يرتكز اليمين الشعبوي في أوروبا على الخطابات الأيديولوجية الاختزالية والتبسيطية للقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية الأكثر تعقيدًا، وهو ما يسميه ليون بوليكوف، في دراسة لمركز التفكير الأوروبي بـ " السببية الشيطانية"، بحيث يختزل كل الأمراض السياسية، الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها العالم الأوروبي في قضايا الهجرة والمهاجرين وصعود الإسلام في الغرب، وهو ما نتج عنه ظاهرة معاداة الأجانب وظاهرة الإسلاموفوبيا. وعليه، فإن الخيارات التي يتبناها هذا التيار تكون في أغلب الأحيان غير واقعية مثل، غلق الحدود أمام المهاجرين وطردهم، والانغلاق على الثقافة الغربية. فما هي انعكاسات تصاعد اليمين الشعبوي على دول جنوب المتوسط وشمال إفريقيا؟
أولًا: صعود اليمين الشعبوي في أوروبا: خلفيات وأسباب
حسب، دومينيك ريني، فإن اليمين الشعبوي المعاصر في أوروبا يتميز بالباترمونيالية، المادية وغير المادية، أما المادية فتركز على تحسين مستوى المعيشة، المصالح الاقتصادية، القدرة الشرائية، التوظيف للحد من البطالة، بينما المميزات غير المادية، ترتكز على الانغلاق على الثقافة والذات الغربية، اللغة، الدين، الهوية. وللحفاظ على هذه المكاسب المادية وغير المادية يستوجب مواجهة العولمة بالحمائية الاقتصادية والسيادة الوطنية، ومعاداة الهجرة لحماية الهوية الغربية من خلال التركيز على الكليشيهات النمطية الاختلافية بين الثقافة الغربية والثقافة الإسلامية، مثل أكل لحوم الحلال، لباس المرأة، البرقع، الجلباب والبوركيني، والتخويف من هذا الآخر المختلف في أكله ولباسه الذي يهدد الهوية الغربية.
كما ينظر اليمين الشعبوي للاندماج الأوروبي كتهديد للدولة والسيادة الوطنية، من جهة، وتهديد للمكاسب المادية على حد تعبير د.رينيي، من جهة أخرى، مما يجعل اليمين الشعبوي الأوروبي يعادي ما يسميه بالنخبة التكنوقراطية في بروكسل، كرمز للاتحاد الأوروبي.
ارتبط صعود اليمين الشعبوي في أوروبا بمجموعة الصدمات والأزمات الاقتصادية الحادة، فخلال السبعة عشرة سنة الأخيرة (2007-2024م) واجهت أوروبا تسع أزمات عالمية خطيرة ذات طبيعة نسقية، أهمها، الأزمة المالية العالمية لسنة 2007م، والأزمة الاقتصادية لسنة 2008م، اللتان تعدان أخطر أزمتين على الاقتصاد الأوروبي منذ الأزمة الاقتصادية لسنة 1929م، بحيث نتج عنهما أزمة حادة للديون العمومية في منطقة اليورو مع حالة الإفلاس المالي لليونان. والملاحظ في هذه الفترة، عدم تقيد دول منطقة اليورو بالقواعد المالية المتفق عليها لضبط الموازنة الوطنية، لا سيما فيما يخص عدم تجاوز العجز في الموازنة نسبة 3 % و60 % كحد أدنى للديون، وصاحب هذه الاضطرابات المالية انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فيما عرف بظاهرة "البريكس" التي حفزت اليمين الشعبوي الأوروبي للمطالبة باستنساخ نفس النموذج في كثير من الدول الأوروبية، تعزيزًا للسيادة القطرية على حساب الوحدة الأوروبية.
لعل الملفت للانتباه في ظل هذه الأزمات الكبرى التي واجهتها أوروبا في العقدين الأخيرين، انعكاسات الربيع العربي على سياسة أوروبا الموحدة فيما يخص التعامل مع اللاجئين والمهاجرين، وشكلت دولتين من جنوب المتوسط، كل من سوريا وليبيا، النموذجين للانقسام الأوروبي في إدارة المهاجرين من جهة، وورقة ضاغطة بيد اليمين الشعبوي الأوروبي الذي استخدمها داخليا لتعبئة الناخبين حول خطر وتهديدات الهجرة واللاجئين، من جهة أخرى.
إن الدراسات الاستراتيجية الأوروبية ذاتها تبين بأن خطاب اليمين الشعبوي يناقض واقع ومستقبل التحولات الاقتصادية والديمغرافية في أوروبا، وفق بعض الدراسات الاستشرافية فإن أوروبا بحاجة إلى ثلاثة أضعاف المهاجرين في الثلاثين سنة القادمة، حيث لم يكن يتجاوز عددهم في سنة 2010م، ما يقارب 30 مليون مهاجر من بين 500 مليون أوروبي، وتقديرات المحافظة الأوروبية في الخمسين سنة القادمة، تشير إلى حاجة أوروبا إلى 100 مليون يد عاملة إضافية من أجل بناء الاستقرار الاقتصادي والديمغرافي في أوروبا. ورغم ذلك، فإن الخطاب الأيديولوجي الاختزالي والتبسيطي لليمين الشعبوي أضحى مهيمنًا حتى داخل البلدان الاسكندنافية المعروفة بنموذج الديمقراطية الاجتماعية، مثل فنلندا، السويد، الدانمارك والنرويج، حيث مثل نموذج حزب الحرية في هولندا الصورة الواقعية للأيديولوجية اليمينية الشعبوية المتصاعدة، الذي طالب رئيسه، غيرت ويلدرز، بالدفاع عن الحضارة الغربية في مواجهة غزو المسلمين البرابرة، وهو المطلب الموحد لجميع الأحزاب اليمينية الشعبوية، وقد استمر هذا الحزب في كسب تعاطف الناخبين لينتقل وزنه الانتخابي من أقل من 6 % في الانتخابات التشريعية سنة 2006 إلى 19% سنة 2009م، والأمر ذاته في فنلندا حيث معظم الأحزاب السياسية تتفق على أن الهجرة هي السبب الرئيسي في ارتفاع البطالة، بينما الواقع يدل على أن المهاجرين لا يمثلون إلا أقل من 3 % من السكان، وهو ما دفع بحزب الفنلنديين الحقيقيين للمطالب بطرد المهاجرين والانسحاب من الاتحاد الأوروبي.
ثانيًا: انعكاسات صعود اليمين الشعبوي على العلاقات الأورو-متوسطية وشمال إفريقيا.
عقب إعلان النتائج الأولية لانتخابات البرلمان الأوروبي التي أجريت يومي 6 و9 يونيو 2024م، في 27 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، وسيطرة أحزاب اليمين المتطرف على المركز الأول في دول مثل فرنسا إيطاليا والنمسا، فضلًا عن فوز حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف وحلفائه في فرنسا بالمركز الأول في الجولة الأولى من الانتخابات المبكرة التي أجريت في فرنسا في 30 يونيو 2024م، بنسبة 33.15 % من الأصوات، عبر مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، بقوله" إن صعود اليمين المتطرف في أوروبا هو جرس إنذار يجب أن نقرعه، لأن التاريخ يخبرنا خاصة في أوروبا أن تشويه سمعة الآخر وتحقيره نذير لما سيأتي وسيحول المهاجرين وطالبي اللجوء من الأقليات إلى كبش فداء".
الملاحظ أن فاعلين أساسيين في مسار الشراكة الأوروبية-المتوسطية، كل من باريس وروما، أصبحا رهينتين لليمين الشعبوي، حيث شكل النموذج الإيطالي مع وصول الحكومة الأكثر يمينية منذ الحرب العالمية الثانية، في أكتوبر 2022م، اختبار حقيقي لتطبيق الأفكار في الواقع، تشكلت الحكومة برئاسة، جورجيا ميلوني، من تحالف ثلاثي يميني يتكون من حزب إخوة إيطاليا القومي، وحزب فورزا إيطاليا وحزب الرابطة. وأول اختبار كان في تعاملها مع ملف الهجرة بواقعية مخالفة للإيديولوجيا الشعبوية، فبعد ثمانية عشر شهرًا فقط على وصول الحكومة وافقت على منح 450 ألف رخصة إقامة للعمال المهاجرين إلى غاية 2026م، لأن الواقع الديمغرافي يفرض على إيطاليا اللجوء لليد العاملة المهاجرة، والتقارير الرسمية الإيطالية تشير إلى انخفاض نسبة المواليد يقابلها تصاعد نسبة الشيخوخة، ففي سنة 2023م، فقط هناك تراجع بما يقدر 310 ألف مولود جديد عن سنة 2022م وأضحى الاختلال في التوازن الديمغرافي أحد المعوقات التنموية في إيطاليا، بلغة الأرقام البسيطة هناك عامل واحد مقابل متقاعد واحد، بما يعني أن الاعتماد على المهاجرين سيكون حتمي لإيطاليا وأوروبا. وعليه، فإن خطاب الحكومة الإيطالية أصبح يميز بين الهجرة النظامية والهجرة غير الشرعية. تم التوقيع بين الحكومتين الإيطالية والتونسية على البروتوكول التنفيذي في مجال التصرف في تدفقات الهجرة النظامية في 4 مارس 2024م، خصص على إثره 12 ألف بطاقة إقامة غير موسمية على امتداد ثلاث سنوات لفائدة العمال التونسيين بإيطاليا بحصة سنوية تقدر بأربعة آلاف، ومقابل سعي حكومة اليمين الإيطالي لسد الفجوة الديمغرافية تسعى لإبرام اتفاقيات مع تونس وليبيا لوضع حد للهجرات غير الشرعية للقادمين من دول إفريقيا جنوب الصحراء، حيث زارت جورجيا ميلوني، تونس أربعة مرات في سنة واحدة، وهو ما يعكس القلق الأمني الذي يؤرق حكومة اليمين الإيطالي، في ظل تصاعد الهجرات غير الشرعية، ففي سنة 2023م، لوحدها وصل أكثر من 157 ألف مهاجر إلى سواحل إيطاليا، ثلثهم انطلقوا من السواحل التونسية. ووفق المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية فإن في سنة 2023م، لوحدها لقي 1300 مهاجر حتفهم في السواحل التونسية.
ساهمت الحكومة الإيطالية في الضغط على الاتحاد الأوروبي لضخ التمويل الضروري لدول شمال إفريقيا لمكافحة الهجرة غير الشرعية المتدفقة من جنوب المتوسط، وهو ما تم ترجمته مثلاً في اتفاق بين المفوضية الأوروبية ورئيسة الوزراء الإيطالي والرئيس التونسي، قيس سعيد، في منتصف يوليو 2023م، بموجب الاتفاق يقدم الاتحاد الأوروبي الدعم المالي والتقني لتونس من أجل كبح الهجرة غير الشرعية باتجاه أوروبا، بعدما شددت تونس رفضها أن تكون مركزًا لاستقبال المهاجرين الأفارقة المرحلين من إيطاليا أو أي بلد أوروبي. وفي ربيع 2024م، تعهد الاتحاد الأوروبي بتقديم تمويل قيمته 146.5 مليون يورو لتونس للحد من الهجرة مع برامج لتمويل قوات الأمن التونسية تتضمن أكاديمية تدريب الحرس البحري تنفذه الشرطة الألمانية، وشراء معدات مثل الرادارات وزوارق بحرية مع إنشاء مناطق حدودية برية. وفي الفترة ذاتها، تبنى الاتحاد الأوروبي إصلاحًا شاملا يضم ترسانة من القوانين الخاصة بالهجرة واللجوء في إطار تقاسم الأعباء بين الدول الأوروبية فيما يخص الهجرات الوافدة، ومثل ذلك التوافق حصيلة لعشرة سنوات من المفاوضات، على أن تدخل حيز التنفيذ في سنة 2026م، وهي الفترة المتبقية لدول الاتحاد الأوروبي لإقامة منشآت حدودية لمراقبة طالبي اللجوء. ومثلت هذه الإجراءات الأوروبية بالنسبة لمنظمات المجتمع المدني في دول شمال إفريقيا تعديًا ومساسًا بروح ونصوص اتفاق الشراكات الموقعة بين الدول الأوروبية ودول جنوب المتوسط، وهو ما دفع مجموعة من التنظيمات الحقوقية التونسية لمطالبة دول الاتحاد الأوروبي باحترام القوانين والتشريعات التي تسير المهاجرين وطالبي اللجوء، لاسيما اتفاق الشراكة الموقع بين الطرفين في 1995م، والذي دخل حيز التنفيذ في سنة 1998م، الذي يشترط احترام حقوق الإنسان، الديمقراطية ودولة القانون، وهو جوهر البند السياسي الذي يشترط إقامة الشراكة بين ضفتي المتوسط. والملف للانتباه في هذا الإطار، إن الشراكة الأوروبية-المتوسطية لم تؤت ثمارها كما كان متوقعًا لها في بعدها الإنساني، بسبب التحولات الديمقراطية العسيرة في بلدان شمال إفريقيا وحدة الأزمات التي تشهدها منطقة الساحل الإفريقي المحيطة جنوبًا بدول جنوب المتوسط، حيث أضحت بحيرة المتوسط مقبرة للمهاجرين غير الشرعيين بدلًا من بحيرة سلام بين الضفتين دعائمها التنمية الشاملة بكل أبعادها، ويكفي أن ننظر إلى تقرير المنظمة الدولية للهجرة عن حالات الوفاة والاختفاء بين المهاجرين خلال العشرة سنوات الأخيرة (2014-2024م)، من بين 63 ألف حالة وفاة أو فقدان في العالم 27 ألف منهم قضوا حتفهم في البحر المتوسط في طريقهم من شمال إفريقيا إلى جنوب أوروبا. وبما أن إيطاليا تعد الدولة الأوروبية الأكثر تضررًا في الضفة الشمالية للمتوسط، فإن الحكومة اليمينية روجت لمشروع خارج الاتحاد الأوربي باسم مشروع ماتيي، نسبة لمؤسس شركة الطاقة الإيطالية، أنريكو ماتيي، تبلور بشكل خطط وبرامج في قمة إيطاليا-إفريقيا في نهاية يناير 2024م، والهدف الأساسي بالنسبة للحكومة اليمينية من هذا المشروع المساهمة في وضع حد للهجرة غير الشرعية ومكافحة التطرف العنيف في إفريقيا جنوب الصحراء عن طريق مقاربة شاملة، تتضمن مشاريع استثمارية مشتركة في الأمن الطاقوي والأمن الغذائي، لكن في الوقت ذاته هو تعبير عن السياسة الوطنية الإيطالية التي تنظر لفرنسا كمنافس لها على الموارد الطاقوية في دول شمال إفريقيا على وجه الخصوص في ليبيا والجزائر. فتقارير الدراسات الاستراتيجية الفرنسية تنظر بعين الشك والريبة لمشروع ماتيي، فالتسمية في حد ذاتها تشير إلى شخصية دعمت الجزائر في حربها التحريرية ضد فرنسا كما ساهم أنريكو ماتيي في مفاوضات إيفيان من أجل استقلال الجزائر في البند المتعلق بالطاقة، ولم يخف رئيس حزب فورزا إيطاليا السابق، سيلفيو برلسكوني، في صراعه مع الرئيس نيكولا ساركوزي أثناء التدخل العسكري الفرنسي في ليبيا باتهامه بأنه استخدم القوة العسكرية من أجل الطاقة وتهديد المصالح الطاقوية الإيطالية في ليبيا.
انطلاقًا من الدوافع البرغماتية لحكومة اليمين في إيطاليا وتعزيزًا لأولوية المصالح الوطنية، فإنها سعت بشكل سريع جدًا لإبرام أهم اتفاق للغاز مع الحكومة الليبية في طرابلس، في يناير 2023م، بقيمة 8 مليار دولار مع اتفاق مواز حول مكافحة الهجرة غير الشرعية، استفادت بموجبه حكومة طرابلس بستة زوارق بحرية لمراقبة الحدود البحرية. وبذلك حققت حكومة جورجيا ميلوني أكبر صفقة للغاز طيلة العقدين السابقين، تستفيد بموجبه شركة إيني الإيطالية بتطوير حقلين للغاز تقدر احتياطهما 6 تريليونات قدم مكعب على أن ينطلق الإنتاج في آفاق 2026م، بإنتاج يصل إلى 750 مليون قدم مكعب من الغاز يوميًا. واعتبر الرئيس التنفيذي لشركة إيني، كلاوديو ديسكالزي، المشروع بأنه أهم اتفاق في السنوات العشرين السابقة بين البلدين يسمح بتغطية ثلث حاجات التصدير الخاص لإيطاليا. وبما أن المصالح تتغلب على الإيديولوجيا اليمينية الشعبوية، فإن حكومة جورجيا ميلوني تعاملت ببرغماتية مع النزاع السياسي الداخلي في ليبيا والانقسام المؤسساتي، في ظل التنافس الحاد بين الشركات الأوروبية والأمريكية والروسية والصينية والتركية، حتى وإن اعتبر وزير النفط في حكومة طرابلس، محمد عون، بأن الاتفاق غير قانوني فضلًا عن استفادة شركة إيني بأرباح تصل إلى 38 %. وبمنطق المصلحة الوطنية الإيطالية، بعد خمسة أشهر فقط من توقيع اتفاق الغاز مع حكومة طرابلس، استقبلت رئيسة الوزراء الإيطالية في مايو 2023م، المشير خليفة حفتر بروما وكان التركيز الأكبر على قضية الهجرة غير الشرعية التي تزايد عددها من المنطقة البحرية الشرقية لليبيا حيث وصل عددهم في الخمسة أشهر الأولى من سنة 2023م، ما يقارب 17 ألف مهاجر بزيادة بلغت 166 % مقارنة بنفس الفترة لسنة 2022م، والهاجس الأمني لروما في استقبالها لحفتر أن يتم التعاون لوقف الحرب الهجينة المفروضة عليها من قبل مجموعة فاغنر الروسية، كما صرح بذلك وزير الدفاع الإيطالي، جويدو كروسيتو.
ثالثًا: اليمين الشعبوي في فرنسا ومستقبل العلاقات الجزائرية/ الفرنسية
أثار صعود اليمين الشعبوي في فرنسا تعقيدًا أكبر على تطور العلاقات الجزائرية الفرنسية بسبب قضايا الذاكرة، الهجرة والهوية، حيث تصر النخبة اليمينة ذات التنشئة السياسية والتاريخية المرتبطة بالنزعة النيوكولونيالية، المدافعة عن الجزائر الفرنسية، ونموذجها مؤسس الحزب اليميني الجبهة الوطنية، جون ماري لوبان، الذي كان عسكريًا متورطًا في قضايا التعذيب والقتل في فترة الثورة التحررية الجزائرية، وتشكل الحزب من أعضاء منظمة الجيش السري وقدماء المستوطنين الأوروبيين الذين يطلق عليهم الأقدام السوداء، التي رفضت استقلال الجزائر، وقامت بعدة جرائم ضد المدنيين الجزائريين وبعمليات إرهابية فاقت 2500 تفجير بالعبوات راح ضحيتها ما يقارب 3 آلاف مدني في الفترة ما بين 1961-1962م. وعليه، فإن حزب الجبهة الوطنية اليمينية الذي ورثته ابنة مؤسسها الأول، مارين لوبان، التي غيرت التسمية إلى التجمع الوطني، بقيت وفية إيديولوجيا إلى محاربة استرجاع الذاكرة الاستعمارية بجرائمها وإبادتها للشعب الجزائري، وحاولت تمجيد الاستعمار بمنطق الكولونيالية التقليدية، التي مفادها رسالة الحضارة الغربية وتفوق الرجل الأبيض على الشعوب البرابرة في إفريقيا. وانطلاقًا من هنا، فإن هيمنة اليمين الشعبوي في فرنسا سيكرس المزيد من الجدارات العازلة أمام تطور العلاقات الجزائرية / الفرنسية، المعارض أصلًا للجنة الذاكرة الثنائية التي شكلها الرئيسين الفرنسي، إيمانويل ماكرون، والجزائري عبد المجيد تبون، في إطار بيان الجزائر حول الشراكة المتميزة بين البلدين في اغسطس 2022م، حيث تصر الجزائر على استعادة الأرشيف المنهوب كاملًا، واستعادة جماجم ورفات المقاومين، وتعويض ضحايا التجارب النووية وتطهير الأراضي الملوثة بالإشعاعات والكشف عن مصير المفقودين. بينما يواجه الرئيس ماكرون ضغوطات كبيرة من اليمين بكل أشكاله بخصوص هذه المطالب، كما علق على ذلك زعيم الحزب الجمهوري، إيريك سيوتي، على نتائج الجولة الخامسة للجنة المشتركة للذاكرة بقوله:" يجب على الجزائر أن تستعيد الممتلكات والشر بما في ذلك المجرمون والمخالفون والمهاجرون غير الشرعيين"، ومثله اليميني المتطرف، إيريك زمور، الذي يستخدم المهاجرين الجزائريين وهويتهم الإسلامية كسلعة سياسية لترويج أفكاره المتطرفة لتعبئة الفرنسيين المعادين للأجانب والإسلام. الملف الثاني الذي يسمم العلاقات الفرنسية-الجزائرية يتعلق باتفاقية الهجرة الموقعة بين باريس والجزائر في سنة 1968م، حيث تخضع الاتفاقية لقواعد القانون الدولي لم يستطع اليمين الفرنسي تغير بنودها الأساسية رغم التعديلات التي أدخلت عليها، بحيث منحت الاتفاقية بعض الامتيازات لتنقل وإيواء وشغل الجزائريين في فرنسا مقارنة بالمهاجرين من شمال إفريقيا، لأن الظروف التاريخية في فرنسا كانت بحاجة ماسة لليد العاملة الجزائرية لتنمية اقتصادها، وفي هذا المجال منحت الاتفاقية للمهاجرين الجزائريين شهادة الإقامة لمدة عشر سنوات في إطار التجمع العائلي وامتيازات أخرى، لم تستطع القوانين الفرنسية حول الهجرة تغييرها، مما دفع اليمين بكل أشكاله للمطالبة بإلغاء الاتفاقية وكانت المحاولة الفاشلة في نهاية 2023م، حيث رفض البرلمان الفرنسي المصادقة على مشروع اليمين الفرنسي بإلغاء اتفاقية الهجرة مع الجزائر بأغلبية الأصوات 151 مقابل 114 صوتًا مؤيدًا. سيبقى ملف المهاجرين في فرنسا مسألة أمنية وسياسية حساسة جدًا، بحيث تمثل ورقة انتخابية في الاتجاهين المتناقضين، اليمين الشعبوي الذي ينظر إليها كمورد أيديولوجي لتخويف الفرنسيين من بعبع المهاجرين وتهديدهم للهوية والثقافة الفرنسية، واليسار الشعبوي الذي يوظفهم كثقل انتخابي لخلق التعبئة المضادة، وهي فعلًا تمثل كتلة ناخبة لا يستهان بها، فحسب مكتب الإحصاء الفرنسي، فإن المهاجرين شكلوا عشر سكان فرنسا في سنة 2021م، يمثل الجزائريون ما يقارب 13 %، المغرب 12 % والتونسيين 4.5 %. وأظهرت استطلاعات للرأي أجراها معهد إيفوب لحساب صحيفة لاكورا الفرنسية، بأن الناخبين المسلمين صوتوا بنسبة 62 % لصالح حزب فرنسا الأبية اليساري الراديكالي المعادي لليمين المتطرف، مما ساهم في فوز تحالف اليسار الجديد في الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية بالمركز الأول مبعدًا اليمين الشعبوي إلى المركز الثالث.
الثابت في هذه التحولات العالمية بصعود اليمين الشعبوي في أوروبا أنه نتاج مسار عولمة متوحشة مظاهرها مجموعة من الأزمات الاقتصادية النسقية الكبرى، أكدت ضعف التكتلات الكبرى على التكيف الإيجابي معها، مما دفع بالعودة إلى الانكفاء على الذات والمطالبة بالسيادة الوطنية والحفاظ على المصالح القطرية، والأخطر في كل ذلك ما ذهب إليه، فولكر تورك:" بأن صعود اليمين المتطرف في أوروبا هو جرس إنذار يجب أن نقرعه"، لأن التاريخ الأوروبي يخبرنا بتجارب الفاشية والنازية، التي نشأت في نفس الظروف السياسية والاقتصادية، هذه المرة كبش الفداء فيها حتمًا سيكون المهاجرون ومعاداة الإسلام، لأن تقارير المعادية للإسلام مثيرة للقلق من حيث تصاعد العداء للإسلام والمسلمين.