بعد مرور قرابة الأربعة عشرة سنة عن سقوط نظام معمر القذافي، لا تزال ليبيا تعيش في أزمة متعدّدة الاطراف ومتداخلة الجوانب سواء السياسية والأمنية أو الاقتصادية والاجتماعية أو حتى الهوياتية والقبلية، أزمة تنذر بما هو أسوأ رغم كل الجهود المبذولة لحلحلتها والتي باءت معظمها بالفشل الجزئي أو الكلي، لأسباب داخلية مرتبطة بالفرقاء الليبيين واخرى إقليمية ودولية مرتبطة بالفواعل الإقليمية والدولية المنغمسة في الأزمة الليبية، ما جعل الأخيرة ما هي إلا مزيج بين الكنز الاستراتيجي المرتبط بمقدّراتها والكارثة الاستراتيجية المحتملة في حال استمرار تأزمها نحو مصاف اخطر مما هو عليه الآن.
حالة التعقيد والتداخل التي يتسّم بها المشهد الليبي بين مختلف الفواعل باختلاف مستوياتها ومصالحها وتناقضاتها زاد من صعوبة تسوية الأزمة الليبية على النحو الذي يؤدي إلى حالة توافق بين مصالح مجمل الأطراف ذات العلاقة بالأزمة، ما أدى في النهاية إلى "الاستمرارية" وتجلّت في أكثر صورها وضوحا في توالي المراحل الانتقالية دون تحقيق أدنى ما هو منتظر منها، فكلما نجحت الجهود في تقريب وجهات النظر بين الفرقاء حول أهم القضايا إلا وتجددت الأزمة من جديد ما ساهم في استمراريتها.
واقع الأزمة في ليبيا بكل ما يحمله من تعقيد وتشابك إقليمي ودولي مقارنة بمثيلاتها في دول المنطقة التي مسّتها موجة التحولات السياسية على غرار سوريا ومصر وتونس وإن كانت الحالة السورية هي أقرب النماذج لنظيرتها الليبية للتأثر والتأثير بالتوازنات الإقليمية والدولية، يجعل من الأزمة في ليبيا حالة استثنائية زادت من مصاعب تسويتها، فجوهر الأزمة هو الصراع "السلطة والثروة" وهما محدّدان لا يجتمعان إلا في حالة ليبيا، هذا الاستثناء الذي يميز الأزمة الليبية فإنه سيميز كذلك سبل الحل والتسوية مقارنة بما سواها، وإن كانت مواصفات الأزمة وعناصرها متوفرة وواضحة فإن محدّدات التسوية ظلت غائبة وحتى وإن توفرت في مرحلة معينة نتيجة لتوفر الحد الأدنى من التوافق الإقليمي والدولي بالتوازي مع نظيرهما الداخلي فإن زوال مسببات ذلك يؤدي إلى العودة للمربع الأول، وهو ما غذّى التجدّد المستمر للأزمة.
تعدّد أوجه الموضوع وتباين مستويات تحليله يدفعنا إلى تبنّي جملة من الأسئلة التي تؤطر مجتمعة إشكالية شاملة، ولعّل جوهر هذه الإشكالية هو ذلك المرتبط بما مدى التأثير المتوقع للتفكك البنيوي المؤسساتي الحاصل في ليبيا على مستقبل تسوية الأزمة؟ وما حدود وطبيعة تحديات انهيار منطق الدولة في ليبيا على الأمن الإقليمي المغاربي؟
روافد استمرار الأزمة:
- فوضى السلاح في صراع الثروة والسلطة:
لا اختلاف على أن انتشار ظاهرة الميلشيات وفوضى السلاح التي تعدّ من أهم سمات تعقيد الأزمة الليبية فضلا عن كونه أهم عوامل استمرارها، فهناك عشرات التشكيلات المسلحة التي تختلف ولاءاتها السياسية والقبلية، وهذه التشكيلات وجدت ضالتها خلال فترة الحرب مع نظام القذافي حيث تشكلت المئات منها في كبرى المدن على غرار طرابلس وبنغازي ومصراته والزنتان وغيرها، و لم تنجح في استغلال السلطة فحسب بل هيمنت عليها كونها الطرف الذي ملأ الفراغ الناجم عن انهيار الأجهزة الأمنية لنظام القذافي وأذرعه التي كان يستخدمها لفرض النظام والسلم.
انتقلت هذه التشكيلات من دورها العسكري الى احد أهم الأطراف المؤثرة في العملية السياسية، حيث أصبحت أحد أهم صور الأزمة خاصة مع توفر الغطاء السياسي والدعم المالي الذي تلقاه من بعض دوائر صنع القرار السياسي الليبي ومحاولة شرعتنها عبر ضمها للأجهزة الأمنية للدولة ما تسبّب في إطالة الأزمة، فمع استمرار الأزمة السياسية والأمنية تصاعد دور هذه التشكيلات لأسباب داخلية وخارجية، وإن كان للوضع الداخلي وحالة الصراع بين حكومتين غربية وشرقية، تدّعي كل واحدة منهما حقّ الوجود انطلاقا من اعتبارات مختلفة سواء منها السياسية أو القبلية أو تلك المرتهنة لقوة الوجود العسكري على الأرض أو نظيرتها المرتهنة الى محدّد الاعتراف الدولي من أجل إضفاء شرعيتها، والواضح من كل هذا أن حالة الانقسام بين الطرفين الذي لم يكد يغب عن المشهد السياسي الليبي منذ سنة 2014م، والى غاية الآن ساهم في زيادة حدّة الاستقطاب الجاري بينهما من أجل نيل دعم هذه التشكيلات بالنظر لما تمتلكه من مقدّرات (سلاح ومال)، ما ساهم في تصاعد النفوذ السلطوي لهذه التشكيلات العسكرية الموازية لسلطة الدولة وجعلها فاعلا رئيسيا في المشهد السياسي والأمني الليبي يصعب تجاوزه ما لم يحدث توافق سياسي داخلي مدعوم إقليميا ودوليا على ضرورة وضع حدّ ملزم لكل الأطراف للقضاء على هذه التشكيلات أو التقليل من فعالية دورها.
- الانتخابات "المشروع المغيّب": هل يفتح الباب أمام تدويل الأزمة وفرض الوصاية الدولية؟
توالت المراحل الانتقالية وتوالت معها الحكومات التي كلما اتفق فرقاء السياسة والسلاح على احداها، إلا عاد الانقسام من جديد ومعه الاستقطاب الناسف لكل ما تحقق سابقا انطلاقا من فشل الحكومة المتفق عليها في تحقيق المُراد المتفق عليه وفق الإطار الزماني المتفق عليه، والسبب واحد والمعضلة ثابتة وهي استحالة قيام عملية انتخابية في ظل غياب ادنى توافق حول طبيعة القواعد الدستورية التي ستديرها، وفي ظل ما يكتنف الأزمة الليبية من محدّدات وعلى رأسها انتشار السلاح خارج مؤسسات الدولة الرسمية، وما عزّز من تأزيم الوضع تنافر المصالح السياسية للنخبة المتصدرة للمشهد السياسي والتي تخشى فقدان مصالحها الناجمة عن أي اقصاء محتمل في حال إقرار قاعدة دستورية مشتركة على أساسها تقوم عملية انتخابية تفرز مخرجات جديدة بفواعل جديدة ليسوا من ضمنها، هذا الوضع قد يفتح الباب أمام تدويل الأزمة ومن ثم رهن مستقبل الدولة تحت الوصاية الدولية.
- المرتزقة والقوات الأجنبية:
منذ بداية الأزمة في ليبيا كان واضحا دور "الوقت" في حسم النزاع، فشأنها شأن أي نزاع آخر كان من الواضح أن عدم قدرة الفواعل الداخلية على حسم طبيعة السلطة وشكل الدولة القادمة في أقصر وقت، سيساهم في تعقيد المشهد أكثر بالتوازي مع استمرار الأزمة، وهو ما أثبتته الأحداث فيما بعد خلال مسار تطورها الى أن وصلت الأمور الى ما وصلت إليه ، والتي أثبتت مساهمة هذا العامل في تأجيج الأوضاع نحو مزيد من التأزم، حيث تشير مصادر المبعوثة الأممية "ستيفاني ويليامز" أواخر سنة 2020 م، الى وجود ما يناهز 20 ألف من المرتزقة والقوات الأجنبية في ليبيا، يتمركزون بشكل في سرت وهي الخط الفاصل بين المعسكرين المتنازعين على السلطة، الى جانب عدد من القواعد العسكرية والتي من أهمها قاعدة "الجفرة" في الجنوب وقاعدة "الوطية" في الغرب إضافة إلى 6 قواعد عسكرية أخرى ذكرها التقرير.
طوال الثلاث سنوات الماضية ومنذ توقيع اتفاق برلين سنة 2020م، سعت العديد من الأطراف بما فيها البعثة الأممية إلى تقريب وجهات النظر ، حيث أوكل هذا الأمر الى اللجنة العسكرية (5+5) بمشاركة ورعاية البعثة الأممية، وهذا بالنظر لما حققته هذه اللجنة المكونة من عشرة أعضاء عسكريين يمثلون طرفي النزاع بالتساوي خمسة من وخمسة من الغرب بما فيهم رؤساء أركان الطرفين من نجاح كانت بدايته التوافق حول وقف إطلاق النار وما تلاه من توافقات كان أبرزها إعادة الحياة للطريق الساحلي الرابط بين الشرق والغرب وتبادل الأسرى والمحتجزين وغيرها من نجاحات، ما ترك أثرا طيبا وأملا ممكنا حول قدرة اللجنة على معالجة ملفات أكثر تعقيدا وفي مقدمتها ملف اخراج المرتزقة والقوات الأجنبية.
الهجرة غير الشرعية "مخاطر متفاقمة"
تشير آخر التقديرات والإحصاءات الصادرة سنة 2022م، عن "المنظمة الدولية للهجرة في ليبيا"، إلى وجود نحو 650 ألف مهاجر ولاجئ في ليبيا، منحدرين من حوالي 44 دولة معظمهم دول افريقية، حالة "التعقيد" التي يتسّم بها ملف "الهجرة غير الشرعية" تتطلب وجود استراتيجية شاملة لمعالجة وإدارة إشكاليات هذا الملف، ورغم الجهود المبذولة في هذا السياق إلا أنها التي لم ترقى إلى معالجة جذور الأزمة، بل ارتكزت في مجملها على الحلول العابرة على غرار التوافق على انشاء نقاط وتجمعات لاحتواء هؤلاء المهاجرين حيث تشير الأرقام الصادرة عن الأمم المتحدة والمنظمة الدولية للهجرة إلى مرور ما يقارب 100 ألف مهاجر سنويا ليبيا نحو أوروبا في متوسطه السنوي، وأحيانا يتضاعف هذا الرقم كلما ازداد الوضع الأمني في ليبيا سوءا، على غرار ما كان عليه قبل اتفاق وقف اطلاق النار سنة 2020م، عندما بلغ هذا المتوسط زهاء 250 ألف مهاجر في السنة، وفي الوقت الذي يسمح للقليل منهم بالهجرة إلى الجهات التي يقصدونها حيث تعتبر فرنسا وألمانيا أكثر الدول المستقطبة لهم، يتمّ إعادة غالبيتهم إلى مراكز إيوائهم في ليبيا (تشير تقديرات الأمم المتحدة الى وجود ما يقارب 3000 مهاجر محتجز في هذه المراكز الخاضعة يومها لحكومة الوفاق الوطني)، انتظارا لسماح الظروف التي ستؤدي الى ارجاعهم الى بلدانهم الأصلية، في حين تشير نفس مصادر هذه التقديرات الى أن خفر السواحل الإيطالي قام باعتراض زهاء 9000 مهاجر غير شرعي في عرض البحر المتوسط وارجاعهم الى مراكز الايواء في ليبيا خلال سنة 2022م.
التفكّك البنيوي لمؤسسات الدولة "المظاهر والدلالات"
أفرزت أزمة ليبيا تآكلا تدريجيا لمؤسسات الدولة الليبية السيادية عبَّر عنه هذا التفكك البنيوي المؤسساتي الحاصل، والذي لم تُفضي الجهود حلحلته في إعادة بناء ما تم تفكيكه، على الرغم من الاستجابة النسبية التي أبانت عليها المؤسسات الاقتصادية وبخاصة المصرف المركزي والمؤسسة النفطية وبدرجة أقل المؤسسة العسكرية (رئاسة الأركان)، في حين بقيت المؤسسات السياسية (الحكومة والبرلمان) بعيدة عن مثل هكذا استجابة، ومن مظاهر هذا التفكك البنيوي المؤسساتي نجد:
- ازدواجية السلطة التنفيذية "حكومتان متنازعتا الشرعية"
مشهد انقسام السلطة التنفيذية في ظل حكومتين شرقية وغربية، يظل السمة الفارقة في الأزمة الليبية منذ سنة 2014م، فرغم نجاح توحيد هذه السلطة عقب كل حوار سياسي يفرز حكومة وحدة، إلا أن مشهد الانقسام يعود مجددا في ظل معطيات جديدة دافعها الأول تنازع الشرعية، البداية كانت سنة 2014م، بانقسام السلطة التنفيذية الى حكومتين متنازعتي الشرعية وهما حكومتا "عبد الله الثني" المدعومة من برلمان طبرق و قوات القيادة العامة بقيادة "خليفة حفتر" وحكومة "عمر الحاسي" ومن بعدها حكومة الوفاق الوطني بقيادة "فائز السراج" المعترف بها دوليا، وصولا لثنائية "الدبيبة/ باشاغا" قبل استقلال الأخير في مايو 2023م.
- سلطة تشريعية "رهينة التوازنات المعقّدة"
السلطة التشريعية هي الأخرى نالت نصيبها من الانقسام، بالنظر إلى تجربة الليبيين مع المؤتمر الوطني العام (2011) الذي كان الجسم السياسي الشامل والمرجعية المؤسسية ذات الشرعية الشعبية والذي فشل فيما أوكل له، ومن بعده البرلمان الليبي (2014م) الذي واجه عقبات قانونية عندما ابطلت المحكمة العليا مشروعيته وكل قراراته ومن أهمها اقراره بتشكيل حكومة "عبد الله الثني"، ما خلق نوعا من الاستقطاب الثنائي بين برلمان طبرق والمؤتمر الوطني العام في طرابلس، وبعد اتفاق الصخيرات سنة 2015م، ازداد الوضع تعقيدا مع ولادة هيئة تشريعية جديدة هي "المجلس الأعلى للدولة" رغم أن البعض رأى في ذلك توازنا مع البرلمان الذي اتخذ من طبرق مقرا له، ورغم حرص اتفاق الصخيرات على ضبط علاقة المجلس الأعلى للدولة بمجلس النواب إلا أن مشهد الانقسام استمر، وبعد هجوم قوات خليفة حفتر على العاصمة ازدادت حدة الخلاف بين المجلسين بعد ان ساند مجلس النواب في طبرق مشروع خليفة حفتر، في حين اصطف المجلس الأعلى الى جانب حكومة الوفاق، ذات الخلاف عاد باصطفافات مختلفة بعد أن زاد حجم الخلاف بين حكومة "عبد الحميد الدبيبة" من جهة وكل من البرلمان والمجلس الأعلى، في شكل أعاد حالة التوافق النسبي بين الطرفين رغم عودة حالة الخلاف من جديد بعد إقرار برلمان "طبرق" للإصلاحات القضائية الرامية لتعيين أعضاء جدد في المحكمة العليا دون استشارة المجلس الأعلى، ما رآه المجلس الأعلى أنه تجازا لسلطته الاستشارية التي تربط علاقته بالبرلمان، في مشهد أعاد للأذهان خلافات سابقة بين الطرفين.
- المؤسسة العسكرية/ رئيسا أركان لجيش "غير موجود"
أدّى انهيار المؤسسة العسكرية والأمنية لنظام معمر القذافي والتي كانت تشكّل عماد نظامه إلى فراغ أمني رهيب أصبح أحد أهم مهدّدات كينونة الدولة، خاصة في ضوء انتشار عشرات التشكيلات المسلحة وعدم قدرة أي منها على السيطرة على الوضع الأمني في كل الأراضي الليبية، وعجز مؤسسات الدولة الانتقالية في لجم ظاهرة انفلات السلاح عبر ضم هذه التشكيلات إلى مؤسسات الدولة السيادية، ما أدّى في النهاية الى اندثار هذه المؤسسات مقابل تصاعد دور التشكيلات التي أصبحت تدير السلطة على الأرض، وفي كثير من الأحيان تسيطر عليها بما يخدم مصالحها الضيقة ومصالح داعميها الإقليميين والدوليين.
الحوار السياسي الشامل الذي انتهى الى تعيين حكومة وحدة وطنية بقيادة "عبد الحميد الدبيبة" أعاد الرغبة في توحيد مؤسسات الدولة ومن بينها المؤسسة العسكرية والأمنية، وأفضت هذه الجهود الى تشكيل "اللجنة العسكرية المشتركة 5 + 5" بقيادة رئيس الأركان في حكومة الوحدة الوطنية "محمد علي احمد الحداد" ونظيره في قوات حفتر "عبد الرزاق الناظوري" إضافة الى أربعة من كبار القادة العسكريين لكل فريق، وهي اللجنة التي أُوكلت لها مهمة وضع استراتيجية شاملة لإعادة اللحمة الى المؤسسة العسكرية والأمنية الليبية عبر استيعاب كل التشكيلات العسكرية ضمن مظلة مركزية مشتركة تحت رعاية أممية، وبما أن الظروف الحالية لا تحمل بشائر في هذا الاتجاه فإنه من الصعب الجزم بتحقيق أي نتائج واضحة المعالم نحو تحقيق الوحدة المؤسساتية المنتظرة.
- سلطة قضائية "محّل تنافس الإيرادات المتضاربة"
شانها شأن باقي المؤسسات السيادية لم تحظ المؤسسة القضائية بدور بارز في نظام القذافي، وبعد سقوط الأخير حاولت هذه المؤسسة تفعيل دورها على الساحة كسلطة موازية لباقي السلطات، غير أنها لم تخرج عن سياق الصراع حول "السلطة والثروة" ، حيث حاول كل طرف استغلالها لخدمة مصالحه، رغم سعي كل جلسات الحوار الليبي بداية باتفاقية "الصخيرات" وصولا لاتفاق "برلين" على توفير الاستقلالية التامة للسلطة القضائية، مؤخرا عاد موقع السلطة القضائية وعلى رأسها المحكمة العليا ليبرز من جديد بعد قرار البرلمان تجديد عضوية أعضاء هذه المحكمة، ما لقي معارضة شديدة من أطراف أخرى وفي مقدمتهم "المجلس الأعلى للدولة" الذي يتخذ من طرابلس مقرا له ويتقاسم مع البرلمان صلاحيات السلطة التشريعية.
تداعيات فشل الدولة في ليبيا على الأمن المغاربي
رغم العمق الاستراتيجي الذي تشكّله ليبيا للأمن القومي للدول المغاربية وفي مقدمتها الجزائر التي تمتلك حدودا مع ليبيا قرابة 1000 كلم، فضلا على تونس التي تناهز حدودها مع ليبيا قرابة 500 كلم، إلى جانب كل من المغرب وموريتانيا اللذان لا يعتبران من ضمن دول الجوار الليبي المباشر إلا أنهما يتأثران بالوضع غير المستقر في ليبيا بطريقة غير مباشرة خاصة فيما ارتبط بتمدّد التهديدات الأمنية العابرة للحدود من الجماعات الجهادية وانتشار السلاح خارج حدود المؤسسات الرسمية الليبية، إلا أن الدور المغاربي ظل متأخرا نسبيا في التأثير على مسار الأحداث في ليبيا مقارنة بما سواه من فواعل إقليمية ودولية، وإن كان ذلك بشكل متفاوت بين كل دولة مغاربية وأخرى.
الجزائر الدولة الأكثر ثقلا في المنطقة المغاربية والتي كانت من أشدّ المعارضين لإسقاط نظام معمر القذافي، بدت بعد سقوطه غير راغبة في التورط في الأزمة رغم كل ما تحتويه من تهديدات أمنية عابرة نظرا لحالة الترابط الوثيق بين الأمن القومي الجزائري ونظيره الليبي، ولعّل الهجمات التي تعرضت لها بعض المنشآت البترولية في صحراء الجزائر من بعض الجماعات الجهادية القادمة من ليبيا سنة 2014م، أكبر دليل على ذلك.
بعد سنة 2014م، ومع تفاقم الأزمة الأمنية بالتوازي مع تفاقم مشهد الانقسام السياسي الذي أخذ مسار الاستقطاب الثنائي بين حكومتين (شرقية و غربية)، كان البعض يعوّل على الجزائر لتكون أحد الأطراف المؤثرة في التوازنات، وهو الدور الذي قامت به الجزائر على استحياء نتيجة لعدة اعتبارات منها دستورية نتيجة قداسة مبدأ عدم التدخل في شؤون الآخرين الذي ينص عليه الدستور الجزائري، أو ما تعلق بالحسابات السياسية والاستراتيجية التي تفرض على الجزائر عدم المراهنة بعلاقاتها الخارجية مع كثير من شركاء الجزائر الاستراتيجيين الذين يقفون على التضاد في ليبيا، فضلا على الأزمة السياسية التي كانت الجزائر تعاني منها يومها نتيجة لغياب رأس السلطة التنفيذية عن المشهد الذي تصادف مع تصاعد المشهد الأمني والسياسي في ليبيا، كان قد أثّر نسبيا على موقف الجزائر الرسمي.
الثابت من الموقف الجزائري هو رفضه القاطع لتغليب طرح إقليمي معين عبر فواعل داخلية محدّدة للاستئثار بالسلطة في ليبيا ما ترجمته الجزائر بعد ذلك بشكل واضح من خلال موقفها المعارض لهجوم قوات خليفة حفتر على العاصمة طرابلس أبريل 2019م، وهو الموقف الذي ترك حالة من الجفاء على علاقات الجزائر ببعض الأطراف الإقليمية الداعمة لمشروع خليفة حفتر وبخاصة دولة الإمارات، رغم توضيح الجزائر المستمر بأن موقفها لا يُغنيها عن رفض التدخل التركي الذي ساهم في افشال مشروع حفتر في الغرب الليبي، وهو ما يثبت موقف الجزائر الذي يعدّ مردّه الرئيسي إلى رفض حالة الاستقطاب الإقليمي والدولي التي ترهن الحل في ليبيا إلى أطراف غير ليبية نتيجة للتدخل الخارجي الحاصل، ورغم أن رؤية الجزائر للحل والتسوية في ليبيا قائمة على ضرورة تحمّل الأطراف الداخلية مسؤوليتها التاريخية في تجنيب ليبيا سيناريو انهيار الدولة وبدون أي استبعاد لأي طرف أو تغليب آخر المصاحب لسحب القوات الأجنبية قد ثبُت بعد فشل هجوم قوات خليفة حفتر على العاصمة أنه الحل الأنسب للأزمة في ليبيا وهو ما تُرجم بعد ذلك في اتفاق برلين، إلا أن عودة الانقسام وعدم وضوح أفق الحل السياسي ربما قد يُجبر الجزائر على تبنّي سياسة أكثر مبادرة بالفعل، وهو ما حاولت الجزائر أن تحوله إلى موقف عملي خلال استضافتها في أغسطس 2021م، اجتماعا لوزراء خارجية دول الجوار الليبي والذي ومن خلاله أكدت الجزائر على أن الحل بيد الليبيين أنفسهم وبدعم من المجتمع الدولي.
ذات المنطق ينطبق على تونس التي تأثّر وضعها الأمني والاقتصادي بالوضع غير المستقر في ليبيا، فضلا عن وضعها غير المستقر أصلا نتيجة لما مسّها من تغيرات وهي التي كانت أولى محطات التحولات السياسية التي جرت نهاية سنة 2010م، بداية 2011م، فأمنيا تصاعد نشاط الجماعات الجهادية في تونس كامتداد طبيعي لغياب الاستقرار في ليبيا، وهي العمليات التي حصدت عشرات الضحايا وبخاصة من رجال الأمن والجيش في تونس طوال العقد الماضي، ولا يغيب الجانب الاقتصادي خاصة أن ليبيا كانت مصدرا رئيسيا لدخل الاقتصاد التونسي سواء من جهة السياحة أو امدادات الطاقة أو حتى للعمالة التونسية في ليبيا والمبادلات التجارية وهي الملفات التي أرهقت كاهل الاقتصاد التونسي المفتقر للموارد الأولية.
المغرب يعتبر أقل الأطراف تأثرا بما يحدث في ليبيا، لبعده الجغرافي عن تداعيات الازمة، وهي عوامل انعكست على موقف المغرب المحايد، كما ساهمت في درجة القبول الذي لاقاه الدور المغربي من مختلف الأطراف والذي انعكس من خلال احتضان المغرب لمحادثات الصخيرات سنة 2015م، إلا أن فشل هذه الحكومة في إعادة الاستقرار إلى ليبيا ثم إعادة انتاج الأزمة فيما بعد بالتوازي مع التقلبات في التوافقات الداخلية والدولية وصعود أدوار بعض القوى وتراجع أخرى خاصة بعد فشل هجوم قوات خليفة حفتر على طرابلس، كلها عوامل ساهمت في تراجع دور الوساطة المغربية نحوى فواعل دولية جديدة وفي مقدمتها الوساطة الألمانية التي أفرزت اتفاق برلين الذي عبّر على المرحلة الجديدة التي تلت اتفاق وقف اطلاق النار سنة 2020م، وليس من الواضح مدى إمكانية عودة الدور المغربي في الملف الليبي قادما رغم فشل بعض البدائل المطروحة على غرار الدور الألماني، وهذا بعد عودة الانقسام مجدّدا ما جعل اتفاق برلين برمته بحاجة إلى إعادة إخراج بمنطلقات ومحدّدات مختلفة نسبيا عمّا جاء في النسخة الأصلية منه.