جدَّد فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2024م، المخاوف الأوروبية العميقة بشأن سياساته المحتملة الخاصة بالتجارة والتكنولوجيا وأوكرانيا وتغير المناخ وغيرها، والتي قد تؤدي إلى الإضرار بأوروبا، في الوقت الذي تواجه فيه القارة العجوز بالأساس تحديات جوهرية على المستويات الأمنية والاقتصادية والسياسية. هذه المخاوف تدفع قادة أوروبا إلى ضرورة مراجعة خياراتهم وإعادة تقييم استراتيجياتهم وأولوياتهم، ليس في مواجهة التحولات المحتملة في العلاقات عبر الأطلسي فحسب، بل أيضاً في مواجهة تداعيات سياسات ترامب عالمياً.
وعلى الرغم من أن الدارج في العلاقات الأوروبية / الأمريكية أن الفترة الثانية لنفس الرئيس تتسم بعلاقات أكثر ودية مع أوروبا عن فترته الأولى، فمن المرجح أن يكسر ترامب هذا النمط، وأن تكون العلاقات عبر الأطلسي، خلال ولايته الثانية، ربما أكثر توتراً من ولايته الأولى، خاصةً مع عودة سياسة "أمريكا أولاً" التي تنتهجها إدارته والتي تعطي الأولوية للعمل الأحادي الجانب، مما يشكِّل تحدياً للأطر المتعددة الأطراف التي طالما دافع عنها الاتحاد الأوروبي.
المعضلة الأمنية
إن أولويات التهديدات مختلفة بين الولايات المتحدة وأوروبا؛ فبينما تضع الاستراتيجية الأمريكية الصين في أولوية تهديداتها، تراها أوروبا بمثابة خصماً منهجياً فيما تضع روسيا كأقرب تهديد مباشر لأمنها القومي. وعلى الرغم من محاولة التوافق بين أوروبا وإدارة بايدن السابقة حول هذه التهديدات، لا يُحتمل أن يكون ترامب بمثل هذه المرونة مثلما كان الحال في ولايته الأولى.
وتتصدر المخاوف الأمنية من عودة ترامب قائمة المخاوف الأوروبية في ظل متغيرين أساسيين؛ الأول احتمال تراجع مواصلة الدعم العسكري الأمريكي لأوكرانيا في ظل إدارة ترامب وما يفرضه ذلك من ضغوط أمنية على أوروبا لسد هذا العجز، بالإضافة إلى وعد ترامب خلال حملته الانتخابية بإنهاء الحرب "في غضون 24 ساعة"، ما قد يتضمن سعيه للتوصل لصفقة سياسية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، المعروف بعلاقته الإيجابية مع ترامب، بشأن الحرب لا تأخذ في اعتبارها مصالح كييف والدول الأوروبية المجاورة، بما قد يضع أمن القارة الأوروبية عموماً تحت التهديد الروسي.
وفي حالة تجميد الدعم العسكري الأمريكي لأوكرانيا لإجبارها على القبول بالصفقة المحتملة، فإن أوروبا ستكون أمام خيارين؛ الأول هو محاولة إقناع ترامب باستمرار الدعم العسكري لأوكرانيا في مقابل التكفل بالدعم المالي والإنساني المتزايد لكييف، وهو خيار ربما يكون غير مقبولاً بالنسبة لترامب لكونه لا يحقق وعده الانتخابي بإنهاء الحرب. أما الخيار الثاني فيتضمن قيام الشركاء الأوروبيين بتطوير استراتيجية ردع نووي مستقلة عن الولايات المتحد بصفتها السبيل الوحيد المجدي في هذه الحالة للحفاظ على السلام والأمن في جميع أنحاء القارة.
الأمر الآخر المتعلق بمعضلة أوروبا الأمنية، فيرتبط بترجيح تقلص الالتزامات الأمنية الأمريكية عامةً بشأن أوروبا؛ حيث عملت الولايات المتحدة تقليدياً منذ الحرب الباردة بمثابة المظلة الأمنية للقارة الأوروبية، بيد أن ترامب خلال فترته الأولى انتقد حلفائه الأوروبيين لعدم تعزيز الإنفاق الدفاعي داخل الحلف بنسبة 2% من الناتج المحلي الإجمالي، وهدد خلال حملته الانتخابية بالانسحاب من الناتو أساساً، ما يضع أوروبا أمام أزمة أمنية جوهرية ذات تداعيات كارثية على أمنها القومي.
ولمواجهة هذه المخاوف بشكل جذري، تحتاج دول أوروبا لتعزيز استقلالها الاستراتيجي عن الولايات المتحدة كما جاء على لسان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مراراً، لكن نظراً لصعوبة تحقيق هذا الأمر، لاعتبارات عديدة من بينها ضعف الوحدة والانقسام المتزايد بين الدول الأوروبية في هذا الصدد، فمن المحتمل تماماً أن تسعى بعض دول أوروبا، وخاصةً الدول الواقعة على خط المواجهة والتي لديها مخاوف حقيقية بشأن تهديدات روسيا، إلى شراء دعم ترامب من خلال تعزيز صفقات الأسلحة الثنائية، علماً بأن هذه الدول تتمتع بالفعل ببعض أعلى الإنفاق الدفاعي في حلف الناتو، حيث تقود بولندا وإستونيا ولاتفيا الطريق، لذلك لن يزعج هذا ترامب، وسينظر إلى هذه الصفقات ببساطة بأنه قسط تأمين إضافي. ومع ذلك، يظل هذا التوجه انقسامياً إلى حد كبير وسيكون بمثابة حل مؤقت خلال فترة ترامب، بما يضاعف المعضلة الأمنية في أوروبا.
المخاوف الاقتصادية
المخاوف الاقتصادية الأوروبية لا تقل أهمية وخطورة؛ فخلال فترة رئاسته الأولى، أطلق ترامب سلسلة من التعريفات الجمركية، والمعاملات بالمثل، والحروب التجارية مع الولايات والشركات والمناطق بما في ذلك الاتحاد الأوروبي. ومن المتوقع أن يستمر هذا الاتجاه خلال فترته الثانية، إذا صدقت وعود حملته الانتخابية، بما يتضمن فرض تعريفات جمركية تتراوح بين 10-20% على جميع واردات الاتحاد الأوروبي، وهو ما من شأنه أن يخلِّف آثاراً سلبية مباشرة على اقتصادات الدول الأوروبية خاصةً ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا وغيرها.
إن تفضيل ترامب المعلن هو إعادة ضبط سلاسل التوريد لصالح الولايات المتحدة، إما من خلال التعريفات الجمركية المرتفعة بشكل مذهل أو ضمان تجميع أكبر للسلع الأجنبية بعد التصنيع في الولايات المتحدة، وهي مخاطر عالية بالفعل، خاصةً أن الولايات المتحدة تعد أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي، حيث يتم شراء كميات متزايدة باستمرار من السلع والخدمات.
في سياق متصل، فإن تهديد ترامب بزيادة التعريفات الجمركية على السلع الصينية بشكل خاص بنسبة تصل إلى 60%، بما يطلق بدوره حرباً تجارية أوسع، سيؤثر بالضرورة على اقتصادات أوروبا لأن من شأنه أن يؤدي لتحويل مسار السلع الصينية إلى أوروبا لكونها واحدة من الأسواق القليلة المتبقية المفتوحة نسبياً، وجعل المنتجات الأوروبية تتنافس مع السلع الصينية الأرخص في أوروبا وفي السوق العالمية. ناهيك عن أنه مع تصاعد الحرب التجارية مع الصين، قد يضغط ترامب على أوروبا للاصطفاف بجانب الولايات المتحدة، وهو ما يمثل أزمة اقتصادية مركبة سيكافح القادة الأوروبيون لمحاولة اكتشاف أفضل السبل للتعامل معها.
الخلاف حول سياسات البيئة والمناخ
تحتل قضايا المناخ والبيئة أولوية كبيرة لدى صانع القرار الأوروبي، إذ يقود الاتحاد الأوروبي المساعي الدولية لتقليل المخاطر البيئية التي تهدد العالم، وتهدف الصفقة الأوروبية الخضراء للاتحاد إلى الوصول للحياد الكربوني بحلول عام 2025م. بيد إن إدارة ترامب الجديدة قد تهدد التزام الولايات المتحدة بمبادرات المناخ العالمية، وذلك من خلال ثلاثة تأثيرات محتملة؛ أولها العودة إلى التوجه الأحادي في التعامل مع قضية تتطلب التزاماً جماعياً لمكافحة تغير المناخ؛ فخلال ولايته الأولى انسحب ترامب من اتفاقية باريس للمناخ، مشيراً إليها باعتبارها غير عادلة للعمال الأمريكيين ومثقلة اقتصادياً، كما سعت إدارته السابقة إلى تفكيك اللوائح البيئية الرئيسية، بما في ذلك خطة الطاقة النظيفة ومعايير انبعاثات المركبات.
التأثير الثاني يرتبط بتشكيك ترامب المستمر في اتفاقيات المناخ متعددة الأطراف، وهو ما قد تعمل عليه إدارته الثانية بنشاط لإضعاف هذه الاتفاقيات أو على الأقل تفكيكها وتحريض دول أخرى على اتباع نفس النهج. أما التأثير الثالث فيتعلق بتزايد مساحات التباعد بين الولايات المتحدة وأوروبا بشأن القضايا البيئية؛ فبينما يحاول الاتحاد الأوروبي قيادة الجهود الدولية لمكافحة تغير المناخ، تقف إدارة ترامب على النقيض من ذلك، على الأقل عبر دعم المنافسة من مصادر الطاقة التقليدية لتحقيق أقصى ربح. كل هذا من شأنه أن يعيق الجهود العالمية في هذا المجال ويفرض ضغوطاً إضافية على دور الاتحاد الأوروبي في هذا الإطار وعلى مجمل العلاقات عبر الأطلسي.
دعم التيارات الشعبوية داخل أوروبا
يعد صعود التيارات الشعبوية المتطرفة أحد أكبر مصادر القلق داخل أوروبا منذ عام 2016م، وتأتي إعادة انتخاب ترامب لولاية ثانية لتضيف بُعداً مركباً لهذا القلق خاصة مع تغير المشهد السياسي العام داخل أوروبا لصالح التيارات القومية. ففي عام 2016م، كانت التيارات الوسطية تقود الدول الأساسية في أوروبا؛ بداية من أنجيلا ميركل في ألمانيا، وماكرون في فرنسا، ومارك روته في هولندا، وجوزيبي كونتي في إيطاليا. حالياً هذا المشهد تغيَّر وفي سبيله لمزيد من التغيير؛ ففي ألمانيا، يصعد حزب البديل بشكل ملفت في الانتخابات المحلية، وفي المقابل انهار ائتلاف "إشارات المرور" الحاكم بقيادة شولتز في نفس يوم إعلان فوز ترامب بالانتخابات الأمريكية، وفي فرنسا لازالت تهديدات صعود حزب مارين لوبان لها وجاهتها مع تراجع حزب ماكرون وتعقُّد الأزمة السياسية الداخلية، وفي هولندا، يعد حزب الحرية اليميني المتطرف أكبر شريك في الائتلاف، بينما في إيطاليا ترأس جيورجيا ميلوني، ذات الجذور الفاشية، الحكومة، وفي المجر يحتفي رئيس الوزراء فيكتور أوربان الشعبوي بفوز ترامب التاريخي.
الأزمة الجوهرية هنا أن ما يجمع بين هؤلاء الزعماء الشعبويين هو التشكك العميق في الاتحاد الأوروبي والرغبة في تآكله من الداخل، وبينما أجبرت بعض التحديات الاقتصادية المحلية بعض هؤلاء القادة القوميون على تكييف سياساتهم مع سياسة الاتحاد الأوروبي، مثل حالة إيطاليا، فإن الوضع الحالي قد يدفع هؤلاء القادة لمراجعة مواقفهم وإعادة التموضع مع إدارة ترامب الجديدة، خاصةً في ظل التوافق بين هؤلاء الزعماء وترامب على التهديد الوجودي المتصور الذي تشكله الهجرة، وضرورة العودة إلى "القيم الأسرية المحافظة" و"مكافحة اليقظة"، ما يجعل ترامب غير معزولاً داخل أوروبا، وهو ما يعقِّد متطلبات الوحدة الأوروبية، ويهدد في الوقت ذاته المشروع الأوروبي برمته مع تعزيز الانقسام بين دوله الأعضاء.
إن جميع هذه التصورات المتشائمة لا تنفي بالضرورة احتمالات التعاون المشترك في بعض الملفات، خاصةً في ظل حاجة كل طرف للآخر؛ فالولايات المتحدة تحتاج لأوروبا لتعزيز ضغوطها على الصين، فيما لاتزال تحتاج أوروبا للولايات المتحدة أمنياً واقتصادياً وتكنولوجياً. ونظراً لأنه من الواضح أن الطرف الأكثر تأثراً سيكون أوروبا، فإن على الأخيرة ضرورة إعادة تقييم استراتيجيتها في عالم متغير، فضلاً عن التخلي عن رفاهية الاعتمادية وأخذ زمام المبادرة للحفاظ على أمنها بنفسها في المقام الأول مهما كلَّف الأمر.
ختاماً، لا شك أن إعادة انتخاب ترامب كانت بمثابة خبراً سيئاً لقادة أوروبا، لأنها تشير إلى العودة إلى التحديات المألوفة في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، والتي تتسم بالتوترات في التجارة، والدبلوماسية المناخية، والالتزامات الأمنية. ومع ذلك، فإن عودة ترامب تحمل سيناريوهين محتملين لأوروبا لا ثالث لهما؛ إما تعزيز الوحدة والتماسك في مواجهة سياساته المحتملة وإطلاق القوة الجيواقتصادية الأوروبية، أو زيادة الانقسام والتفكك الداخلي في النظر للعلاقات عبر الأطلسي وتهديد المشروع الأوروبي بأكمله.