية) مستمراً، لكنه يشتد حيناً ويخبو في معظم الأحيان، ويبقى محصوراً في التعليق العام على الأرقام الخاصة بالمواطنين ونسبتهم إلى جملة المقيمين من غير المواطنين. وفي المحصلة النهائية لا يترجم ذلك في صورة أفعال وسياسات وإجراءات عملية على أرض الواقع شاملة أبعاد وآثار هذه المسألة.

التوصيف بمفاهيم ديموغرافية سليمة

من المؤكد أن هناك أبعاداً وجوانب أخرى للموضوع السكاني يجدر ذكرها، بحيث لا تغيب عن الذهن العام والتمحيص العلمي لهذه الظاهرة المتعددة الأبعاد. فكما هو معروف، أن العلاقة بين المتغيرات التنموية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإدارية والثقافية من جهة والمتغيرات السكانية من جهة أخرى، لها علاقة تأثير وتأثر متبادلة.

إن كل ما ينشر أو يتم الحديث عنه حول (التركيبة السكانية) يقع في إطار تأثير التغير الرقمي في نسبة جزء من السكان إلى المجموع الكلي لهم. بمعنى تناقص نسبة المواطنين من جملة السكان وأثر ذلك في أحوالهم الاجتماعية، وتغير ملامح الواقع البيئي والثقافي المحيط بهم. أما آثار وتداعيات القرارات والسياسات والبرامج الاقتصادية والاجتماعية والمشاريع الإنمائية المختلفة التي تنفذها الدول الخليجية على الواقع السكاني (التركيبة السكانية وغيرها من المتغيرات السكانية)، فلا تحظى بأي تحليل أو دراسة علمية لجهة اختيار واتخاذ أنسب الإجراءات والقرارات التنموية من حيث التأثير إيجابياً في الوضع الديموغرافي في هذه الدول.

وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أننا نحن معشر الديموغرافيين نرى أن الشخصية الديموغرافية لأية دولة تتشكل من ثلاثة مكونات تتفاعل وتتكامل لتنتج عنها المتغيرات السكانية التي بدورها تؤثر وتتأثر بالمتغيرات التنموية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية وغيرها. فمسألة الخلل أو التوازن هي وصف للعلاقة بين عناصر طرفي معادلة (السكان والتنمية) وحركة هذه العناصر عبر الزمن. بمعنى أنه من وجهة النظر التنموية الاجتماعية والاقتصادية والاستراتيجية والأمنية، هناك حجم أمثل للسكان (وهو أحد المكونات الديموغرافية لشخصية الدولة)، وهناك تركيب سكاني مناسب (وهو ثاني المكونات) وتوزيع جغرافي متوازن للسكان (وهو ثالث المكونات) والذي يمثل علاقة انتشار السكان جغرافياً في المكان وعلى مساحة الدولة. ويمثل نمو السكان (بمعنى تغير عددهم عبر الزمن) الضابط الأساسي للعلاقة بين المكونات الثلاثة المذكورة. فيكون معدل نمو السكان ووتيرة تغير عددهم بمثابة رد فعل وتعبير عن سعي الدولة إلى تحقيق مستوى معين يكون عنده إجمالي عدد السكان (حجم السكان) ونوعيتهم وخصائصهم وديناميكية نموهم وتركيبهم (التعليمي والمهني والنوعي والاقتصادي.. إلخ) وتوزيعهم المكاني من جهة متوازناً مع الموارد المتاحة وتوزيعها، ومع المستوى الاقتصادي والمعيشي والبيئي من جهة أخرى.

فحينما يستخدم مصطلح (التركيبة السكانية) يتبادر إلى الذهن ما استقر عليه الديموغرافيون والمختصون بالقضايا السكانية بأن المقصود تركيب السكان حسب النوع الاجتماعي (نسبة الذكور إلى الإناث) أو التركيب التعليمي (نسب ومستويات التعليم والتأهيل لدى السكان) أو التركيب حسب النشاط الاقتصادي نسب السكان العاملين في القطاعات الزراعية والصناعية والخدماتية (الاقتصادية) أو تركيب السكان المهني (أي نسب توزيع السكان على المهن المختلفة).. إلخ. بمعنى أن تركيب السكان (أي التركيبة السكانية) هو عبارة عن خصائص السكان وتوزيع عددهم الإجمالي على تلك الخصائص. وحينما يكون هناك تنوع وأصول مختلفة، إثنية أو دينية مثلاً، فإن ذلك يكون مجرد أحد أبعاد التركيب السكاني.

وبناء على ذلك يتضح أن استخدام مصطلح (خلل التركيبة السكانية) من وجهة النظر الديموغرافية لا يقصد به خللاً عاماً في تركيب السكان بالمعنى العلمي للمصطلح، بل إنه مجرد خلل في واحد من أبعاد التركيب السكاني. علماً أن هناك أنواعاً أخرى من الخلل في تركيب السكان، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر في دول الخليج العربية، الخلل في التركيب النوعي الاجتماعي (نسبة الذكور إلى الإناث) وهذه صفة لها آثارها السلبية الاجتماعية.

لكن إذا نظرنا إلى المؤشرات الديموغرافية بصفة عامة لأي من دول الخليج العربية نلاحظ أنها في مجملها مؤشرات عادية مقبولة شأنها شأن المؤشرات الخاصة بالعديد من دول العالم، فهي ليست شاذة أو مختلة أو تدعو إلى الخوف، وهذه النتيجة تستند إلى دراسات علمية. وهي نتيجة صحيحة إذا كنا نستخدم المصطلحات بدقة علمية وبمعانيها وتعريفها الصحيح، وليس مجرد كلمات عامة غير محددة المحتوى والدلالة. ونعني بذلك أن هنالك فارقاً وتبايناً كبيراً بين مصطلح (سكان الإمارات)(Population of Emirates) مثلاً و(السكان في الإمارات)(Population In Emirates) . فالمصطلح الأول يعني مجموع الأشخاص المنتمين إلى دولة الإمارات، ويملكون الوثيقة أو الوثائق التي تثبت هذا الانتماء وتمتعهم بجنسية الدولة، بغض النظر عن مكان إقامتهم في الدولة أو خارجها. أما المصطلح الثاني، فيعني مجموع الأشخاص المقيمين أو الذين يعيشون على أرض الدولة بغض النظر عن الجنسية التي يحملونها سواء أكانت جنسية إماراتية أم غيرها.

والفرق شاسع بين دلالة المصطلحين سواء من حيث العدد الإجمالي للسكان أو من حيث تركيبهم وتوزيعهم.. إلخ، حيث إن عبارة (السكان في الإمارات) تتضمن كتلة بشرية دخلت الدولة، وأقامت على أرضها لفترات زمنية متفاوتة (الوافدون المقيمون في الدولة). فأي خلل في أي مؤشر ديموغرافي هو نتيجة مباشرة لدخول هذه الكتلة البشرية إلى الدولة (من خلال متغير الهجرة) وتأثيرها في حجم السكان وتركيبهم وتوزيعهم وعلى معدل نموهم أيضاً.

معادلة السكان والتنمية

استناداً إلى ما تقدم يمكن توصيف المسألة الديموغرافية في أي من دول الخليج العربية بأنها ليست خللاً في تركيب (سكان الدولة) وإنما خلل في أحد أبعاد تركيبة (السكان في الدولة) وغياب سياسة سكانية تفصيلية تنظم الأعداد والخصائص المختلفة للأشخاص الوافدين إلى الدولة والمقيمين فيها الذين يعتبرون جزءاً من (السكان في الدولة).

فالخلل، إن وجد، يكمن في السياسة السكانية التفصيلية المنشودة (للسكان في الدولة)، فهذه السياسة يجب أن تكون متوازنة من حيث الخصائص التعليمية والمهنية والإثنية وغيرها، وأن تكون متسقة في مجملها مع السياسة التنموية القطاعية والثقافية ومع الأهداف والرؤية للشخصية الوطنية حاضراً ومستقبلاً.

ولذلك فإن القول إن هناك تناقصاً في عدد سكان أية دولة من دول الخليج العربية ليس صحيحاً، لأن معدل التزايد الطبيعي السنوي مرتفع في كافة هذه الدول. بمعنى أن معدلات الخصوبة فيها مرتفعة، وفي الآن ذاته معدلات الوفيات فيها منخفضة جداً وتماثل المعدلات السائدة في الدول المتقدمة. لكن نسبة السكان (المواطنين) من جملة (السكان في الدولة المعنية) تتناقص نتيجة لعدم توفر سياسة سكانية تحدد أعداد الوافدين ونوعيتهم أو خصائصهم، لأن عملية استقدام الوافدين إلى دول الخليج العربية لا تتم في ضوء سياسة سكانية محددة، بل هي مجرد آلية لتلبية احتياجات سوق العمل التي تخضع بصفة أساسية لمتطلبات وقرارات أفراد وشركات القطاع الخاص ومن دون أي تنسيق أو سياسة موحدة لجميع الفاعلين في مجال استقدام العمالة بما فيهم المؤسسات والوزارات المعنية.

وخلاصة القول أن ما يدعى (خلل التركيبة السكانية) ليس خللاً في تركيب (سكان الدولة)، بل هو كما ذكر آنفاً خلل في أحد أبعاد تركيب السكان في الدولةومظهر من مظاهر عدم التوازن بين عناصر طرفي معادلة (السكان والتنمية) وعدم تبني سياسة سكانية ذات عناصر ديموغرافية محددة لها آثار اقتصادية واجتماعية وثقافية وأمنية.. إلخ. وفي الآن ذاته متسقة مع عناصر الطرف الثاني من المعادلة (أي عناصر التنمية الوطنية الشاملة) والتي لها آثار مهمة في معالم الشخصية الديموغرافية للدولة.

فعلى أي أساس نحكم بأن عدد السكان الحالي لأية دولة خليجية كثير أو قليل، وأن حجمها السكاني الحالي مناسب أو غير مناسب اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وأمنياً. وإذا كنا لا نعرف الأهداف الكلية والتفصيلية التي تبتغيها هذه الدولة من خلال سياستها السكانية والتنموية المعلنة خاصة أننا نعلم أن لكل دولة حجماً أمثل للسكان، وأن لدى المختصين أسلوباً أو طريقة علمية لتحديده، وكذلك الحال بالنسبة لتحديد مجموعة من الأهداف والتصورات المستقبلية المرغوب فيها على صعيد تركيب السكان وتوزيعهم جغرافياً في الدولة المعنية. كما أننا يمكن أن نصوغ مجموعة متناسقة من البرامج والقوانين والتشريعات الهادفة إلى تحقيق هذه الأهداف والتصورات الديموغرافية المستقبلية، فمن حصيلة هذه المعرفة والنتائج العلمية السكانية تتشكل (السياسة السكانية).

تبني سياسة سكانية واضحة

لصياغة سياسة سكانية لا بد أن نحدد علمياً مجموعة من الأهداف والتصورات المستقبلية المرغوب فيها كملامح للشخصية الديموغرافية للدولة المعنية، كما يجب أن نصوغ مجموعة متناسقة من البرامج والقوانين والتشريعات الهادفة إلى تحقيق هذه الغايات والتصورات الديموغرافية المستقبلية. فمن حصيلة هذه المعرفة والنتائج العلمية السكانية تتشكل السياسة السكانية. ولذلك فإن (السياسة السكانية) سواء أكانت صريحة ومعلنة أم ضمنيه غير معلنة عبارة عن وثيقة تتضمن سرداً لنية أو خطة الدولة بمؤسساتها وهيئاتها المختلفة للتأثير في حجم ونمو السكان وتركيبهم وتوزيعهم فيها، وكذلك تبني برامج وآليات محددة كالقوانين واللوائح والتشريعات والأنظمة والبرامج والأنشطة الإنمائية )المدمجة بخطة التنمية الوطنية) والتي لها تأثير إيجابي مباشر أو غير مباشر في المتغيرات السكانية.

الجهة صاحبة القرار

تقوم الدول عادة بإنشاء وزارة أو مجلس أو لجنة وطنية أو هيئة خاصة بالمسائل السكانية. وبات هذا الإجراء ضرورة ملحة للدول العربية الخليجية. واستجابة لذلك خطت دولة الإمارات العربية المتحدة الخطوة الأهم على طريق مواجهة الخلل في معادلة السكان والتنمية (المعروف محلياً بخلل التركيبة السكانية). وذلك بإصدار القيادة السياسية ومن أعلى مستوى قراراً بإنشاء المجلس الاتحادي للتركيبة السكانية. وهذا يعني التأكيد من الدولة على أهمية الموضوع وموقعه بين أولوياتها، وأنها باتت تفكر وتتعامل مع القضايا السكانية بصورة مؤسسية وبمنهج علمي تحليلي شامل يتجاوز النظرة الضيقة للتركيبة السكانية في حدودها الرقمية كنسبة مئوية محدودة الدلالة. ولذلك لا بد من تعزيز مناقشات وحوارات أعضاء المجلس المستندة إلى معرفتهم وخبرتهم ووجهات نظرهم بدراسات علمية معمقة وموجهة ومصممة خصيصاً لبحث الأبعاد والعلاقات وحركة المتغيرات المكونة للعناصر العديدة لمعادلة (السكان والتنمية). وبذلك تكون القرارات التي سيصدرها المجلس موضوعية ومستندة إلى رؤية شمولية متعددة الأبعاد والاعتبارات وطنياً وقومياً وإنسانياً، وفي الآن ذاته تمثل العلاج المرجح علمياً والمفضل اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وأمنياً للمشكلة أو الخلل أياً كان نعته ديموغرافياً أو تنموياً.

إن مسؤولية المجلس ضخمة ومهماته عديدة، لكن أهمها على الإطلاق اتخاذ القرار باختيار النمط السكاني الأنسب للدولة. ونعني به إجمالي عدد السكان وتركيبهم وتوزيعهم ومعدلات واتجاهات تغيرهم ديموغرافياً في المكان والزمان المحددين لتحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والأمنية وغيرها. فالنمط السكاني السائد واتجاهاته المستقبلية يجب أن يكون متسقاً ومتوازناً مع واقع الصورة والشخصية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية المرضي عنها حالياً والمنشودة مستقبلاً كمحصلة ونتيجة للتنمية الشاملة التي تضطلع بها الدولة.

إن عملية اختيار النمط السكاني الأنسب واتخاذ القرار من خلال مقارنة الأنماط السكانية الممكنة باعتبارها بدائل متباينة من حيث قدرتها وإمكان تنفيذها وتقبلها اجتماعياً وثقافياً وسياسياً، تتطلب بحوثاً ودراسات تحضيرية عديدة واستقصاءات لاتجاهات التغير والسلوك الديموغرافي والمواقف ذات العلاقة.

فتبعاً لاختيار وتحديد العناصر والمستويات للمتغيرات الديموغرافية المرغوب فيها اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً ستنشأ تغيرات نتيجة لذلك على الصعد المرتبطة بها في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية وغيرها، فمثلاً ترتبط بتغير الحجم السكاني وبمعدل النمو السكاني تغيرات اجتماعية واقتصادية مباشرة أكثرها وضوحاً التغير في حجم القوى البشرية المتوافرة في الدولة (أي السكان في سن العمل 15 - 64 سنة) وفي حجم قوة العمل التي ينجم عنها بطبيعة الحال تغير في الدخل القومي، وفي نصيب الفرد من الناتج الإجمالي، والتي ترتبط بدورها بمستويات الادخار والاستثمار وذلك بافتراض أن توافر القوى العاملة يشكل عنصراً مهماً في دفع عجلة التنمية واستثمار الموارد، لكن في المقابل فإن نمو حجم السكان يعني زيادة عدد الأفواه المستهلكة (حجم الاستهلاك) الذي يمكن أن يكون تياراً جارفاً يبتلع كل الادخار أو معظم ما تحققه التنمية من زيادة في الإنتاج. علاوة على ذلك فإن زيادة حجم القوى العاملة تلقي بأعباء ومسؤوليات إضافية على كاهل الدولة كتوفير فرص العمل الكافية وتوفير التعليم والتدريب والسكن والتطبيب وغيرها. كما ترتبط بتغير حجم السكان ونموهم متغيرات تنموية مثل حجم الاستيراد ومستوى التوظيف أو الاستخدام وتغيرات أخرى اجتماعية وثقافية واقتصادية وأمنية عديدة. هذا علاوة على أن تغير حجم السكان ونموهم يعكسان تغيراً في تركيب السكان العمري والنوعي والإثني وتوزيعهم الجغرافي، وهذا كله يؤدي بدوره إلى تغير في تركيب الاستهلاك والادخار. فكما نعلم أن مطالب الإنسان واحتياجاته ونمط استهلاكه تختلف باختلاف عمره ونوعه وحسب خصائصه الأخرى. وهكذا بالنسبة للمتغيرات الديموغرافية الأخرى، فالوفيات والإنجاب والهجرة الداخلية والخارجية والتركيب العمري والنوعي وغيرها من أنواع التركيب، كل منها يؤثر في متغيرات اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية معينة، والعكس صحيح.

وهكذا إذا استقر الرأي لدى صاحب القرار باختيار نمط سكاني محدد، يعتقد أنه الأنسب للمجتمع اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وأمنياً، وذلك استناداً إلى دراسات وتحليل علمي شامل لكافة أبعاد ومتغيرات (معادلة السكان والتنمية) عليه أن ينتقل إلى المرحلة التالية المتمثلة في اتخاذ القرارات المستنيرة بشأن تحديد الآليات التنفيذية للأنشطة والبرامج والتشريعات الهادفة إلى تحقيق غايات منشودة اجتماعية واقتصادية وثقافية أو تنموية شاملة تعبر في مجملها عن سياسة سكانية وطنية مدروسة ومتسقة ومتكاملة ومتوازنة مع التنمية الوطنية المستدامة.

الهجرة الوافدة

يبدو جلياً أن مظاهر الخلل في التركيب السكاني لدول الخليج العربية بأشكالها وأبعادها وتداعياتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية المختلفة، قد نجمت عن تدفق تيار من الهجرة الوافدة للعمل في هذه الدول عشية اكتشاف وإنتاج النفط بكميات ضخمة منذ عقود عدة، وتصاعد حجم هذا التيار وتنوع مصادره بصورة دراماتيكية نتيجة للطفرة الاقتصادية العمرانية والإنشائية للبنية التحتية والمشاريع الإنتاجية المختلفة في القطاعات الأخرى.

وتأسيساً على ذلك، فإن حجر الزاوية في أي سياسة سكانية خليجية لإصلاح معظم الخلل الراهن هو (مسألة الهجرة الوافدة) متمثلة في مصادرها وحجمها وخصائصها وآثارها وتداعياتها الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية.. إلخ، والأسس والأساليب والآليات العملية والإجرائية لإيجاد التوازن المطلوب بينها وبين التنمية، حجماً ووتيرة وتنوعاً وعدالة، من حيث التوزيع للعوائد جغرافياً وقطاعياً واجتماعياً، وأن تكون هذه الهجرة متسقة ومتوازنة مع المعطيات والقيم الوطنية الاجتماعية والثقافية والاعتبارات السياسية والأهداف والسياسات الوطنية والقومية، وذلك من خلال التأثير الموجه لمصادر تيار الهجرة الوافدة والخصائص الذاتية والعلمية والمهنية للمهاجرين الوافدين.

إن إعداد سياسة سكانية شاملة لكافة الأبعاد والمتغيرات بتأثيراتها المتبادلة وتداعياتها المتعددة يتطلب توافر دراسات علمية تحليلية كمية ونوعية ومقارنة بين الواقع الراهن والوضع المنشود، فعلى سبيل المثال لا الحصر يجب أن يتوفر لدينا وصف شامل للمشاريع والأعمال الإنتاجية في القطاعات كافة وبيان لنوعية التنمية وخصائصها والاستثمارات البشرية والمالية القائمة ولسوق العمل وحجم وخصائص العمالة الموجودة.. إلخ. وفي المقابل يجب أن تتوفر لدينا تقديرات أو توقعات علمية لاحتياجات سوق العمل من العمالة المؤهلة والمدربة لسنوات مقبلة وحسب التخصصات والمصدر سواء كان مصدرها وطنياً يتم توفيره عبر مخرجات مؤسسات التعليم والتدريب الوطنية بمستوياتها المختلفة، أو يتم استقدامها من مصادر خارجية مدروسة من حيث تكلفتها الاقتصادية المعقولة وخصائصها وقيمها الاجتماعية والثقافية المتسقة مع الهوية والقيم والتقاليد العربية الإسلامية والمتفقة مبدئياً مع النظام السياسي والثوابت الوطنية.

مجلة آراء حول الخليج