في مذكراته الشهيرة التي كتبها خلال فترة سجنه، والمعروفة باسم "دفاتر السجن"، يعبّر المناضل الإيطالي أنطونيو غرامشي عن فكرته الشهيرة: "الأزمة تكمن في أن القديم يحتضر والجديد لم يولد بعد. وفي ظل هذا الفراغ، تظهر أعراض مرضية متنوعة". تستحوذ هذه المقولة على تفكيري وأنا أشاهد سلسلة الانتصارات التي حققتها الحركات اليمينية في عدد من الدول الأوروبية هذا العام. فعودة الخطاب القومي العنصري إلى الساحة السياسية العالمية لا يقتصر على أوروبا فحسب، بل كان له حضور قوي أيضاً بعد انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة عام 2017م، ثم انتخاب جايير بولسونارو رئيساً للبرازيل في 2019م. واللذان شكّلا غطاءً حامياً للتيارات اليمينية المتطرفة في الأميركيتين، وساهما في تحفيز نشاط هذه التيارات في أوروبا. ونراها ممتدة إلى الهند أيضاً، حيث يروّج حزب "بهاراتيا جاناتا" بقيادة ناريندرا مودي لخطاب القومية الهندوسية. الحزب، الذي يعتبر الأكبر في العالم ويضم نحو 180 مليون عضو، يحظى بدعم شعبي واسع.
تثير هذه التطورات العديد من التساؤلات والشواغل: هل نشهد تحولاً تدريجياً في الأنظمة السياسية في أوروبا والعالم، مع بروز أنماط جديدة؟ هل صعود اليمين المتطرف يمثل مجرد مرحلة تمهيدية لانتقال نحو نظام جديد؟ أم أن هذه التحولات ليست سوى جزء من الدورات السياسية المعتادة، حيث يتناوب اليمين واليسار بين الصعود والهبوط؟
تزداد الأمور تعقيداً عند النظر في تأثير هذه التحولات على أمن الطاقة، إذ يرتبط صعود اليمين المتطرف في أوروبا بشكل وثيق بتبني سياسات تتناقض مع جهود دول الاتحاد الأوروبي للتعاون في مجال الطاقة المتجددة. حيث تعزز هذه الحركات العودة إلى استخدام مصادر الطاقة التقليدية، مثل الفحم والغاز، في إطار التركيز على السيادة الوطنية. وهذا النهج يهدد التقدم المحرز في مكافحة تغير المناخ، ويزيد من حدة التوترات بين الدول بشأن الوصول إلى مصادر الطاقة، كما يعيق الحلول التي تسعى دول الاتحاد الأوروبي إلى تبنيها، والتي تستند إلى فكرة الاندماج الإقليمي لاستغلال الفوائض من الطاقات المتجددة. ومن ثم، فإن صعود اليمين المتطرف لا يؤثر فقط على المشهد السياسي، بل يمثل أيضاً مسألة محورية في تحديد مستقبل أمن الطاقة في أوروبا، خاصة في ظل التحديات المناخية والاقتصادية التي تواجهها القارة.
أجندة اليمين المتطرف الأوروبي وتأثيرها على سياسات الطاقة
رغم تنوع تشكيلات أحزاب اليمين المتطرف عبر البلدان، فإنها تشترك في خصائص عامة تميزها كتيار سياسي متجانس. إذ تتميز هذه الأحزاب بالنزعة الوطنية المبالغ فيها ومعارضتها لأي شكل من أشكال الاندماج الإقليمي بدعوى حماية السيادة الوطنية. كما أنها ترفض الرأسمالية والليبرالية ليس بسبب ماهيتهما، بل خوفاً من التحولات العميقة التي تصاحبهما، خاصة على مستوى القيم والأخلاق.
تنعكس هذه الخصائص في مواقف أحزاب اليمين الشعبوي تجاه التكامل الأوروبي، حيث تدعو إلى تعزيز صلاحيات الدول الأعضاء على حساب المؤسسات الأوروبية. وتركز في ملف الطاقة على تحقيق "الاستقلالية" الطاقية كأولوية قصوى بما يتماشى مع النزعة الوطنية والرفض للتكامل الإقليمي، وبالتالي تتجاهل الاعتبارات البيئية. وتُعتبر الأدوار التنظيمية للدولة غير ضرورية، حيث تدعو الأجندة اليمنية إلى تحرير سوق الطاقة وزيادة التنافسية، والتقليل من الأعباء الاقتصادية التي تتحملها الدولة.
في هذا السياق، يُعبر الخطاب السياسي لليمين المتطرف عن قلقه المتزايد بشأن الاعتماد على واردات الطاقة، خاصة من دول مثل روسيا، وتروج لأهمية زيادة الاستثمارات في مصادر الطاقة الوطنية، وتعزيز الاعتماد على مصادر الطاقة التقليدية مثل الفحم، بالإضافة إلى تطوير تقنيات الطاقة النووية، التي تعتبرها العديد من الأحزاب اليمينية بديلاً فعالاً للطاقة الأحفورية والحل المثالي لتحقيق الأمان الطاقي وتقليل الانبعاثات الكربونية دون الاعتماد الكبير على الواردات الخارجية.
ومع ذلك، لا تتبنى جميع الأحزاب اليمنية نفس الموقف تجاه ملف التغير المناخي. فبعض الأحزاب تدعم استراتيجيات الطاقة النظيفة، بينما يميل الكثير منها إلى تجنب الأعباء الاقتصادية والتنظيمية الإضافية التي تفرضها السياسات البيئية، معتبرين أن القضايا البيئية لا ينبغي أن تعوق تحقيق التنمية الاقتصادية. لذلك، يتبنى اليمين الأوروبي سياسات تشجع على تحرير سوق الطاقة وزيادة تنافسيته، حيث يُعتبر التحرير وسيلة لتعزيز الكفاءة وخفض الأسعار، مما يعود بالنفع على المستهلكين والشركات. كما تدعم معظم الأحزاب اليمينية الابتكارات التكنولوجية في مجال الطاقة باعتبارها عنصراً حاسماً لتحسين تقنيات استخراج الطاقة الأحفورية وتطوير الطاقة المتجددة.
استغلال اليمين المتطرف لأزمة الطاقة في ٢٠٢٢: تعزيز النفوذ السياسي
في مطلع عام 2022م، نشرت جريدة "الإيكونيميست" تحليلاً معمقًا حول أزمة الطاقة التي تواجه أوروبا، مستعيرةً صورة "غرفة 101" من رواية جورج أورويل "1984"، حيث يواجه السجناء في تلك الغرفة أسوأ مخاوفهم. وأشارت إلى أن الأوروبيين اليوم، مثل هؤلاء السجناء، مجبرون على مواجهة أكبر مخاوفهم، وفي مقدمتها أزمة الطاقة وارتفاع أسعار الغاز. هذه الأزمة أُضيفت إلى سلسلة الأزمات الكبرى التي تعاني منها القارة، مثل تدفق المهاجرين، وارتفاع مستويات الدين، والتوترات مع روسيا.
مع بداية فصل الشتاء، كانت أوروبا تواجه مستويات غير مسبوقة من نقص مخزون الغاز الطبيعي، نتيجة تراجع إنتاج الطاقة المحلية في دول مثل هولندا، وضعف إنتاج الرياح، وتحول معظم شحنات الغاز الطبيعي المسال نحو آسيا بسبب ارتفاع الطلب هناك. في الوقت ذاته، كانت المحطات النووية الفرنسية تعاني من مشاكل في الصيانة، مما أسهم في تعميق أزمة نقص الإمدادات. هذه العوامل، مجتمعةً مع امتناع روسيا عن تقديم إمدادات إضافية، أدت إلى ارتفاع حاد في أسعار الغاز. ونتيجة لذلك، ارتفعت فواتير الكهرباء والغاز للأسر الأوروبية إلى ما يقارب 1,850 يورو في عام 2022م، مقارنةً بـ 1,200 يورو فقط في عام 2020م، ولولا الطقس الدافئ غير المعتاد في ذلك الشتاء، لكانت الأوضاع أشد سوءًا.
على إثر هذه الأزمات، تزايدت التحليلات التي تنتقد أو حتى تسخر من مفهوم "الاستقلال الاستراتيجي" الذي كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد طرحه خلال فترة رئاسة فرنسا للاتحاد الأوروبي. فهذه الأزمة كشفت بوضوح عن الاعتماد الكبير لأوروبا على مصادر الطاقة الخارجية، وخاصة من روسيا، مما جعل تحقيق هذا الاستقلال أمرًا بعيد المنال في ظل تلك الظروف المعقدة. وقد استغلت الأحزاب اليمينية المتطرفة مشاعر الغضب والإحباط الشعبي جراء ارتفاع تكاليف المعيشة في تعزيز حضورها السياسي وتوسيع قاعدة دعمها. واعتبرت أن الحكومات لم تقم بما يكفي لتأمين إمدادات الطاقة المستدامة أو لحماية الأسر الأوروبية من الأزمات المتلاحقة وقدمت هذه الأحزاب نفسها كبديل قادر على مواجهة تلك التحديات التي فشلت الحكومات الليبرالية في التعامل معها بفعالية. كما كثفت في خطابها السياسي إلى أن أزمة الطاقة ترجع إلى الاعتمادية المفرطة لأوروبا على روسيا والمصادر الخارجية، ومن هنا، تمكنت الأحزاب اليمينية من استغلال أزمة الطاقة لتوجيه انتقادات حادة للسياسات القائمة، مع التركيز على ضرورة استعادة السيطرة على الموارد الوطنية وتحقيق ما أسمته "استقلال الطاقة"، ما ساعدها على زيادة شعبيتها وتصوير نفسها كبديل يملك الحلول لتلك الأزمات المتراكمة.
بعد أن استغل اليمين المتطرف أزمة الطاقة في عام 2022م، لتعزيز شعبيته من خلال توجيه انتقادات لسياسات الاعتماد على المصادر الخارجية، استمرت الأحزاب اليمينية في مراقبة التطورات في سوق الطاقة عن كثب. فعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلها الاتحاد الأوروبي لتحقيق استقلالية أكبر في مجال الطاقة، إلا أن التحديات المستمرة التي تواجه سوق الطاقة الأوروبي لا تزال توفر فرصًا جديدة لليمين المتطرف. ومع تزايد الإنتاج المحلي للطاقة المتجددة وتراجع الاعتماد على الغاز الروسي، يبقى السؤال: كيف ستستغل الأحزاب اليمينية هذا التحول الكبير لصالحها؟ في هذا السياق، سنتناول في القسم التالي تحديات سوق الطاقة في أوروبا والفرص التي قد يستغلها اليمين المتطرف لتحقيق مزيد من النفوذ، خاصة مع فائض الطاقة المتوقع.
تحديات سوق الطاقة في أوروبا وفرص اليمين المتطرف لاستغلال فائض الطاقة
نجح الاتحاد الأوروبي في الدخول إلى غرفة ١٠١ ومواجهة أحد أسوأ مخاوفه المتعلقة بأمن الطاقة، حيث اتخذ خطوات حاسمة لضمان استدامة إمدادات الطاقة. لقد أطلقت مفوضية الاتحاد الأوروبي خطة REPowerEU ضمن حزمة Fit for 55، بهدف تحقيق الحياد المناخي بحلول عام 2050م، ركزت هذه الخطة على تسريع إنتاج الطاقة المتجددة وبناء نظام طاقة آمن ومستدام، مع تقليل الاعتماد تدريجياً على الوقود الأحفوري الروسي.
بحلول منتصف عام 2024م، نجح الاتحاد الأوروبي في خفض وارداته من الغاز الروسي (سواء عبر الأنابيب أو الغاز الطبيعي المسال) من نسبة 45% من إجمالي الواردات إلى 18%. في هذا السياق، أصبحت النرويج المورد الرئيسي للغاز عبر الأنابيب، في حين أصبحت الولايات المتحدة أكبر مورد للغاز الطبيعي المسال. وبين عامي 2022 و2024م، تم تشغيل 12 محطة جديدة للغاز الطبيعي المسال وتوسيع 6 محطات قائمة، مما زاد من قدرة الاتحاد الأوروبي على استيراد الغاز الطبيعي المسال بمقدار 70 مليار متر مكعب.
إلى جانب هذه الجهود الاستراتيجية، فرضت المفوضية الأوروبية لوائح تضمن استدامة إمدادات الطاقة من خلال زيادة القدرات التخزينية للدول الأعضاء، حيث تم إلزامها بتخزين الغاز بقدرة لا تقل عن 90% من سعة التخزين بحلول 1 نوفمبر من كل عام. وفقًا لتقرير حالة اتحاد الطاقة لعام 2024م، تم تحقيق هذا الهدف في أغسطس 2024م، قبل الموعد المحدد بشهرين.
من جهة أخرى، حقق الاتحاد الأوروبي تقدمًا في تحسين كفاءة الطاقة وزيادة استخدام مصادر الطاقة المتجددة. بين أغسطس 2022 ومايو 2024م، تمكن من خفض استهلاك الغاز بنسبة 18%، ما يعادل توفير 138 مليار متر مكعب من الغاز. إضافةً إلى ذلك، شهدت الطاقة المتجددة استثمارات كبيرة، حيث تم تركيب 56 جيجاوات من الطاقة الشمسية الجديدة في عام 2023، كما زادت قدرات الطاقة الشمسية والرياح بنسبة 36% بين عامي 2021 و2023، مما ساهم في توفير 35 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي خلال تلك الفترة.
بالتوازي، تم تحسين البنية التحتية للطاقة من خلال تعزيز التعاون بين الدول الأعضاء لتوسيع شبكة الطاقة وزيادة كفاءتها. كما تبنت دول الاتحاد الأوروبي خططًا مثل خطة عمل الشبكات لضمان تدفق الطاقة بكفاءة بين الدول.
هذه الجهود المتكاملة أدت إلى تحسين كبير في أمن الطاقة، وتقليل الاعتماد على الموردين الخارجيين، خاصةً من روسيا، مع التركيز على التحول السريع نحو الطاقة المتجددة وتقليل استهلاك الطاقة التقليدية.
في ظل التحديات التي تواجه الاتحاد الأوروبي بشأن كيفية التعامل مع فائض الطاقة المتجددة واستغلاله بفعالية، تبرز هذه القضايا كفرص يمكن أن تستغلها الأحزاب اليمينية المتطرفة لتعزيز أجندتها السياسية. فمن خلال التركيز على استقلالية الطاقة وتقديم حلول تعتمد على السيادة الوطنية بدلاً من التكامل الأوروبي، تجد هذه الأحزاب مدخلاً لانتقاد السياسات التي تدعو إلى التعاون الوثيق بين الدول الأعضاء وتوسيع شبكات الربط الكهربائي. إن فكرة التعامل مع الطاقة الزائدة عبر سوق أوروبية موحدة لا تتناسب مع الأيديولوجيات اليمينية التي تفضل الحد من التدخل الأوروبي. هذه المعضلات تعزز من قدرة اليمين المتطرف على تقديم نفسه كبديل سياسي يسعى إلى حماية مصالح المواطنين والحد من تأثير السياسات المشتركة التي قد تؤدي إلى ارتفاع تكاليف المعيشة. في هذا السياق، سنتناول الآن المعضلة التي يواجهها الاتحاد الأوروبي في ضوء التطورات الأخيرة في سوق الطاقة وفرص اليمين المتطرف لاستغلال هذه التحديات لصالحه.
معضلة الطاقة في أوروبا حاليًا في ضوء التطورات الأخيرة
لعل المعضلة التي تواجه الاتحاد الأوروبي الآن، هي كيفية التعامل مع كل الطاقة التي يتم إنتاجها، فلقد شهدت أوروبا طفرة في مصادر الطاقة المتجددة تفوق مثيلاتها في بقية العالم الغني. فعلى سبيل المثال في العام الماضي فقط، قامت القارة بتركيب قدرة جديدة تقدر بحوالي ضعف ما قامت به أمريكا، مع إضافة 56 جيجاوات (GW) من الطاقة الشمسية الجديدة و17 جيجاوات من طاقة الرياح الجديدة. فأصبحت الطاقة في إسبانيا رخيصة بشكل متزايد. في الفترة ما بين الساعة 11 صباحًا و7 مساءً، وهي أكثر الأوقات إشراقًا في بلد مشمس، غالبًا ما تقترب الأسعار من الصفر في الأسواق بالجملة. حتى في ألمانيا، التي لا يمكن اعتبارها بلدًا مشمسًا، فاستغلال طاقة الرياح حول أسعار الجملة إلى سلبية في 301 من أصل 8760 ساعة قابلة للتداول العام الماضي. (انظر الرسم البياني)
وأصبح صانعو السياسات في الاتحاد الأوروبي يناقشون الآن كيفية استغلال الطاقة بشكل جيد في الوقت الحالي وإنشاء سوق أكثر كفاءة لحل مشكلة إهدار الطاقة المتجددة:
أولًا: إرسال الطاقة إلى المناطق التي لا تعاني من فائض:
وفقًا لتقديرا "ENTSO-E"، وهو اتحاد لمشغلي الشبكات الأوروبية، فإن تحسين شبكات الربط بين الدول الأعضاء يمكن أن يضمن استخدام 42 تيراواط/ساعة سنويًا من الكهرباء التي كانت ستُهدر بحلول عام 2040م، وهو ما يتجاوز الاستهلاك السنوي الحالي لدولة الدنمارك.
لكن المشكلة تكمن في أن توسيع هذه الشبكات يتطلب وقتًا طويلًا ويواجه معارضة محلية، حيث تعترض المجتمعات المحلية على بناء البنية التحتية الجديدة لأسباب متعددة، مثل التأثيرات البيئية والجمالية. لذلك، تلجأ شركات الطاقة في كثير من الأحيان إلى وضع الشبكات تحت الأرض لتفادي هذه الاعتراضات، وهو ما يؤدي إلى زيادة كبيرة في التكاليف.
إضافة إلى ذلك، تؤدي توسعات الربط الكهربائي إلى ظهور خلافات اقتصادية بين الأسواق المتصلة. فعند إنشاء خطوط الربط، ينتج عن ذلك تدفق الكهرباء من السوق الذي يتمتع بأسعار منخفضة إلى السوق الذي ترتفع فيه الأسعار، مما يعني أن السوق ذات الأسعار المنخفضة ستصدر الطاقة للسوق ذات الأسعار المرتفعة. وعلى الرغم من استفادة الطرفين بشكل عام من هذا التبادل، إلا أن هناك فرقًا في توزيع المنافع. ففي إحدى الأسواق، قد يكون المنتجون هم المستفيدون الرئيسيون من الصفقة، في حين يكون المستهلكون هم المستفيدون في السوق الأخرى، مما يؤدي إلى شعور بالخسارة لدى الطرف الآخر في كلتا الحالتين.
نتيجة لهذه المخاوف، ألغت السويد مشروع "هانسا باوربريدج"، وهو خط ربط كهربائي بقدرة 700 ميجاوات مع ألمانيا، بسبب القلق من أن هذا الربط سيؤدي إلى زيادة أسعار الكهرباء على المستهلكين المحليين، وهو ما يعكس التحديات المعقدة التي تواجه توسع شبكات الطاقة عبر الحدود.
ثانيًا: تحويل الطلب إلى الساعات التي تكون فيها الطاقة وفيرة:
الفكرة الرئيسية هي زيادة الطلب على الطاقة خلال ساعات وفرتها، من خلال تحفيز استهلاك المصادر المرنة مثل شحن المركبات الكهربائية (EV) ومخازن التدفئة المركزية. هذا النهج يهدف إلى تحقيق توازن بين العرض والطلب، ولكنه يواجه تحديات تتعلق بالتكنولوجيا والتسعير.
من الناحية التكنولوجية، لا تنتشر العدادات الذكية، التي تقيس ليس فقط كمية الطاقة المستخدمة، ولكن أيضًا توقيت استخدامها، بشكل متساوٍ في جميع أنحاء أوروبا. هذه العدادات ضرورية لأنها تسمح بتفاوت الأسعار وفقًا لأوقات الاستخدام، مما يشجع المستهلكين على زيادة الطلب في أوقات وفرة الطاقة. في إسبانيا، تتوافر هذه العدادات لدى جميع المستهلكين تقريبًا، بينما في ألمانيا، نسبة قليلة فقط من المنازل مجهزة بها. هذا التفاوت التكنولوجي يشكل عقبة أمام تطبيق هذا الحل على نطاق واسع.
من جانب آخر، تمثل أنظمة تسعير الشبكات الحالية تحديًا إضافيًا. فعلى سبيل المثال، "كارولين"، الغلاية العملاقة في هامبورغ بألمانيا، التي يمكنها تحويل فائض الكهرباء إلى حرارة تكفي لحوالي 20,000 منزل، تجد نفسها ملزمة بدفع رسوم الشبكة الشهرية كاملة، حتى لو تم تشغيلها لفترة قصيرة فقط. هذا النظام يجعل من تشغيلها مكلفًا للغاية في معظم الأوقات، مما يؤدي إلى بقائها معطلة في كثير من الأحيان رغم وجود فائض في الكهرباء.
بالتالي، يشكل كل من عدم انتشار العدادات الذكية وأنظمة تسعير الشبكات عوائق كبيرة أمام الاستفادة المثلى من فائض الطاقة المتجددة في أوروبا، مما يعوق تحقيق التوازن المطلوب بين العرض والطلب.
ثالثًا: تخزين الطاقة ككهرباء أو وقود أو حرارة:
تستعد شركة طاقة محلية في فنلندا لحفر تجويف ضخم تحت الأرض في مدينة فانتا، يعادل في حجمه 440 مسبحًا أولمبيًا. سيتم ملء هذا التجويف بالماء الساخن عند درجة حرارة تصل إلى 140 درجة مئوية، مما سيمكن من تخزين 90 جيجاوات/ساعة من الحرارة، وهي كمية كافية لتدفئة المدينة لمدة عام كامل. في المقابل، تسعى شركات أخرى إلى تعزيز استخدام البطاريات للتخزين قصير الأجل، ولكنها تواجه العديد من التحديات الناتجة عن الهياكل الحالية لأسواق الطاقة. هذه المخططات بحاجة إلى حوافز أكبر، وهي مسألة يدرسها الاتحاد الأوروبي حاليًا بهدف توسيع انتشار مثل هذه الحلول عبر دول الاتحاد.
في ختام هذا المقال، ففي ظل صعود اليمين المتطرف في أوروبا، يبرز تأثيره الواضح على سياسات الطاقة، حيث تستغل هذه الحركات أزمات الطاقة لتعزيز نفوذها السياسي من خلال الدعوة إلى الاستقلالية الطاقية والسيادة الوطنية. على الرغم من الجهود التي تبذلها الدول الأوروبية للتوجه نحو الطاقة المتجددة وتقليل الاعتماد على الواردات، يظل التيار اليميني المتطرف يمثل تحديًا أساسيًا لتلك الجهود، مما يزيد من تعقيد المشهد السياسي والاقتصادي في أوروبا.
يبقى السؤال الأهم: هل تستطيع أوروبا التوفيق بين حاجتها إلى استقرار الطاقة والتوجه نحو مصادر متجددة، وبين التحديات السياسية التي يفرضها صعود اليمين المتطرف؟ إن الحل يكمن في تبني سياسات أكثر تكاملًا تجمع بين تحقيق الاستقلال الطاقي وتعزيز التعاون الدولي، وهو ما يتطلب رؤية استراتيجية تتجنب الانقسامات الإقليمية وتواجه التحديات المناخية بحلول مستدامة. مواجهة النفوذ المتزايد لليمين المتطرف تستدعي تضافر الجهود الأوروبية لموازنة الأمن الطاقي مع التزاماتها البيئية، لضمان استقرار طويل الأمد في سوق الطاقة الأوروبي. ومن خلال تبني تلك الرؤية الاستراتيجية والتعاونية، يمكن لأوروبا التصدي لتحديات صعود اليمين المتطرف وتأثيره على أمن الطاقة، والحفاظ على التوازن بين السيادة الوطنية والتعاون الدولي الضروري لضمان مستقبل مستدام للقارة.