في خضم التحولات الجيوسياسية والاقتصادية التي يشهدها العالم، برزت قضية أمن الطاقة كأحد أهم التحديات التي تواجه الدول والمجموعات الإقليمية، وقد زادت حدة هذه القضية مع اندلاع الأزمة الأوكرانية وتداعياتها على أسواق الطاقة العالمية. فالتغيرات السريعة في النظام العالمي للطاقة، والمتأثرة بالصراعات الجيوسياسية والتحولات الاقتصادية والصناعية، فرضت على الدول الأوروبية مراجعة استراتيجياتها الطاقوية التي كانت تعتمد بشكل كبير على الغاز الروسي. ونتيجة لذلك، اتجهت الأنظار الأوروبية نحو الجنوب، وتحديداً نحو دول المغرب العربي، التي أصبحت شريكاً محتملاً في تأمين إمدادات الطاقة وتقديم بدائل أكثر استدامة مثل الهيدروجين. وفي هذا السياق، باتت الشراكة الطاقوية بين أوروبا ودول المغرب العربي محل اهتمام متزايد، حيث تسعى القارة العجوز إلى تنويع مصادرها من الطاقة وتأمين إمداداتها المستقبلية، في حين تسعى دول المغرب العربي إلى الاستفادة من موقعها الجغرافي ومواردها الطبيعية لتعزيز اقتصاداتها وتنويع صادراتها.
إن هذه الديناميكية الجديدة في العلاقات الطاقوية بين أوروبا ودول المغرب العربي تتداخل مع عدة قضايا محورية مثل أمن الطاقة، والسياسات الصناعية، والأهداف الطموحة للتحول الطاقوي نحو مصادر الطاقة المتجددة. وأمام هذه التحديات، تجد الحكومات الأوروبية، وخصوصاً في إسبانيا، فرنسا، وإيطاليا، نفسها مضطرة للعمل على بناء رؤية مشتركة للتعاون الطاقوي مع دول المغرب العربي المجاورة. فقد شهدت الفترة الأخيرة موجة من الدبلوماسية الطاقوية، حيث قامت هذه الدول بتوقيع اتفاقيات ثنائية مع دول المغرب العربي لزيادة واردات الغاز الطبيعي وتوسيع التعاون في مجالات الطاقات المتجددة، بما في ذلك الكهرباء، الطاقة الشمسية، والهيدروجين.
وتعتبر الجزائر والمغرب من بين الدول التي قد تستفيد من هذا التوجه الأوروبي الجديد، حيث يمكن للجزائر توسيع صادراتها من الغاز الطبيعي واستكشاف إمكانات إنتاج الهيدروجين، بينما يسعى المغرب إلى تعزيز مكانته كمصدر للطاقة المتجددة، بينما تسعى كل من تونس وموريتانيا لعدم التخلف عن ركب هذا التوجه. إن مستقبل الشراكة الطاقوية بين أوروبا ودول المغرب العربي لا يقتصر فقط على تأمين الإمدادات، بل هو جزء من رؤية أكبر نحو تحقيق أمن طاقوي مستدام. فالهيدروجين، الذي أصبح في السنوات الأخيرة في مقدمة أولويات الأجندة الأوروبية، يُعتبر عاملاً حيوياً لتحقيق الأهداف الطموحة للاتحاد الأوروبي في الوصول إلى صافي انبعاثات صفرية بحلول منتصف القرن. وقد نشرت المفوضية الأوروبية في يوليو 2020م، استراتيجية رائدة للهيدروجين تهدف إلى إزالة الكربون من قطاعات صناعية حساسة مثل إنتاج الحديد والصلب والنقل الجوي والبري، مما جعل دول المغرب العربي تلعب دوراً محورياً كموردين محتملين لهذه المادة الحيوية.
أوروبا تبحث عن بدائل للغاز الروسي: هل الغاز الجزائري هو الحل؟
تعتبر الجزائر من أهم منتجي الغاز الطبيعي في العالم، حيث تحتل مكانة بارزة في سوق الغاز العالمية إنتاجا وتصديرا. وقد شهدت العلاقات الأوروبية الجزائرية في قطاع الغاز الجزائري تطوراً ملحوظاً مع إطلاق سلسلة من خطوط الأنابيب التي ربطت الجزائر بأوروبا. حيث بدأ هذا التطور بإنشاء خط أنابيب ترانس ميد في عام 1983م، والذي يربط الجزائر بإيطاليا عبر تونس، ثم تبع ذلك تشغيل خط أنابيب الغاز المغاربي-أوروبا عام 1994م، الذي يربط الجزائر بإسبانيا عبر المغرب. وفي عام 2011م، تم تدشين خط أنابيب ميدغاز، ليشكل بذلك خطاً مباشراً بين الجزائر وإسبانيا.
ويعتبر خط أنابيب ترانسميد أكبر خط أنابيب لتصدير الغاز في الجزائر نحو أوروبا، حيث تبلغ طاقته الأولية 30.2 مليار م3 سنوياً، وارتفعت في عام 2012 م، إلى 33.5 مليار م3 سنوياً، وبحلول عام 2022م، وصلت إلى 34 مليار م3. وكانت سعة خط أنابيب الغاز المغاربي-أوروبا، 12 مليار م3 قبل أن يتوقف بعد رفض الجانب الجزائري تجديد العقد المنتهي في 31 أكتوبر 2021م. في حين تبلغ الطاقة الاستيعابية الأولية لخط أنابيب ميد غاز 8 مليار م3، والتي ارتفعت إلى أكثر من 10 مليار م3 اعتبارًا من يناير 2021م، بفضل الاستثمار في توسعة محطة ضاغط بني صاف (الجزائر). ووصلت سعة هذا خط في عام 2022 إلى نحو 10.5 مليار م3 سنويًا، و14.5 مليار م3 سنويًا في عام 2023م،
وكان من المتوقع أن يشهد قطاع الغاز الجزائري المزيد من التوسع مع مشروع خط أنابيب”Gazoduc Algeria - Sardaigne - Italy“ GALSI (غازودوك الجزائر-سردينيا-إيطاليا) الذي كان يهدف إلى ضخ 8 مليارات متر مكعب سنوياً من الغاز الجزائري إلى السوق الإيطالية. إلا أن هذا المشروع الطموح اصطدم بتحديات كبيرة، أبرزها المنافسة الشديدة من مشاريع الغاز الروسية في السوق الإيطالية وسوق جنوب أوروبا سابقا، مما أدى إلى تعليقه في عام 2014م. وقد تأتي إعادة إطلاق المشروع من جديد نتيجة للوضع الجيوسياسي الجديد في أوروبا بعد النزاع العسكري الروسي الأوكراني، ورغبة الاتحاد الأوروبي في تقليل اعتماده على الغاز الروسي. كما عززت هذه الاعتبارات الجيوسياسية نفسها فكرة مشروع آخر ظل يراوح مكانه لعقود، وهو خط أنابيب الغاز العابر للصحراء الذي يربط نيجيريا بالجزائر عبر النيجر للوصول إلى السوق الأوروبية، بطاقة استيعابية تزيد عن 30 مليار م3. إلا أن عدم استقرار منطقة الساحل الإفريقي قد يؤدي إلى تعقيد تنفيذ هذا المشروع.
كما تُعد الجزائر، من خلال الشركة الوطنية سوناطراك، إحدى الشركات الرائدة عالمياً في إنتاج وتسويق الغاز الطبيعي المسال. ويجد الغاز الطبيعي الجزائري سوقه الرئيسية في أوروبا التي تستحوذ على حوالي 90% من صادراته (سواء عبر خطوط الأنابيب أو في شكل غاز طبيعي مسال). حيث استورد الاتحاد الأوروبي وحده 77% من الغاز الجزائري المصدر عام 2023م. فيما تمثل الجزائر 9.4% من إمدادات كامل أوروبا من الغاز الطبيعي في هذا العام و10.3% من إمدادات الاتحاد الأوروبي. وتستورد تونس حوالي 7% من صادرات الغاز الجزائري، إلى حد كبير في شكل رسوم مرور للغاز المصدر إلى إيطاليا عبر خط أنابيب الغاز Trans Med المحدد بـ 5.25% من الغاز المنقول (المدفوع بالغاز أو بالدولار). ويتم توزيع الباقي، أي أقل من 3%، من الكميات المصدرة بين العديد من مستوردي الغاز الطبيعي المسال (الصين والهند وكوريا الجنوبية واليابان والكويت والبرازيل والأرجنتين وغيرها).
وكان الزبائن الرئيسيون للغاز الطبيعي المسال الجزائري عام 2023م، هم تركيا (4.29 طن متري)، وفرنسا (3.20 طن متري)، وإيطاليا (1.71 طن متري)، وإسبانيا (1.43 طن متري). وتأتي منطقة آسيا والمحيط الهادئ في المرتبة الثانية بعد أوروبا بـ 1.16 طن متري، وهو ما يمثل 8.9% من صادرات الغاز الطبيعي المسال الجزائري، بما في ذلك 0.35 طن متري للصين و0.34 طن متري للهند.
صادرات الغاز الطبيعي المسال الجزائرية حسب الوجهة في عام 2023
Source: Energy institute. Statistical Review of World Energy. 73rd Edition (2024).
وتؤكد عدة عوامل استمرار أهمية السوق الأوروبية كعميل رئيسي للغاز الجزائري، وذلك على الرغم من التغيرات التي يشهدها قطاع الطاقة عالمياً. ويعود ذلك إلى العلاقة التاريخية التي تربط بين الطرفين، والتي ترسخت منذ عقود تعود إلى بداية استغلال الغاز في الجزائر في السنوات الأولى من عام 1960م. وأعطى الصراع الروسي / الأوكراني زخماً جديداً للعلاقات الجزائرية / الأوروبية في مجال الطاقة، خاصةً الغاز الطبيعي. فمع سعي أوروبا لتأمين مصادر بديلة للغاز الروسي، أطلق الاتحاد الأوروبي خطة "إعادة تأهيل الطاقة في أوروبا" في شهر مايو 2022م، والتي تهدف لتقليل الاعتماد على الغاز الروسي وتعزيز مصادر الطاقة المتجددة، ولتنويع مصادر إمدادات الطاقة، وتقليل الاعتماد على إمدادات الغاز الروسي ما يجعل الجزائر في موقع يسمح لها بتعزيز حصتها في السوق الأوروبية.
تدفقات الغاز الطبيعي عبر الأنابيب نحو الاتحاد الأوروبي حسب المصدر
(مليون متر مكعب يوميا في عام 2023)
Source: Energy institute. Statistical Review of World Energy. 73rd Edition (2024).
ويؤدي الانخفاض في احتياطيات النرويج وهولندا وبريطانيا إلى زيادة اعتماد أوروبا على الموردين الأجانب، بما في ذلك الجزائر. وفي ظل غياب روسيا والمنتجين الأوروبيين الرئيسيين عن السوق الأوروبية، تُفتح آفاقاً جديدة أمام الجزائر لتعزيز حضورها ومع ذلك تواجه الجزائر منافسة قوية من موردي الغاز الطبيعي المسال، خاصةً من آسيا الوسطى.
كما يمكن للغاز الجزائري أن يلعب دورا هاما في عمليات التحول الطاقوي في أوروبا باعتباره طاقة انتقالية أقل تلويثا لضمان الانتقال السلس من الوقود الأحفوري الأكثر تلويثا، وخاصة الفحم، إلى الطاقات المتجددة. على الرغم من أن مستقبل الوقود الأحفوري أصبح موضع تساؤل بسبب عدة سيناريوهات، فإن نهاية الغاز الطبيعي كمصدر أساسي للطاقة في أوروبا لا تبدو وشيكة. ولأول مرة، التزمت مجموعة السبع في أبريل 2023م، في بيان أقاليمي متعدد الأطراف، بـ "تسريع الخروج من الوقود الأحفوري". كما أكدت مجموعة السبع على ضرورة الوقف الفوري لبناء محطات جديدة لتوليد الطاقة تعمل بالفحم وتشجيع الدول الأخرى على الانضمام إلى هذه المبادرة مع الاعتراف بأهمية الاستثمار في قطاع الغاز.
المغرب بوابة أوروبا للطاقة الخضراء: تحليل للإمكانيات والتحديات
شهدت العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والمغرب تحولاً ملحوظاً على مدى العقود الماضية، حيث أصبح قطاع الطاقة محوراً رئيسياً للتعاون بين الجانبين. ويعود تاريخ هذا التعاون إلى سبعينيات القرن العشرين، عندما بدأت ملامح التعاون الطاقوي تظهر بشكل جلي، لكنه شهد توسعاً ملحوظاً في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بفضل سياسة الجوار الأوروبية، هذه السياسة أتاحت للمغرب فرصاً للتكامل التدريجي مع الأسواق الأوروبية، بما في ذلك التعاون في مجال الطاقة. ففي عام 2003م، وقع المغرب والاتحاد الأوروبي مذكرة تفاهم تهدف إلى تكامل أسواق الكهرباء بين الجانبين، مما مهد الطريق لعلاقات طاقوية أوثق.
وفي عام 2008م، حصل المغرب على وضع متقدم ضمن سياسة الجوار الأوروبية، مما وضعه في موقع استراتيجي لتنفيذ استراتيجيات تتماشى مع أهداف الاتحاد الأوروبي في مجال الطاقة. وقد حفز هذا الوضع المغرب على تكثيف جهوده في تطوير مصادر الطاقة المتجددة، وتعزيز بنيته التحتية الطاقوية، بالإضافة إلى تطوير شبكات كهرباء قادرة على تصدير الكهرباء الخضراء إلى أوروبا. ومن هنا، انبثقت عدة مبادرات متعددة الأطراف، مثل مشاريع "ديزرتيك Desertec " و"مدجريد Med grid" و"الخطة المتوسطية للطاقة الشمسية Medical Solar Plan "، التي هدفت إلى استغلال الموارد الطبيعية الهائلة في المنطقة لإنتاج وتصدير الطاقة المتجددة.
وأبرزت الأزمة الأوكرانية الحاجة الملحة لتعزيز الأمن الطاقوي الأوروبي والتحول نحو مصادر الطاقة المتجددة. وفي هذا السياق، برز المغرب كشريك واعد للاتحاد الأوروبي، حيث يمتلك إمكانات هائلة لتوليد الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. وهو يتمتع بموقع استراتيجي على عتبة أوروبا، كما أنه يمتلك خططاً طموحة تهدف إلى توليد 52٪ من احتياجاته الكهربائية من مصادر الطاقة المتجددة بحلول عام 2030م. وتشمل هذه الخطط تصدير جزء كبير من هذه الكهرباء النظيفة عبر كابلات بحرية تربطه بالقارة الأوروبية، مما يعزز أمن الطاقة الأوروبي ويقلل من الاعتماد على الوقود الأحفوري.
إلا أن هذه الطموحات لا تزال تواجه تحديات كبيرة. فعلى الرغم من التقدم الذي أحرزه المغرب، لا يزال يتعين على البلاد بناء المزيد من مزارع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح لتحقيق أهدافها. فحتى الآن، يعتمد المغرب بشكل كبير على الواردات لتلبية حوالي 90٪ من احتياجاته من الطاقة، معظمها من الوقود الأحفوري. في عام 2021م، جاء حوالي 80.5٪ من إنتاج الكهرباء في المغرب من حرق الفحم، الغاز، والنفط، بينما شكّلت طاقة الرياح والطاقة الشمسية 12.4٪ و4.4٪ فقط من الإنتاج على التوالي.
رغم ذلك، فإن المغرب يحرز تقدماً ملموساً في مجال الطاقة المتجددة بفضل مشاريع كبيرة مثل مجمع "نور ورزازات" للطاقة الشمسية. هذا المجمع الضخم، الذي افتتحت مرحلته الأولى في عام 2016م، ويُعتبر الآن أكبر محطة للطاقة الشمسية المركزة في العالم. حيث تعتمد هذه المحطة على تقنية متقدمة تستخدم مرايا ضخمة لعكس وتركيز أشعة الشمس على مستقبلات مركزية تحتوي على سائل خاص يتم تسخينه لضمان إنتاج بخار يدير التوربينات ويولد الكهرباء. ويمتد مجمع "نور ورزازات" على مساحة 3000 هكتار (حوالي 11.6 ميل مربع)، مما يجعله معلماً بارزاً في مسيرة المغرب نحو التحول الطاقوي. وقد تم تطوير هذا المشروع الرائد بالتعاون مع شركة "أكوا باور" السعودية، وبدعم مالي من مؤسسات دولية مثل البنك الدولي والبنك الأوروبي للاستثمار. ويمثل هذا المشروع خطوة هامة نحو تحقيق المغرب لأهدافه في مجال الطاقة المتجددة، ويضعه في موقع محوري ضمن جهود أوروبا لتعزيز أمنها الطاقوي والتحول نحو مصادر الطاقة النظيفة.
وفي إطار الجهود المستمرة لتعزيز التعاون الطاقوي بين الاتحاد الأوروبي والمغرب، تم التوقيع على "الشراكة الخضراء" في أكتوبر 2022م، خلال زيارة نائب الرئيس التنفيذي للاتحاد الأوروبي، فرانس تيمرمانس، إلى المغرب. وتعد هذه الشراكة خطوة فريدة من نوعها، حيث إنها أول مبادرة من هذا النوع يوقعها الاتحاد الأوروبي مع دولة شريكة خارج الاتحاد كجزء من البعد الخارجي للصفقة الخضراء الأوروبية. وتهدف إلى تعزيز التعاون في مجالات المناخ، الطاقة، والبيئة بين الطرفين، بما يتماشى مع الأهداف الطموحة للاتحاد الأوروبي لتحقيق تحولات بيئية كبيرة على الصعيد العالمي.
ومع تسارع الإعلانات العالمية في عامي 2020 و2021م، بشأن الانبعاثات الصفرية الصافية للكربون، شهدت عدة دول التزامًا غير مسبوق بالاستثمار في الهيدروجين، حيث من المتوقع أن تتجاوز الاستثمارات العالمية في هذا المجال 300 مليار دولار بحلول عام 2030م، ويأتي التركيز الأساسي على الهيدروجين الأخضر، حيث تعتمد حوالي 70% من قدرة إنتاج الهيدروجين المعلنة عالميًا على مصادر الطاقة المتجددة. وقد دفع هذا التطور دول المغرب العربي، مثل المغرب والجزائر وموريتانيا، إلى الاستثمار بكثافة في تطوير استراتيجيات إنتاج الهيدروجين الأخضر.
من هذا المنطلق، يشهد المغرب تطورًا كبيرًا في علاقته مع الاتحاد الأوروبي في مجال الطاقة، حيث يتمحور التعاون الحالي حول إنتاج الهيدروجين الأخضر وتصديره. ومع التهديد المتزايد لتغير المناخ والحاجة الملحة للطاقة النظيفة، أصبح المغرب شريكًا رئيسيًا للاتحاد الأوروبي. وهذا التعاون مبني على قاعدة من الترابطات المعقدة بين العرض والطلب، حيث يُتوقع أن يلعب المغرب دورًا محوريًا في تلبية احتياجات أوروبا المتزايدة من الطاقة النظيفة، وخصوصًا الهيدروجين.
ومع ذلك، يواجه المغرب عدة تحديات في هذا المسعى. فرغم التقدم الملحوظ في السنوات الأخيرة، لا تزال هناك قيود قانونية تحد من دخول المستثمرين الخاصين إلى قطاع الكهرباء، الذي يهيمن عليه المكتب الوطني للكهرباء والمياه. وهذا الأمر يمثل عقبة أمام تحرير السوق ودمج مشروعات الطاقة المتجددة الصغيرة الحجم، والتي تعد ضرورية لدعم إنتاج الهيدروجين الأخضر على نطاق واسع. إضافة إلى ذلك، فإن تطوير سوق الهيدروجين على الصعيد العالمي لا يزال في مراحله الأولى، ويواجه تحديات كبيرة تتعلق بالمخاطر الاستثمارية والبنية التحتية المطلوبة.
ومن بين التحديات الأخرى التي تواجه المغرب في هذا السياق هو ندرة الموارد المائية، التي تعد ضرورية لعمليات إنتاج الهيدروجين الأخضر. حيث يحتل المغرب المرتبة 22 عالميًا في مؤشر الإجهاد المائي، مما يفرض ضغوطًا إضافية على خطط إنتاج الهيدروجين في البلاد. علاوة على ذلك، سيحتاج المغرب إلى التنافس مع مناطق أخرى على مستوى العالم مثل أمريكا الجنوبية وأجزاء أخرى من الشرق الأوسط، حيث تسعى هذه المناطق أيضًا إلى أن تصبح مراكز رئيسية لإنتاج وتصدير الهيدروجين
تونس وموريتانيا ومحاولة عدم التخلف عن الركب
تشهد بقية الدول المغاربية، كتونس وموريتانيا، تحولات جوهرية أيضا في قطاع الطاقة، مدفوعة بالتحولات العالمية نحو مصادر الطاقة المتجددة والبحث عن بدائل للوقود الأحفوري. وهي ليست بعيدا عن مركز اهتمام التعاون الطاقوي الأوروبي. حيث تعد تونس من أوائل الدول المغاربية التي أبدت اهتمامًا بهذا النوع من التعاون، خاصة في مجال الربط الكهربائي مع أوروبا.
ففي إطار الجهود الرامية لتعزيز البنية التحتية للطاقة المتجددة في الدول المغاربية، حصلت شركة تيرنا الإيطالية والشركة التونسية للكهرباء والغاز (STEG) على منحة بقيمة تقارب 300 مليون يورو من الاتحاد الأوروبي لبناء وتشغيل كابل عالي الجهد بقوة 600 ميغاواط يربط بين صقلية وتونس. ويعتبر هذا المشروع خطوة مهمة لأنه ولأول مرة يشارك فيها مرفق ربط أوروبا (CEF) دولة عضو في الاتحاد الأوروبي ودولة ثالثة في تنفيذ بنية تحتية حيوية. ومن المتوقع أن ينقل هذا الكابل الكهرباء المولدة من مصادر متجددة في تونس وليبيا إلى إيطاليا ومن ثم إلى السوق الأوروبي. ورغم أن المشروع يمثل خطوة إيجابية على صعيد تعزيز الربط الكهربائي بين أوروبا ودول المغرب العربي، إلا أنه يأتي بعد سنوات طويلة من التأخير. فالفكرة الأساسية للمشروع تعود إلى ما يقرب من عقدين، ومرت 15 عامًا منذ توقيع الاتفاقيات الثنائية بين إيطاليا وتونس. وبالإضافة إلى التأخير، تم تقليص سعة الكابل بشكل كبير عما كان مخططًا له في البداية، وذلك بسبب تراجع الطلب على الكهرباء في إيطاليا عقب الأزمة الاقتصادية في عام 2011م.
من جهة أخرى، تسعى موريتانيا أيضًا إلى تعزيز دورها في قطاع الطاقة المتجددة، وخاصة فيما يتعلق بالهيدروجين الأخضر. في هذا السياق، التقى الرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني مع فيرنر هوير، رئيس البنك الأوروبي للاستثمار، لمناقشة توسيع نطاق الاستثمار في طاقة الرياح والطاقة الشمسية والهيدروجين الأخضر. هذا اللقاء يعكس الاهتمام المتزايد في موريتانيا بتعزيز قدراتها في مجال الطاقة النظيفة وتحويلها إلى هيدروجين أخضر، وهو ما سيساهم في تحسين الوصول إلى الطاقة بأسعار معقولة ويزيد من فرص الاستثمار في البنية التحتية للطاقة المستدامة.
وقد أكد الرئيس الموريتاني على أن بلاده تمتلك إمكانات هائلة في مجال الطاقة المتجددة، وأن التعاون مع البنك الأوروبي للاستثمار سيساهم في تحقيق هذه الأهداف. كما أشاد فيرنر هوير بالتزام البنك بدعم الاستثمارات المناخية والطاقة النظيفة في إفريقيا، مشيرًا إلى أن هذا التعاون الجديد مع موريتانيا سيبني على شراكة تمتد لأكثر من 54 عامًا، مما سيسمح بتطوير إمكانات الطاقة المتجددة في البلاد بشكل فعال.
آفاق التعاون الأوروبي المغاربي في مجال الطاقة: تحديات وفرص
يغطي التعاون الأوروبي المغاربي في مجال الطاقة طيفاً واسعاً من المبادرات، من الغاز الطبيعي إلى الطاقات المتجددة والهيدروجين الأخضر. ورغم التقدم الملحوظ في هذه الشراكات، تبقى هناك تحديات كبيرة تستدعي جهوداً إضافية لتأمين مستقبل تعاون مستدام للطاقة على ضفتي البحر الأبيض المتوسط.
ففي الجزائر، يستمر الغاز الطبيعي في لعب دور محوري في تلبية احتياجات الطاقة الأوروبية، خصوصاً في ظل التوترات الجيوسياسية التي تسببت في إعادة النظر في مصادر الطاقة التقليدية. ومع ذلك، فإن التحديات المتعلقة بتأمين الإمدادات، وتحسين البنية التحتية، والتوجه نحو مستقبل منخفض الكربون، تظل قضايا حرجة يجب معالجتها لتأمين استمرارية هذا التعاون على المدى الطويل.
ومن جانبها، تسعى تونس لتعزيز الربط الكهربائي مع أوروبا من خلال مشروعات مثل الكابل عالي الجهد بين صقلية وتونس، الذي سيساهم في تسهيل نقل الكهرباء المولدة من مصادر متجددة. لكن تأخير تنفيذ هذه المشاريع والحاجة إلى تجاوز العقبات التقنية والتنظيمية تشكل تحديات أمام تحقيق التكامل الكامل بين شبكات الطاقة التونسية والأوروبية.
أما المغرب وموريتانيا، فهما في مقدمة الدول التي تتبنى استراتيجيات الطاقات المتجددة والهيدروجين الأخضر. حيث يمتلك المغرب إمكانات كبيرة في مجال الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، ويطمح إلى أن يصبح مورداً رئيسياً للهيدروجين إلى أوروبا. غير أن التحديات المتعلقة بتحرير سوق الكهرباء، وجذب الاستثمارات الخاصة، والتعامل مع ندرة المياه تظل قائمة. وفي موريتانيا، رغم إمكانات الطاقة المتجددة الكبيرة، يبقى تطوير البنية التحتية وتمويل المشاريع من أكبر التحديات التي تواجه البلاد.
وبالنظر إلى المستقبل، فإن التعاون الأوروبي المغاربي في مجال الطاقة يفتح آفاقاً واسعة للتحول نحو اقتصاد منخفض الكربون، معززاً بمصادر الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر. ومع ذلك، يتطلب هذا التحول تسريع الاستثمارات في البنية التحتية، وتعزيز الأطر القانونية والتنظيمية، ومواجهة التحديات البيئية والاجتماعية. إن الشراكات الناشئة بين الاتحاد الأوروبي ودول المغرب العربي ليست فقط فرصة لتلبية احتياجات الطاقة، بل هي أيضًا منصة لتعزيز التنمية الاقتصادية المستدامة، وتحقيق الأهداف المناخية المشتركة.