يدرك الرئيس الأمريكي ترامب والحزب الجمهوري أن الشرق الأوسط كان مؤثرًا على الانتخابات الأمريكية الأخيرة، بطريقة لم تعهدها أمريكا من قبل، فحرب الشرق الأوسط فرضت نفسها على حملتى المرشحة الديمقراطية للرئاسة هاريس والمرشح الجمهورى ترامب. حيث أثارت حرب إسرائيل على غزة ولبنان ردود فعل شعبية غيرمسبوقة في أمريكا، إذ امتلأت شوارع واشنطن وغيرها من المدن باحتجاجات كبيرة، كما مثلت مواقف مرشحي الرئاسة الأمريكية من قضايا الشرق الأوسط نقطة محورية وجدلية في السباق إلى البيت الأبيض.
وتعول شعوب ودول الشرق الأوسط على دورأمريكي مختلف في الولاية الثانية لترامب فيما يتعلق بالحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان، فما الذي يمكن أن يقدمه ترامب؟، وما مدى الاتجاه الذي ستسلكه الإدارة الأمريكية الجديدة بعد انتقال السلطة الرئاسية؟
ومهما كانت مآلات صراع الشرق الأوسط، فسيكون هذا الملف في أولويات أجندة البيت الأبيض، بالنظر لكثافة الانخراط الأمريكي في الصراع وعلى جبهات متعددة: غزة ولبنان وإيران والجماعات أوالدول المتحالفة معها في اليمن والعراق.
- العوامل التي تدفع ترامب للبحث عن تسويات
أولها : يدرك ترامب والحزب الجمهوري والذي فازباكتساح في الانتخابات الأمريكية " رئاسية وكونجرس " أنه ولأول مرة في تاريخ الإنتخابات الأمريكية مثلت قضايا الشرق الأوسط عامل حسم في الصراع الإنتخابي، كما مثلت تحولا مهما في تأثيرهذه الملفات كقضايا سياسة خارجية على اختيارالناخب الأمريكي لرئيسه، خاصة وأن الغضب الشعبي والمظاهرات التي انطلقت ضد سياسة بايدن- هاريس في مواجهة حرب إسرائيل على غزة ولبنان كانت دافعًا لتصويت الناخب الأمريكي خاصة العرب والمسلمين في الولايات المتأرجحة لشعار ترامب إنهاء الحروب ضد منافسته هاريس، فصراع الشرق الأوسط "تسبب في تأثير سلبي على معسكر هاريس لعدم قدرة بايدن على وقف الحرب،بل تماديه في تزويد إسرائيل بالأسلحة، ما جعل الأقليات وخاصة أغلبية الأقلية العربية والمسلمة تصوت لترامب في الولايات المتأرجحة التي حسمت الانتخابات، فحصد 94 من المندوبين لسبع ولايات متأرجحة فى المجمع الانتخابى.
المعركة كانت فى الولايات المتأرجحة، حيث استفاد ترامب من غضب الناخبين العرب والمسلمين على أداء إدارة بايدن، واستغل ترامب والحزب الجمهوري هذا الغضب وقطعا وعودًا ورفعا شعارات " انهاء الحروب "، ومن ثم فوفاء ترامب والجمهوريين بهذه الوعود يصبح ضرورة للحفاظ على شعبيته التي اكتسبها بفضل فشل سياسة إدارة بايدن / هاريس.
ثانيًا: يدرك ترامب وحزبه ضرورة الاستقرار في البيئة الخارجية لتحقيق الرخاء والازدهار لأمريكا، فهو يتفاخر بأن فترته الأولى لم تشهد حروبًا، بل شهدت ازدهارًا اقتصاديًا لأمريكا، وأنه لو كان رئيسًا ما اشتعلت كل هذه الحروب، ومن ثم فإنهاء الحروب الخارجية لها آثار إيجابية عدة، وأهمها توفيرالأموال التي تنفق على حروب الخارج والتي بلغت في حالة أوكرانيا 90 مليار دولار حتى عام 2024م، وفي حالة إسرائيل 25 ملياردولا منذ 7 أكتوبر 2023م، وحتي نوفمبر 2024م، وما إجماليه 308.5 مليار دولارلإسرائيل منذ 1959م، وحتي نوفمبر 2024م، ومن ثم فإنهاء الحروب سيمكن إدارت ترامب من تحقيق وعده للشعب الأمريكي بعودة الازدهارالاقتصادي.
ثالثًا: شخصية وقناعة ترامب الذي جاء من خلفية غيرسياسية كرجل أعمال مغامر، ستلعب دورًا كبيرًا مدعومًا بانتصار كاسح شعبيًا في الانتخابات الرئاسية جعل منه مفوضًا من الشعب الأمريكي لتحقيق شعاراته الانتخابية على أرض الواقع في شكل سياسات، وخاصة أنه حصل على تفويض من ولايات ديمقراطية التوجه فضلًا عن الولايات المتأرجحة بسبب قوة خطابه ووعوده المتعلقة بإنهاء الحروب.
رابعًا: بعد إخفاقات أمريكا في حربي العراق وأفغانستان، وتقليص التواجد العسكري في الشرق الأوسط التي سعت إدارة الديمقراطيين (أوباما وبايدن) والجمهوريين (ترامب بالدورة الأولى) إلى تنفيذها، يبدو أن الرياح سارت بما لا تشتهيه سفن واشنطن التي كانت تضع في أولوياتها تطويق صعود الدورالصيني وزيادة تواجدها ونفوذها في آسيا، فقد اندلعت حرب أوكرانيا وألقت على واشنطن أعباء جيوسياسية كبيرة، ومن ثم فقد يتجه ترامب للبحث عن تسويات في الشرق الأوسط أولًاثم لمعضلة الحرب الأوكرانية، حتى يتفرغ للصين.
خامسًا: سعي ترامب لمواجهة تزايد النفوذ الصيني والروسي في الشرق الأوسط، حيث أصبح مرحب بهما شعبيا ورسميا وكبدائل قوية للدورالأمريكي، يدفع ترامب لتنفيذ شعاراته بإنهاء الحروب وبطريقة مقبولة لاستعادة الدور الأمريكي وللحفاظ على المصالح الأمريكية المهددة. خاصة أن الجمهوريين يدركون ما تواجهه الإدارة المقبلة، من معضلة ملاءمة موارد القوة العسكرية والمالية والتكنولوجية مع متطلبات القيادة الأمريكية للعالم، فضلًا عن مؤشرات تدل على تراجع النفوذ الأمريكي بالشرق الأوسط، ويتوقع أن تكون لذلك تداعياته في المرحلة المقبلة على صعيد تسوية أزمات الشرق الأوسط ومناطق أخرى من العالم، ومن هذه المؤشرات:
الأول: تنامي علاقات الشراكة الاقتصادية والعسكرية بين المنافس الصيني والروسي ودول عربية حليفة للولايات المتحدة مثل السعودية والإمارات ومصر.
الثاني: تحقيق روسيا اختراقات للعقوبات وبناء علاقات أمنية واستراتيجية على حساب نفوذ الغرب في دول عربية حليفة (للغرب) وأخرى مناوئة للسياسة الأمريكية. كما تواصل روسيا محاولات لعب أدوار أمنية وعسكرية في مناطق أزمات مثل السودان وليبيا واليمن ولبنان وسوريا، من شأنها تعقيد الأوضاع على الغرب هناك.
ومن ثم فتطورات الوضع في الشرق الأوسط ومآلات الصراع بين إسرائيل وإيران ووكلائها بالمنطقة، ستكون عاملًا رئيسيًا في تحديد التوجهات أوالأولويات التي سيركز عليها الرئيس الأمريكي الجديد في سياسته بالمنطقة.
- محددات قدرة ترامب على تنفيذ وعوده
بالانطلاق من الخلفية التاريخية للسياسة الأمريكية في المنطقة وحجم انخراطها الاستراتيجي حاليًا في الصراع القائم، فإن صياغة سياسة أمريكا المستقبلية، تبدو أكثر تعقيدًا، فهناك عوامل مؤثرة على قدرة ترامب لتنفيذ وعوده، وهي:
أولا: التغيرات في أدوار ومصالح القوى العظمى المتنافسة على النفوذ في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مثل الصين، وروسيا، وأوروبا، وإيران، وإسرائيل، وتركيا.
ثانيًا: حدود ومستقبل الصراع بين الصين وروسيا مع أمريكا، ومن أجل تعزيز المصالح الأمريكية وتمكينها من التفوق على منافسيها الجيوسياسيين، تسعي واشنطن لتأكيد القيادة الأمريكية للعالم من خلال تركيز استراتيجية الأمن القومي الأمريكي في منطقتين محوريتين هما أولوية الصين ودول منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وعلى أوروبا وبالتحديد على روسيا وما تمثله من تهديد للأمن والاستقرارالأوروبي وخطرالتهديدات النووية الروسية على الأمن العالمي والتداعيات المحتملة للأزمة الأوكرانية على مستقبل النظام العالمي، كل ذلك يدفعها لتخفيف تواجدها العسكري بالشرق الأوسط من خلال وضع نهاية للحرب الحالية.
ثالثًا: تبني كل من الجمهوريين والديمقراطيين نظرية إعادة تشكيل الخريطة الجيوسياسية للشرق الأوسط لتحقيق الشرق الأوسط الجديد بممارسة الضغوط على الدول المعنية لتحقيق هذا الهدف، وتبني الوجود العسكري المباشرلتأمين تدفق النفط إلى العالم وبأسعار مقبولة.
رابعًا: رؤية الدولة العميقة في أمريكا لهذه الصراعات ولآليات تسويتها وخاصة الجيش الأمريكي والمخابرات المركزية ومجلس الأمن القومي الأمريكي والكونجرس، وهي أحد أهم هذه المحددات.
خامسًا: مدى نجاح مراجعة قواعد "برايتون" التي قامت عليها منظومة المؤسسات المالية والنقدية الدولية بعد الحرب العالمية الثانية لمعالجة الاختلالات في العلاقات الاقتصادية والمالية على الصعيد العالمي، وتشكيل تلك المبادرات لاتجاهات وتكتلات دولية تسعى لإعادة توزيع الأدوار وتغيير موازين القوى الاقتصادية في العالم ومنها بريكس، والتي سيكون لها تأثير إيجابي على دول الشرق الأوسط المعنية من حيث زيادة مساحة وقدرة حركتها على المناورة السياسية في مواجهة الضغوط الأمريكية.
سادسًا: التغييرات في أشكال ومحتوى النفوذ وصراعات القوة الناعمة الدولية، وظهور قدرات جديدة متعددة الأبعاد تخترق وتتجاوز الخطوط الحمراء لمنظومات القيم والمواثيق التي شكلت على مدارعقود من الزمن ركيزة أساسية للنظام الليبرالي الغربي الأمريكي مقومًا أساسيصا في قوة الغرب الناعمة، ما يتيح للدول العربية هامشًا للمناورة والحركة في عدة ملفات.
سابعًا: تنامي حجم المخاطر ذات الطابع الكوني على دول المنطقة وتزايد مؤشرات عجز الأخيرة في مواجهتها منفردة في ظل أزمات اقتصادية، ما يدفع واشنطن للتدخل لوقف الحروب الدائرة.
- ماذا يُنتظر من الإدارة الأمريكية الجديدة في الشرق الأوسط؟
رغم النظرة السلبية المتزايدة في الشارع العربي للدور الأمريكي في الشرق الأوسط، تدرك الشعوب والدول العربية بأن تأثير واشنطن كبيرعلى قرارالحرب أو السلم في المنطقة، ومن هنا يمكن القول بأن سقف الانتظارات في العالم العربي من الإدارة الأمريكية المقبلة: هي في أدناها وقف الحرب وفي أقصاها التوصل لتسوية سلمية عادلة، عبر حل الدولتين.
وأطلق ترامب مشروع 2025م، وبقدرما تبدو رؤية ترامب متباينة جدًا عن رؤية الديمقراطيين حول إدارة أزمة الشرق الأوسط ومخرجاتها، فثمة عناصرمشتركة بينهما. من أبرزها، أن ترامب سيسير وفق مسارالاستمرارية على النهج الذي اتبعته إدارة بايدن، فيما يتعلق بمواصلة الدعم العسكري والمالي لإسرائيل، ويرى ترامب نفسه الرئيس الأكثر تأييدًا لإسرائيل فى تاريخ أمريكا، ففى ولايته الأولى، حقق العديد من الرغبات التى طالما تمسكت بها إسرائيل: ومنها ،نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس المحتلة عام 2018م، وفى نوفمبر 2019م، تخلى ترامب عن الموقف الأمريكى الذى دام عقودًا من الزمان، والذى يرى أن المستوطنات فى الضفة الغربية تشكل عائقًا رئيسيًا أمام السلام، وفى مارس 2020م، اعترفت إدارة ترامب بمرتفعات الجولان السورية المحتلة، كأرض إسرائيلية، ثم خفض ترامب التمويل لوكالة «أونروا»، ويتحدث عن دعم إسرائيل عسكريًا من أجل ما وصفه بالفوزالسريع وليس الحرب الطويلة، وحذر من إبادة إسرائيل، مشيرًا أنه سيكون حاميًا لأمنها، وأنه لا يوجد حامٍ لإسرائيل على الجانب الآخر، فى إشارة للديمقراطيين . كما يشكل العمل على تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية عنصرًا مشتركًا في خطط الحزبين.
التباين الرؤية بين ترامب وإدارة بايدن، فيما يمكن أن تطرحه إدارة ترامب كمخرج للأزمة الحالية، وستنطلق من رصيد الضغط الذي مارسته إدارة بايدن على إسرائيل للحد من الأضرار الناجمة عن العمليات العسكرية الإسرائيلية، عبر التوصل لوقف إطلاق النار في غزة ولبنان، ودعا نتنياهو لإنهاء سريع للحرب، والتفاصيل تكون لاحقاً، قائلاً إن إسرائيل "تخسر حرب العلاقات العامة" بسبب الصورالتي يشاهدها العالم من غزة، وذلك قد يجعل ترامب يبني على دعوات إعادة التفكير في ممارسة ضغوطه على الحكومة للاستجابة لمطلب وقف الحرب. وقد يضغط ترامب على نيتانياهو لإنهائها أكثر مما كان بايدن قادرًاعلى القيام به.
ويرى محللون أن ترامب في دورته الثانية قد يكون مختلفًا عن ترامب في دورته الأولى، وسيعود لأفكاره التي كان قد أعلنها كمرشح عام 2016م، حيث رأى أنه لابد أن تكون إسرائيل على استعداد للتضحية بأشياء معينة لتحقيق السلام مؤكدًا على قوة دعمه لأمن إسرائيل، وأنه يتعين على الفلسطينيين أن يأتوا إلى طاولة المفاوضات وهم يدركون أن الرابطة بين أمريكا وإسرائيل غيرقابلة للكسر، وفي يناير 2020م، ومن المتوقع أن يطرح ترامب مجددًا خطته " صفقة القرن "، والتي قوبلت برفض الفلسطينيين ودول عربية. وكانت خطة السلام من أجل الازدهار، التى وضعها مبعوثه كوشنر بالتشاورمع حكومة نيتانياهو، قضت على الطريق إلى دولة فلسطينية قابلة للحياة بتقسيم الأراضى الفلسطينية، وتطويقها ومنح إسرائيل السيطرة الكاملة على الأمن الفلسطينى. وخلال المناظرة الرئاسية فى يونيو 2024م، أجاب ترامب، بسؤاله عما إذا كان سيدعم دولة فلسطينية مستقلة، بالقول: «أريد أن أرى».
ويري بعض المراقبين أنه مع الضغوط التي تواجهها الإدارة المقبلة على الصعيد المحلي الأمريكي بسبب المقاومة للبيروقراطية في مؤسسات صنع القراروالضغوط المنتظرة من اللوبي الإسرائيلي في الكونجرس، يتوقع أن يكون ترامب متحيزًا لحكومة نتنياهو ولليمين الإسرائيلي المتطرف الذين فضلوا فوزه، فقد يمنحهم ترخيصًا لتسريع طرد الفلسطينيين من أراضيهم، وقال في اجتماع انتخابي عام 2024م، بأن "مساحة إسرائيل صغيرة، ولطالما فكّرت كيف يمكن توسيعها "، وأثارت هذه التصريحات ردود فعل غاضبة في العالم العربي. وربما يكون أفضل دليل على ما قد يفعله ترامب فى فترة ولايته الثانية، هوما قاله أقرب مستشاريه ديفيد فريدمان، سفير ترامب السابق فى إسرائيل، مؤخرًا عن خطة لضم الضفة الغربية إلى إسرائيل؛ ووصف صهره كوشنر الدولة الفلسطينية بأنها «فكرة سيئة للغاية».
متوقع شروع ترامب في وقف الحرب الإسرائيلية ـ اللبنانية استجابة لوعود قطعها للجالية اللبنانية خاصة صهره مسعد بولس وأنصاره، حيث وصف ترامب الحرب الإسرائيلية على لبنان بأنها غير مقبولة ويجب أن تنتهي خلال جولته فى ميشيجان، قائلًا إن الشرق الأوسط الجديد يجب أن يشهد السلام والسعادة بعد سنوات من المعاناة.
وتأتي سياسة "ترامب" تجاه إيران متفقة مع سياسات الحزب الجمهوري الذي يتبني عدم السماح لإيران بأن تصبح قوة نووية وفرض عقوبات وحصاراقتصادي صارم والعمل على تغيير النظام الإيراني وشن هجمات استخباراتية على برنامج إيران النووي، في إطار"سياسة الضغط الأقصى تجاه إيران"، ربما للتوصل إلى اتفاق جديد مع طهران بشروط جديدة أوتقييد قدرة إيران ومنعها من أن تصبح قوة نووية، وقد دافع ترامب عن الانسحاب من خطة العمل المشتركة عام 2015م. وزعم أن هذا النهج يفرض ضغوطا على إيران ويقلل من قدرتها على تمويل الجماعات الوكيلة. ورغم أن ترامب هو من فتح باب الاغتيالات لكبار المسؤولين الإيرانيين باغتيال قاسم سليمانى، لكنه ألغى ضربة صاروخية على إيران فى يونيو 2019م، لأنه اعتقد أن الخسائر المدنية غير متناسبة مع الرد، فإحدى نقاط الاتساق فى السياسة الخارجية لترامب هى نفوره من تورط بلاده فى الحروب الخارجية، والميل للتسويات.
لذا من المتوقع تجنبًا للتصعيد، لكثافة الانخراط الإيراني في شؤون المنطقة والتصعيد الإسرائيلي / الإيراني، وبسبب مخاطر إمتلاك طهران لسلاح نووي، سيتجه ترامب في نهاية المطاف لصيغة تسوية سياسية مع إيران. ولكن فى غياب أهداف واضحة أواستعداد للتفاوض مع طهران لاحتواء المزيد من التقدم النووى، فقد تكون النتيجة جولة أخرى من عدم الاستقرار.
لذا سيتجنب ترامب سيناريو المواجهة العسكرية مع إيران، مطبقًا استراتيجية الضغوط القصوي والتفاهم مع إسرائيل بشأن إيران ودورها في المنطقة من لبنان إلى العراق وصولًا إلى اليمن، وسيدعم عمليات تل أبيب العسكرية والاستخباراتية دون أن يتورط فى حرب شاملة مع إيران، وفيما يتعلق بسوريا يري ترامب ضرورة رحيل بشارالأسد وتغيير النظام السوري بنظام ديمقراطي يستوعب كل الطوائف السورية مع تفضيل الضغوط السياسية ودعم المعارضة السورية و العمل مع المجتمع الدولي والأمم المتحدة لحل الأزمة السورية سواء بالطرق السياسية أوالحل العسكري.
وفي ظل حالة تشتيت ملحوظة للقوى الأمريكية على جبهات وأزمات عديدة في العالم، يرصد محللون خمسة أمثلة لأزمات جيوسياسية في منطقتي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يمكن أن تضع الإدارة الأمريكية المقبلة أمام خيارات صعبة.
1/ مستقبل الشراكة مع العراق: في ظل سعي الديمقراطيين والجمهوريين لتقليص التزامات الجيش الأمريكي وانسحابه المؤجل بسبب الاستحقاقات الجديدة في الشرق الأوسط خشية زيادة نفوذ إيران في العراق، وستجده إدراة ترامب ملفًا ساخنًا في أجندتها، حيث سبق لترامب أن انتقد سحب القوات الأمريكية من أفغانستان، وسحب القوات الأمريكية من العراق، وتركها ساحة للنفوذ الإيراني.
2/ علاقة صعبة مع تركيا: رغم أنها حليف رئيسي لأمريكا في الناتو، إلا أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة تواجه صعوبات كبيرة في إدارة العلاقة مع أنقرة التي تمارس لعبة شد الحبل مع واشنطن، بينما تعمّق علاقاتها مع الصين وروسيا.
3/ ومن المتوقع أن تتواصل الصعوبات في التعامل مع الملف الكردي وخصوصًا على الجبهة السورية، حيث تصطدم المصالح الاستراتيجية الأمريكية في شمال سوريا بأولويات سوريا والعراق وتركيا في رفض بروز كيان كردي يهدد بمزيد من التفتيت لهذه الدول.
4/ ملف الصحراء الغربية: منذ اعتراف ترامب بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، في اتفاق ثلاثي بين إسرائيل والمغرب وأمريكا سنة 2020م، أصبحت سياسة واشنطن في ظل الجمهوريين والديمقراطيين رهينة لرؤية ترامب، التي سيتم تعزيزها في ولايته الثانية، ولكنها تواصل نهج احتواء الخلافات مع الجزائروكبح اتجاهها للتحالف مع روسيا والصين، خاصة أن العلاقات الجزائرية / الأمريكية تمر باضطرابات صعبة لكن الطرفين يحرصان على الحفاظ عليها.
وتظل الرؤية الأمريكية لدى الديمقراطيين والجمهوريين تلتقي حول نقطتين: أهمية دور الجزائر كمزود رئيسي بالطاقة لحلفاء واشنطن الأوروبيين، وللدورالذي يمكن أن تلعبه الجزائر بحكم موقعها الجيوسياسي في مواجهة المخاطرالأمنية في منطقة الساحل والصحراء.
5/ يسود شعور الخيبة من السياسة الأمريكية لدى قطاع واسع من النخب والشعوب العربية بسبب استغلال واشنطن لقضايا حقوق الإنسان والديمقراطية في العالم العربي لتحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية، ومن المرجح أن يتعمق التشاؤم في العالم العربي إزاء الدور الأمريكي، إذ يرجح أن تواصل إدارة ترامب نهجها المعتاد الذي يتسم بالإزدواجية واستغلال هذه القضايا بطريقة تحقق مصالحها.
مع التطورات الجديدة، أخذ إقليم الشرق الأوسط يشهد تحولات مهمة بعضها جاء ضمن أصداء التحدي الروسي غير المسبوق لأمريكا بالدخول عسكريًا إلى أوكرانيا (24/2/2022م)، الذي كان بمثابة انقلاب روسي على نظام القطب الواحد، وبعضها نتيجة تراجع ثقة الحلفاء في وفاء الأمريكيين بالتزاماتهم الأمنية، على نحو ما تكشف من ضعف رد الفعل الأمريكي على التهديدات التي تعرضت لها مصافي أرامكو النفطية السعودية بسبب القصف الصاروخي من جانب ميليشيات الحوثي 2019م، في عهد ترامب نفسه، ولذلك شهد عام 2022م، تمرد عدد من الدول الشرق أوسطية على الزعامة الأمريكية، مثل دعم السعودية لقرار منظمة أوبك - بلس، والتمرد الإيراني في محادثات الاتفاق النووي وتصعيد تخصيب اليورانيوم كخيار بديل للعودة للاتفاق بالشروط الأمريكية، ثم اتجاه إيران لتوقيع معاهدة تحالف طويل المدى مع الصين وتكثيف الشراكة الاستراتيجية مع روسيا، في الحرب الأوكرانية، وامتد التمرد الشرق أوسطى إلى تركيا التي اتجهت إلى مزيد من التعاون مع روسيا.
المؤكد أن التحديات باتت ضخمة أمام السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط على ضوء ثلاثة عوامل:
الأول: دول الشرق الأوسط ليست مغيبة عن التطورات العالمية، وما يتعلق بالصراع الدائر على قمة النظام العالمي بين كل من الصين وروسيا من ناحية وبين واشنطن من ناحية أخرى، وهو الصراع الذي يتجه لصالح محور الصين-روسيا الذي يكبر ويتأكد يومًا بعد يوم وفقًا لاتفاق الشراكة الاستراتيجية بينهما، وتأكيدهما تعزيز التعاون بين القوات المسلحة لروسيا والصين، واستعداد الصين للعمل مع روسيا والقوى التقدمية في أنحاء العالم لمواجهة القطب الواحد (أمريكا) والحمائية والترهيب.
وتؤكد التطورات العالمية بوضوح أن العالم يميل نحو الشرق، وستحكمه آسيا ولن يكون أمام الغرب سوى التكيف، خاصة أن الأزمات العالمية الحالية أدت إلى ظهور قطبين متعارضين هما أمريكا، التي لا تزال سيدة الغرب المتداعي، وآسيا التي يجسدها محور موسكو بكين. ودول الشرق الأوسط ستسعى إلى تحقيق التوازن في علاقاتها مع الولايات المتحدة والصين وروسيا، خاصة في المجالات الاقتصادية والعسكرية، ما سيشكل معضلة لواشنطن مع شركائها، الأمر الذي يفرض على أمريكا الاجتهاد في تبني سياسات يكون في مقدورها إعادة كسب الحلفاء واحتواء نفوذ للصين وروسيا في الشرق الأوسط.
الثاني: جدية المساعي الصينية والروسية على توسيع مناطق النفوذ وتأسيس شراكات اقتصادية واستراتيجية مع كبرى الدول الإقليمية الشرق أوسطية. هذه الجدية تكشفت خلال القمم الثلاث التي شارك فيها الرئيس الصيني بالمملكة العربية السعودية (8-9/12/2022): القمة الصينية -السعودية، والقمة الصينية -الخليجية، والقمة الصينية-العربية. كما جسدتها السياسة الروسية القائمة على تعزيز التعاون والشراكات مع دول المنطقة.
ما يعنى أن هذا النموذج الجديد من الشراكات الروسية والصينية مع العرب لا يقوم على فرض الوصاية والهيمنة، كما هو الحال في نموذج الشراكة الأمريكي خاصة والغربي عامة، كما يقوم النموذج الصيني الروسي للشراكة مع العرب على احترام الإرادات والخصوصيات العربية، كما أنه يقوم على التقارب الحضاري التاريخي الصيني -العربي، والروسي العربي وليس ما يطرحه الغرب من صراع بين الحضارات والاستعلاء بالحضارة الغربية على ما عداها، ناهيك عن فوبيا العداء للإسلام.
كما تؤكد هذه الشراكات على التعاون الشامل والتنمية المشتركة لمستقبل أفضل، والالتزام بمبادئ الاحترام المتبادل لسيادة ووحدة الأراضي وسلامتها الإقليمية، ومركزية القضية الفلسطينية التي تتطلب إيجاد حل عادل ودائم لها على أساس (حل الدولتين) من خلال إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، وإقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما تفتقده الشراكات والعلاقات العربية مع واشنطن والدول الأوربية. كما أن التواجد الروسي القوي في الشرق الأوسط تجاوز إيران إلى تركيا وظهر ذلك في سياسات التنسيق الروسي-التركي بخصوص أوكرانيا، وسوريا.
واستطاعت تلك الشراكات مع الصين وروسيا أن تحقق اختراقات مهمة في علاقاتها مع أطراف شرق أوسطية متعددة ما أثار غضب الإدارة الأمريكية على نحو ما حذر جون كيربي المتحدث باسم الأمن القومي من تلك الشراكات، واعتبر أنها تلحق أضرارًا بالمجتمع الدولي.
الثالث: العلاقة شديدة الخصوصية والتفرد التي تربط أمريكا بإسرائيل، تقف حجرعثرة بين الدول العربية وأمريكا. كانت الدول العربية مضطرة، لاعتباراتها وحساباتها المصلحية الخاصة، أن تتقبل التجاوزات الأمريكية فيما يتعلق بدعم السياسات العدوانية الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، وعدم احترام حقوقه، والحيلولة دون صدور قرارات إدانة ضد الجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني.لكن الآن وفي ظل وجود ما يمكن اعتباره قوى دولية منافسة ولديها الاستعداد لاحترام المصالح العربية والإقراربالحقوق الفلسطينية، فإن الدول العربية الحليفة لواشنطن ستجد لديها مساحة معقولة من التمرد على السياسات الأمريكية المنحازة.
هذا التطور يضع واشنطن أمام مأزق يزداد تأزمًا يومًا بعد يوم، خاصة بعد أن بدأت الدول العربية تدرك أنه في مقدورها التمرد على السياسة الأمريكية المنحازة للاحتلال الإسرائيلي، خاصة أن النهج الأمريكي أدى إلى زيادة انصراف دول المنطقة عن واشنطن والشك في نواياها، وعليه ستبقى قدرة واشنطن على استعادة نفوذها في المنطقة غير محسومة، خاصة أن الصين، أصبحت أكبر شريك تجاري واستثماري للشرق الأوسط كما أن دول، مثل روسيا وتركيا والهند ذات تواجد كبير.
وأخيرًا، الحكومة الأمريكية المقبلة سيكون عليها إدراك حقيقة أن علاقاتها مع الدول العربية والإسلامية والإفريقية تأثرت سلبًا بدعمها غير المشروط لإسرائيل، في الوقت الذي يتزايد فيه تعاطف دول العالم مع القضية الفلسطينية. كما أن هذه الدول تنظر بعدم ارتياح إلى الدعم الأمريكي المستمر لأوكرانيا في حربها ضد روسيا؛ وهي الحرب التي أدى استمرارها إلى معاناة الكثير من شعوب العالم من ارتفاع أسعار العديد من السلع الأساسية. معنى ذلك أن هذه الدول لا تتوقع الكثير من ترامب؛ في حين قد يحتاج الرئيس الجديد إلى بذل جهد أكبر لترميم صورة واشنطن لدى هذه الدول. وذلك بتغيير نظرته إلى الشرق الأوسط وإفريقيا باعتبارها قوة مهمة وليست مجرد مكون أصغر في الصراع الجيوسياسي الأكبر للولايات المتحدة مع الصين أو روسيا، كما فعل خلال فترة ولايته الأولى في منصبه؛ مما أثار استياء العديد من هذه الدول.