تمثل الجوانب الاقتصادية في الأزمة الليبية جزءا محوريا لا يمكن تجاهله في إطاره التطورات المختلفة والمتسارعة لمراحل تلك الأزمة، فالاقتصاد الليبي تأثر بشكل واضح وخطير من جراء الانقسام السياسي الذي تشهده البلاد حتى هذه اللحظة، بل كانت لذلك الانقسام تبعات اقتصادية على أكثر من صعيد، سواء الجوانب المرتبطة بالسياسات المالية أو السياسات النقدية أو بعض الإشكاليات المتعلقة بالانقسام الإداري أو المؤسسي. ضمن هذا الإطار، تتناول هذه المقالة الجوانب الاقتصادية في الأزمة الليبية، وذلك من خلال التركيز على النقاط التالية: أولا: معطيات الاقتصاد الليبي، ثانيا: تأثير الأزمة الليبية على الاقتصاد الوطني، ثالثا: أزمة مصرف ليبيا المركزي والتدخلات الخارجية.
* أولا: معطـيـات الاقتصــاد الليبي:
يعد الاقتصاد الليبي من الاقتصاديات الهشة نظرا لكونه يعتمد في المقام الأول على عوائد النفط، والذي تتعرض أسعاره لتقلبات واسعة النطاق، وتتأثر الدولة تبعا لذلك بهذه التقلبات، كما أن غياب الرؤية الاقتصادية الواضحة لفترة طويلة كان سببا في اتباع سياسات خانقة لمناخ الأعمال والاستثمارات في الاقتصاد الليبي، مما أدى إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية، خاصة على المستوى الكلي، كما أن مستويات الدعم المرتفعة التي كانت تقدم للمواطنين تشير إلى ضعف النموذج الاقتصادي الكلي، وانخفاض مُستويات التشغـيل والإنتــاج.
وجاء في تقرير صادر عن البنك الدولي عام ألفان وستة أن: "الاقتصاد الليبي يعتمد أساسا على النفط والقطاع العام، حيث يمثل قطاع المحروقات نحو %72 من الناتج المحلي الإجمالي (GDP) بالقيمة الاسمية، و93% من الايرادات العامة، و95 % من عائدات الصادرات. وتعتبر ليبيا أحد أقل الاقتصاديات النفطية تنوعًا في العالم. وقد شهدت تدخلا كبيرا للحكومة في الاقتصاد، منذ أن أصبحت دولة اشتراكية في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، ولكن تدهور أسعار النفط العالمية في أوائل الثمانينات وفرض العقوبات الاقتصادية التي انعكست سلبا على النشاط الاقتصادي، أديا في نهاية المطاف إلى تعطيل عملية إعادة تأهيل القطاع الخاص منذ عام 1988م".
ويُلاحظُ أنَّ مُساهمة الإنتاج النفطي شكَّل في مُعظم السنوات أكثر من 50 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، إلّا أنّه وفي بعض السنوات انخفض إلى نسبة 26.9 في المائة، كما في عـــام 1993م، واستمر حتى عام 1999 م، حيث بلغ الناتج المحلي النفطي ما نسبته حوالي28.3 في المائة، ومن ثم استمر في الارتفاع حتى وصل في 2008 إلى ما نسبته: 78.8 في المائة. وقد يُفسَّر ذلك بأن هذا التغيُّر ناتج عن انخفاض أسعار النفط العالمية في تلك السنوات وليس بسبب زيادة إنتاجية القطاع غير النفطي.
وتشير البيانات أن ليبيا تمتلك ما يقرب من 3.3 في المئة من احتياطيات العالم من النفط، والتي تمثل: 39.1 مليار برميــل. أمــا احتياطيــات الغاز الطبيعي فتبـلـــغ: 51.3 مليار قــدم مُكعـــب، أي: 1450مليار متر مُكعب (.(bcm أما فيما يتعلق القطاع الزراعي ورغم إنفاق مبالغ كبيرة عليه، إلا أنه لم يحقق الاكتفاء الذاتي من الحبوب، وخصوصا القمح والشعير. أما قطاع الصناعة غير النفطية فإنه لا يمثل إلا جزءاُ بسيطا من الاقتصاد الليبي من حيث مُساهمته في الناتج المحلي الإجمالي بعد استبعاد النفط. ويلاحظ –حسب نتائج بعض الدراسات الاقتصادية- أنه لم تفلح السياسات الاقتصادية التي اتبعها النظام السابق في التعامل مع خصائص وسمات الاقتصاد الليبي، التي شكلت اختلالات في هياكل هذا الاقتصاد، وكانت بمثابة العائق أمامه للاستفادة من الثروة النفطية، واستغلالها في خلق بدائل متنامية للثروة، حيث كانت النجاحات المحققة في هذا المجال محدودة إذا ما قورنت بمستهدفات الخطط والبرامج التنموية المختلفة، حيث لا تزال مسألة تفكك العلاقة بين هياكل الانتاج وأنماط الطلب، وسيطرة الدولة على النشاط الاقتصادي، والتركز السكاني، ونقص العمالة في القطاع الخدمي سمات تميز هذا الاقتصاد.
* ثانيا: تأثير الأزمة الليبية على الاقتصاد الوطني:
يواجه الاقتصاد الليبي عدة صعوبات من عدة عقود، ولعل أهم تلك الصعوبات: أنه اقتصاد ريعي يعتمد على قطاع الهيدروكربونات لفترات طويلة، حيث كانت ولازالت تساهم بأكثر من: 70% من إجمالي الناتج المحلي، و % 90من الإيرادات الحكومية .كما تم فرض عقوبات دولية في منتصف التسعينيات وحتى عام2003م. ثم اندلاع الاحتجاجات في 17 فبراير2011، ومن ثم فرض عقوبات دولية في 26 فبراير لينخفض إنتاج النفط إلى 22 ألف برميل يوميا في يوليو2011، وكذلك في الأعوام: (2013-2015) لتوقف الصادرات بسبب الأزمة السياسية، وما تبعها من هبوط أسعار النفط الدولية في يوليو عام2014 م. وخلال هذه الفترة برز الانقسام السياسي، وأصبح هناك برلمانان أحدهما (المؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته في طرابلس)، ومجلس النواب المنتخب في مدينة طبرق، كما أن هناك حكومتان تتبع كل منهما لأحد البرلمانين. كما شهدت هذه الفترة تمدد الجماعات الإرهابية في البلاد، وشن القوات المسلحة في شرق البلاد لعملية عسكرية (الكرامة) لمكافحة الإرهاب والقضاء على الإرهاب والتطرف.
وترتب على هذه الأوضاع السياسية والأمنية الصعبة نتائج سلبية انعكست على الاقتصاد الوطني، فمن انقسام المؤسسات المالية، إلى تزايد أعداد النازحين والمهجرين، إلى الإغلاق المتكرر لعدد من الحقول والموانئ النفطية، وتضرر عدد من البنوك التجارية وتدميرها أو إقفالها بسبب الحرب، وشح السيولة النقدية، ونقص الوقود والمحروقات، والانقطاع المتكرر للكهرباء في عدد من المدن والمناطق.
إن البنية الاقتصادية الليبية متعددة الأطراف والمنقسمة بين شرق البلاد وغربها، هذه السمة الأولى للاقتصاد الليبي. وقد كان للانقسام السياسي وترهل السلطة المركزية وانهيارها دور سلبي على الاقتصاد الوطني، حيث جعل من إقليمها الشاسع فضاءًا لممارسات اقتصادية غير مشروعة؛ إذ أنه أصبح ملاذاً آمناً ليس للجماعات المتطرفة والإرهابية فحسب بل والمهربين أيضاً، والجريمة المنظمة والهجرة غير الشرعية، ما أدى إلى انخفاض حجم الصادرات والواردات، فضلاً عن انخفاض الاستثمار المحلي، وتراجُع تدفق المُستثمرين الأجانب، وهذا بدوره أدى إلى انخفاض حاد في النمو، وتفاقم الاختلالات في الاقتصاد الكلي ما تسبب في التضخم، ومن ثم ارتفاع الأسعار؛ نظراً لاعتماد السوق الليبي على الواردات، وكذلك ارتفاع الدين العام المحلي، واتساع دائرة النشاط الاقتصادي غير الرسمي، وتفشي الفساد بكافة أشكاله. كذلك فإنَّ الانقسام المُؤسَّسيَّ ووُجُود وزارتين للماليَّة مُرتبطتين بحُكُومتين مُتنافستين قد يكُونُ مُساهماً في التضخم الحاصل في الاقتصاد الليبي، خاصّة وأنّ الحكومتين موّلتا ميزانياّتهما وترتيباتهما المالية إلى حدّ كبير من خلال الاقتراض من أحد المصارف المركزية المتنافسة وبدرجة أقل من البنوك التجارية.
ومن الآثار السلبية للأزمة الليبية على الاقتصاد الوطني الإقفال المتكرر لبعض الحقول والموانئ النفطية، منذ عام 2013م، مما تسبب في أضرار كبيرة على القطاع النفطي وعلى الاقتصاد الليبي، فعلى سبيل المثال، أدى الإقفال إلى ضرر بالغ بالمعدات السطحية، وهجرة النفط من بعض المكامن، وتآكل خطوط نقل الخام، وتم رصد أكثر من 800 حالة تسرب كلف إصلاحها جهدا ومالا، واستغرقت المؤسسة الوطنية للنفط وقتا طويلا حتى تمكنت من رفع الانتاج لمستويات مرضية. كما ترتب عن إقفال الموانئ النفطية وخطوط نقل الخام في الفترة الماضية أضرار مماثلة، ومنعت المؤسسة الوطنية للنفط من ممارسة عملها، وأجبرت على إعلان حالة "القوة القاهرة"، وتدنت على إثر ذلك الصادرات النفطية لمُستويات غير مسبوقة، وبلغت الإيرادات السيادية للبلد مبلغا لا يكفي لسد 10% من قيمة مرتبات الدولة". وكان مُحتجُّون من إقليم فزان قد أغلقوا (مطلع شهر يناير 2024م) حقل الشرارة النفطي الواقع جنوب غرب ليبيا، احتجاجا على انقطاع الوقود والغاز وضعف الخدمات العامة والأساسية، وتزايد عمليات التهريب، مهدّدين بالتصعيد وإغلاق حقل الفيل في حال عدم تحقيق مطالبهم. وتعاني مدن الجنوب الليبي الغنية بالموارد النفطية من نقص في التزود بالمحروقات.
* ثالثا: أزمة مصرف ليبيا المركزي والتدخلات الخارجية:
انفجرت أزمة البنك المركزي الليبي عقب قرار من المجلس الرئاسي برئاسة محمد المنفي يقضي بعزل محافظ البنك المركزي السابق الصديق الكبير من منصبه، وتعيين بديل عنه، مما أدى إلى رفع فصائل مسلحة من الطرفين جاهزيتها استعدادا لمُواجهاتٍ مُسلَّحةٍ.
وتلا ذلك إعلان رئيس الحكومة المكلفة من مجلس النواب أسامة حماد حالة القوة القاهرة على قطاع النفط ووقف إنتاج الخام وتصديره؛ احتجاجا على ما اعتبره اقتحام لجنة تسليم وتسلم مكلفة من المجلس الرئاسي لمقر المصرف المركزي لتمكين الإدارة الجديدة للمصرف.
واستند اعتراض كل من مجلس النواب والحكومة المكلفة منه إلى أن تعيين محافظ البنك المركزي ليس من اختصاص المجلس الرئاسي، بل هو اختصاص أصيل لمجلس النواب بالتشاور مع مجلس الدولة وفق الاتفاق السياسي الليبي الموقع بمدينة الصخيرات المغربية عام 2015م.
ورفضت الأمم المتحدة والولايات المتحدة ودول غربية ما وصفته بـ"قرار أحادي" من طرف المجلس الرئاسي لتغيير مجلس إدارة المصرف المركزي وتعيين مجلس إدارة موقت برئاسة عبد الفتاح غفار، باعتبار أنه يضر بسمعة ليبيا المالية.
وبعد أن جرت عدة جولات من المُشاورات بين ممثلي مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة حول أزمة المصرف المركزي، توصل الطرفان في ختام هذه المشاورات إلى تسوية بشأن تعيين قيادة جديدة للمصرف. ووقع الطرفان بالأحرف الأولى على اتفاق بشأن الإجراءات والمعايير والجداول الزمنية لتعيين مُحافظ ونائبه ومجلس إدارة لمصرف ليبيا المركزي.
وكان مجلس النواب الليبي قد وافق على تسمية ناجي محمد عيسى بلقاسم محافظا جديدا لـمصرف ليبيا المركزي، وقال مصباح الدومة النائب الثاني لرئيس مجلس النواب الليبي: "إن النواب الذين حضروا الجلسة وعددهم 108 صوتوا بالإجماع بالمُوافقة فور قراءة أسماء المرشحين"، مضيفا أنه "سيتم تشكيل مجلس الإدارة للمصرف المركزي خلال 10 أيام".
وقد أدى محافظ مصرف ليبيا المركزي الجديد ناجي عيسى بلقاسم ونائبه مرعي البرعصي اليمين القانونية أمام مجلس النواب، خلال جلسة رسمية في مدينة بنغازي يوم الثلاثاء(1/10/2024م).
وفي الثاني من أكتوبر استلم محافظ مصرف ليبيا المركزي الجديد ناجي عيسى ونائبه مرعي البرعصي مهام عملهما بمقر المصرف بطرابلس .وباشر المحافظ الجديد ونائبه عملهما من مبنى مصرف ليبيا المركزي بعد إتمام عملية التسليم والاستلام من المحافظ المكلف من المجلس الرئاسي "عبد الفتاح غفار" بحضور مُمثلي مجلسي النواب والدولة .وبذلك تنتهي فصول هذه الأزمة الخطيرة التي عصفت بالدولة الليبية خلال الفترة الماضية، وكان لها تأثيرات سلبية عديدة على الاقتصاد الليبي والأوضاع المعيشية للمُواطن، ولذلك أكد بعض أعضاء البرلمان على ضرورة إبعاد المصرف المركزي عن التجاذبات السياسية الحاصلة في البلاد.
* الخــاتـمــة:
تبين من العرض السابق أن الجوانب الاقتصادية في الأزمة الليبية تمثل جزءا محوريا مهما لا يمكن تجاهله في إطاره التطورات المختلفة والمتسارعة لمراحل تلك الأزمة، فالاقتصاد الليبي تأثر –كما ذكرنا- بشكل واضح وخطير من جراء الانقسام السياسي الذي تشهده البلاد حتى هذه اللحظة، وكانت أزمة المصرف المركزي الليبي من أخطر الأزمات التي عصفت بالدولة الليبية خلال الفترة الماضية، وأثرت بشكل سلبي على الأوضاع الاقتصادية في البلاد، وعكست حجم التدخلات الخارجية التي مارستها الدول الكبرى من أجل الضغط على الأطراف الليبية للإسراع في إيجاد حل مُناسب لتلك الأزمة، والحيلولة دون تفاقمها، وإضافة مزيد من التعقيد على الأزمة الليبية.