في ظل التطورات الحالية التي يمر بها الشرق الأوسط، تشهد المنطقة تحولات غير مسبوقة، وتطورات سريعة متلاحقة تتجاذبها تيارات مختلفة وأمواج متلاطمة، لذلك تقف المنطقة على مفترق طرق تاريخي .. فهناك قرارات ومواقف وأفعال خارج العقل والمنطق وتعتمد على القوة المفرطة والمبالغ فيها ،وارتكاب حروب إبادة ومجاذر جماعية، تقابلها قوى عاقلة ومتزنة تبحث عن الحلول السليمة الرشيدة لإنهاء الصراعات والإبحار بالمنطقة نحو الأمان، كما يوجد بالمنطقة ميليشيات لها مصالحها الخاصة البعيدة عن مصالح الدول، وعلى الصعيد الخارجي يقف العالم منقسمًا تجاه الشرق الأوسط بين داعم ومساند للعدوان والبطش والتنكيل الذي يقع على الشعب الفلسطيني الشقيق وكذلك على الدولة اللبنانية الشقيقة، وبين مؤيد للحلول السلمية والوقوف إلى جانب العدل والمساوة وإعطاء الحقوق لأصاحبها، وإن كان التوجه الأخير يتحرك ببطء وتأثير محدود أمام الآلة العسكرية الإسرائيلية الغاشمة المدعومة من الغرب سواءً بالدعم العسكري المباشر والمعلن والصريح، أو عبر المساندة الدبلوماسية في المحافل الدولية وفي مقدمتها مجلس الأمن الدولي عبر حق النقض (الفيتو) ذلك السيف المسلط على القرارات الدولية المؤيدة لإيقاف العدوان.
هكذا يبدو المشهد الإقليمي معقدًا ومتشابكًا في الشرق الأوسط منذ السابع من أكتوبر من العام الماضي عندما أطلقت فصائل فلسطينية في قطاع غزة ما أطلقت عليه عملية (طوفان الأقصى) وما لبث أن جاء الرد الإسرائيلي الذي فاق التوقعات ليدمر قطاع غزة ويقتل الآلاف من الفلسطينيين ويشرد الملايين من سكان القطاع، دونما استجابة لأي مطالب دولية أو أممية ومازالت الحكومة الإسرائيلية في غيها، بل امتد العدوان إلى الدولة اللبنانية الشقيقة. كما امتدت الهجمات المتبادلة بين إسرائيل وإيران، وكذلك دخلت ميليشيا الحوثي في اليمن على خط المواجهة بتعطيل حركة الملاحة في البحر الأحمر ومضيق باب المندب ما زاد المشهد الإقليمي ضبابية.
وفي خضم هذه الأحداث جسدت المملكة العربية السعودية ضمير الأمتين العربية والإسلامية وضمير العالم الداعي لإيقاف الحروب والدمار وقادت العالمين العربي والإسلامي نحو التصدي لهذا العدوان والدعوة إلى العودة للرشاد وتحكيم العقل، بل نقلت إلى العالم أجمع صوت العرب والمسلمين المؤيد للحلول السلمية وإيقاف آلة الحرب الفتاكة ضد الأبرياء من المدنيين والنساء والأطفال والشيوخ في قطاع غزة وانطلاقًا من تجسيد هذا الموقف بكل أبعاده ومراميه، دعا خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ـ يحفظه الله ـ إلى القمة المشتركة الطارئة في شهر نوفمبر من العام الماضي والتي ترأسها صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء ـ يحفظه الله ـ وتمخض عنها قرارات وآليات غاية في الأهمية منها تشكيل اللجنة العربية / الإسلامية المشتركة برئاسة سمو وزير خارجية المملكة والتي زارت العديد من دول العالم وطرحت الحلول لإيقاف الحرب وطرح فرص السلام، ثم شكلت بالتعاون مع مملكة النرويج ودول الاتحاد الأوروبي التحالف الدولي من أجل حل الدولتين، والذي أثمر عن اعتراف عدد من الدول الأوروبية بالدولة الفلسطينية. وفي الحادي عشر من نوفمبر الماضي استضافت الرياض النسخة الثانية من القمة العربية/ الإسلامية المشتركة الطارئة لاستكمال الجهود التي بدأتها العام الماضي، وحرص صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان في افتتاح القمة على توضيح أهدافها فقال ـ يحفظه الله ـ " تنعقد هذه القمة امتدادًا للقمة المشتركة السابقة في ظل استمرار الاعتداءات الإسرائيلية الآثمة على الشعب الفلسطيني الشقيق واتساع نطاق تلك الاعتداءات على الجمهورية اللبنانية الشقيقة ، و تجدد المملكة إدانتها ورفضها القاطع للإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني الشقيق، وراح ضحيتها أكثر من مائة وخمسين ألفًا من الشهداء والمصابين والمفقودين معظمهم من النساء والأطفال، ونؤكد أن استمرار إسرائيل في جرائمها بحق الأبرياء والإمعان في انتهاك قدسية المسجد الأقصى المبارك، والانتقاص من الدور المحوري للسلطة الوطنية الفلسطينية على كل الأراضي الفلسطينية من شأنه تقويض الجهود الهادفة لحصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة وإحلال السلام في المنطقة".
وأضاف سموه : " لقد اتخذت دولنا خطوات مهمة عبر تحركها المشترك على الصعيد الدولي لإدانة العدوان الإسرائيلي الآثم وتأكيد مركزية القضية الفلسطينية، ونجحنا في حث المزيد من الدول المحبة للسلام للاعتراف بدولة فلسطين، وحشدنا للاجتماع الدولي لدعم حقوق قضية الشعب الفلسطيني. كما أطلقنا التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين بالشراكة مع الاتحاد الأوروبي ومملكة النرويج ".
وجاء البيان الختامي للقمة منسجمًا مع هذه التوجهات والجهود الرامية لإيقاف الحرب وتبني حل الدولتين، وأكد على سيادة دولة فلسطين الكاملة على القدس الشرقية المحتلة عاصمة فلسطين الأبدية ورفض أي إجراءات إسرائيلية لتهويدها وترسيخ احتلالها الاستعماري، باعتبارها إجراءات باطلة ولاغية وغير شرعية بموجب القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة وأن القدس الشريف خط أحمر للأمتين العربية والإسلامية، وهذا ما أكدت عليه القمة الخليجية/ الأوروبية التي استضافتها بروكسل في منتصف أكتوبر الماضي بمشاركة 30 زعيمًا خليجيًا وأوروبيًا.
هذه الجهود وغيرها التي تقودها المملكة على المستوى الإقليمي والدولي تهدف إلى إنهاء حالة الحرب المفروضة على المنطقة واحتوائها وعدم اتساع رقعتها وإعادة الأمن والاستقرار إلى الممرات الملاحية العالمية وفي مقدمتها البحر الأحمر وباب المندب والخليج العربي، وهذا ما يتطلب تضافر الجهود وتنسيق المواقف وإعادة اللحمة بين الدول العربية والإسلامية، وتحمل المجتمع الدولي مسؤولياته لتثبيت أركان القانون الدولي، وعلى الدول الكبرى أن تتحمل مسؤولياتها تجاه الشرق الأوسط خاصة الدول الراعية للسلام وفي مقدمتها الولايات المتحدة وعليها ألا تكيل بمكيالين، وألا تنحاز لإسرائيل بهذه الطريقة الفجة، وعليها أن تنظر إلى مصالحها في المنطقة من منظور أمريكي وليس من منظور ما تطلق عليه أمن إسرائيل فقط، وفي هذا الصدد نطالب الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب أن يتعامل مع قضايا الشرق الأوسط وفي مقدمتها عملية السلام بمنظور مختلف عن منظور الإدارة المنتهية ولايتها، بل بمنظور جديد يختلف عما كان عليه في ولايته الأولى وأن يكون أكثر حسمًا للقضايا المعلقة، وأكثر عدلًا وإنصافًا وانحيازًا للسلام العادل والشامل والدائم، حتى يجد التأييد من شعوب ودول المنطقة، وحتى يدخل التاريخ مع الزعماء الذين قدموا شيئًا نافعًا للبشرية، وهذا ما ننتظره من الرئيس ترامب في ولايته الثانية.