تشهد منطقة الشرق الأوسط منذ السابع من أكتوبر 2023م، تحولات جوهرية في مسارات السياسة الإقليمية والدولية، وتعود هذه التحولات إلى استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة ولبنان، ما أدى إلى تفاقم التوترات الإقليمية. فقد زادت المواجهة العسكرية الإسرائيلية مع حركة حماس ولبنان من حدة الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وأثارت ردود فعل في جميع أنحاء المنطقة، مع احتمال انتقالها إلى صراع إقليمي أكبر. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، تعود هذه التحولات إلى ما تعيشه منطقة الشرق الأوسط من حالة الشك وعدم اليقين بشأن الخطوات القادمة بعد إطلاق إيران نحو 200 صاروخ بالستي مباشرة من أراضيها على إسرائيل مطلع أكتوبر 2024م، رداً على الاعتداءات الإسرائيلية. وبعد قرابة أربعة أسابيع ورداً على هذا الهجوم العسكري الإيراني على إسرائيل، وجهت إسرائيل عدة ضربات جوية لإيران فجر السبت 26 أكتوبر 2024م، طالت عدة مواقع عسكرية في العاصمة طهران وفي مدينة كرج شمال غرب طهران، فضلًا عن أهداف في محافظتي عيلام وخوزستان في غرب وجنوب غرب إيران على الترتيب.
وقبل السابع من أكتوبر 2023م، كانت المنطقة تتميز بعدة خصائص محددة، إذ كانت واحدة من المناطق القليلة في العالم التي تفتقر إلى بنية إقليمية شاملة لإدارة الصراع وتعزيز التعاون الإقليمي. كما كانت المنطقة موطناً لصراعين طويلي الأمد لم يجر التوصل إلى حلول لهما: الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، والصراع المستمر بين إيران وعدة دول في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك شهدت المنطقة أربع حروب أهلية ما زالت مستمرة حتى الآن في اليمن وسوريا والسودان وليبيا، إلى جانب وجود عشرات الجهات الفاعلة المسلحة غير الحكومية.
وعلى صعيد أكثر إيجابية، شهدت المنطقة أيضاً نوعاً من التهدئة، أولا من خلال "اتفاقات أبراهام" التي أبرمت بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، وثانياً من خلال الاتفاق التاريخي بين السعودية وإيران، الذي جرى بوساطة صينية، في مارس 2023م.
وعشية السابع من أكتوبر، كان تركيز المنطقة موجهاً نحو إمكانية التوصل إلى اتفاق بين الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية، وهو ما من شأنه أن يعزز الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والسعودية على المدى البعيد، ويعزز اندماج إسرائيل في العالم العربي بشكل أكبر.
تراجع النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط
عادت منطقة الشرق الأوسط لتكتسب أهمية متزايدة على أجندة الإدارة الأمريكية بعد هجوم السابع من أكتوبر من جانب حماس على إسرائيل وذلك بعد فترة من التراجع لصالح الاهتمام الأمريكي بمنطقة الاندو-باسيفيك.
إلا أنه بعد أكثر من عام كامل، فشلت إدارة الرئيس الأمريكي جون بايدن في دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للقبول بوقف العدوان في قطاع غزة، لتجنب اتساع دائرة المواجهة. ولم تفلح جهود الردع الأمريكية، المتمثلة في إرسال قدرات عسكرية كبيرة، برية وجوية إلى المنطقة في ردع حلفاء إيران في لبنان واليمن والعراق على شن هجمات صاروخية وإرسال طائرات مسيرة وسفن عبر البحر الأحمر إلى إسرائيل، إسناداً لغزة. فعلى العكس، وجدت القوات الأمريكية نفسها في أحيان عديدة في صراع مباشر مع الحوثيين في اليمن والفصائل الشيعية في العراق، وتعرض عدد من قواعدها لهجمات في العراق وسورية والأردن، وسقط في بعضها جنود أمريكيين قتلى وجرحى.
فبالرغم من طبيعة العلاقات الوطيدة التي تربط واشنطن بتل أبيب، لكن الأولى فشلت في دفع الأخيرة للعدول عن قرارها في استمرار الحرب على قطاع غزة بعد الهدنة المؤقتة في نوفمبر 2023م، والتي سمحت بالإفراج عن 100 رهينة لدى حماس، كما فشلت في إنهاء الحصار المفروض، ووقف القصف المستمر على جميع أنحاء القطاع، والوصول لصفقة جديدة تسمح باستعادة الرهائن لدى حركة حماس. فبعد عام من المفاوضات بالتعاون مع قطر ومصر، لا زالت إسرائيل تتعنت برفضها إيقاف الحرب حتى القضاء على جميع أفراد حركة حماس أو تأمين خروجهم من غزة، وهو أمر يؤكد عدم انصياع تل أبيب لمطالب واشنطن المعلنة.
ومع سماح واشنطن بتوسع رقعة الصراع داخل منطقة الشرق الأوسط، لم تكن الحرب الإسرائيلية وحدها على قطاع غزة هي السبب الرئيسي في تأكيد تراجع نفوذ واشنطن داخل المنطقة، بل إعطاء واشنطن الإذن لتل أبيب بتوسيع رقعة الصراع تحت ذريعة "الحق في الدفاع عن النفس"، سامحة بالتعدي على الأراض اللبنانية، وتوسيع نطاق عمليات استهداف أعضاء حزب الله اللبناني داخل الأراضي اللبنانية وخارجها، والسكوت عن قيام إسرائيل بتفجير أجهزة الاتصال اللا سلكية (بيجر) التابعة لحزب الله، بما أكد أن واشنطن غير قادرة على حفظ السلام والاستقرار داخل المنطقة، أو ربما أشار إلى أن واشنطن ترغب في إعادة رسم خريطة المنطقة.
وهناك مجموعة من التداعيات المرتبطة بتراجع النفوذ الأمريكي داخل منطقة الشرق الأوسط والتي يتلخص أبرزها فيما يلي:
1-صعوبة إنهاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة: تشير تصريحات المسؤولين الأمريكيين الأخيرة إلى صعوبة التوصل إلى أي اتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة في الوقت الراهن، حيث يبدو أن نتنياهو يرغب في حرق ورقة تحرير الرهائن لأن العدد المتبقي من الرهائن لدى قادة حماس في الوقت الراهن أصبح لا يتجاوز 12 رهينة وفق بعض التقديرات، ومع إطالة أمد الحرب، فمن المتوقع مقتل هؤلاء الرهائن، خاصة أن أماكن تواجد بعضهم تكون بين المدنيين من سكان قطاع غزة.
2-تهديد أمن الملاحة البحرية في منطقة البحر الأحمر: استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة، في ظل اضطراب صورة واشنطن، يشجع على استمرار هجمات ميليشيا الحوثي اليمنية على السفن التجارية العابرة لمنطقة البحر الأحمر عبر مضيق باب المندب الذي يسمح بمرور نحو 15% من إجمالي حركة الملاحة العالمية، وهو ما من شأنه أن يؤثر على استقرار سلاسل التوريد العالمية، كما يضر بأحد أهم ممرات التجارة العالمية.
3- السماح لقوى أخرى بشغل الفراغ الأمريكي في الإقليم: من المتوقع أن تتجه بعض القوى الأخرى المناوئة لواشنطن، وتحديداً الصين وروسيا، لمحاولة شغل الفراغ الأمريكي في الوقت الراهن، وهو أمر ستميل إلى دعمه دول المنطقة بسبب اهتزاز صورة واشنطن الأخلاقية، لأنه على مدار السنوات السابقة، وتحديداً منذ مجي إدارة بايدن، لم تنجح الإدارة في حل أي مشكلة مستعصية من مشكلات المنطقة، بل إنها سمحت للأوضاع بالتفاقم لتحقيق مصالحها المتمثلة بشكل أكبر في تحجيم النفوذ الإيراني، والذي وإن تحقق في الوقت الراهن سيستمر على المدى الطويل بسبب اقتراب طهران من خطوة امتلاك سلاح نووي رادع سيعيد رسم توازنات القوة داخل المنطقة، وهو أمر ستدركه دول المنطقة العربية، التي سيكون عليها تبني موقف أكثر أتزاناً تجاه السياسة الأمريكية، والتحركات الإسرائيلية في المنطقة، للحفاظ على مصالحها، وعدم جر دول المنطقة كافة نحو صراع طويل الأمد.
4-توسيع نفوذ تنظيم داعش داخل سورية والعراق: فمع استمرار الخسائر التي تتكبدها التنظيمات الشيعية في المنطقة، قد يتمكن داعش من توسيع نفوذه وتجنيد المزيد من المقاتلين من السنة الساخطين وخاصة في المناطق غير المستقرة في سوريا ولبنان. وتشير التقارير إلى تزايد عمليات التنظيم في كل من مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية "قسد" وكذلك في مناطق سيطرة الحكومة السورية، وقد أعلنت القيادة المركزية للقوات في يوليو 2024م، أن مجموع العمليات المنفذة من قبل تنظيم داعش في سوريا والعراق في النصف الأول من العام 2024م، تعادل ما يقرب من ضعف ما قام به التنظيم خلال العام 2023م. وأشارت القيادة المركزية إلى أن زيادة عمليات داعش تعني أن التنظيم يسعى إلى إعادة تشكيل نفسه بعد أعوام من تراجع قدراته، ومن ثم فإنه يتوقع مع استمرار التصعيد في منطقة الشرق الأوسط أن يتجه التنظيم إلى الاستفادة من الوضع الإقليمي في توسيع عملياته في سوريا والعراق.
محددات الموقف الأردني من التصعيد في الشرق الأوسط
يبرز دور الأردن الإقليمي من موقعه وقوته الجيوسياسية، ويفرض ذلك عليه تحديات ويتيح له فرصاً للعب دور أكثر حيوية وفاعلية تجاه قضايا المنطقة، وتجاه القضية الفلسطينية على وجه الخصوص، وتعد علاقة الأردن بالولايات المتحدة محدداً رئيسياً في رسم سياسته وموقعه ودوره الإقليمي. ضمن هذه المعادلات فإن خيارات الأمن القومي الأردني ليست سهلة لكنها مركبة ومعقدة، فهنالك أزمة لدى الأردن مع كل من المشروعين الإيراني، الذي ينظر إلى الأردن كمصدر تهديد وكحليف للغرب والولايات المتحدة الأمريكية، ولدى الأردن مشكلات كبيرة على حدوده الشمالية مع الميليشيات الإيرانية من جهة، ومع مشروع بنيامين نتنياهو واليمين الإسرائيلي، الذي بات لدى النخبة السياسية الأردنية بمثابة مصدر تهديد حقيقي، وتحول كبير في رؤية النخبة السياسية الإسرائيلية على المدى البعيد للتسوية السلمية ولرفض إقامة الدولة الفلسطينية من جهة أخرى، وهو ما يتأثر بدوره- بطبيعة الحال- بمن سيسكن البيت الأبيض وتوجهاته السياسية في المنطقة.
ضمن هذه المعطيات، فإن المصالح الاستراتيجية الأردنية تستدعي بالفعل إعادة تعريف سواء على صعيد أولويات الأمن الوطني ومصادر التهديد والتعامل مع البيئة الإقليمية المتغيرة الجديدة، والتعامل مع المتغيرات القادمة وعملية إعادة ترتيب المشهد الإقليمي وكيف ستنعكس على الأردن وخياراته الاستراتيجية.
ويمكن إجمال القضايا التي توليها الحكومة الأردنية أهمية بالغة والمتصلة بالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في ثلاثة مجالات رئيسية هي:
1-التهجير: عادت مسألة التهجير القسري للفلسطينيين إلى الظهور بقوة خلال العام الماضي، مما يثير مخاوف بشأن احتمال تدفق اللاجئين الفلسطينيين نحو الأردن. وفي هذا الصدد، يُصنف الأردن صراحة أن أي عملية تهجير تقوم بها إسرائيل للفلسطينيين من الضفة الغربية، من شأنها أن تعتبر تجاوزاً للخطوط الحمراء، وأن الأردن سيعتبرها "إعلان حرب عليه". وعلى الرغم من ذلك، يتبنى القادة الإسرائيليون مثل وزير المالية بتسلئيل سموتريتش علانية مواقف تحريضية، بما في ذلك فكرة " إسرائيل الكبرى" التي تشمل الأردن، وهو ما يشكل تهديداً وجودياً للأردن.
بذلك تدفع المواقف الاستفزازية المتزايدة من الحكومة الإسرائيلية الأردن على اتخاذ مواقف أكثر حزماً في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية، لا سيما تلك المتعلقة بالقدس والمقدسات الإسلامية والمسيحية. حيث تعتبر الوصاية الأردنية على هذه المقدسات عنصراً أساسياً في هويته السياسية والدينية، كما أن أي تهديد متصور لهذه الأماكن المقدسة؛ يمكن أن يزيد من حدة التوتر في العلاقة بإسرائيل.
2-احتمال اتساع نطاق المواجهة: إلى جانب الوضع في فلسطين، تشكل الأزمات الإقليمية الأخرى، مثل ارتفاع التصعيد بين إسرائيل وحزب الله في لبنان، وحالة عدم الاستقرار المستمرة في سوريا؛ تحديات خطيرة للأردن. فالأردن يقع في قلب أي مواجهة إقليمية محتملة، إذ يشترك حدودياً مع سورية والعراق، حيث توجد ميليشيات مسلحة مدعومة من إيران. ويشكل اندلاع حرب شاملة في الإقليم تحدياً عسكرياً وأمنياً حقيقياً للأردن، فهو من الشمال والشرق على تماس مباشر مع تلك المجموعات المسلحة المدعومة إيرانياً، ومن الجهة الغربية يمتلك أطول حدود مع إسرائيل، وفي الداخل لديه قواعد عسكرية أمريكية، يمكن أن تشكل أيضاً أهدافاً عسكرية لهذه المجموعات، ولهذا السبب طلب الأردن، بحسب ناطق باسم الجيش الأردني من واشنطن، نشر منظومة الدفاع الجوي "باتريوت" لتعزيز الدفاع عن حدوده، وهي المنظومة التي تم نشرها سابقاً في عام 2013م، استجابة لتصاعد المعارك في سورية.
وللحفاظ على الاستقرار، ينبغي على الأردن أن يوجه بعناية علاقاته مع الجهات الدولية الفاعلة الرئيسية، مثل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، والذين يواصلون دعم الحكومة الإسرائيلية اليمنية المتطرفة، بينما يُديرون ديناميكيات إقليمية معقدة. ومع ذلك، ما تزال العلاقات مع القوى الإقليمية مثل إيران محفوفة بالتوتر، بالنظر إلى وجهة نظر طهران للأردن كحليف غربي، وليست خيارات قابلة للتطبيق لاعتبارات عمّان الاستراتيجية.
3- سياسة النأي بالنفس في بيئة الصراع: ما بين ضبابية المشهد الإقليمي وتضارب المشاريع الجيوسياسية لإيران وإسرائيل؛ يقبع الأردن الذي تجنب الانخراط في العديد من الصراعات الإقليمية سابقاً، وهو ما أفضى لاستقراره لعقود من الزمن، إلا أن مخاطر انزلاق الإقليم نحو مواجهة إيرانية-إسرائيلية مفتوحة، يستدعي رفع مستوى الحذر هذه المرة، حيث أن انتهاج الأردن لمبدأ عبور الأزمة والنأي بالجغرافيا الأردنية عن أي صراع إيراني-إسرائيلي يحمل قدراً كبيراً من العقلانية في صناعة القرار الأردني، إلا أن السؤال المهم هو ما مدى عقلانية إيران وإسرائيل في ضبط إيقاع مواجهتهما؟
إن تحذيرات الأردن لإيران وإسرائيل بعدم استخدام مجاله الجوي لعملياتها العسكرية المتبادلة تعكس رسالة جادة للمستقبل موجهة لكلا الطرفين مفادها، أن الأردن ليس ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية، فحيث فرضت الحتمية الجيوسياسية على الأردن أن يتوسط إقليم الشرق الأوسط، إلا أن إدارة هذا الموقع الجغرافي هي ما تعكس قدرة صانع القرار السياسي على تجنب الانزلاق في أي مواجهة إقليمية، ومن هنا تُثار التساؤلات حول قدرة الأردن على انتهاج مبدأ الناي بالنفس في بيئة الصراع الحالية، على اعتباره المبدأ الأكثر فاعلية في المشهد الحالي، إذ تعززه الخبرة الأردنية في صراعات الإقليم، حيث ترتفع جدوى عدم الانخراط في هذه الصراعات لجملة من العوامل أهمها كثرة التقلب في نمط التحالفات الإقليمية، والمجال الحيوي الأردني الذي ينتشر فيه كلا النفوذين الإيراني والإسرائيلي، كما أن النأي بالنفس ينسجم مع محددات القدرة الأردنية إذا تقلبت حالة الاصطفاف في الإقليم.
السيناريوهات المستقبلية لمنطقة الشرق الأوسط
تتمثل السيناريوهات المقبلة لمنطقة الشرق الأوسط بسبب استمرار الاشتباكات بين حزب الله وإسرائيل وفي ظل المتغيرات الدولية والإقليمية الراهنة، فيما يلي:
السيناريو الأول: نشوب حرب إيرانية-إسرائيلية: يفترض هذا السيناريو أن تقتصر الضربات الكبيرة والواسعة على إيران وإسرائيل فقط، وهو يتوقف على طبيعة وحجم الرد العسكري في الهجمات المتبادلة بين الطرفين. ووفق هذا السيناريو، يمكن أن يشهد الإقليم حرباً مثل التي كانت بين العراق وإيران في الفترة من عام 1980 إلى 1988م. ولدى كل من إسرائيل وإيران من المسوغات ما يدفع بهما نحو هذا السيناريو، فمن المُستبعد في الظروف الحالية أن تقبل إسرائيل بأية تسويات تتضمن بقاء حزب الله كقوة عسكرية، فهي تدرك أن الحزب يمكن أن يعوض ما خسره، كما حصل بعد حرب عام 2006م. فذلك لن يكون سبباً مستمراً للقلق الإسرائيلي في المستقبل فقط، لكنه يعني توقف الهدف الإسرائيلي الذي أعلنه نتنياهو حول " تغيير الشرق الأوسط " بل ويمكن أن يتسبب بسقوطه سياسياً أيضاً. وفي غضون ذلك، فإن إسرائيل ستعمل على مشاغلة إيران مؤقتاً عن طريق توجيه ضربات عسكرية محسوبة ومن دون أن تقود إلى رد إيراني قوي، كي تستمر بالتفرغ للقتال في لبنان. ولكن مثل هذه المشاغلة مع إيران لن تكون غير خطوة مرحلية من المقدر أن تستكملها إسرائيل في حل نجاحها في تحقيق أهدافها ضد حزب الله. وهذه المرة، ستكون الأهداف الإسرائيلية مختلفة، وتتجاوز كثيراً حدود ضربات نوعية لإيران، إلى محاولة تغيير النظام السياسي هناك، بالتعويل على إضعاف النظام، وتدبير نوع من الحرب الداخلية مع قوى المعارضة في الأطراف، قد تفضي إلى أسقاط النظام في طهران.
وبالطبع فمثل هذا الطموح الإسرائيلي، قد يواجه تعقيدات جدية من قبل إيران، التي تمتلك بدورها خيارات كثيرة للرد والمواجهة، سواء من خلال القوة الصاروخية المؤثرة التي تمتلكها وضرب مصادر مباشرة، أو من خلال تدخل قوى دولية مهمة مثل روسيا وربما الصين وكوريا الشمالية، في حال تعرض النظام في طهران لخطر داهم.
أما إيران فلا تبدو محرجة أو منزعجة من اعتبارها طرفاً أساسياً في الصراع الدائر بين حماس وحزب الله من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، فهذا ما تتحدث عنه منذ راحت توسع نفوذها في المحيط العربي، ولا شك أنها تعتبر هذه الحرب تتويجاً لفرض نفسها لاعباً إقليمياً – دولياً لا بد أن تكون له كلمة في أي ترتيبات تُعد للمنطقة. فبعد واحد وثلاثين عاماً على "اتفاق أوسلو" الذي فشل في تحقيق سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين بسبب مواصلة الأمريكيين والإسرائيليين التواطؤ ضد أي سلام حقيقي، تزعم إيران بأنها تخطت العرب والمنطقة والقوى الدولية وأعادت إحياء المقاومة المسلحة ضد إسرائيل، وتريد في المقابل تثبيت نفوذها في منطقة الشرق الأوسط. ومما يعزز من فرص تحقق هذا السيناريو، أن كلا من إيران وإسرائيل لا يوجد عندهما اهتمام بالخسائر البشرية والعمرانية التي يتكبدها الفلسطينيون واللبنانيون وغيرهم من العرب.
السيناريو الثاني: اندلاع حرب إقليمية شاملة : قد يحدث هذا السيناريو إذا شاركت الولايات المتحدة مع إسرائيل بشكل مباشر في استهداف الأراضي الإيرانية، حيث تسعى إسرائيل لتدمير أكبر قدر ممكن من البنية التحتية النووية الإيرانية، بينما تحاول إيران إلحاق أكبر ضرر ممكن بإسرائيل، وحينها من الممكن أن تندلع "حرب إقليمية" بحيث نكون وقتها أمام تحالفين: الأول بقيادة الولايات المتحدة وإسرائيل وبريطانيا التي أعلنت مشاركتها في التصدي للصواريخ الإيرانية، وعلى الجانب الآخر إيران ووكلاؤهما وبصفة خاصة الحوثيين في اليمن وحزب الله لبنان والحشد الشعبي في العراق. وإذا اندلعت الحرب، وفق هذا السيناريو، فسيرتفع الخطر إلى مستويات قد تؤثر على دول مجلس التعاون الخليجي، وعلى أسواق الطاقة العالمية والاقتصاد العالمي أيضاً، ناهيك عن استهداف المصالح الأمريكية والغربية ليس فقط في المنطقة، بل ربما تستهدف أيضاً السفارات الإسرائيلية والغربية في أماكن أخرى حول العالم.
السيناريو الثالث: التهدئة ووقف القتال: يتم طرح هذا السيناريو على أساس ما تقوم به القوى الإقليمية والدولية من جهود مكثفة لوقف التصعيد بالجبهة الجنوبية في لبنان، وقد أصدرت اللجنة الخماسية بياناً يدعو للتهدئة ووقف التصعيد، وقام مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، بزيارة لبيروت في سبتمبر الماضي داعياً فيها إلى وقف التصعيد الإقليمي على كل الجبهات بسبب الحرب على غزة. وفي المقابل، قام المبعوث الأمريكي، أموس هوكستين، بزيارة بيروت وتل أبيب أكثر من مرة لحثهم على التهدئة ووقف التصعيد، حيث لا ترغب واشنطن في بدء حرب جديدة قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية، لأنه سيمثل أزمة سياسية للرئيس الحالي جون بايدن الذي فشل في منع اندلاع الحرب الأوكرانية والحرب على قطاع غزة. وهذا السيناريو تدعمه اللجنة الخماسية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وروسيا، نظراً لرغبتها في عدم اندلاع حرب جديدة. وسيسهم في تحقيق هذا السيناريو التوصل لاتفاق نهائي لوقف إطلاق النار بقطاع غزة أو عقد صفقة لإطلاق الرهائن، حيث سيعدها حزب الله انتصاراً لجبهة الإسناد وربما يعلن وقف التصعيد.
ومما يعزز من فرص تحقيق هذا السيناريو، أنه إلى جانب هذه الجهود الدبلوماسية الإقليمية والدولية، فقد يسهم توازن الردع في منع نشوب حرب شاملة في المنطقة إذا أدركت إسرائيل وحزب الله وطهران التكاليف الباهظة للتصعيد، مما يدفع إلى خفض حدة التوترات ومن ثم الحفاظ على استقرار وأمن المنطقة.
ختاماً، من الصعوبة بمكان حسم القول في تحديد ما هو السيناريو الأكثر احتمالاً، فالشرق الأوسط في نقطة تحول حرجة، حيث ستكون الأشهر القادمة حاسمة في تحديد ما إذا كانت المنطقة ستنزلق إلى حرب إقليمية شاملة، أم ستتمكن من احتواء العنف. وستمثل نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية في تشرين ثاني الجاري متغيراً رئيسياً في تأطير السيناريوهات وتحديد المسارات.