تُواجِهُ الدَّولةُ الوطنيَّةُ في ليبيا بعد سُقُوط نظام العقيد القذافي تحدِّياتٍ خطيرةٍ، تتعلقُ بسلامة ذلك الكيان السياسي ذاته، وأمنه القَومي؛ حيث أن هشاشة السُّلطات الانتقالية وضعف المُؤسَّسات الأمْنيَّة، وانتشار التشكيلات المحلٍّيَّة المُسلَّحة، والتأخُّر في صياغة دُستُورٍ توافُقيٍّ، ثم التنازُع على الشَّرْعيَّة السِّياسيَّة والثَّروة النَّفْطيَّة ودُخُول التَّنظيمات الإرهابيَّة المُتطرِّفة على خط ذاك الصِّراع المُعقَّد، ظلَّتْ أبرز عوامل التَّهْديد للكيان الليبيِّ في العقد الماضي. ويأتي ذلك في وقت تشهد فيه ليبيا أزمة سياسية حادة بعد عودة التنافس بين حكومتين؛ الأولى حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها برئاسة عبد الحميد الدبيبة والتي تمت تزكيتها بعد مسار طويل من المفاوضات دعمتها الأمم المتحدة، أما الثانية فهي برئاسة وزير الداخلية السابق فتحي باشـاغـا، والذي منحهُ البرلمان الثقة ورفضها الدبيبـــة.
ولذلك، تعد الأزمة الليبية من الأزمات المُمتدة، نتيجة المراحل التي مرَّت بها عقب سُقُوط نظام القذافي، وإخفاق الحلول السياسية التي تلت ذلك، وانتشار السلاح في البلاد، وفشل اتفاق الصخيرات المُوقع عام 2015م، ويرجع فشل الحل السياسي إلي سببين أساسين، أولهما: فوضى وانتشار المليشيات المسلحة في الغرب الليبي، والسبب الآخر: التدخل الخارجي الدولي والإقليمي بهدف فرض الهيمنة على المواقع الاستراتيجية من جانب، والاستحواذ على الثروات النفطية من جانب آخر.
ولعلَّ التَّشْخيص الأكثر تفسيراً للحالة الليبيَّة بعد الثورة، يكْمُنُ في مُعْضلة "انتشار القُوَّة"، وانتقالها من الدَّولة إلى فواعل مُتعدِّدة سياسيَّة ودينيَّة ومناطقيَّة وقبليَّة لمْ تجد في الأُطُر المُؤسَّسيَّة للسُّلطة الانتقاليَّة ما يُحقِّقُ مصالحها، وبالتالي، عملت على حيازة القوة عبر امتلاك ظهير ميليشياتي مسلح تحوَّل إلى فاعل رئيس في التفاعُلات الليبية.
دخلت البلدُ في نفقٍ مُظْلمٍ من الصِّراعات المُسلَّحة والنِّزاعات السِّياسيَّة والتَّوتُّرات الاجتماعيَّة والخلافات الجهويَّة، وبدا أنْ حُلُم الدَّولة المدنيَّة بعيد المنال، بلْ أصبح الحفاظُ على كيان الوطن ذاته ووحدته مُعرَّضاً لأخطار حقيقيَّةٍ وداهـمةٍ. وبسبب الأهمية الاستراتيجية لليبيا، فإنها أصبحت بعد سقوط نظام القذافي، مسرحا لصراع المصالح والنفـوذ، في ظل التنافس الإقليمي والدولي على المُساهمة في تسوية الأزمة الليبية. ضمن هذا الإطار، تتناول هذه المقالة "الأزمة الليبية: ومُعـضلة التدخـلات الخـارجـية"، وذلك ضمن المحاور التالية: أولا: خطورة التدخلات الخارجية على الأزمة الليبية، ثانيا: أبرز التحديات التي تواجهها الدولة الليبية، ثالثا: التنافس الأمريكي-الروسي في ليبيا.
أولا: خـطـورة التدخـلات الخارجية على الأزمة الليبية:
تُعدُّ "العواملُ الخارجيَّةُ"–كما تشير الأدبيات-مُهمة ومُؤثرة في عملية التحولات الديمقراطية، والحراكات الثورية، وخُصُوصا في الدول النـامـية، ويقصد بالعوامل الخارجية الضغوط النابعة من خارج بيئة النظام السياسي إقليميا ودوليا، والتي تلعب دورا بارزا في تدعيم أو تثبيط عملية التحول الديمقراطي وفقا لمصالحها. وكان التطور الأحدث في ظاهرة التدخل الخارجي هو مبدأ "مسؤولية الحماية"، الذي عانى معضلات مزمنة، كهيمنة توازنات المصالح بين القوى الكبرى على الأطر القانونية للتدخل، وعدم إيلائها للقيم الأخلاقية وزنا، إذا تصادمت مع مصالحها، أضف إلى ذلك أن نتائج التدخل قد تؤدي لعواقب وخيمة تتناقض مع الأهداف التي تصيغها القوى المتدخلة. فتجارب التدخل الخارجي لم تنتج بيئة دولية آمنة، بل خلقت تداعيات سلبية على السلم والأمن الدوليين.
وبطبيعة الحال فإن أي دولة كبرى تتدخل في أي أزمة أو صراع فهي تسعى من خلالها إلى تحقيق مصالح معينة، أو الحفاظ عليها. ولقد اتضحت أهمية العوامل الخارجية، ولا سيما في ضوء التدخلات الخارجية في ليبيا وسورية واليمن وغيرها. وتحولت المنطقة إلى ساحة للتدخلات الإقليمية والدولية، على نحو لم يسبق له مثيل منذ حلف بغداد (1955م) والعُدوان الثلاثي على مصر(1956م).
ويلاحظ، أن للعوامل الخارجية دورا مهما وحاسما في الأزمة الليبية، فبالنظر إلى ارتباط كل ما جرى في ليبيا منذ عام 2011م، بدور واضح للقوى الخارجية، فإن ذلك يفتح الباب على مصراعيه أمام احتمالات تأثير أطراف خارجية في دعم أو مُناصرة طرف أو آخر. ومع أن القوى الخارجية جميعا عبرت "رسميا" عن احترامها لإرادة الشعب الليبي واختياراته، ودعمها لعملية بناء ديمقراطية في ليبيا، إلا أن تضارُب المصالح يتضحُ بامتياز في الأزمة الليبية بين الفرقاء الليبيين وبين حُلفائهم الإقليميين والدوليين.
إن العامل الدولي سيظل مُؤثرا في المشهد السياسي الليبي، ليس فقط للمصالح النفطية، أو إعادة الإعمار، أو مُحاربة الهجرة غير الشرعية، أو المُشاركة في إعادة تأهيل المؤسسات الأمنية، وإنما لإنشاء "تحالفات عميقة"، تمكن الغرب، وخاصة أمريكا وحلف (الناتو) من مُواجهة الأخطار المتدفقة من الموقع الجيواستراتيجي لليبيا باتجاه أوروبا، وللحفاظ على خطوط المصالح الاستراتيجية في عُمق منطقة الساحل والصحراء، والتي تتعلقُ بخُطُوط النفط والغاز المُمتدة من ليبيا إلى أفريقيا وأوروبا، وكذلك لاحتواء خطر التنظيمات الإرهابية في الساحل والصحــراء.
* ثانيا: أبرز التحديات التي تواجهها الدولة الليبية:
الدولة الليبية تواجـه عـدة تحـديـات من أبرزهــا:
1-مخاطر تزايـد معضلة "الانقسام" على وحدة الدولة الليبية حاضرا ومستقبلا، خصوصا في ظل رفض حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الدبيبة الامتثال لقرار مجلس النواب الذي سحب منها الثقة، وكلف حكومة جديدة برئاسة أسامة حماد.
2-تعثر تحقيق "الاستحقـاقــات الانتخـابيــة" حتى الآن، ودخــول الدولة في حــالة "جـمــود سيـــــاسي".
3-استمرار الأزمات الاقتصادية في البلاد، ومن أبرزها: الفساد الإداري والمالي، وإهدار المال العام، وارتفاع الإنفاق الحكومي بشكل مبالغ فيه، وارتفاع أسعار العملات الصعبة في السوق الموازية، مما تسبب في ارتفاع الأسعار والتضخم، وتزايد معاناة المواطن الليبي. وعدم توفر السيولة النقدية في البنوك التجارية.
4-تزايد واستمرار مخاطر الهجرة غير الشرعية والجريمة المنظمة والتهريب على ليبيا وأمنها القومي، ودول جوارهــا.
5-انتشار السلاح، والمجموعات المسلحة غرب البلاد خارج إطار المؤسسات الأمنية والعسكرية.
ثالثا: التنافس الأمريكي-الروسي في ليبيا:
تشهد الساحة الليبية ما يمكن وصفه بالتنافس الأمريكي-الروسي سعيا لتحقيق مصالحهما الاستراتيجية في المنطقة، ولأهمية ومحورية موقع ليبيا الاستراتيجي بالنسبة لقارتي أفريقيا وأوروبا.
واشنطن تعتبر ليبيا مساحة نفوذ أوروبية، فأغلبية النفط الليبي تستورده دول جنوب أوروبا وليست الولايات المتحدة الأمريكية، والأمر ينطبق كذلك على الغاز، حيث أصبحت واشنطن تنافس طرابلس على السوق الأوروبية، بعدما كانت مستوردا صاف له. لكن ليبيا تستحوذ على اهتمام واشنطن في نقطتين رئيسيتين، أولهما: "الحرب على الإرهاب"، والذي يمثل هدفا استراتيجيا لها منذ هجمات 11 سبتمبر 2001م، وتنظيم "داعش" الإرهابي حاول تأسيس إمارة بسرت ما بين 2015 و2016 م، والنقطة الثانية، رفض الولايات المتحدة محاولات روسيا تأسيس قاعدتين بحرية وجوية في سرت والجفرة بالقرب من الجناح الجنوبي لحلف شمال الأطلسي (ناتو). لكن ومع هزيمة "داعش" في سرت، أصبح تقليص النفوذ الروسي في ليبيا على رأس أولويات القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم).
ولقد شهد النصف الثاني من عام 2019م، حالة من الشد والجذب بين الولايات المتحدة وروسيا فيما يتعلق بالأزمة الليبية، حيث اتهمت الإدارة الأمريكية موسكو-أكثر من مرة-بانخراطها في تلك الأزمة إلى جانب الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، عبر إرسال بعض المُقاتلين الروس، مُعتبرةً أنَّ ذلك منْ شــأنه تـأجيج الصِّراع، وتهديد حالة الاستقرار في ليبيا، وهُو ما تنفيه موسكو بشكلٍ قــاطعٍ.
وكانت الدولتان قد أكدتا موقفهما الداعي لأولوية الحلول السلمية عقب إعلان المشير حفتر في 12ديسمبر2019م بدء حسم معركة "طوفان الكرامة"، ودخول قواته إلى قلب العاصمة طرابلس.
* ملامحُ الدَّور الأمريكيِّ في الأزمـة الليبية:
كان الموقف الأمريكي في بدايات الحراك الثوري في ليبيا أكثر ارتباكا مما اتصف به الأساس الفكري أو الاستراتيجي الذي استند إليه ما عرف بمبدأ أوباما للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. إن التدخل الأمريكي في ليبيا جاء ترجمة لما احتوته الرؤية الاستراتيجية للأمن القومي الصادرة في2010م، التي انطلقت من إمكانية وأهمية العمل على تحقيق المصالح الأمريكية من خلال الوسيلة الدبلوماسية. وخاصة عبر العمل من خلال المنظمات والمؤسسات الدولية، كان الغرض من ذلك تجاوز السلبيات التي ترتبت على قيام أمريكا في السابق منفردة بأعمال خارجية واحتلال لدول أخرى.
والمرجح أن غياب الدور الأمريكي الفاعل بعد الثورة بصورة مباشرة، يعود ربما لحساسية الموقف الشعبي الليبي من كل ما هو أمريكي، خصوصا بعد سقوط نظام القذافي، وتصفية السفير الأمريكي، بعدها تركت واشنطن الباب الليبي على مصراعيه لفواعل تعبث بالمشهد الليبي. غير أن الحضور الروسي الفاعل كان يُؤرق الأمريكان ويُزعجهم.
وإذا ما كان قرار الانكفاء عن ليبيا قد صدر عن إدارة الرئيس السابق أوباما، فإن الرئيس ترامب، وبحُكم تمسُّكه بسياسة سحب بلاده من حُرُوب الآخرين في العالم، وفق وعوده الانتخابية، لمْ يُبْدِ اهتماماً بالشأن الليبيِّ، وبقي موقفُ واشنطن وسطيا، من خلال التواصل مع كافة أطراف الصراع في هذا البلد. وهو ما أكده ترامب بالقول:" لا أرى دورا للولايات المتحدة في ليبيا، باستثناء مكافحة الإرهاب".
ورغم أن مبعوثة أمريكا إلى الأمم المتحدة، صرحت حول رغبت بلادها في أن ترى جميع الأطراف في ليبيا تتوحد، وأن يكون هناك حل سياسي، وحكومة واحدة، وجيش موحد، لكن الدور الباهت إن لم يساعد في الضغط على الأطراف لتهيئة أجواء للتسوية .وجل ما لعبته من دور هو من خلال تأكيد دعمها لرئيس المجلس الرئاسي السراج وحكومة الوفاق في التصدي لنشاط داعش، وتعقبها في سرت أو في مدن أخرى، وقلقها من سيطرة بعض الأطراف خارج مؤسسة النفط الليبية على الموارد النفطية في ليبيا .ويبدو أن إدارة السياسة الأمريكية تجاه ليبيا صارت خاضعة لتأثير العسكريين بالنظر إلى تحركات توماس وولد هاوس، قائد القوات الأمريكية في أفريقيا "أفريكوم"، التي تركز أكثر على مكافحة جماعات الإرهاب في الساحل والصحراء. حيث كثفت قوات تابعة للأفريكوم من ضرباتها الجوية ضد مواقع للإرهابيين في ليبيا، ففي أواخر عام 2019 نفذت أربع هجمات متتالية أسفرت عن مقتل 33 عنصرا إرهابيا، من تنظيم داعش في جنوب ليبيا.
وعلى الرغم من علاقة واشنطن الرسمية بحكومة الوفاق المعترف بها دولياً، إلا أنها حافظت على تواصل مع المشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطني. وكان مكتب الإعلام التابع للقيادة العامة للقوات المسلحة الليبية قد أعلن في أواخر يناير (2020م) عن اجتماع تم بين حفتر والسفير الأمريكي لدى ليبيا، ريتشارد نورلاند، تم خلاله "بحث التطورات الأخيرة في الأزمة الليبية خاصة بعد عقد مؤتمر برلين". وأتى الاجتماع ضمن سلسلة لقاءات جمعت الطرفين، أهمها ذلك الذي عُقِدَ في التاسع من نفس الشهر، في العاصمة الإيطالية روما، وحضره إلى جانب السفير نورلاند كل من نائب مستشار الأمن القومي لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فيكتوريا كوتس، ونائب مساعد وزير الخارجية للشؤون المغاربية والمصرية هنري ووستر.
* مُـؤشِّـراتُ التغيُّر في المـوقـف الأمريكي:
يرجعُ الدَّعمُ الأمريكيُّ لحُكُومة الوفاق –كما يرى البعضُ-إلى مخاوفها من العلاقات التي تجمعُ الرئيس بوتين بالمُشير حفتر، وهي تخشى من أنَّ انتصار الجيش سيرسخ من النفوذ الروسي في ليبيا. ولذلك، أكدت أمريكا على دعمها لسيادة ليبيا في مواجهة محاولات روسيا لاستغلال الصراع ضد إرادة الشعب الليبي. وكان التطور الأبرز الذي شهده الموقف الأمريكي هو المبادرة التي طرحتها أمريكا لحل الأزمة أثناء اللقاء الذي عقده السفير الأمريكي في القاهرة، جوناثان كوهين، مع رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، والتي تتضمن ثلاث محاور: إنشاء منطقة منزوعة السلاح، تشمل خط سرت الجفرة، ومنطقة الهلال النفطي، بما يمكن المؤسسة الوطنية للنفط من استئناف عملها. وهو ما يقتضي إنهاء سيطرة قوات الجيش على الحقول والموانئ النفطية، وإعادة توزيع الثروة بشكل عادل. وسحب المُرتزقة، وتشديد حظر الأسلحة الذي تفرضُهُ الأمم المُتحدة على الأطراف الليبيَّة.
* دوافـعُ عــودة الاهتمام الأمريكي بالأزمـة الليبية:
1-تصاعـد الدور الروسي: تدرك واشنطن مخاطر الانخراط الروسي بشكل أكبر في الشرق الأوسط على مصالحها فيه، حيث تواترت تقارير أمريكية حول انخراط مقاتلين روس في الصراع الليبي، حتى أن الخارجية الأمريكية قد ـصدرت بيانا طالبت فيه بضرورة وقف التدخل الروسي، واعتبرت أن "موسكو تحاول استخدام الصراع الداخلي في البلاد لمصالحها، وذلك خلافا لإرادة الشعب الليبي". وهو ما نفته موسكو.
2-تزايد المخاطر الأمنية: بسبب تزايد خطر تنظيم داعش، الذي كان يعتبر ليبيا وجهته المفضلة من أجل إعادة التمركز فيها، وهو ما يعزز من ضرورة قيام الولايات المتحدة بلعب دور أكثر فاعلية من أجل دحر التنظيم، وعدم منحه الفرصة بإعادة ترتيب أوضاعه من جديد، بما يهدد المصالح الأمريكية في المنطقة.
3-عـوائد اقتصادية: تدرك واشنطن المطامع الأوروبية المنحصرة بشكل أساسي في إيطاليا وفرنسا، وكذلك الرغبة الروسية في الاستفادة من الثروة النفطية الليبية الهائلة. ففي ظل تقديرات "أوبـك" فإن احتياطات النفط الليبي تقدر بنحو 48 مليار برميل، مما يجعلها الأكبر أفريقيا. وتحتل ليبيا المركز الخامس عالميا في احتياطيات النفط الصخري، كما ترتفعُ لديها احتياطيَّات الغــاز.
ويضيف البعض أن اهتمام أمريكا بالملف الليبي يرجع إلى: توجه الجيش الوطني نحو طرابلس، التي تمتلك ميزة نسبية للولايات المتحدة، وكذلك: تصاعد الخلاف بين موسكو وواشنطن حول ليبيا في مجلس الأمن، وإحباط موسكو لمشروع قرار لمجلس الأمن ينص على وقف القتال، وطالبت بإجراء تعديلات على البيان بصيغته النهائية، واعترضت واشنطن على المقترح الروسي.
ويرجع الدافع الرئيسي لزيادة الاهتمام الأمريكي بليبيا إلى أنه يأتي في مُقابل تزايُد الوزن النِّسبيِّ الرُّوسيِّ في الأزمة الليبية، وتمدُّد نُفُوذ موسكو في شرق المُتوسِّط وشمال إفريقيا، وهُو ما تعتبرُهُ الولايات المُتحدة تهديدًا جديدًا لنفوذ شمال الأطلسي (ناتو) في هذه المنطقة.
* موقـفُ الولايات المُتحدة من الحـوار الليبي ومُخرجـاته:
استبقت إشاراتُ إدارة الرَّئيس بايدن بشأن الملف الليبيِّ، مُحادثات مُهمَّة برعاية الأُمم المُتحدة في جنيف، حول ترتيبات المرحلة الانتقاليَّة. الدَّعوة التي وجَّهها رئيسُ البعثة الأمريكية في الأمم المتحدة ريتشارد ميلز جونيور، بـ"الشروع فورا في سحب القوات التركية والروسية من ليبيا. بما فيها جميع العناصر المرتزقة والمندوبين العسكريين الأجانب"، تعتبر تحولا ملحوظا في سياسة الإدارة الجديدة مقارنة بسياسة الرئيس السابق دونالد ترامب؛ ذلك لأنها دعوة صريحة لـ"جميع الأطراف الخارجية، بما في ذلك روسيا وتركيا والإمارات، إلى احترام السيادة الليبية والوقف الفوري لجميع التدخلات العسكرية"، لم يصدر مثيل لها في وقت سابق من الإدارة السابقة، التي طالما اعتمدت لغة غامضة وملتبسة إزاء اللاعبين الأجانب في الملف الليبي.
وتحمل هذه الخطوة، تحريكا للملف الليبي إلى سلم أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، وتأكيدا على قلق واشنطن من تداعيات الأزمة الليبية على ملفات استراتيجية أخرى منها متطلبات أمن مناطق نفوذ حلف شمال الأطلسي، وإمدادات النفط والغاز.
وبمُوازاة المسار الأمني والعسكري، سعت المبعوثة الأممية آنذاك إلى الاستفادة من الزخم الجديد في البيت الأبيض وفي مسارات المُحادثات التي رعتها الأمم المتحدة في المغرب وتونس، وصولا إلى جنيف، من أجل تحقيق تطورات على مُستوى التسوية السياسية للأزمة. وذلك عبر حثِّ المُشاركين في الحوار السياسي الليبي الذي انطلق أول فبراير 2021م، وتواصل حتى الخامس منه، على انتخاب تشكيلة مجلس الرئاسة، الذي سيتألف من ثلاثة أعضاء ورئيس للوزراء، يُعاونُهُ نائبان.
وبالفعل، فقد انتخب عبد الحميد دبيبة، يوم الجمعة 5/2/2021م، رئيساً للوزراء للفترة الانتقالية في ليبيا، وفاز محمد يونس المنفي برئاسة المجلس الرئاسي، وذلك من قِبَلِ المُشاركين في الحوار بين الفرقاء الليبيين في سويسرا برعاية الأمم المتحدة، تمهيداً للانتخابات التي كانت مُقرَّرة في ديسمبر 2021م.
* الموقف الأمريكي من مبادرة باتيلي مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا:
كانت أمريكا من الدول الأكثر تفاعلا مع مبادرة عبد الله باتيلي، الرامية إلى كسر الجمود الذي تعاني منه عملية التسوية السياسية في ليبيا. وقد كُشِف عن هذه المُبادرة في 23 نوفمبر 2023م، وكانت تهدف إلى إشراك عدد كبير من الأطراف الليبية في مسار التسوية، سواء أكانوا فاعلين مؤسسيين/رسميين، من قبيل البرلمان ومجلس الدولة والمجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية، والمجلس الرئاسي، أو فاعلين غير رسميين، مثل الأحزاب السياسية، والأطراف العسكرية والأمنية الفاعلة، والشيوخ والأعيان، والمكونات الثقافية واللغوية، والأكاديميون وممثلو الشباب والنساء والمجتمع المدني .وقد حذر المندوب الأمريكي في مجلس الأمن من وصفهم بـ«الذين يواصلون تأخير العملية السياسية» بأنهم «سيتحملون القسم الأكبر من اللوم إذا مر الوقت دون انتخابات، ودون تشكيل حكومة موحدة»، وقال: "يجب على الليبيين اختيار قياداتهم عبر انتخابات حرة ونزيهة".
* ثانيا: ملامحُ الدَّور الروسيِّ في الأزمـة الليبية:
تُمثِّلُ السِّياسة الرُّوسيَّة تجاه الوطن العـــربيِّ مركزاً محوريّاً في استراتيجيَّة السِّياسة الخارجيَّة الرُّوسيَّة، ومن ثم فهي تقوم على المُبادرة لا على رُدُود الأفعـال.
بداية لم تؤيد روسيا الحراك الثوري في ليبيا عام 2011م، واكتفت بالإعلان عن إيقاف إراقة الدماء، والدعوة إلى عدم التدخل الخارجي. واليوم، تسعى موسكو للتدخل في التفاعلات الليبية لاستعادة نفوذها، فقد تلاشى النفوذ الروسي في ليبيا عقب سقوط نظام القذافي. وفي هذا السياق، تبرز مساعٍ لتنشيط الدور الروسي في ليبيا، وخاصة بدعم الجيش الوطني الليبي لمحاربة التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود، وهو ما انعكس في قيام قائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر بزيارة موسكو مرتين خلال عام 2016م، بالتزامن مع السيطرة الميدانية للجيش الليبي على مناطق أوسع داخل ليبيا، حيث أشارت تقارير عديدة إلى أن الجيش الليبي سيطلب دعمًا من روسيا، إذا ما قامت الأمم المتحدة في المستقبل برفع حظر التسليح. وقد أجرى المشير حفتر محادثات مع وزير الدفاع سيرجي شويجو ووزير الخارجية سيرجي لافروف وأمين مجلس الأمن القومي الروسي نيكولاي باتروشيف للنقاش حول الوضع السياسي والعسكري في ليبيا. ووفقًا للسِّياسة الرُّوسيَّة المُعلنة فإنَّ موسكو تدعمُ الحُلُول السِّياسيَّة التي يتوصَّلُ إليها أطرافُ الصِّراع الليبيِّ، وتحرصُ على ضرُورة احترام الشَّرعيَّة، وعدم الاعتراف بحُكُومةٍ لا تحظى بثقة البرلمان، أو وفاقٍ سياسيٍّ لا تُرافقُهُ تعديلاتٌ في الدستُور الليبيِّ، وخُطوات لتوحيد كُلِّ الليبيين لمُواجهة التنظيمات الإرهابيَّة في جميع أنحاء البلاد، بما فيها التيَّاراتُ السِّياسيَّةُ العنيفة. وقد شهد العامان الأخيران مزيدا من الاهتمام الروسي بالملف الليبي، وهو ما تجلى بشكل واضح في إعلان موسكو أكثر من مرة عن ترحيبها بلعب دور الوساطة بين طرفي الصراع الليبي.
ومن الناحية الواقعية تقدم موسكو دعما عسكريا وسياسيا للمنطقة الشرقية، بينما تقوم بالتعامل مع المجلس الرئاسي في المنطقة الغربية، حيث تناقش عقودا لاستكشاف النفط، وتبحث عن فرص اقتصادية لها في العاصمة، حيث مقر المجلس الرئاسي، لكنها لم تفتح سفارتها في طرابلس. وبالتالي، فهي تعمل على دعم المشير حفتر من جهة، مع الإبقاء على حوار مفتوح مع حكومة طرابلس من جهة أخــرى.
* أدوات روسيا تجــاه الأزمــة الليبية: أبـرزهـــا مـــا يـلي:
1-الانخـراط شـديـد المـرونة: من خلال محاولة روسيا لعب دور متوازن عبر التفاعل المرن مع طرفي الصراع الرئيسيين، حكومة الوفاق والجيش الوطني، إلى جانب رفع مستويات التنسيق مع مجلس النواب الليبي في طبرق.
2-توظيف الدور السياسي: استضافت روسيا في يناير 2020م، محادثات تتعلق بالأزمة الليبية، بحضور طرفي الصراع الرئيسيين، إلى جانب تركيا. لكنها لم تكلل بالنجاح؛ بسبب رفض المشير حفتر التوقيع على التفاهمات، في ظل التغاضي عن أولوية حل الميلشيات كمسألة مهمة تسبق وقف إطلاق النار، لما تشكله الميلشيات في طرابلس من تأجيج للصراع المسلح.
3-دعم المبادرات الدولية: شاركت موسكو في مؤتمر برلين (9/1/2020)، وأكدت موقفها الداعي لتثبيت وقف إطلاق النار، وأولوية الحلول السلمية برعاية أممية، ورفض التدخلات الأجنبية التي يمكن أن تؤجج الصراع بشكل أكبر.
ويمكن تفسير زيادة معدل الانخراط الأخير لروسيا في الأزمة الليبية من خلال الزيارات المتكررة لقيادات سياسية وعسكرية ليبية إلى موسكو خلال الفترة ما بين (2016-2018)، من أبرزها المشير حفتر، الذي قدمت له روسيا دعما عسكريا، ما أثار حفيظة واشنطن، فردت على موسكو بدعم قوات البنيات المرصوص، وقوات فجر ليبيا. كما أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية عن عودة القوات الأمريكية إلى قاعدة (أفريكوم)، جاء ذلك بعد البيان الصادر عن قيادة الجيش الأمريكي في إفريقيا، الذي اتّهم روسيا بتأجيج الصراع في ليبيا، واعتبر ذلك تهديدًا للأمن الإقليمي. كما أُعلن لاحقا أن روسيا سلمت طائرة "ميج 29" و"سوخوي 27" للجيش الوطني الليبي.
* موقـفُ روسـيا من الحـوار الليبي ومُخرجـاته:
رحَّبت رُوسيا بنتائج اختيار المجلس الرئاسيِّ والحُكُومة الجديدة، وذكرت الخارجيَّةُ الرُّوسيَّةُ، في بيانٍ، "إنَّهُ يجبُ أنْ تُصبح ثمارُ عمل مُلتقى الحوار السِّياسيِّ الليبيِّ خُطوةً مُهمَّةً ومحوريَّةً في سبيل تجـاوُز الأزمـة الحـادَّة التي طال أمـدُها في البـلاد". وأعرب نائب وزير الخارجية الروسي المبعوث الخاص إلى الشرق الأوسط وأفريقيا، ميخائيل بوجدانوف عن دعم بلاده للمجلس الرئاسي في ليبيا. روسيا أيدت هذه الخطوة، وهي انتخاب المجلس الرئاسي الجديد، ورئيس الحكومة، وواصلت اهتمامها الواضح بالأزمة الليبية، انطلاقا من موقفها المتعلق بالاهتمام بالمنطقة العربية، والحفاظ على مصالحها الاقتصادية والسياسية في ليبيا، في ظل استمرار التوجهات الرئيسية للسياسة الروسية في ليبيا، "القائمة على فكرة التدخل الحذر في هذه الأزمة المُعقــدة.
* الموقف الروسي من مبادرة عبد الله باتيلي مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا:
بدا المندوب الروسي في مجلس الأمن أكثر تحفظًا، وحذر من أن الوضع على الأرض قد «يفشلها»، ويفضي إلى مزيد من التقسيم داخل المجتمع الليبي، وقال: «لا تزال هناك حكومتان متنافستان في ليبيا، وهو ما يعقد فرص الحل الدائم»، واعتبر أن إجراء انتخابات عامة لتشكيل حكومة متحدة تمثل جميع مناطق ليبيا هو السبيل الأوحد للخروج من هذا الانسداد السياسي". وشدد على ضرورة مواصلة تحديد الإطار القانوني للانتخابات من خلال مواصلة المفاوضات بين مجلسي النواب والدولة اللذين لم يتوافقا بعد على الرغم من إنهاء لجنة «6+6» المكلفة من المجلسين أعمالها.
ومن وجهة النظر الروسية فهناك أهمية لتنظيم انتخابات عامة نيابية متزامنة لضمان استقرار ليبيا، غير أنه «لا يتعين إطلاقًا فرض عملية انتخابية مشروطة تقصي بعض الشخصيات»، بل لكي تنجح هذه العملية فلا بد أن تكون "منفتحة وشاملة وتمثل كل أصحاب الشأن الليبيين بمن فيهم ممثلو النظام السابق". وأكد المندوب الروسي أن: "إنشاء آليات جديدة لتسوية المشكلة الليبية دون إشراك ليبيا نفسها لن تكون مثمرة، وأن الصيغ الجديدة قد لا تكون ناجحة".
الخــاتمــة:
تبين من الطرح السابق أهمية دور المجتمع الدولي في الأزمة الليبية خلال هذه المرحلة، وذلك في ظل تزايد المخاطر المحدقة بالأمن الوطني الليبي، كتلك المرتبطة بتأخر الاستحقاقات الانتخابية، وتفاقم مشكلة الهجرة غير الشرعية، والانقسام السياسي، وغيرها.
إنَّ اهتمام الولايات المُتحدة الأمريكيَّة بالأزمة الليبيَّة مـرَّ بعـدَّة مراحل، كما أسلفنا، وُصُولاً إلى تأييدها لانتخاب المجلس الرئاسيِّ، والدَّعوة إلى الحفاظ على السِّيادة الليبيَّة، والوقف الفـوريِّ لجميع التَّدخُّلات العسكريَّة، ودعم مبادرة عبد الله باتيلي. أمَّا روسيا فإنَّ اهتمامها بالملف الليبيِّ كان واضحاً مُنذُ فترةٍ، حيثُ أيَّدت مُخرجات الحوار الليبيِّ، وانتخاب المجلس الرِّئاسيِّ أيضاً، وبدت متحفظة على مبادرة باتيلي، وحذرت من أن الوضع على الأرض قد يُفشل تلك المُبادرة، ويُفضي إلى مزيد من التقسيم داخل المُجتمع الليبي، وبطبيعة الحال فإنَّ كُلاًّ منْ موقفي الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا من هذه الأزمة نابعٌ –بالدرجة الأولى-من البَحْثِ عَن مصالحهما الاستراتيجية وغير الاستراتيجية، لَيْسَ فِي هَــذَا البَلَد فحسـب، وإنَّمــا إقـليميّاً ودوليّاً.. في ظل التوتر في العلاقات بين البلدين، والتنافُس الشديد بينهُما في منطقة "الشـرق الأوسط".