لطالما سعت الجهود الأوروبية إلى عزل الأحزاب والتنظيمات اليمينية المتطرفة عن مراكز صنع القرار بمختلف دول الاتحاد الأوروبي. غير أن تلك الجهود شهدت تقهقرًا على مدار السنوات القليلة الماضية، إلى أن أضحت هذه الاستراتيجية الأوروبية -والتي تعرف باسم "جدار الحماية" -اليوم في مهب الريح، في ظل تنامي نفوذ الأحزاب القومية والشعبوية بمختلف أنحاء القارة العجوز. حيث تمكنت أحزاب اليمين المتشدد داخل 6 دول أوروبية على الأقل-إيطاليا، وفنلندا، وسلوفاكيا، والمجر، وكرواتيا، وجمهورية التشيك-من الانضمام إلى التشكيل الحكومي، أو الهيمنة على نتائج صناديق الاقتراع داخل بعض الدول الأخرى.
كيف نفسِر صعود اليمين المتطرف؟
ثمة العديد من الأسباب الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية التي تقف وراء توسع نفوذ اليمين الراديكالي بشتى الدول الأوروبية، لكنه من الصعب الجزم أي من هذه الأسباب هو الأكثر أهمية وتأثيرًا.
بلا شك، أن الأزمة الاقتصادية العالمية التي اندلعت عام 2008م، وما ترتب عليها من سعي حثيث من قبل الاتحاد الأوروبي والسلطات الوطنية لسد العجز في الموازنة وفرض تدابير تقشف على الطريقة الليبرالية الجديدة، شكلت عاملًا رئيسيًا. فمن شأن هذه السياسات الاقتصادية أن تتسبب في اتساع الفجوة بين طبقة النخبة المُنتفعة وسائر قطاعات الشعب التي يقع على كاهلها العبء الاقتصادي الأكبر. وهو ما يهيئ الفرصة أمام اليمين المتطرف لاستغلال حالة السخط المسيطرة على الطبقات المهمشة. وقد اقترن هذا الوضع، بتغييرات اجتماعية آلت في نهاية المطاف إلى انكماش الطبقة العاملة التي تصدرت الثورة الصناعية في الماضي، والتي كانت دوماً داعمًا تقليديًا لأحزاب الجناح اليساري. كما أدت التحولات الثقافية، بالأخص، المتعلقة بأزمة الأيديولوجيات الكبرى، إلى انتشار الآراء الفردية، والمثيرة للانقسامات، وتلك الساخرة من الواقع عبر مختلف قطاعات المجتمع.
مع ذلك، ربما يكمن التفسير الأفضل لظاهرة المد اليميني، في الأزمة التي تواجه الديمقراطية، التي تبدو اليوم أكثر من أي وقت مضى، عاجزة عن تلبية وعودها النظرية. وذلك بعد أن اتجهت السياسات الديمقراطية التقليدية إلى مواءمة أمورها والتكيف مع مصالح التمويل العالي. بالتالي، فإن التنقل ما بين الحكومات اليمينية المعتدلة أو حكومات يسارية وسطية لا يطرح في الواقع بدائل حقيقية من حيث النماذج الاقتصادية، بل إن هذه التغييرات لا تعدو كونها اختلافات طفيفة في نمط ثابت لا يتغير على الإطلاق. حتى أن أصبح هذا النمط يُجرد المؤسسات الممثلة للشعوب من معناها ويفُقد الانتخابات التعددية جدواها لينتهي بها المطاف لأن تصبح مجرد طقوس فارغة. نتيجة لذلك، يستفيد اليمين المتطرف من حالة الاشمئزاز والاستياء الشعبي حيال أداء النخبة السياسية الفاسدة، والمنتفعة، والاحتكارية، وبالأخص في ظل وقوف الديمقراطية الخالصة مكتوفة الأيدي أمام المؤسسات الاقتصادية والمالية الكبرى التي لا يمكن المساس بها. وفي ضوء هذا، تواجه أحزاب المؤسسة الحاكمة اتهامات شبه دائمة بعدم تمثيلها وتعبيرها بشكل صادق عن مظالم شعوبها. في المقابل، يدعو اليمين المتشدد إلى مشاركة سياسية مباشرة، ووضع الثقة في القادة الذين ينعمون بالكاريزما والقدرة على التواصل مع شعوبهم دون الحاجة لوجود وسطاء. في حين لم يعد يتم التعويل على "الطبقة السياسية" القديمة (الأحزاب اليسارية أو اليمينية التقليدية)، نتيجة انحيازها ومُحاباتها الحزبية، وعجزها عن حل المشكلات الاجتماعية.
ماذا نعرف عن اليمين المتطرف؟
يُجسد اليمين الراديكالي أسوأ التقاليد الأيديولوجية الأوروبية ممثلة في: الأصولية القومية ذات النزعة الإقصائية، و"الدوغمائية" أو الجمود الفكري المُضاد للتنوير، والسلطوية السياسية. وتقوم رسالته اليوم على أساس ثلاث أفكار جوهرية: "التمجيد الشوفيني" أو التعصب القومي والعرقي للأمة، كراهية الأجانب ومعاداة المهاجرين؛ والشعبوية المُناهضة للسياسيين والمؤسسات. وفي ضوء هذا السياق، يقدم اليمين المتطرف لأنصاره هوية قومية خالصة -مقترحًا حلولًا بسيطة وعاجلة للأزمات الداخلية-تتلخص في طرد الأجانب والإطاحة بـ “النخبة السياسية". ويدور الهوس الأيديولوجي الرئيسي لليمين المتطرف حول أسطورة "النقاء العرقي لشعبنا". تتجلى هذه العقيدة الجوهرية المسيطرة على الخطاب وتحركات تيار اليمين عبر وسيلتين: العداء والرفض المباشر للهجرة غير الأوروبية، ومعارضة فكرة قيام الاتحاد الأوروبي في حد ذاته. حيث تلقي الأحزاب اليمينية اللوم على المهاجرين باعتبارهم "عالة" على دولة الرفاه الأوروبية، وسببًا في رفع معدلات الجريمة بما في ذلك (جرائم الإرهاب)، بل يصل الأمر إلى حد تحميلهم مسؤولية عودة انتشار الأمراض التي سبق وأن تم القضاء عليها داخل أوروبا. باختصار، أصبحت الديمقراطية التي نعهدها، من وجهة نظر اليمين الراديكالي، مجرد قشرة أو وعاء فارغ، فيما ينظر إلى السياسات الاقتصادية الأوروبية الراهنة باعتبارها مخطط مناهض للشعب يهدف إلى تعزيز أجندة العولمة. وبالتالي، فإن الحلول التي يطرحها جناح اليمين المتطرف بسيطة للغاية وهي كالآتي: على الصعيد الاقتصادي، اتباع تدابير الحمائية والتعصب القومي. وعلى الصعيد السياسي، التشبث بالسياسات الأكثر تشددًا والمشاركة المباشرة في صنع القرار، في حين يُعد الخطاب المُعادي للمهاجرين القائم على الخوف والكراهية السبيل لإدارة الملف الاجتماعي. أما على المستوى الثقافي، فينصب التركيز على القيم الأسرية والدينية التقليدية.
التحديات
الهجرة: لطالما لجأت أحزاب اليمين المتطرف إلى استخدام ملف الهجرة، في سبيل استغلال مظالم الشعوب الحقيقية حيال نظم الرعاية الصحية، والإسكان، وارتفاع تكاليف المعيشة. وهو ما أكسب النقاش بشأن هذه القضية حساسية خاصة داخل دول الاتحاد الأوروبي لاسيما بعد توافد أعداد متزايدة من المهاجرين لدول الاتحاد خلال الفترة ما بين عامي 2015 و2016م، ومنذ ذلك الحين، سعت الأحزاب الوسطية إلى تبني سرديات اليمين المتطرف حول الهجرة على المستويين الوطني والأوروبي، أملاً في الاحتفاظ بالناخبين الذين قد يفكرون في الانتقال إلى الأحزاب اليمينية المتطرفة.
وقد انعكست آثار ذلك عبر سلسلة من السياسات الأوروبية التي تضع نصب أعينها التركيز على محورين رئيسيين: الأول، تصدير ملف إدارة الهجرة، من خلال إبرام سلسلة من الشراكات مع دول الجوار الأوروبي، بهدف الحيلولة دون وصول المهاجرين إلى الأراضي الأوروبية. ويتمثل المحور الثاني، في “أمننة " قضية الهجرة إلى الاتحاد الأوروبي-أي وضعها ضمن إطار التهديد الأمني. وقد أفضى ذلك إلى صياغة عدد من السياسات بشأن المراقبة الحدودية وردع المهاجرين، بما في ذلك الميثاق الأوروبي الجديد حول سياسات الهجرة واللجوء الذي اعتمده المجلس الأوروبي في مايو الماضي. ويدعو الميثاق الجديد -الذي يمثل أكبر عملية إصلاح لمنظومة إجراءات الهجرة إلى أوروبا في نحو عقد من الزمان -إلى تعزيز تدابير مراقبة الحدود الأوروبية. كما أنه يفضل أن تتم دراسة ومعالجة طلبات اللجوء خارج إطار دول الاتحاد الأوروبي.
التغير المناخي: تعارض الأحزاب اليمينية المتطرفة تنفيذ الصفقة الخضراء الأوروبية -وهي مجموعة من السياسات لجعل سياسات الاتحاد الأوروبي المتعلقة بالمناخ والطاقة والنقل والضرائب مناسبة لضمان انتقال الكتلة إلى انبعاثات صفرية صافية بحلول عام 2050م، وعلى الرغم من الانتهاء من معظم توجيهات الصفقة الخضراء والتشريعات والسياسات ذات الصلة في الأشهر الأخيرة، إلا أن تنفيذها قد يتعرض لتقويض من جانب المعارضة اليمينية المتطرفة، فثمة شعور قائم بأن الأحزاب الرئيسية تتراجع بالفعل عن المضي قدمًا في سياسات المناخ من أجل استيعاب ومراعاة آراء اليمين المتطرف. وخلال انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ "كوب 28" بدولة الإمارات نهاية ديسمبر 2023م، ضغط الاتحاد الأوروبي من أجل التحول بعيدًا عن الوقود الأحفوري. وهو ما يفرض عليه مسؤولية قيادة المسيرة نحو ذلك الهدف، من خلال إظهاره بكل شفافية كيفية التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري باعتبار ذلك جزءًا من أهدافه الموضوعة لعام 2040م. مع ذلك، فإن توسع نفوذ تيار اليمين داخل البرلمان الأوروبي، يجعل مهمة اضطلاع الاتحاد الأوروبي بدور الريادة العالمية في هذا المجال أكثر صعوبة وتعقيدا. علاوة على ذلك، فإن الشكوك بشأن أهداف صافي الانبعاثات الكربونية، تمثل أحد مجالات السياسة الأخرى التي توحد جبهة العديد من جماعات اليمين المتطرف، حتى وإن كانت تختلف فيما بينها حول ماهية السياسة المتبعة. بالتالي، فمن المتوقع أن يؤثر ذلك في قدرة الاتحاد الأوروبي على المساهمة المالية بشكل فعال في صندوق الخسائر والأضرار المناخية، وسبل دعمه لسياسات التكيف بدول الجنوب العالمي.
توسع الاتحاد الأوروبي: مجددًا يصبح حلم توسع الاتحاد الأوروبي أولوية على رأس أجندته الخارجية، وبالأخص في ظل استمرار الغزو الروسي لأوكرانيا. وبالنسبة للعديد من العواصم الأوروبية، يعد انضمام دول غرب البلقان ودول أوروبا الشرقية إلى عضوية الاتحاد ضرورة لضمان أمن التكتل ودول الجوار. رغم ذلك، يزداد تأييد الناخبين بمختلف الأنحاء الأوروبية للأحزاب التي قد لا تدعم بالضرورة مثل هذه الأجندة. وبحسب نتائج الاستطلاعات، فإن الدعم الشعبي لانضمام أوكرانيا لعضوية الاتحاد الأوروبي سجل أدنى مستوياته في دول المجر، وسلوفاكيا، وفرنسا، والنمسا-وهي الدول التي تنعم فيها أحزاب اليمين بنفوذ قوي متنامي. وفي الوقت الذي قد لا يصبح فيه التوسع الأوروبي من بين الموضوعات الرئيسية للحملات الانتخابية، إلا أن ارتفاع نسبة التأييد من قبل الناخبين للأحزاب اليمينية، توحي بأنه سيكون هناك تخبط وتضارب في المواقف حيال تحقيق حلم التوسع الأوروبي وذلك كأفضل سيناريو محتمل، وربما رفض الفكرة من الأساس على أسوأ تقدير. وهو بما يُحتم على الساسة والحكومات المناصرة لهذا المشروع ضرورة بيان حجتها بشكل واضح أمام شعوبها، وإدارة نقاش عام حول آثار ذلك، وإلا فهي ستخاطر بأن يُختطف النقاش من قبل الرموز الشعبوية السياسية، على غرار ما حدث في قضية الهجرة، ليُكسب الحركات اليمينية المتشددة المزيد من الدعم.
الاقتصاد: من غير الواضح تمامًا مدى تأثير توسع نفوذ اليمين المتطرف على السياسات الاقتصادية الجوهرية للاتحاد الأوروبي. فبرغم أن كافة الأحزاب اليمينية تؤيد حضور أكبر للسيادة الوطنية عند اتخاذ قرارات تخص السياسات الاقتصادية، إلا إن أولويات هذه الأحزاب قد تتباين أو ربما حتى تتضارب. وبشكل عام، فإن هدفها المعلن، العمل على خفض مستويات الدين والعجز بصورة مستدامة، بموازاة العمل على حماية الاستثمارات في المجالات الاستراتيجية مثل الصناعات الرقمية، والخضراء، والصناعات الدفاعية. وإجمالا، تتسم التوقعات الاقتصادية الراهنة للاتحاد الأوروبي بقدر نسبي من الإيجابية، مدعومة بتقديرات المفوضية الأوروبية التي تشير إلى نمو إجمالي الناتج المحلي الأوروبي إلى 1 % في عام 2024م، و1.6% في عام 2025م، مقابل تراجع حاد في مستويات التضخم إلى 2.2 % في العام ذاته.
الشاغل المهم الآخر يتعلق بملف الأمن الاقتصادي. وفي ضوء ذلك، تقدمت المفوضية الأوروبية بمقترح حول اعتماد عدد من الأدوات لدعم الأمن الاقتصادي الأوروبي، بما يشمل ذلك؛ تحسين فهم واستيعاب المخاطر المحتملة المرتبطة بالاستثمارات الأوروبية في الخارج. فيما دعت بعض أحزاب اليمين المتطرف إلى تبني استراتيجية تحمل شعار "صنع في أوروبا 2030 ". ومن بين مجالات السياسة الأخرى المرجح أن تتأثر باعتبارات الأمن الاقتصادي؛ تأمين إمدادات الطاقة، والوصول إلى المواد الخام، وحماية التكنولوجيا والسياسة التجارية. وسيكون القرار السياسي الرئيسي الذي يواجه الاتحاد هو المدى الذي سيسلكه في طريق أحادي الجانب سعياً لتحقيق أمن اقتصادي أكبر، وإلى أي حد ستُمنح الأولوية للحلول متعددة الأطراف.
اليمين المتطرف والانتخابات البرلمانية الأوروبية في يونيو 2024م:
في أوائل يونيو الماضي، جرت الانتخابات البرلمانية الأوروبية بمختلف أنحاء الاتحاد الأوروبي، حيث أدلى نحو 400 مليون شخص بأصواتهم لانتخاب 720 عضوًا بالبرلمان. تكمن أهمية هذه الانتخابات في تقرير من يقوم بتمثيل المواطنين بالبرلمان الأوروبي، وبدء المفاوضات بشأن اختيار رئيس جديد للمفوضية الأوروبية، وهي أحد أبرز الهيئات الأوروبية التي تنعم بنفوذ كبير، ويناط بها تقديم مقترحات بشأن السياسات والتشريعات الخاصة بالاتحاد الأوروبي.
وقد شهدت انتخابات البرلمان الأوروبي، تحقيق أحزاب اليمين المتطرف مكاسب لاسيما داخل كل من فرنسا وألمانيا، حيث تفوقت في أدائها على الائتلافات الوسطية. حتى وإن كانت توقعات تيار الوسط ترجح تأييدًا كاسحًا لليمين المتطرف، وهو ما لم يحدث. وبرغم أن هذا "الاكتساح" المتوقع لم يتحقق، إلا أن الاتجاه على المدى البعيد يظهر دعمًا متزايدًا للتيار المعادي للمؤسسة، والأحزاب الشعبوية، وتلك المشككة في كينونة الاتحاد الأوروبي على المستويين الأوروبي والوطني. لكن تظل قدرة هذه الأحزاب اليمينية على ممارسة نفوذ حقيقي على البرلمان الأوروبي، وهو الهيئة المختصة بسن التشريعات داخل الاتحاد الأوروبي ويمتلك سلطة التصديق على الموازنة أو رفضها، مرهونة بقدرتها على توحيد جبهَاتها المتعددة. سويا، يتعاون البرلمان والمجلس الأوروبيين من أجل تمرير التشريعات المقترحة من قبل المفوضية الأوروبية. وحتى الآن لا يوجد انسجام تام بين مواقف أحزاب اليمين حول القضايا الرئيسية مثل دعم أوكرانيا أو ما يتعلق بالمسؤوليات المالية.
قد لا تكون تداعيات هذه الانتخابات على الولايات المتحدة بعيدة المدى، فمن المتوقع أن تظل السياسات والزعامة الأوروبية دون تغيير فيما يتعلق بأمن أوكرانيا وغيرها من القضايا الدولية. ورغم أن دعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا يظل القضية الطاغية على أجندة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي لكنها تعد أقل القضايا إثارة للجدل، فيما تحظى القوانين التي يمررها البرلمان دوما بدعم كبير، حتى أن التدابير الأكثر إثارة للجدل حول تحرير التجارة بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي تحظى بدعم أغلبية الأصوات المؤهلة داخل البرلمان. أما على صعيد الدول التي يزداد فيها تنامي شعبية أحزاب اليمين المتطرف بين الناخبين، حتى وإن لم تكن كافية كي تعتلي رأس القيادة، قد يصبح رؤساء حكومات هذه الدول أقل حماسًا حيال دعم أوكرانيا، لاسيما فيما يتعلق بمسألة تحرير التجارة.
وبرغم أن البرلمان الأوروبي لا يمارس تأثيرًا مباشرًا على المجال الدفاعي، حيث يظل ملف الأمن القومي اختصاصًا وطنيًا والسياسة الأمنية والدفاعية المشتركة للاتحاد الأوروبي سياسة حكومية دولية، إلا أن نفوذه ينعكس من خلال السلطة الممنوحة له للتصديق على ميزانية الاتحاد الأوروبي. وهي التي تخوله إمكانية إخضاع الإنفاق الدفاعي لمزيد من التدقيق، متسببًا في تعطيل اعتماد الميزانية. وبشكل عام، من المتوقع أن تتجه السياسات الأوروبية بشأن الهجرة إلى مزيد من التشديد، مع تراجع طفيف لأهدافها الطموحة حول المناخ.
الولايات المتحدة واليمين الراديكالي الأوروبي:
يُشكل صعود اليمين الراديكالي داخل أوروبا تهديدًا لا يقتصر مداه على القارة الأوروبية فحسب، بل يمتد ليقض مضاجع الأمريكيين في الداخل والخارج على حد سواء. ففي الوقت الذي تميل الحكومة الأمريكية للتعجيل باستخدام سلاح العقوبات ضد اللاعبين السيئين في بقاع مختلفة من العالم، تلجأ الإدارات الأمريكية المتعاقبة، على استحياء، إلى تصنيف جماعات اليمين المتطرف التي تنتهج العنف كمنظمات إرهابية باعتبار ذلك أداة أخرى مهمة وفعالة عند معالجتها لمثل هذا التهديد العابر للحدود. فقد استغرق الأمر أعوامًا كي تتخذ وزارة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس الحالي جون بايدن قرارًا بشأن أول تصنيفاتها لجماعة يمينية تنتهج العنف -وهي" حركة المقاومة النوردية" -في أواسط يونيو من العام الجاري (2024م). وتعتبر المقاومة النوردية، إحدى الجماعات التي تنتمي إلى حركة النازيين الجدد. وبرغم أنها تتخذ من السويد مقرًا لها، إلا أن بصماتها تمتد عبر أنحاء الدول الاسكندنافية. وقد اكتسبت شهرتها السيئة بفعل ممارساتها الوحشية وتبنيها رؤية للحكم الشمولي، وسعيها إلى تكديس ترسانة من الأسلحة والمواد المتفجرة التي تقوم بتخزينها.
وقد سبق القرار الخاص بحركة المقاومة النوردية، قرار مماثل من قبل إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب في عام 2020م، ضد حركة الإمبريالية الروسية المتشددة التي تم إدراجها على القائمة السوداء باعتبارها جماعة إرهابية. بموجب هذه القرارات، تخضع الجماعتين إلى تجميد أصولهما، وتعريض كل من يحاول دعمهما لخطر الملاحقة والمقاضاة بتهمة تمويل الإرهاب. مثل هذه التصنيفات إنما تعكس خوفًا متناميًا داخل واشنطن من أن يتحول صعود نجم جماعات اليمين المتطرف داخل أوروبا إلى مصدر إلهام للعناصر المتطرفة التي تنتهج العنف من أجل الذهاب لما هو أبعد من الهتافات، والشعارات، للقيام بحوادث إطلاق نار جماعي.
لقد تمكنت أحزاب اليمين المتطرف من نشر نفوذها ليتجاوز نطاق البلدان الصغيرة الهامشية ممتدا إلى المناطق والدول المركزية داخل أوروبا. ومن المتوقع أن يدفع اليمين الراديكالي الأوروبي صوب سياسات خارجية أقل التزاما بقيم الديمقراطية الليبرالية وأكثر تفضيلا للسياسات القائمة على المقايضة والمعاملات في علاقاتها مع سائر دول العالم. ولعل وجه الانقسام الأكثر وضوحا بين الحركات اليمينية الأوروبية على صعيد السياسة الخارجية يتعلق بالملف الروسي. حيث يتبني بعضا من هذه الأحزاب مواقف داعمة لموسكو، في حين يحرص البعض الآخر على أن يضع نفسه في صورة الداعم للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي "الناتو، وبالتالي، الاحتشاد معهم خلف هدف دعم أوكرانيا. وعلى المدى القصير، من المستبعد أن يُلقي تزايد نفوذ الجناح اليميني بالبرلمان الأوروبي بظلال سلبية على السياسات الأوروبية المتعلقة بقضايا الأمن والعلاقات بين الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، لكن قد يصبح تأثيره ملموسًا على المدى البعيد. بشكل عام، تتسم العلاقات بين روسيا وأحزاب اليمين المتطرف بالعمق، وبلا شك ستلجأ موسكو لتطويع هذه الروابط، في سبيل التأثير على نقاشات السياسات العامة لحلف الناتو. في الوقت ذاته، أدى صعود أحزاب اليمين المتطرف داخل أوروبا وحالة الضبابية السياسية المترتبة عليه، في إضفاء مزيد من الشكوك حول مستقبل ترابط وتماسك حلف الناتو ودعمه لأوكرانيا.
الآفاق المستقبلية
هل حقاً يمكن أن تؤدي هذه الصحوة لأحزاب اليمين المتطرف ذات الجذور الفاشية اإلى الإطاحة بقيم الحرية والديمقراطية الأوروبية؟
تفترض النظرة التفاؤلية بأن هذه الأحزاب لا تعدو كونها نسخة باهتة من المنحدرين من نسل طغاة التاريخ، مُقيدة بوجود الاتحاد الأوروبي الذي تم إنشاؤه لضمان السلام بين أعضائه. لكنها كلما كانت قادرة على اكتساب دعم عبر تطويع ملف المهاجرين ككبش فداء، وتأمين أنظمة تساعد في تدعيم سلطتها، كلما أصبح تهديدها لنظام ما بعد الحرب العالمية حقيقيًا وملموسًا. إن الكارثة المشتركة التي عايشتها أوروبا خلال الفترة ما بين عام (1914 -1945م) تبدو في أعين الكثيرين وكأنها فصل من فصول التاريخ الغابر.
لقد كان مسار الوصول إلى السلطة، أو حافة السلطة، من قبل الأحزاب اليمينية المتطرفة مسارًا منفردًا. وعلى مدار ما يقرب من 80 عامًا من فترة ما بعد الحرب، شهدت الأحزاب الوسطية اليسارية والوسطية اليمينية تآكل تدريجي لقواعد دعمها (النقابات العمالية بالنسبة لليسار والكنيسة بالنسبة لليمين). وقد تسارعت وتيرة هذا الأمر مع دخول العولمة بعد نهاية الحرب الباردة وبداية عملية التفتت والانحلال مع قدوم الهواتف الذكية، لينتهي المطاف إلى مخاض مجتمعات تعاني المزيد من الاستقطاب، وعدم المساواة، والقلق. حتى أنه لم يعد ممكنا بالنسبة لكثير من المواطنين التمييز بين أحزاب اليمين الوسط أو مثيلاتها من تيار اليسار، بالأخص مع عدم وجود حلول شافية لدى هذه الأحزاب لأزمة الهجرة الجماعية. في حين اتجهت الطبقة العاملة للزحف الجماعي صوب اليمين المٌناهض للهجرة، كتعبير عن إحباطها وضيقها ذرعاً بتزايد أوجه عدم المساواة والجمود الذي أصاب سلم الرواتب. في الوقت ذاته، لم تعد المواجهة الأساسية داخل المجتمعات الغربية تتعلق بالقضايا الداخلية بقدر ما أصبحت تدور حول المد العالمي في مواجهة المد القومي. ولعل القضية الأساسية التي تقف وراء التغيير الذي طرأ على السياسة العامة الأوروبية، تكمن في الطفرة المشهودة في أعداد المهاجرين الوافدين إلى أوروبا-الذين بلغ عددهم خلال عام 2022م، ما يقرب من 5.1مليون مهاجر، أي ضعف الرقم المسجل العام السابق له. في حين يتم التغافل عن المكاسب التي قد يُدرها ويجلبها المهاجرون للمجتمعات المستضيفة. ورغم كل ذلك، لا يمكن التسليم بأن صعود تيار اليمين قد أصبح مدًا عالميًا، موحداً، أو أن حتى استمراره مضمونًا.