يواجه لبنان فترة صعبة من عدم الاستقرار على كافة الصعد، وهو فعلياً على مفترق طرق، نظراً للحاجة المُلّحة للوصول إلى حلول تُعيد الأمن والاستقرار إلى هذا البلد من جهة، ولاحتمالية بقاء التصعيد العسكري متواصلاً إذا استمر الصراع الدامي مع إسرائيل، من جهة أخرى. لذلك، أمام لبنان خيارات عدة، تتمثل بالسعي الحثيث للتوافق والبدء في إيجاد الحلول، أو ترقب المزيد من الاحتلال الإسرائيلي لأراضيه والاستباحة الغاشمة لدماء شعبه.
أولاً) الوضع المتأزم في لبنان
الوضع الحالي في لبنان في ظل الصراع الجديد مع إسرائيل يشهد تأزماً شديداً، من أبرز مظاهر هذا التأزم:
- أزمة سياسية، إذ يعاني لبنان من فراغ رئاسي منذ أكثر من عامين، لتعذر انتخاب رئيس للجمهورية نتيجةً للانقسامات العميقة بين الأحزاب السياسية والطوائف. عطّل هذا الفراغ عمل مؤسسات الدولة وفاقم من غموض مستقبل لبنان السياسي. علماً أن المشكلة لا تنحصر بعدم وجود رئيس وحسب، بل أيضاً بأن الحكومة الحالية هي حكومة تصريف أعمال، وبأن البرلمان اللبناني لا يجتمع.
- أزمة اقتصادية، يمر لبنان بأسوأ أزمة اقتصادية في العالم منذ عام 2019م، بعد أن انخفضت قيمة الليرة اللبنانية بشكل كبير مقابل الدولار، وتبخرت أو تجمدت الودائع البنكية، أثّرت على الحياة اليومية للمواطنين وأدت إلى تدهور قدرتهم الشرائية.
- حدوث انفجار مرفأ بيروت عام 2020م، الذي حصد مئات القتلى والجرحى، وما أعقبه من انقسامات سياسية وشلل مؤسساتي.
- تدهور اجتماعي، حيث ارتفعت معدلات البطالة بشكل كبير بين اللبنانيين، وأصبح معظمهم يواجهون صعوبة في تأمين الكهرباء والمياه والرعاية الصحية.
- فساد إداري وسياسي، إذ فاقم الفساد المستشري في المؤسسات من معاناة اللبنانيين، وشكل النظام السياسي الطائفي عقبة أمام إقرار سياسات فعالة لتحقيق الإصلاحات المطلوبة.
- تأثيرات إقليمية، عانى لبنان ولا يزال من الخلافات الإقليمية، خاصةً من الحرب في سوريا، التي أدت إلى تدفق أعداد ضخمة من اللاجئين إلى لبنان.
- تدخل خارجي، رغم استقلال لبنان منذ عقود، لا يزال يشهد تدخلات خارجية، فاقمت من أزمات لبنان الداخلية ومحنه المتتالية.
- تكللت مآسي لبنان، بالعدوانَ الإسرائيلي الجديد في سبتمبر 2024م، الذي نتج عنه نزوح أكثر من مليون ونصف لبناني في وطنهم، صاحب الحظ فيهم من له سقف سيارة، أو ظل شجرة، أو بيت صديق، أو قريب، أو جمعية خيرية تؤويه. الأمر الذي جعل المشهد اللبناني شديد الإيلام، خاصة مع تواتر الأوامر الإسرائيلية اليومية لسكان بعض المناطق بمغادرة بيوتهم، ناهيك عن حجم الاغتيالات وهول الدمار الذي عم لبنان.
- إلا أن أخطر ما في الوضع اللبناني حالياً، يتمثل بما يلي:
- أن الحرب الإسرائيلية الحالية ضد لبنان أكبر من لبنان، وأن أطراف هذه الحرب اختاروا الذهاب فيها إلى النهاية.
- أن وضعه الحالي ليس نتيجة حتمية لما يسمى بـالمشروع الصهيوني وغيره حسب، بل أيضاً حصيلة موضوعية لاستراتيجيات وقرارات تم اتخاذها من قبل بعض فئات اللبنانيين بشكل منفرد، تم فيها تجاوز كل ما له صلة بفكرة الدولة اللبنانية، حولت البلاد إلى ساحة معارك للمصالح الإقليمية.
- أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، يخوض في لبنان حرباً من دون ضوابط، لفرض وقائع جديدة، وبأنه أدار أذناً صماء لدعوات -من خارج مجلس الأمن-طالبت بوقف النار.
- أن الزمن الإسرائيلي الحالي لا يبدو زمن تفاوض، نظراً لعدم تحقيق الجيش الإسرائيلي بعد نصر عسكري كامل، وعدم استعداد "حزب الله" للاستسلام لشروط إسرائيل.
ثانياً) مآلات الأزمات المتلاحقة على لبنان
يستشرف المحللون نتائج استمرار الأزمات على لبنان المترافقة مع العدوان الوحشي الإسرائيلي، بأن لبنان سيواجه ضغوطاً عدة، من بينها أنه لا يمكن إشاحة النظر عمّا يُنشر عن انتعاش مشروع إسرائيل الكبرى، الذي يتضمن التوسع نحو جنوب لبنان وصولاً إلى احتلاله وبناء المستوطنات فيه، وما نُشر عن "أحلام الأجداد"، الذي يشي بالقليل مما يُخطِط له تيار اليمين الديني المتطرف في إسرائيل.
لذلك، نتوقع أن حرب لبنان لن تكون قابلة للتوقف في وقت قريب، لا سيّما أن إسرائيل تسعى لزرع الشقاق بين صفوف اللبنانيين، الأمر الذي يتطلب وعياً وصبراً وحكمة في التعامل، للحؤول دون اندلاع نزاعات أهليّة مجدداً، في بلد منشطر على ذاته، تغذيه الانقسامات الطائفيّة والمذهبيّة والولاءات الخارجيّة المتناقضة، التي تعكس نفسها في الساحة المحليّة اللبنانيّة.
أضف إلى ذلك، أن دائرة الحرب الإسرائيلية على لبنان تزداد اتساعاً من دون ظهور أي بارقة يُعوّل عليها. فالساحات القتالية من دون أفق، والتصعيد متبادل بين الأطراف من دون هدف، وكل فريق يملك القدرة على زيادة التعقيد، دون أن يملك أي فريق القدرة على الحل. والضحايا الذين يُضنيهم الجوع والخوف ورعب الأيام المقبلة، يهتفون في جزع: إلى أين؟ وإلى متى؟
لا شك بأن عدالة القضية الفلسطينية منعت لبنان من استشعار خطورة تحول بيروت عاصمةً للقضية، في بلد على حدود إسرائيل وفي متناول آلتِه العسكرية. لذا، أكثر ما يُقلق اللبنانيين هي السياسات الحماسية التي تتجاهل هشاشة البنية اللبنانية، ورفض كثير من السياسيين التبصر بحقيقة ميزان القوى الإقليمي والدولي، والشعور بالقدرة على فرض وقائع جديدة بالقوة من دون مراعاة للأثمان الباهظة. لذلك، حذرت قوة الأمم المتحدة لحفظ السلام في لبنان "اليونيفيل"، يوم 12/10/2024م، -بعد إصابة عناصرها في جنوب لبنان ووقوع الكثير من الأضرار بمواقعها-من نزاع إقليمي "كارثي" جراء العدوان الإسرائيلي على لبنان. ومما يثبت خطورة الوضع، أنه بالرغم من الدعوات المتكررة لوقف إطلاق النار، لم تظهر أي مؤشرات إلى اليوم على تراجع حدة هذا الصراع.
ثالثاً) توقعات مستقبل لبنان في ظل هذا الصراع الدامي
ما يحصل في لبنان وما هو متوقع لمستقبله، هو نتاج سياسات سابقة وسلوكيات سالفة، والمقدمات تقود للنتائج، ولن نجد لسنة الله تبديلاً. لبنان عانى بسبب احتلال بعض الدول لقراره، وفساد بعض ساسته، وبسبب مناخ إقليمي دولي جعل نتنياهو يُقرر مُنفرداً "تغيير الموازين في الشرق الأوسط كله". لذلك، مستقبل لبنان في ظل العدوان الإسرائيلي الجديد يُتوقع أن يكون صعباً ومعقداً، إذ قد تؤثر التوترات العسكرية على حدود لبنان على استقراره الداخلي، بالإضافة إلى المخاوف من التداعيات الإنسانية، بما فيها تزايد أعداد النازحين، وما ينجم عنها من ضغوط اقتصادية. كما قد تؤدي الأحداث الحالية إلى تغيرات في التحالفات السياسية والمواقف الإقليمية والدولية داخل لبنان وتجاهه.
أما الخشية الأكبر على لبنان، بالإضافة إلى عوامل أخرى معقدة ستؤخر معاناة لبنان وتطيلها، فتتمثل بما يلي:
- التأخير في استدراك الكارثة التي ألمّت بلبنان، خاصة مع انحياز دول كثيرة وعلى رأسها الولايات المتحدة، لكل المبررات الإسرائيلية في الحرب على "حزب الله" وعبره على لبنان بأسره.
- الخوف على لبنان من نفس مصير غزة (أي ضياع كل الفرص لإنقاذ ما يمكن إنقاذه فيها)، في حين أن كل فرصة تضيع لإنقاذ لبنان من الصعب أن تتكرر ثانيةً.
- الأحداث الدامية والخسائر الجمة التي مرّ بها حزب الله في الفترة الأخيرة، التي قد تدفعه إلى التشدد أكثر في التصدي لمحاولات إضعافه، خصوصاً بعدما تساقط من حوله كل الحلفاء.
كل ذلك يُشير إلى وجوب معالجة الصراع الحالي بشكل سلمي وفعّال، حتى لا يؤدي إلى مزيد من المعاناة الداخلية والتصعيد الدولي.
رابعاً) الخسائر التي لحقت بالدولة اللبنانية
على الرغم من "البروباغاندا" الإسرائيليّة المُركَزة، من أن الحرب هي حرب ضد "حزب الله" وليست ضد لبنان، تُثبت الأرقام بصورة يوميّة وبما لا يترك مجالاً للشك أن هذه الرواية غير صحيحة على الإطلاق، إذ أن الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، تسببت في العديد من الخسائر. فيما يلي عرض لأبرز ما لحق بالدولة اللبنانية، جراء هذه الحرب:
- خسائر بشرية، إذ سقط ما يزيد على 2500 شهيد من المدنيين والعسكريين اللبنانيين، وأكثر من 10 آلاف جريح (لغاية آخر أكتوبر 2024م) بالإضافة إلى العديد من المفقودين.
- دمار مادي، تضررت المنشآت والبنية التحتية الحيوية في لبنان، بما في ذلك الجسور والطرق والمستشفيات والمدارس والمرافق العامة. كما استهدفت إسرائيل مناطق سكنية ومرافق اقتصادية، ومباني ومصانع ومؤسسات ومحال تجارية، وحرقت أراضي زراعية في الجنوب والبقاع، وواصلت مسح قرى لبنانية حدودية من الخريطة، بتفخيخها وتفجيرها، بلغ عددها لغاية تاريخه نحو 29 قرية ومدينة تمتد على طول 120 كيلومتراً من الناقورة غرباً إلى شبعا شرقاً، دُمّرت معظمها بشكل كلي، بالإضافة إلى هدم نحو 25 ألف وحدة سكنية.
- خسائر اقتصادية، تأثرت القطاعات الاقتصادية اللبنانية بشكل كبير جراء الحرب، لا سيما السياحة والتجارة والصناعة. وتعطلت حركة الاستيراد والتصدير بسبب تدمير الموانئ والبنية التحتية. أثّر ذلك على الناتج المحلي وفرص العمل. كما وجدت الشركات -بسبب الأزمات الاقتصادية المتتالية-صعوبة في البقاء، الأمر الذي فاقم من حالة الركود الاقتصادي وزاد من الأعباء الاجتماعية.
- ازداد الانخفاض في قيمة الليرة، ما جعل لبنان في وضع هش، وأحدث أزمة إنسانية عميقة، وساهم في نقص المواد الأساسية والأدوية. كما واجهت البنوك تحديات إضافية للحفاظ على الاستقرار المالي في ظل تزايد الأزمات.
- ازداد الضغط على الحكومة اللبنانية، إذ نتيجة نزوح أعداد كبيرة من اللبنانيين من مناطق القتال، وجدت الحكومة اللبنانية نفسها في موقف صعب لتلبية احتياجاتهم الحياتية الاساسية، إضافة إلى الحذر الذي نتج عن هذه الحرب بين معظم المكوّنات اللبنانية، المترتب على الخوف من بيئة "حزب الله"، والذي انعكس على الحالة الشيعية عموماً، وذلك في إبداء التوجس من استقبال النازحين، خصوصاً بعدما تعرّضت أماكن سكنية للقصف والإغارة بسبب العديد منهم.
خامساً) متطلبات المرحلة المقبلة
لأن الوقت كالسيف، ولأن المرحلة المقبلة مليئة بالأخطار، لذا أولوية خلاص لبنان وحماية الأرواح فيه، تتطلب انتهاج مقاربات منوعة، نوضحها فيما يلي:
- على الصعيد الوطني اللبناني: الآن، هنالك مسؤولية لبنانية تطال كل المكونات الرئيسية، للبحث في صيغة عملية جديدة، تحصل على الدعم الدولي، لتحقيق الهدوء الفعلي والثابت جنوب الليطاني حتى الخط الأزرق، وتثبيت الحدود الدولية للبنان، التي تقوم أساساً على خط الهدنة. يقتضي تحقيق ذلك ما يلي:
- وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية، علماً أنه لا يمكن تحقيق ذلك إلا بقرار مُلزم يصدر عن مجلس الأمن بذلك.
- فصل ارتباط الجبهة اللبنانية عن جبهة غزة، حيث كانت الفكرة "إن توقفت في غزة فستتوقف على كل الجبهات الأخرى". لأن لكل جبهة منها حلّها الخاص، المنفصل عن حل الجبهة الأخرى توقيتاً ومضموناً.
- الاتفاق على دور رئيسي للجيش اللبناني، وتعزيز قدراته وتسليمه أمر الحدود الجنوبية مع القوات الدولية.
- امتلاك الدولة اللبنانية وحدها السلاح في لبنان، وأن يكون لها دون غيرها قرار الحرب والسلم.
- تطبيق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 لعام 2006م، الذي يدعو أن يكون جنوب لبنان خالياً من أي قوات أو أسلحة غير تلك التابعة للدولة اللبنانية. بمناسبة الحديث عن القرار1701، نشير إلى أن ثمة اعتقاد يسود بأنه لم يعد الوثيقة الدولية الصالحة لإنهاء الحرب القائمة على لبنان اليوم، وأن من المستبعد إصدار مجلس الأمن قراراً بديلاً عنه، بسبب الفيتو الأميركي والروسي، من جهة، ولأن التقدم الإسرائيلي ميدانياً سيقفل الباب أمام الحلّ الدبلوماسي، من جهة أخرى. أما إذا تمكن "حزب الله" من الصمود أمام التدخل الإسرائيلي فهذا قد يفتح باباً أمام الحلول السياسية.
- وضع استراتيجية وطنية لتوفير الأمن والاستقرار في الجنوب، ليعود أبناؤه إليه.
- ترميم العلاقة المجتمعية الوطنية وإعادة بناء الثقة بين كافة المكونات اللبنانية، وهي مهمة إضافية قد تتعثر إذا لم توجد النية والرؤية.
- تحميل البرلمان اللبناني مسؤوليته السياسية والأخلاقية، لتحديد السياسات الضرورية للخروج من الكارثة التي ترتسم في الأفق اللبناني، وانتخاب فوري لرئيس الجمهورية، وتشكيل حكومة من خارج صندوق الصفقات والحصص، قادرة على قيادة مرحلة صعبة، لاستعادة السيادة للبنان وحمايته وحقن دماء كل اللبنانيين.
- تشكيل جبهة إنقاذ وطني تمثل كافة الأطراف اللبنانية المتفقة على استعادة الدولة، لتُسقِط كل التباينات والخلافات الداخلية، على أن تحمل في جعبتها خمسة مبادئ تؤسس للتسوية، وهي:
- إعادة السيادة إلى الدولة اللبنانية، واكتمال مفاصلها بملء الفراغ في كافة مؤسساتها. والعودة للدستور اللبناني واتفاق الوفاق الوطني في الطائف لسنة 1989م.
- إحياء اتفاقية الهدنة مع الكيان المحتل لسنة 1949م.
- التشديد على أهمية دور الطاقات اللبنانية في إعادة إحياء الدور الاقتصادي للبنان بوصفه أولوية في التجارة والمصارف والسياحة والاستشفاء والتعليم.
2) على الصعيد الإقليمي، تتطلب المرحلة المقبلة ما يلي:
- تفاعل مباشر من الدبلوماسية العربية بقيادة الدول الخليجية، مع ما تبقى من مرتكزات النظام السياسي في لبنان، إذ ما عاد مجدياً ترك لبنان ليواجه أزماته منفرداً.
- الاتفاق على وقف إطلاق النار ولو من جانب واحد أولاً، وانتخاب رئيس جمهورية وتشكيل حكومة يتم التوافق عليها في حوار إقليمي-لبناني، يقوده العرب، ويكون الثابت فيه إعلان أن يصبح لبنان جزءاً أساسياً من تركيبة الاستقرار الإقليمي، والتركيز على "إعادة إعماره". علماً أن الدول العربية الشقيقة اعتادت دوماً إغاثة لبنان. لذلك، من المتوقع أن يستطيع الاشقاء العرب مساعدة لبنان ثانيةً في إعماره وإعادة النازحين إلى مساكنهم وقراهم، كما تكرموا وساعدوا لبنان سابقاً، عام 2006م.
- التوصل إلى حلول دبلوماسية فعالة، لوضع حد نهائي لترسيم الحدود البرية بين لبنان والكيان المحتل، ومعالجة موضوع مزارع شبعا وغيرها...
- على الصعيد الدولي العالمي، يحتاج لبنان إلى دعم دولي عاجل، لتحقيق ما يلي:
- إعادة بناء اقتصاده وتحسين استقراره، من خلال استثمارات كبيرة، لإعادة تأهيل البنية التحتية وتحسين الوضع الأمني وتعزيز الاستقرار المالي والاقتصاد المحلي واستعادة الثقة في المؤسسات الاقتصادية.
- متابعة الحلول الدبلوماسية لتفادي المزيد من الضرر، وتأمين مستقبل مستدام في المنطقة. الأمر الذي يشكل تحدياً، ويتطلب مستوى لائق من الوساطة، أي "حلاً سياسيا". ذلك لأن لا شيء من المواضيع العالقة بين لبنان وإسرائيل إلا ويمكن حله بالتفاوض والدبلوماسية.
سادساً) مستقبل الصراعات القائمة في لبنان
للحروب قاعدة لا تتغير تقريباً مهما تغير عليها الزمان، يَعرِفُ الناس دائماً متى تبدأ، وأبداً لا يعرفون متى تنتهي، فيغرق الجميع في دوامة من التكهنات والتوقعات، وتظل جميعها دون نهاية. لذلك، يمكن أن نستشف أن تصفية "حزب الله" في لبنان وملاحقة نشطائه أينما وُجدوا، ليست نهاية المطاف بالنسبة لنتنياهو، بل هي مجرد شرط للذهاب إلى ما هو أبعد. وهذا ليس تضخيماً ولا تخويفاً، بل تحذير، لأن الأحداث الحالية في لبنان رغم صعوبتها، قد لا تكون الذروة، إذ يمكن أن تحدث تصعيدات غير متوقعة، وذلك لأسباب عدة، منها:
- أن استمرار الحرب الإسرائيلية على لبنان وما تحمله من أزمة النزوح المتزايدة على باب فصل الشتاء في بلد يعيش أساساً أوضاعاً اقتصادية واجتماعية صعبة جداً، قد تعجل من مخاطر حدوث انهيار كبير لبناني داخلي. نظراً للتخوف -مع ازدياد عدد النازحين -من حصول تداعيات خطيرة على المجتمع والدولة، قد تسفر عن حرب أهلية في لبنان (لا قدر الله). علماً أن التضامن الوطني والإنساني مع النازحين نشهده يومياً لغاية الأن.
- أن إسرائيل نفسها تعيش انقسامات داخلية وخلافات مستحكمة بين المتشددين والمعتدلين، والمتدينين والعلمانيين، وبين المتدينين أنفسهم، بين دعاة السلام وحل الدولتين، ودعاة ضم الأراضي وطرد الفلسطينيين، هذا من جهة. وأن واشنطن – من جهة أخرى-استقرت على نهج تمثل بترك الصراع الدائر في لبنان يأخذ مساره، وقد أكدوا ذلك بقولهم: "أن أمريكا تدعم إسرائيل في شنّ هذه الهجمات، بهدف تدمير البنية التحتية لحزب الله، حتى نتمكّن في نهاية المطاف من التوصل إلى حل دبلوماسي". لذا، من المتوقع أن يكون الأصعب على لبنان قادم، وأن تستمر إسرائيل في تدمير بنية "حزب الله"، وأن يصبح الهجوم البرّي على لبنان أشرس في حال تفاقمت الأمور في لبنان، أو مع إيران التي تعيش تحت وطأة الانتظار المُقلِق من نوعية الرد المتبادل بينها وبين الكيان الإسرائيلي المحتل. ومما لا شك فيه، أنه في حال تنامي الصراعات، لا بد أن تؤثر على المنطقة ككل، والخاسر الأكبر سيكون لبنان الذي يصبح حينها ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية. وبالتالي، قد يشهد لبنان موجات جديدة من الهجرة الجماعية للشباب والأسر، الأمر الذي سيسهم في زيادة أزمة نقص الكفاءات ومن الضغط على الدول المستقبلة.
نتيجة لما تقدم، تضع الحرب الإسرائيلية أمام لبنان احتمالات عدة، وهي:
1) استمرار الحرب على لبنان، وهي رغبة وسياسة نتنياهو، بحرب استنزاف تهدف إلى تحقيق أهداف إسرائيل، وقوامها تحديداً تدمير إمكانات حزب الله وقدراته.
2) الانزلاق نحو حرب إسرائيلية مفتوحة مع إيران وحلفائها، حرب تُغيّر وجه المنطقة، لا يُدرك أحد تداعياتها على الشرق الأوسط. هذا السيناريو ممكن، رغم عدم رغبة إيران في الانزلاق إلى الحرب من جهة، والضغوط الأميركية على إسرائيل لإبقاء ردات فعلها تجاه إيران مقبولة من حيث حجمها وأهدافها، من جهة أخرى.
3) العودة إلى الوضع الذي كان سائداً قبل حرب الإسناد في الجنوب، الذي كان ضابطاً للأوضاع بتطبيق محدود للقرار 1701، وذلك بخرق هذا القرار من قبل إسرائيل بشكل مستمر، مقابل وجود عسكري لحزب الله لا يظهر إلا إذا دعت الحاجة.
4) تطبيق كامل للقرار 1701، يكون بإبعاد حزب الله عسكرياً إلى شمال الليطاني، وسيطرة الجيش اللبناني على كامل المنطقة بالتعاون مع "يونيفيل". يتطلب هذا الاحتمال التوافق بين الكبار الداعمين لطرفي الصراع، ودوراً مسهِّلاً من الأطراف الدولية المعنية. بذلك، تكون بداية العودة إلى السلام الذي يستلزم تفعيل الدولة اللبنانية بكافة مكوناتها السياسية، وتحميلها كامل مسؤولياتها الوطنية.
ختاماً، يمكن القول بأنها المرحلة الأخطر في تاريخ لبنان الحديث، وأنه وقت إنقاذ لبنان قبل فوات الأوان.