array(1) { [0]=> object(stdClass)#13440 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 202

أوروبا عاجزة عن التوازن مع الناخب الراديكالي والمسلم وتخطب ود أحدهما وتشيطن الآخر

الإثنين، 30 أيلول/سبتمبر 2024

صعود أحزاب اليمين الراديكالي أو الشعبوي في أوروبا ووصول بعضها إلى سدة الحكم يفرضان دراستها دراسة لا تقع في فخ الثنائيات التبسيطية المخلة، وهي دراسة تثير عدة قضايا شائكة، بعضها يتعلق بأفضل تسمية لهذه الأحزاب، هل توصف بأنها "يمين راديكالي" أم "يمين متطرف" أم "يمين شعبوي" أم "فاشية جديدة" أم "يمين اليمين". ومنها ما يتعلق بتقييم تطورها الفكري والتاريخي والحركي. على سبيل المثال باتت هذه الأحزاب –حتى تلك العديدة التي لها ماضي في الثلاثينيات من القرن الماضي-قابلة لقواعد اللعبة الانتخابية وطلقت العنف المنهجي الممارس على أساس يومي في الشوارع. هل هذا يكفي لنفي أي صلة بأسلافها ذوي التاريخ الأسود؟ هل هذه "السلمية" تحول تكتيكي يراعي تمسك نسبة كبيرة من الأوروبيين بالديمقراطية التمثيلية (على عكس الأوضاع في الثلث الأول للقرن الماضي)؟ أم هو فعلًا تغيير فكري منهجي عميق؟ تختلف الردود من كاتب إلى آخر. يبدو لي أن جمهور المحللين الجادين اتجه مع مرور الوقت إلى تبني المذهب الثاني، ولكن الجمهور ليس دائمًا على حق (وليس دائما على خطأ).

 

تيارات فكرية وسياسية متنوعة

 

بادئ ذي بدء نقول أن اليمين إياه ليس أسرة فكرية واحدة، بل عدة أسر، يجب التمييز بينها، يختلف تأثير كل منها من مرحلة إلى أخرى ومن بلد إلى أخرى، ويتطور أو يتغير فكر كل أسرة وتيار مع تغير الظروف وهوية وماهية العدو المرحلي، وفي مراحل معينة تتجمع هذه الأسر تحت راية واحدة، وقيادة واحدة، تكون غالبًا قوية وربما كاريزمية، وتعمل وفقًا لبرنامج واحد، وهذا التجمع قد يكون مؤقتًا وقد يدوم، وقد يكون شاملًا لكل الأسر أو لأغلبها، هناك في عدد كبير من الأحوال متطرفون يخشون الاندماج مع فصائل أخرى، أو غير راضين عن أداء القائد، وبعض هذه التشكيلات المتطرفة الرافضة للعمل الجماعي تحت راية واحدة يؤمن بالعمل الثوري العنيف (والإرهابي).

 

  لم تتورط كل هذه الأسر بالانخراط في الأنظمة التي تسببت في كارثة الحرب العالمية الثانية، ولم تشارك كلها في جرائم الفاشية والنازية، ولكن أغلبها فعل، وظلت كل هذه الأسر سيئة السمعة وهي مشكلة "خفت" ولكنها لم تختف. وهناك عدد من الأحزاب لا علاقة له بهذا الماضي.

 

في كل بلاد أوروبا هذا اليمين "متنوع"، تنوعًا يختلف من بلد لآخر، ولكنه يمكن ذكر بعض الأمثلة على سبيل المثال لا الحصر، هناك أسر أو تيارات فكرية عنصرية تؤمن بالتفوق العنصري المطلق إما لشعبها أو للشعوب الأوروبية "البيضاء". وتؤمن بداروينية اجتماعية، وهناك طبعًا عدة "نظريات" عنصرية، ونظريات تخفي هذه العنصرية وراء حديث عن استحالة (وليست صعوبة) تفاعل الثقافات وإدماج أبناء الثقافات الأخرى، وهناك أسر لها حنين إلى عصر الإمبراطوريات الاستعمارية، وأخرى مسيحية أصولية تعادي مبادئ الثورات الأوروبية الكبرى والأنظمة الجمهورية التي انبثقت عنها، وقد "تكتفي" بكراهية الطور الأخير لليبرالية، وهناك طبعًا فروق بين الأصوليات الكاثوليكية والبروتستانتية والأرثوذكسية.  وهناك أسر تؤمن بالوثنية باعتبارها مجسدة لروح شعبها وترى أن المسيحية – وغيرها من الديانات السماوية-دخيلة عليه وتنتقص من قوته، وقد تكره أسر أخرى دينيا بالذات دون غيره – هذا الآخر قد يكون مسلمًا أو يهوديًا أو مسيحيًا ينتمي إلى مذهب غير مذهب الأغلبية.

 

وهناك أسر ما زالت تؤمن بالفاشية والنازية – أي بنموذج الحزب "الميليشيا" ذي التنظيم العسكري والمالك لتنظيمات عسكرية أو شبه عسكرية، والمتبني طبعًا لفكر يميني راديكالي، وهناك أسر متطرفة في مذهبها القومي، تقدس السيادة الوطنية ومفهوم الحدود الحامية للاستقلال، وتؤمن باللجوء الكثيف للاستفتاءات (لأنها لا تثق في الديمقراطية التمثيلية)، ويرى بعضها أن النسيج المجتمعي لا يستوي دون تراتبية واضحة وثابتة ودون المحافظة على نقائه. وهناك أسر فكرية قريبة من مصالح البرجوازية الصغيرة ترى في نمو ظاهرة السوبرماركت الضخم وفي السياسات الضريبية الأوروبية تعبيرًا عن تصورات يسارية تعرقل عمل ونشاط صغار التجار والحرفيين وتعادي هذه الأسر الحزبية والأنظمة البرلمانية لأنها "حتمًا" أسيرة مصالح تعارض مصالح البرجوازية الصغيرة.

 

المشترك بين فصائل اليمين الراديكالي

 

على  تباينها الشديد هناك مشترك نفسي سمح بإيجاد أرضية سياسية مشتركة، هذا المشترك هو التشاؤم الشديد فيما يخص مستقبل القارة والدول الأوروبية، لأنها في أفول، والإحساس بعدم الأمان، ونسب كل هذا إلى تحلل المجتمع وتفسخ نسيجه، تسبب فيه أشرار -أفراد وجماعات مصالح وتيارات فكرية- عظيمو التأثير يجب تحييدهم،  ويذهب بعض الكتاب إلى وجود مشترك فكري رافض رفضًا باتًا لأفكار التنوير الأوروبي وعلى  رأسها مفهوم المساواة بين البشر، ومفهوم العلمانية، بيد أن هذا لم يعد صحيحًا تمامًا في هذه الألفية، لأن هناك تيارات فكرية جديدة تنتمي إلى هذا المعسكر ترى في التنوير خصوصية أوروبية يعاديها الغير ولا يؤمن بها المهاجرون ولا تتمسك بها النخبة ويجب الدفاع عنها.

 

المشترك السياسي حاليًا بين أغلب إن لم يكن كل القوى السياسية المصنفة على  أنها "يمين راديكالي" هو أولا العداء للمهاجرين لا سيما غير الأوروبيين منهم وبالذات المسلمين، واعتبار وجودهم تهديدًا، مع ملاحظة تغير تعريف هذا التهديد من مرحلة إلى أخرى ومن بلد لأخر، في الثمانينيات كان وجود هؤلاء المهاجرين تهديدًا "اقتصاديا" يهدد أسس دولة الرفاة ويرهقها، كما يهدد الوظائف والأجور – لأن المهاجرين يقبلون أجورًا أقل، ولم يختف هذا التعريف، ولكن الاتجاه الغالب اليوم هو تعريف التهديد على  أنه ثقافي وهوياتي وأمني، وفقًا لهذا الا تجاه المهاجرون لا يقبلون عادات وأسلوب حياة وقيم الدول الأوروبية، ويرى دون فرض قيمهم ونمط حياتهم على  الكل، أو على  الأقل يؤسسون لمجتمع موازٍ منغلق على  نفسه لا يخالط الآخرين إلا مضطرًا. وينخرط عدد منهم في أنشطة إجرامية (تجارة المخدرات مثلا) وإرهابية، لا يتسع المجال لمناقشة تفصيلية لمدى مطابقة هذا الخطاب للواقع وللمعقول. أكتفي بالقول إن معاداة بعض كثير من الأوروبيين للحجاب ولمنظومة الأكل (اللحم الحلال/ منع الخمور) غير عقلانية، وفي المقابل هناك مطالب "مسلمة" – حول ضوابط أو حتى منع الاختلاط – لا يمكن قبولها. ونشير هنا إلى اتساع وتعميق الهوة بين المسلمين وغيرهم بسبب حرب غزة، المسلمون شديدو الغضب بسبب المجزرة الحادثة والأوروبيون شديدو الاستياء من حوادث الاعتداء على اليهود في أوروبا ومن الخطابات المعادية لليهود السائدة في أوساط المهاجرين. وسمح هذا الوضع لبعض الأحزاب اليمينية بالسعي إلى مسح – أو إخفاء-تاريخها في المعاداة لليهود والظهور بمظهر المدافع القوي عنهم باعتبارهم جزء من النسيج الوطني. والمواطنون اليهود مختلفون فيما بينهم حول تقييم هذا التغيير.

 

المشترك الثاني هو تقديس الحدود الجغرافية، واعتبارها عازلة حامية للشعب وخصوصيته، ضد الغازي والدخيل، ويقولون أن أرض الدولة هي "ثروة الفقراء الوحيدة"، وأن حب "الأرض" من الفضائل التي تميز الشعوب، وينبع من هذا رفض شبه مطلق لمفهوم حرية التنقل من دولة إلى أخرى، وبالتالي للصيغة الحالية للاتحاد الأوروبي وعلى  الأخص لاتفاقيات شنجن، ونريد أن نلفت النظر إلى حقيقة أن تقديس الحدود ليس حكرًا على  اليمين الراديكالي، هناك تيارات أخرى تشاركه في هذا، وكل هؤلاء يربطون بين هذا التقديس وتقديس السيادة الوطنية، الفارق الرئيسي هو في ربط اليمين لهذا التقديس بضرورة مفترضة – ضرورة الحفاظ على  النقاء، واعتبار هذا النقاء من شروط الأمن الشامل. في حين أن غيرهم (من يقدس الحدود في اليمين التقليدي واليسار التقليدي) يميل إلى اعتبار صيانة الحدود شرط من شروط إمكانية الديمقراطية.

 

المشترك الثالث هو العداء الشديد للنخب وللمنظومة الفكرية الليبرالية السائدة في أوساطها، وعدم ارتياح إما لمبدأ وإما للطور الحالي للديمقراطيات التمثيلية، سنعود إلى هذه النقطة عند عرضنا للأزمة الحالية للديمقراطيات الأوروبية، ويصاحب شيطنة النخب ميل إلى اعتبار الشعب كتلة واحدة طيبة المعدن (بدون أبناء المهاجرين طبعًا)، ورغبة في تجاوز الطبقات وتوحيدها، نكتفي هنا بقول ما يلي، ترى قوى اليمين أن النخب الأوروبية استفادت من العولمة على  عكس عموم الشعب وفئات وطبقات كثيرة، وأن لها مصلحة مؤكدة في تسهيل انتقال الأفراد من دولة إلى أخرى، وفي جلب مهاجرين قليلي الطلبات فيما يخص المرتبات، وفي إضعاف قدرة أبناء الطبقات الشعبية من المواطنين الأصليين على  الدفاع عن حقوقهم الاجتماعية. نعرف كلنا شعبية كتاب الاستبدال الكبير الذي يستغل ويغذي هذه المخاوف، والذي يقول إن ما يحدث نتيجة مؤامرة محبوكة خططت لها الرأسمالية العالمية. وهناك أيضًا  شكاوى عامة في هذه التيارات (وغيرها) من الخطاب السائد في المنظومة الإعلامية وتقليله من حجم المشكلات التي تتسبب فيها – وفقًا لهذا التيار-الهجرة بصفة عامة والهجرة المسلمة بصفة خاصة.

 

وهناك ميل في كل هذه التيارات – لا نقول إنه دائمًا غالب وسائد-إلى تبني وبث نظريات مؤامرة تشيطن دائمًا فئة ما وتنسب لها كل ما هو شرير وفاسد في الدولة، وتعفي الشعوب من أي مسؤولية في تطور الأمور.

 

الخلاف بين هذه التيارات

 

من نافلة القول إن عددًا كبيرًا من أوجه الاختلاف والخلاف يعود إلى خصوصية كل دولة، هل كانت عضوة في حلف وارسو أم لا؟ ما هو حجم معاناتها من جراء الاحتلال النازي أيام الحرب ومدى تعاونها مع أو مقاومتها لدول المحور؟ ما هو موقف هذه الدول وشعوبها من الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي؟ هل هي حديثة العهد بالنظام الديمقراطي وثقافته أم لا؟ هل هي دول خسرت من عمليات رسم الحدود وتهجير أقليات بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية؟ هل تعرضت لغزو عثماني أو لفتح عربي؟ ما هو تأثير هذا على وعيها؟ ما هو حجم وتأثير الأقليات فيها؟ هل هي دول ذات نظام برلماني أم رئاسي؟

 

 وهناك طبعًا فروق هامة في استراتيجيات هذه القوى السياسية الملتزمة باللعبة الانتخابية، على حسب قواعدها الانتخابية والفئات التي تخطب ودها. على سبيل المثال هل تخاطب الفلاحين أو العمال أو التجار أو كلهم؟ ما موقفها من الطبقات الوسطى؟ ما هي قدرتها على جذب ناخبين من كل الفئات

 

في هذه الدراسة نكتفي بعموميات. تاريخيًا كل هذه القوى والتيارات عادت الشيوعية والرأسمالية الكبيرة عداء شبه وجودي، بل فسر بعض المؤرخين صعودهم بهذا العداء الدفين. وفي الوقت نفسه تبنت الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية مقولات ومقاربات يمكن وصفها باشتراكية "قومية" – أو رأسمالية دولة. حاليًا اليمين الراديكالي منقسم إلى فرق تتبنى التوجه الرأسمالي ولا تعارض مبدأ حركة الرأسمال والبضائع عبر الحدود، وتحاول أساسًا النهوض بالشركات الصغيرة وصغار التجار والحرفيين، وتخفيف الأعباء الضريبية، وأخرى تتبنى سياسات حمائية ويسارية التوجه فيما يخص الحماية الاجتماعية وإعادة التوزيع والتوسع في الإنفاق الحكومي، على سبيل المثال في فرنسا الفوارق ضئيلة بين البرنامجين الاقتصاديين للتجمع الوطني اليميني ولفرنسا التي لا تخضع لليسارية، وتكاد تنحصر في وجود أو عدم وجود تمييز ضد الأجانب ومزدوجي الجنسية.

 

وهناك اختلافات حادة في المواقف من أنماط الحياة السائدة في أوروبا حاليًا، هناك من يرى أن الانحلال سيد الموقف، وأن الحق في الإجهاض هو سبب تراجع معدلات الإنجاب، وأن الخطاب الذي يقيس تقدم المجتمع بقدرة الأقليات الجنسية (المثليين) على  توسيع تواجدهم العلني في المجال العام خطاب مرفوض، شأنه شأن اتجاه بعض الدول إلى تدريس نظريات النوع/ الجندر في التعليم الابتدائي، أو شأن الكلام عن حق الإنسان في اختيار جنسه، ويرون أن العائلة التقليدية والأنماط التقليدية للسلطة في داخلها والنهوض بها هي الحل، ويتبنون سياسات تدعم العائلات وتشجع على  الإنجاب. وفي المقابل هناك من يرى أن أنماط الحياة السائدة المحررة للمرأة والموسعة باستمرار من نطاق الحريات الغير مقيدة بتعاليم الأديان واعتبارات الإنجاب خصوصية أوروبية ثمينة، يجب الحفاظ عليها وعلى أغلب أو كل مكتسباتها، على سبيل المثال لا الحصر رفضت مارين لوبن صراحة الانخراط في الاحتجاجات ضد قانون زواج المثليين، وفي الوقت ذاته تبنى والدها وبنت أختها الموقف المضاد! ولم يكن هذا توزيعًا للأدوار. طبعًا لا تمنع المقاربة "الليبرالية" تبني سياسات تشجع على الإنجاب.

 

التباينات والخلافات واضحة جدًا فيما يتعلق بالمشهد الدولي. فيما يتعلق بالاتحاد الأوروبي قلت جاذبية وخفت صوت من كان يطالب بمغادرة الاتحاد، يعود ذلك إلى عدة عوامل، أهمها رفض قطاعات هامة من ناخبي هذه الأحزاب لهذا التوجه – المسنون تحديدًا غير متحمسين لخيار يعرض قيمة مدخراتهم للتدهور، والتبعات السيئة للبريكزيت على الاقتصاد البريطاني، وحاجة بعض الدول – إيطاليا والمجر وبولندا – إلى الإعانات والتمويل الأوروبيين. التباينات والخلافات شديدة في المواقف من الولايات المتحدة ومن روسيا ومن ألمانيا – بوصفها دولة شبه مهيمنة على القارة-ومن دول الجنوب بصفة عامة وتركيا بصفة خاصة. لا يمكن عرض تفصيلي لمحددات ودوافع المواقف المختلفة ونكتفي بقول ما يلي: لكل قوة يمينية ترتب للتهديدات وفقًا لجسامتها الحقيقية أو المتصورة، وأغلبها لا يتكلم فقط عن تهديدات جيوسياسية أو سياسية أو اقتصادية بل أيضًا عن تهديدات ثقافية للهوية كما يرونها أو يتخيلونها، وقد يميل بعضهم بقوة إلى أنظمة سلطوية تزعم الدفاع عن القيم التقليدية وتعادي الليبرالية. وقد يغير بعضهم من موقفه تجاه دولة إن حكمها فصيل يميني، وإن أردنا ثنائية سطحية سنقول أن هناك من يرى  أن التهديد الرئيس آت من العالم الإسلامي (ومن المهاجرين) وربما من العالم الآسيوي، ويرى ضرورة "عدم خسارة روسيا"، وبين من يرى أن التهديد الأخطر والرئيس هو التهديد الروسي، وهناك من يجمع بين توجس من التهديدين (حزب ميلوني)، وهناك من يعادي العالم الإسلامي ولكنه يحرص على  علاقات قوية وجيدة مع تركيا لدورها في الدفاع عن أوروبا الشرقية، أو يرى أن دعم التنمية في الدول الإسلامية وسيلة لتقليل الهجرة، أو يرى أن الحصافة تقتضي تبني موقف متوازن فيما يخص حرب غزة – وإن كان متعاطفًا مع إسرائيل. وهناك من يرى أن الهيمنة الأمريكية هي خيرة وحامية، ومن يراها تفرض على أوروبا إملاءات وسياسات تعادي المصالح الوطنية أو القارية، وهناك – لا سيما في أوروبا الشرقية وفي دول جنوب أوروبا-من يرى أن الهيمنة الألمانية خطرة على دولهم، الخ. ويلاحظ كثرة لجوء القوى اليمينية (واليسارية الراديكالية) إلى حجة مفادها أن فقراء الدول الغربية أولى بالأموال المستخدمة في دعم أوكرانيا.

 

ويلاحظ أن أحزاب اليمين الراديكالي لم تجتمع تحت مظلة واحدة في البرلمان الأوروبي، هناك مجموعتان لليمين الراديكالي، وتفضل بعض الأحزاب الانخراط في مجموعة اليمين التقليدي.

 

توجهات وسياسات النخب كسبب رئيسي في صعود التيارات اليمينية

 

الدراسات التي تناولت دوافع ناخب اليمين الراديكالي تقول إن هذا التصويت لم يعد احتجاجيًا فقط، بل هناك نسبة متزايدة من الناس مقتنعة بروشتة وقراءة اليمين المتطرف كما هي معلنة، ويدفع هذا الفرق الأخرى إلى محاولة بيان أن الموقف الحقيقي لهذه التيارات أسوأ بكثير مما هو معلن، ويوفقون أم لا في هذا المسعى.

 

لمقاربة شاملة نستعين بقراءة البريطاني ديفيد جودهارت للمشهد الأوروبي. يقول الكاتب أن الخريطة الاجتماعية الحالية توضح وجود خمس فئات مختلفة في كل دولة، أهمها فئة "أي مكان" وفئة "مكان محدد"، الأولى تمثل تقريبًا خمس أو ربع الناخبين، وهي مستفيدة من العولمة قادرة على  التنقل والعمل في أي مكان في العالم، تحمل شهادات معترف بها عالميًا من جامعات مرموقة، تجيد عدة لغات، لها معارف في عدد كبير من الدول (لأنهم درسوا معًا)، وهذه الفئة إجمالًا تؤمن بالليبرالية، أما فئة "مكان محدد" فحاملة لشهادات أقل، لا تتكلم إلا لغة بلادها، وتعمل بجوار محل إقامتها أو على  مسافة معقولة منه، وتحتاج بشدة إلى دولة رفاة واستقرار في بيئتها، وهذه الفئة تمثل عامة نصف الناخبين وربما أكثر، ويقول الكاتب : المشكلة أن أغلب/كل أعضاء النخب السياسية والمالية، سواء انتمت إلى اليمين واليسار التقليديين والوسط، ينتمون إلى فئة "أي مكان"، وعاجزين تمامًا على  فهم وعلى  التعاطف مع هموم ومخاوف الفئة الكبرى، وحاجتها إلى أمن شامل واستقرار وحماية. ولذلك فإن التصويت للأحزاب "الشعبوية" هو "تصحيح ديمقراطي" لعجز النخب عن فهم أغلب الجمهور والتعامل مع احتياجاته.

 

وللأكاديمي الفرنسي الراحل لوران بوفيه كتاب معنون "عدم الأمان الثقافي" – أو الهوياتي- يذهب إلى تشخيص مشابه، ويقول أن المنظومة الفكرية الليبرالية السائدة في دوائر النخب يشوبها عوار، قراءتها لمشكلات "المواطنين الأصليين" قراءة قائمة على  تغليب البعد الاقتصادي على  حساب البعد الثقافي، مطالب الجمهور فيما يخص الوظائف والأجور والنمو مفهومة، وإن كانت لا تراعي قواعد اللعبة في عصر العولمة، ما يخص الأمن الثقافي والنفسي والهوياتي غير مفهوم، من له الحق في إبداء مطالب "ثقافية" تتعلق باحترام الهوية والحفاظ على  الخصوصية والشكوى من انعدام الأمن الثقافي هم المهاجرين وأبنائهم. لم تنتبه النخب إلى أن العولمة أوجدت طلبًا على الأمن الثقافي والنفسي وخوفًا على الهوية في كل قطاعات وفئات المجتمع. باختصار فيما يتعلق بالأمن الثقافي مطالب المهاجرين مشروعة ومطالب غيرهم غير مشروعة وغير مفهومة. وهذه المقاربة أوجدت انطباع أن هناك تفضيل مقصود لوجود المهاجرين.

 

ويلفت الكاتب نظرنا أن سياسات النخب لم توفر الأمن الثقافي لأبناء المهاجرين! فالإصرار على تدريس نظريات الجندر وتقنين زواج المثليين عمق القطيعة النفسية بينهم وبين المجتمع، لأن كل هذا وغيره بدا وكأنه تهديد للأسرة وللدين، وارتفاع صوت الناشطية الإسلامية – إلى جانب الهجمات الإرهابية وتدهور العلاقة بين المسلمين واليهود-ساهم في تقوية اليمين الراديكالي (والعكس صحيح).

 

قرأ اليمين الراديكالي الخريطة النفسية قراءة أدق، وأستخرج من مخزون تراثه ما يعجب الجمهور. المناداة بسلطة قوية، توفر الأمن بوجود قادة يفهمون الشعب لأنهم خارجون من صفوفه، احتقار البرلمان واللجوء إلى استفتاءات، المناداة بأهمية وحدة الصف والنقاء القومي والأصالة،

 

الخلاصة

 

في عرض نقدي لكتاب بوفيه قال الناقد أن الحلول المقترحة للقضية مجرد شعارات. وفي حواراتي مع بعض الأكاديميين الفرنسيين حول القضية بدا لي أن لديهم تصورات تفصيلية وشاملة عن كيفية التعامل مع المشكلة، ولكنها تصورات لا تلتفت إلى الكلفة المالية للسياسات المطلوبة.

 

عمليًا بدت النخب الحاكمة عاجزة عن التعامل في وقت واحد وبأسلوب متوازن مع قضايا واهتمامات ناخب اليمين الراديكالي وقضايا واهتمامات الناخب المسلم، ومالت دائمًا إلى خطب ود أحدهما وشيطنة الآخر، مما عمق المشكلة ولم يساهم في حلها.

 

أوروبا في مأزق.

مقالات لنفس الكاتب