لم يكن مفاجئًا لكل مراقب دقيق للسياسة الأوروبية نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي التي جرت في يونيو الماضي، وأفرزت نتائجها تقدمًا كبيرًا لليمين المتطرف في غالب الدول الأوروبية، قد تكون المفاجأة في حجم الأرقام التي حققتها هذه الأحزاب، خاصة في البلدان التي تقدمت فيها حتى على الحزب الحاكم، ففي فرنسا صوت أكثر من ثلث الناخبين الفرنسيين لصالح حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف الذي تترأسه ماري لوبان، وحصل بذلك على نسبة 31.37 % من جملة الأصوات محتلًا المركز الأول، وفي إسبانيا كذلك تصدر الحزب الشعبي اليميني المتطرف الانتخابات بنسبة 34 % ، وهو المركز نفسه الذي أحرزه حزب إخوة إيطاليا الحاكم الذي تترأسه رئيسة الوزراء جيورجيا ميلوني، وفي النمسا حصل حزب الحرية اليميني المتطرف على نسبة 25.4 %، ولا يختلف الأمر كثيرًا في هولندا والمجر وبلجيكا وفي غيرها من البلدان الأوروبية التي شهدت موجة صعود مقلق للأحزاب اليمينية المتطرفة .
نحاول في هذا المقال دراسة جذور اليمين المتطرف في أوروبا والوقوف على أسباب صعوده، وما هي القضايا التي تشغل باله، وقبل ذلك ماهي الخلفيات الفكرية والثقافية التي تسند رؤاه، وكيف يؤثر صعوده هذا على بعض القضايا الجوهرية كالهجرة واللجوء وظاهرة الإسلام فوبيا في أوروبا.
في مارس عام 2019 م، وقع هجوم إرهابي استهدف مسجدين في جنوب نيوزيلندا وأودى بحياة 51 من المصلين، أعلنت رئيسة الوزراء وقتها جاسيندا أرديرن أن الهجوم نفذه إرهابي يميني متطرف وعنيف، لاحقًا وجد أن المهاجم كتب علي سلاحه عبارة ( فيينا ) في إشارة لمعركة فيينا التي خسرتها الدولة العثمانية عام 1571 م، وكانت بداية لتوقف الزحف العثماني في أوروبا، ونشر المهاجم بيانًا على الإنترنت قال فيه ( أرضنا لن تكون يومًا للمهاجرين وهذا الوطن الذي كان للرجال البيض سيظل كذلك ولن يستطيعوا يومًا استبدال شعبنا ) كما أكد أن هجومه يأتي من أجل ( الانتقام لمئات آلاف القتلى الذين سقطوا بسبب الغزاة في الأراضي الأوروبية على مدى التاريخ ) . عبارات المهاجم وشعارا ته كلها مستوحاة من رواية معسكر القديسين التي نشرها الروائي الفرنسي جان راسيل في السبعينيات وعادت خلال السنوات القليلة الماضية بفضل اهتمام اليمين المتطرف بها لتكون من أعلى الكتب توزيعًا وتأثيرًا وسط الشباب الأوروبي، وعلى الرغم من أن الكاتب ينفي عن نفسه أي انتماء لأي جماعة إلا أن أحاديثه كلها تدعم هذا التوجه، ففي لقاء تلفزيوني مؤخرًا صرح قائلًا ( بدون استخدام القوة لن نوقف الغزاة )، على أن الدور الأكبر في بلورة أفكار راسيل وتحويلها إلى ما يشبه الخطة السياسية قام به الكاتب رينو كامو في كتابه ( الاستبدال العظيم ) حيث طور نظرية مفادها أن سكان فرنسا وأوروبا يتم استبدالهم بشكل منتظم من غير الأوروبيين وذلك من خلال الهجرة الجماعية من العرب والشرق أوسطيين ومواطني الشمال والجنوب الإفريقي.
تعريف اليمين المتطرف والتعرف على طبيعته:
سياسيًا يتم تعريف اليمين المتطرف بناء على تصنيف تقليدي للأحزاب السياسية ينطلق من نقطة الوسط التي توصف بها الأحزاب المعتدلة في مواقفها الفكرية، بينما يتم توصيف الأحزاب الاشتراكية بالأحزاب اليسارية، أما الأحزاب المحافظة التي تهتم بالقيم الأخلاقية وقضايا الأسرة بصورة عامة فدائمًا ما توصف بأنها يمينية، أما في أوروبا فإن الأحزاب اليمينية تضيف إلى تلك القضايا التركيز على المسيحية وتعاليمها، وبناء على هذا التصنيف تجيء أحزاب اليمين المتطرف أقصى يمين الأحزاب التقليدية، وأضافت لتلك القضايا مواضيع كالموقف من الهجرة والعداء للأجانب، والإسلام فوبيا، وتعظيم القومية الأوروبية . وارتبطت الظاهرة بمفهوم آخر في السياسة الغربية بدأ يتنامى في الفترة الأخيرة وهو مفهوم الشعبوية، وعلى الرغم من عدم وجود تعريف واضح لهذا المفهوم إلا أن هناك اتفاق على أنه يطلق لوصف خطاب اليمين المتطرف الذي يجنح لتبني خطاب سياسي موجه بالأساس للشعب ويتبنى مفاهيم معادية للنظم والمؤسسات المستقرة في كل بلد، ويمثل الرئيس الأمريكي السابق والمرشح الجمهوري الحالي دونالد ترامب نموذجًا مثاليًا لهذا التعريف، حيث ساهمت أساليبه الشعبوية في تأجيج الخطاب القومي وتقوية النعرات العنصرية، وقد تبني مخطط السياسات الاستراتيجية السابق لدونالد ترامب ستيف بانون نفس مصطلحات منظري اليمين المتطرف في أوروبا في خطاب له ( ما نشاهده الآن أشبه بغزو قديسي على وسط وغرب قارة أوروبا) وكلمة الغزو القديسي هي العامل المشترك في رواية معسكر القديسين لجان راسيل وكتاب رينو كامو ( الاستبدال العظيم ) وبيان منفذ هجمات نيوزيلندا .
وتعود الجذور الحديثة لهذه الظاهرة إلى كتابات متفرقة إبان الفترة النازية خلال ثلاثينيات القرن الماضي في إطار الحركات المعادية للسامية، ولكنها مؤخرًا طورت خطابًا معاديًا للمسلمين فيما بات يعرف اليوم بظاهرة الإسلاموفوبيا ( الخوف من الإسلام )، ورغم صحة هذا الزعم إلا أن الأصح أن هذه النزعة تتجذر عميقًا في الفضاء الأوروبي من واقع الاختلاف في الرؤية الحضارية والثقافية للعالم بين أوروبا ذات التراث المسيحي من جهة والإسلام من جهة أخرى، ولذلك يرجعها بعض الباحثين إلى القرن الحادي عشر تاريخ بداية الحروب الصليبية على العالم الإسلامي ، ويشيرون إلى خطاب البابا أوروبان الثاني في مدينة كليرمونت الفرنسية الذي ورد فيه (اتخذوا طريقكم إلى الضريح المقدس وانتزعوا هذه الأرض من ذلك الجنس الخبيث وتملكوها أنتم) وهناك من يعود بالظاهرة إلى عام 1648م، تاريخ معاهدة وستفاليا التي أسست لنظام الدول القومية في أوروبا، والتي تقوم على أساس الولاء القومي الذي يركز على مفهوم الأمة القومية والتعصب لفكرتها، وقد لعبت النازية دورًا محوريًا في صياغة مفهوم التفوق القومي والعرقي وفي اتخاذ الآخر المختلف عدوًا ، وكان هذا الآخر في ذلك الوقت هو اليهود.
وخلال فترة التسعينيات من القرن الماضي تزايد الاهتمام بهذه الظاهرة على خلفية بروز سياسات الهوية والنزعات القومية نتيجة تفكك الاتحاد السوفيتي السابق، وجاءت هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2011 وما تلاها من حرب على الإرهاب لتمثل عامل تغذية لشرايين الأحزاب المتطرفة ...
أسباب صعود اليمين المتطرف:
تتنوع الأسباب التي أدت إلى إحياء النزعة القومية المتطرفة التي سبق وأن اختفت بعد هزيمة النازية والفاشية في الحرب العالمة الثانية، وتتداخل عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية لبروز هذه الظاهرة من جديد وتصدرها للفضاء العام في أوروبا.
- لقد كان للأزمة المالية العالمية العام 2008م، الأثر في انتشار البطالة والركود الاقتصادي حول العالم، مما زاد من حركة الهجرة نحو أوروبا وخاصة من إفريقيا والدول العربية والإسلامية، هنا بدأت تستشعر بعض القطاعات أن موجة الهجرة هذه تشكل مزاحمة للسكان الأصليين في فرص العمل واستخدام وسائل الرفاه الاقتصادي، ومع ازدياد وتيرة الهجرة من البلدان العربية نتيجة لحالة عدم الاستقرار بعد الانتفاضات التي شهدتها منذ العام 2010م، تزايدت موجة العداء ضد المهاجرين بصفة عامة والمسلمين بصفة خاصة، تزامن ذلك مع انتشار المخاوف من تهديد الهوية القومية للشعوب الأوروبية بعد سياسات الاندماج التي تبنتها الحكومات الأوروبية بحق المهاجرين، وتحولت هذه المخاوف إلى خطوات عملية بعد وقوع عدد من العمليات الإرهابية من عناصر تنتمي للإسلام في عدد من البلدان الغربية ، حيث قامت الأحزاب اليمينية المتطرفة بتأسيس منظمة (المدن ضد الىسلمة) لمقاومة المهاجرين المسلمين .
- تتزايد مخاوف القوميين الأوروبيين من العولمة ومخاطرها المحتملة في تهديد الخصوصيات القومية وفي تمكن النظام الرأسمالي المفتوح الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة، ويري هؤلاء المتطرفون في الولايات المتحدة نفسها على المستوي البعيد خطرًا اقتصاديًا يهدد البني الاقتصادية التي تسعى هذه الأحزاب لتطويرها باتجاه منحى أكثر التصاقًا بالشعب، وهوما حدا بكثير من اتحادات العمال في أوروبا التخلي عن دعم الأحزاب الاشتراكية والتصويت لأحزاب اليمين.
- لقد كان للظروف الاقتصادية التي عاشتها أوروبا خلال الفترة
الماضية التي شهدت صعود أحزاب اليسار دوره البارز في تقوية الخطاب اليميني المتطرف، إذ أدى سوء الأداء الاقتصادي لزيادة معدل البطالة وانتشار الفقر، وفي ألمانيا كنموذج حيث سيطر التباطؤ الاقتصادي وارتفاع معدل التضخم صعد حزب البديل من أجل ألمانيا إلى المرتبة الثانية، في الوقت الذي تتزايد مساحات تأثير حركة بيغيدا المتطرفة وأنشطتها المعادية للمسلمين والمهاجرين على السواء.
- تظل القضية الأمنية واحدة من الأسباب الأساسية التي أدت إلى صعود اليمين المتطرف، وقد تضخمت هذه القضية منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر والهجمات التي تلتها في بعض البلدان الأوروبية، حيث تم توظيف تلك الأحداث في تطوير خطاب متطرف ضد المسلمين وإحياء مخاوف المواطنين الأوروبيين من وجود أعداء محتملين ينتشرون بينهم.
- هناك بعض التحركات التي تصور لقطاعات أوروبية واسعة قدرة اليمين المتطرف على إنجاز ما تعجز عنه الحكومات، فقد شهدت فنلندا مثلا تأسيس جماعة اسمها (جنود أودين) الذين يتجولون في الشوارع لحماية المواطنين الفنلنديين من هجمات (الغزاة المسلمين) وهو ذات النموذج المطبق في ألمانيا تحت مسمى (فرايتال) التي تقوم على ادعاء مفاده عجز الحكومة عن حماية المواطنين وأنه (يجب علينا أن نتولى حل مشكلة اللاجئين بأنفسنا).
- لعبت قدرة الأحزاب اليمينية على توظيف الإنترنت توظيفًا جيدًا دورًا فعالًا في الترويج لأفكارها واستقطاب الفئات الشبابية، واستطاعت كسر الحاجز الإعلامي المفروض عليها لتنفذ مباشرة لمخاطبة الناخب الأوروبي.
أهم القضايا التي يركز عليها اليمين المتطرف:
تتفاوت رؤى أحزاب اليمين المتطرفة في بعض القضايا من دولة أوروبية لأخرى، وذلك حسب السياق المحلي والعوامل التي تتفاعل معها هذه الأحزاب داخليًا، ولعل نموذج الحزب الوطني في فرنسا يعطينا مثالًا عمليًا على تكيف هذه الأحزاب مع دواعي المتطلبات الديمقراطية والتعايش مع النظام الديمقراطي وتوظيفه لصالح خطابها المتطرف حتى ولو كانت لديها رأي مناهض لهذا النظام، فقد قامت ماري لوبان بتطوير خطاب الحزب ليتخلص من إرث معاداة السامية وهجر وسائل القوة العنيفة في العمل السياسي ليسهل تسويق خطابه وبرنامجه وسط كافة الناخبين الفرنسيين وليس المواطنين المتشددين فقط، وهو النموذج التي تبنته غالب الأحزاب في البلدان الأوروبية المختلفة، وعلى الرغم من هذا التفاوت إلا أن هناك اتفاقًا بين هذه الأحزاب على بعض القضايا التي يمكن إجمالها في النقاط التالية:
- ظاهرة الإسلام فوبيا:
حين نشأت هذه الأحزاب كانت تركز على اليهود في أوروبا باعتبارهم الآخر المختلف عن الإرث المسيحي الأوروبي، ثم بدا لها أن الإسلام هو العدو الأكثر سهولة للتسويق السياسي ويجب توجيه نار الغضب إليه، وتصاعدت موجات العداء للإسلام والمسلمين منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر حتى انتهى خطاب اليمين المتفق عليه والثابت إلى كراهية المسلمين وتصعيد نبرة العداء ضدهم، وعادت إلى السطح كلمة (الإسلام فوبيا) التي صاغها باحثان فرنسيان منذ العام 1918م.
وشهدت أكثر من دولة أوروبية مظاهرات منتظمة ضد المسلمين خاصة بعد تكوين حركة (أوروبيون وطنيون ضد أسلمة الغرب) ومنظمات أخرى تقدرها منظمة أمل ضد الكراهية بــ 920 منظمة تنتشر في 22 دولة أوروبية، ومبعث الخطورة هنا هو في انتقال العداء ضد الإسلام كديانة إلى استهداف المسلمين كأفراد، ومع صعود هذه الأحزاب إلى مقاعد الحكم تزداد المخاوف لدى 45 مليون مسلم في أوروبا.
- الموقف من الهجرة والمهاجرين:
في العام 2015 م، وصلت أرقام الهجرة غير الشرعية لأوروبا لمستوى غير مسبوق بعد أن وصل الرقم لـ 40 ألف مهاجر في عام 2014م، وشكل ذلك العام نقطة تحول أساسية في تعامل الاتحاد الأوروبي مع ظاهرة الهجرة من قضية اقتصادية وسياسية إلي قضية أمنية، وفي الوقت نفسه تزامنت تلك الفترة مع صعود ظاهرة اليمين المتطرف التي انتقلت من خانة أحزاب مهمشة إلى أحزاب ذات تأثير في مركز اتخاذ القرار وصناعة السياسات، ومن المعلوم أن هذه الأحزاب تتبنى خطابًا معاديًا للأجانب استنادًا على خلفيات هوياتية وقومية ترى أن القارة الأوروبية يجب أن تكون للأوروبيين فقط، وبناء على ذلك تم تصوير الأجانب على أنهم يشكلون تهديدًا للأمن القومي، وأنهم السبب في زيادة نسبة الجريمة، بجانب تضييقهم فرص العمل للمواطنين الأصليين، ويعتبر هذا الملف أحد أقوى الأسباب لصعود اليمين المتطرف، ففي ألمانيا مثلًا حيث كان اليمين هامشيًا لا يؤبه له، لعب حزب البديل من أجل ألمانيا على سياسة الباب المفتوح التي تبنتها المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، وقام بتعبئة الناخبين عبر خطاب شعوبي حاد يرتكز على أن الهجرة تهدد التجانس الثقافي للألمان وتعمل على تقويض الهوية الوطنية والرفاهية، وهو الأمر الذي رفع قضية الهجرة ليعتبرها 71 % من الناخبين الألمان بأنها القضية الأكثر حرجًا.كثر حرجا \أا
- الموقف من الاتحاد الأوروبي:
تتفق أحزاب اليمين المتطرف في معاداة الاتحاد الأوروبي من منطلق أنه يدعو لموقف عابر للقوميات ويسعى لترسيخ الاندماج الموسع اجتماعيًا واقتصاديًا بمفهوم عولمي نيو ليبرالي، كما أن هذه الأحزاب ظلت في حالة رفض معلن لتمدد صلاحيات الاتحاد الأوروبي على حساب الدول الأعضاء، وعلى الرغم من قبولها بقواعد اللعبة حاليًا ودخولها في مؤسسات الاتحاد الأوروبي إلا أنها لا تخفي سعيها لتفكيك الاتحاد وإلغاء عملة اليورو ووقف الهجرة المفتوحة. وتلعب هذه الأحزاب على هذه الورقة الحساسة لدى الناخب الأوروبي الذي عايش فشل الأحزاب اليسارية على المستوى الاقتصادي، وتلخص الرسالة التي وجهها حزب البديل من أجل ألمانيا الموقف الموحد لهذه الأحزاب في قضية الاتحاد ( إن ألمانيا لديها مشكلة نتيجة تصرفات الطبقة السياسية الحالية وخضوعها الكامل للمؤسسات فوق الوطنية ممثلة في الاتحاد الأوروبي، وإن حزب البديل هو الحزب الوحيد الذي يضم الوطنيين الألمان الحقيقيين الذين يدركون ذلك ) أما مارين لوبان زعيمة الحزب الوطني في فرنسا فقد ذهبت أكثر من ذلك وهي تخاطب المؤتمر الأوروبي للقوميين الأوروبيين في البرلمان الأوروبي ( إن الاتحاد الأوروبي في الوقت الحاضر هو عدو الحرية، ومعارض لسيادة الأمم، بل وحتى معارض للديمقراطية ) .
- رفض العولمة:
تتفق أحزاب اليمين المتطرف في رؤيتها المغالية في العداء للعولمة التي ترى أنها قوضت سيادة الدول وأضعفتها لصالح الشركات العابرة للقارات والمنظمات غير الحكومية، بجانب أن العولمة ساهمت في نشر ثقافة الهجرة وزيادة أعداد المهاجرين، وهي السبب في زيادة البطالة وانخفاض الأجور.
- السلطوية:
تهتم أحزاب اليمين المتطرف بسلطة الدولة القوية القادرة على فرض الأمن والنظام وسيادة حكم القانون، لأن قدرة الدولة وقوتها هما السبب في المحافظة على السيادة في وجه التدخلات من المنظمات الدولية والإقليمية كالاتحاد الأوروبي، وكذلك هما السبب في مواجهة الأعداء ومكافحة الهجرة.
- الشعبوية:
استطاعت أحزاب اليمين المتطرف أن تنقل السياسة إلى مربع الشعب عبر إنتاج خطاب تعبوي يخاطب رغبات الناخبين وتطلعاتهم، ويحرضهم على انتقاد المؤسسة السياسية القديمة بأفكارها ورموزها، وحتى لو كان ما تتبناه هذه الأحزاب غير واقعي أحيانًا إلا أنه في النهاية يلامس رغبات الناخب ويحمله على التصويت الاحتجاجي ضد الحكومات القائمة، وهذا ما حدث في أكثر من دولة أوروبية.
تلك كانت أبرز القضايا التي تتفق عليها أحزاب اليمين وتبني عليها خطابها السياسي وبرنامجها الانتخابي، وهي القضايا التي يتوقع أن تتكتل حولها داخل أروقة البرلمان الأوروبي، غير أن هناك قضايا أخرى تتباين فيها الرؤى والمواقف، وهي وإن لم ترق إلى مواقف فكرية ولكنها مؤثرة سياسيًا في المشهد الأوروبي حاليًا، وفي مقدمة ذلك الموقف من الحرب الروسية/ الأوكرانية، والتي وإن اتفقت هذه الأحزاب على معارضة الإنفاق العسكري الضخم عليها إلا أنها لا تتفق على الرؤى التفصيلية، فمثلًا بينما يرفض رئيس الوزراء المجري فيكتور أوروبان ومارين لوبان رئيسة حزب التجمع الوطني الفرنسي مواصلة سياسة الدعم المفتوح لأوكرانيا، ويناديان بالتسوية مع روسيا تعارض رئيسة الوزراء الإيطالية ومعها الحزب اليميني الحاكم في السويد هذا التوجه ويدعوان إلى مواصلة دعم أوكرانيا وتقوية حلف الناتو . أما حزب البديل الألماني المتطرف والذي تم طرده مؤخرًا من كتلة الهوية والديمقراطية اليمينية المتطرفة في البرلمان الأوروبي بسبب تصريحات ممثله بأنه لا يجب اعتبار جميع النازيين مجرمين، والذي حاز على نسبة 14% من الأصوات في الانتخابات الأخيرة فإنه لا يخفي تعاطفه مع روسيا بدليل سفر بعض أعضائه إلى روسيا للمشاركة كمراقبين في الانتخابات الرئاسية الروسية مؤخرًا.
مستقبل اليمين المتطرف في أوروبا:
يتحدد مستقبل هذا التيار الصاعد حاليًا على جملة عوامل، منها ما هو فكري، وسياسي، واقتصادي واجتماعي، وهناك رؤيتان تتقاسمان دراسة مستقبل هذا التيار ، فالرؤية الأولى ترى أن هذه ظاهرة عابرة أفرزتها ظروف موضوعية وستتلاشى تلقائيًا في حال نجاح الفاعلين الأوروبيين في إيجاد الحلول الناجعة لتلك التحديات والظروف الموضوعية ،بينما ترى رؤية أخرى أن هذا التيار متجذر في التربة الفكرية والاجتماعية الأوروبية، وما صعوده المتواصل والمتدرج إلا عملية بطيئة لإحياء تلك النزعات البنيوية في الذاكرة الشعبية الأوروبية، وقد تستطيع الثقافة الديمقراطية ودعوات التسامح تأخير ذلك القطار المنطلق ولكنها في النهاية لا تستطيع منعه من الوصول لمحطته الأخيرة .