على مدار عام كامل منذ وقوع طوفان الأقصى وحتى الآن اختفى من على مسرح الأحداث العسكرية والسياسية بعض أبرز الرموز التي أثّرت على تطوّر الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي ثم على تطوّره لصراع عربي-إسرائيلي. فلو عدنا إلى الأيام التالية مباشرةً على هجمات السابع من أكتوبر لوجدنا أن رئيس حركة حماس في غزّة كان يحيى السنوار، والأمين العام لحزب الله في لبنان كان حسن نصر الله، والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، والرئيس الأمريكي بايدن، ويوآف جالانت كان وزير الدفاع الإسرائيلي. ثم لم يلبث أن اختفى كل واحد من هؤلاء في ظروف مختلفة عن الآخر، فظل السنوار يقاتل حتى النَفس الأخير. واغتيل حسن نصر الله وهو مجتمع ببعض رفاقه بعد سلسلة من الخروقات الأمنية الخطيرة التي تعرّض لها حزبه. وسقطَت طائرة إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته في ظروف مريبة. وتعرّضت كامبالا هاريس نائبة بايدن لهزيمة انتخابية ثقيلة على يد دونالد ترامب. وأقال بنيامين نتنياهو وزير دفاعه يوآف جالانت.
وهكذا يمكن القول إن الصراع الفلسطيني ـ العربي / الإسرائيلي الذي تجاوز70 عامًا من عمره أصبح يدار بقيادات تختلف عن القيادات التي تعاملَت مع الصراع في بداياته الأولى وهذا الاختلاف يحتاج إلى تحليل انعكاساته المستقبلية على احتمالات تطوّر الصراع وكذلك اتجاه هذا التطوّر. وقد يقول قائل إن الذين صعدوا إلى مواقع المسؤولية في الدول والحركات المنغمسة في الصراع لم يأتوا من فراغ فنعيم قاسم كان نائبًا لحسن نصر الله حتى لحظة مقتله بل إن وجوده في الحزب أسبق عهدًا من وجود نصر الله نفسه وهذا يعني استمرار الحزب في التعاطي بنفس النهج مع سائر الملّفات وفي القلب منها ملّف الصراع مع إسرائيل. وقد يقال إن قرارات الحرب والسلام ليست في يد رئيس الجمهورية الإيرانية بل بالأساس في يد المرشد. كما قد يقال إنه في دولة مؤسسات كما هو الحال في أمريكا فإن تغيّر الرؤساء وانتقال السلطة من بايدن إلى ترامب لا يؤدّي إلى التغيّر في السياسة الخارجية الأمريكية. أو يقال إن ذهاب قائد مهما كان لا يعني الكثير طالما ظلّت القضيّة التي حمل مسؤوليتها حيّة بل وتزيد تعقيدًا. وقد يقال أخيرًا إن الحديث عن صقور وحمائم في إسرائيل فيه من المبالغة أكثر مما فيه من الواقع وبالتالي فإن يذهب يوآف جالانت ويأتي بعده يسرائيل كاتس فإن هذا لا يتضمّن أي تغيير في عزم إسرائيل تغيير خريطة الشرق الأوسط وتصفية القضية الفلسطينية. والذي يعود إلى أداء جالانت الوحشي على مدار عام من الحرب على غزّة وحتى تاريخ إقالته فضلًا عن تصريحاته التي تنضح مفرداتها بالعنصرية الشديدة تجاه الفلسطينيين لن يجد أنه ترك لكاتب الكثير ليزايد به عليه.
جميع هذه التحفظات له مشروعيتها لكنه جدير بالمناقشة، لو أخذنا النموذج الأمريكي كمثال على دولة مؤسسات-سنجد أن ترامب وبايدن اتخّذا عددًا من القرارات تؤثّر سلبًا على مستقبل القضية الفلسطينية وتختلف عن مواقف السياسة الأمريكية المعلنة تجاهها. فهذه السياسة وإن كانت تلتزم بحماية أمن إسرائيل بشكلٍ مؤكد لكن يوجد عدد من الخصائص المميّزة لتعامل السياسة الأمريكية مع قضايا تتعلّق بوضع مدينة القدس والجولان والاستيطان وعدم الانغماس العسكري المباشر في الصراع العربي-الإسرائيلي، وهي الأمور التي تغيّر جزء منها على يد ترامب في ولايته الأولى بينما تغيّر الجزء الآخر على يد بايدن. أما فيما يخّص الحالة الإسرائيلية فمن الصحيح أن هدف إسرائيل الكبرى يتجاوز تغيير الأطقم الحاكمة، بحسب تعبير عالم الاجتماع الدكتور سعد الدين إبراهيم لكن الخبرة الشخصية لها تأثيرها في تحقيق هذا الهدف فالتكوين العسكري طويل المدى لجالان يختلف عن التكوين السياسي الصرف لخلفه وينعكس على فهم مسرح العمليات العسكرية والحسابات الدقيقة للفعل وردّ الفعل.
على صعيد آخر أكد الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان إنه يرغب في إحياء الاتفاق النووي لرفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية الخانقة على بلاده. وبدا أن هناك ما يشبه الضوء الأخضر من المرشد للتحرّك في هذا الاتجاه بحديثه عن إنه يمكن لإيران أن تتفاوض مع أعدائها. ومثل هذا الضوء الأخضر الذي أتى من أعلى سلطة في إيران يفترض التهدئة مع الغرب من أجل تمهيد الأجواء لاستئناف حول الملّف النووي ومن ثمّ رفع العقوبات وهو ما لم يكن عليه موقف المرشد في ظل حكم إبراهيم رئيسي. ولو أخذنا بنظرية المؤامرة في تفسير مصرع رئيسي لوجدنا أنها ذهبَت إلى أن التخلّص من رئيسي كان مطلوبًا من أجل إفساح الطريق أمام شخص يتبنّى نهج التفاوض. وبالتالي فسواء اعتبرنا أن المرشد هو الذي أوعز بانتخاب بزشكيان لحلّ عقدة العقوبات الاقتصادية أو أن بزشكيان هو الذي أقنع المرشد بجدوى التفاوض مع الغرب من أجل رفع العقوبات الاقتصادية فالنتيجة واحدة في الحالتين وهي أن تغيّرًا حدث في إيران نتيجة انتقال سلطات رئيس الجمهورية من شخصٍ لآخر. ومع التأكيد على أن العوامل الموضوعية هي عوامل حاكمة وأساسية ومؤثّرة في القضايا التي تتعلّق بالتحرّر الوطني إلا أن التغيّر في القيادة يمكن أن يؤدي ولو إلى تغيّرات تكتيكية في أسلوب إدارة الصراع وهو ما يمكن أن نلاحظه في الحالة اللبنانية أكثر من الحالة الفلسطينية من خلال الذهاب إلى مراجعة مفهوم وحدة الساحات.
من إجمالي ما سبق تبرز الحاجة إلى تسليط الضوء على العديد من التفاصيل التي تواكب التغيّر في أشخاص الأطراف الرئيسية المنغمسة في الصراع من خلال إثارة السؤال التالي: إلى أين تتجّه تطورّات الصراعات في الشرق الأوسط على ضوء التغيّر المشار إليه؟ وسوف تحاول هذه الدراسة الإجابة على السؤال المذكور عبر تحليل الآثار المحتملة للتغيّر في القيادات على مستوى الدول والمقصود الرئاستين الإيرانية والأمريكية وداخل الحكومة الإسرائيلية، ثم على مستوى حركتّي حماس وحزب الله.
أولًا: التغيّر على مستوى الرئاستين الإيرانية والأمريكية وداخل الحكومة الإسرائيلية:
١-بدايةً بالتغيّر في الرئاسة الإيرانية باعتباره التغيّر الأسبق عهدًا من تغيّر القيادات الأخرى نجد أن الرئيس بزشكيان بنى حملته الانتخابية على تحسين الأوضاع الاقتصادية لبلاده مدركًا أن الطريق إلى رفع العقوبات الاقتصادية يمّر عبر التهدئة مع الغرب وإحياء مفاوضات الاتفاق النووي. لكن المأزق الذي وجد فيه نفسه هو أن توليّه مقاليد الحكم في إيران ارتبط بتصعيد غير مسبوق في المواجهة العسكرية بين إيران وحلفائها من جهة وإسرائيل من جهة أخرى والأهم هو انتقال هذا التصعيد بين إيران وإسرائيل تحديدًا من الشكل غير المباشر إلى الشكل المباشر. وذلك أن هناك فارق كبير بين أن تكون الأراضي الفلسطينية أو اللبنانية هدفًا للجرائم الإسرائيلية البشعة مما يتيح لإيران أن تأخذ دورًا غير مباشر في الصراع عن طريق دعم حركتّي حماس والجهاد الفلسطينيتين وحزب الله اللبناني وبين أن تقع الجرائم الإسرائيلية على أراضي إيران ذاتها، والمقصود بذلك قصف القنصلية الإيرانية في دمشق، واغتيال اسماعيل هنيّة رئيس المكتب السياسي لحركة حماس أثناء وجوده في طهران مما يفرض على إيران أن ترّد بنفسها. بقولٍ آخر أدّى هذا التحوّل النوعي في الهجمات الإسرائيلية من ضرب حلفاء إيران إلى ضرب إيران ذاتها إلى تضييق فرص المناورة أمام بزشكيان. ولا ننسى أن الصورة الذهنية التي روّجها خصوم بزشكيان عنه بعد فوزه في الانتخابات كانت صورةً سلبية جوهرها أنه ليس رجل مواجهة بعكس سلفه رئيسي وأن مثل هذا الوضع الجديد يبدو مقلقًا في ظلّ غياب قيادة عسكرية قوية وحازمة كقيادة قاسم سليماني لفيلق القدس. ومع أن بزشكيان لم يدّع قط أنه وصل الحكم ليواجه إسرائيل والغرب إلا أن السياق الإقليمي لم يلعب لصالحه.
تقتضي الموضوعية الإشارة إلى أن المأزق الذي خلقته إسرائيل بتصعيد هجماتها العسكرية لم يكن مأزق الرئيس بزشكيان وحده لكنه كان مأزق إيران بشكلٍ أعّم. إذ لا ينبغي أن ننسى أن المرشد الذي وافق على إحياء المفاوضات حول الاتفاق النووي وجد نفسه أمام اعتداءٍ إسرائيلي مباشر على سيادة بلاده وبالتالي أمام اختبار صعب لقدرتها على الردع المتبادل مع إسرائيل وكذلك اختبار مصداقيتها كزعيمة لمعسكر الدفاع عن المستضعفين. ومن المعلوم أن نبرة الانتقاد لتأخّر إيران في الثأر لمقتل اسماعيل هنيّة وهو في حمايتها كانت قد بدأَت تعلو بشكلٍ واضح فما بالنا إذن إن قرّرت إيران عدم الردّ أصلًا؟ ولقد برّرت إيران لمنتقديها هذا التأخّر بالرغبة في إعطاء الفرصة للتوصّل للسلام في كلٍ من غزّة ولبنان، أما وأن هذا السلام لم يتحقّق فإنه وجب عليها الردّ.
انعكسَت هذه الحسابات المتناقضة الحاكمة للموقف الإيراني بمؤسساته المختلفة على التصريحات المعلنة لكلٍ من الرئيس الإيراني الجديد وبعض كبار المسؤولين من التيار المحافظ وعلى رأسهم الحرس الثوري. وبينما صرّح مسعود بزشكيان أثناء حضوره اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدّة في نيويورك في سبتمبر ٢٠٢٤م، بإن إسرائيل هي الطرف الذي يسعى لحرب أوسع في المنطقة، وإن إيران لا تريد الوقوع في هذا الفخّ-وهو ما يعني عدم الرد على التصعيد بتصعيد مماثل. فإن مستشار قائد فيلق القدس قال في تصريح له نقلته وكالة إيران إنترناشيونال في ٧ نوڤمبر ٢٠٢٤م، إن بركة دماء هنيّة كانت مفيدة لنا وأخذَت العالم الإسلامي في اتجاه آخر-ما يعني أن اغتيال هنيْة مثّل نقطة فارقة في شكل المواجهة العسكرية بين إيران وإسرائيل. بل إن المرشد الإيراني نفسه الذي كان قد علّق على الضربات الإسرائيلية لإيران في ٢٦ أكتوبر ٢٠٢٤م، والتالية على الضربات الإيرانية لإسرائيل مطلع الشهر نفسه-بقوله إنه لا ينبغي التقليل من نتائج تلك الضربات ولا تهويلها عاد ليتوعّد إسرائيل بما لا يتناسب مع اعتبار ضربات إسرائيل متوسطّة التأثير.
وكنتيجة لكل ما سبق اضطرّت إيران للتحرّك بنفسها لكن تحركّها التزم بالانضباط من خلال الالتزام حصريًا باستهداف مواقع عسكرية إسرائيلية وتجنّب قصف الأهداف المدنية. والآن يأتي السؤال: إلى متى يمكن أن يستمر ردّ الفعل الإيراني ملتزمًا ومنضبطًا إزاء الاستفزازات الإسرائيلية المتتالية؟ الإجابة تتوقّف على مستوى هذه الاستفزازات وما إذا كانت إيران ستجد فيها تهديدًا وجوديًا يستلزم اللجوء إلى خيار شمشون أم لا. وعلى سبيل المثال صرّح كمال خرازي رئيس المجلس الاستراتيجي للسياسات في إيران ومستشار المرشد في مطلع أكتوبر ٢٠٢٤م، بقوله "ليس لدينا قرار بإنتاج قنبلة نووية ولكن إذا تعرّض وجود إيران للتهديد فلن يكون هناك خيار سوى تغيير عقيدتنا العسكرية". وفي السياق نفسه تقدّم عدد من النواب في مجلس الشورى الإيراني يوم ٨ من الشهر نفسه بمشروع قانون لتوسيع الصناعة النووية الإيرانية. ومن المعلوم أن هناك فتوى من الإمام الخميني تحرّم امتلاك إيران للسلاح النووي وهي الفتوى التي التزم بها خلفه علي خامنئي وبالتالي فإن التلويح بامتلاك السلاح النووي سيمثّل خروجًا على الفتوى المذكورة.
٢-بالانتقال إلى التغيّر الوشيك في الإدارة الأمريكية بحلول ٢٠ يناير ٢٠٢٥م، نجد أن ترامب هو صاحب سياسة "الضغوط القصوى على إيران". وهذه السياسة تمت ترجمتها في انسحاب أمريكا من الاتفاق النووي عام ٢٠١٨م، وبالتالي العودة لفرض العقوبات الاقتصادية على إيران، بل وتشديدها وتوسيع نطاقها باستهداف المزيد من الشخصيات والمؤسسات الإيرانية، فضلًا عن اغتيال قاسم سليماني أهم شخصية عسكرية إيرانية على الإطلاق ومعه مهدي المهندس نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي. كما أن ترامب هو صاحب نظرية صفقة القرن التي تقوم على تصفية القضية الفلسطينية وعقد اتفاقيات السلام الإبراهيمي مع أكبر عدد من الدول العربية. وبما أن هذه هي سياسات ترامب في ولايته الأولى فمن المتصوّر أن رجوعه إلى البيت الأبيض سوف يمثّل امتدادًا لسياساته السابقة. وبالفعل ترامب علّق، وهو في قلب حملته الانتخابية على ضرب إيران أهدافًا عسكرية داخل إسرائيل بأنه يجب على إسرائيل أن تهاجم المنشآت النووية الإيرانية. ويختلف ذلك اختلافًا جذريًا عن موقف بايدن في الضغط على إسرائيل لعدم استهداف المنشآت النفطية ولا المواقع النووية الإيرانية، والتأكيد على أن إسرائيل إن قرّرت العكس فإن واشنطن لن تؤيدها. كما أن ترامب صرّح أيضًا بأن مساحة إسرائيل صغيرة وتحتاج لزيادة رقعتها الجغرافية، ما يعني بالضرورة توسّعها على حساب الدول العربية المجاورة.
عندما انتقل ترامب من وضع المرشّح للرئاسة إلى وضع الرئيس الأمريكي المقبل، عكسَت اختياراته للشخصيات التي من المنتظر أن تعمل معه في إدارته الجديدة عددًا من أشّد أنصار إسرائيل تطرّفًا وبالتالي من أكثر خصوم إيران شططًا. وعلى سبيل المثال مايك والتز مستشار الأمن القومي الأمريكي الذي ينادي بضرورة فرض عقوبات أكثر صرامة على إيران، كما تضّم القائمة بيت هيجي وزير الدفاع الذي يعتبر أن معجزة بناء الهيكل مكان المسجد الأقصى ستكون هي خامسة المعجزات بعد وعد بلفور ونشأة دولة إسرائيل والانتصار في حرب ١٩٦٧م، واعتراف ترامب بالقدس عاصمةً لإسرائيل. وهي تشمل اسم ماركو روبي كوزير الخارجية الذي يتبنّى مواقف بالغة الصرامة تجاه إيران والصين، ومايك ها كابي كسفير لأمريكا لدى إسرائيل وهو الذي يقول إنه لا وجود لمصطلح مستوطنات إسرائيلية لأن الأرض أساسًا هي أرض إسرائيل وقس على ذلك. يضاف إلى ذلك أن الجمهوريين يتمتّعون بالأغلبية داخل الكونجرس ما يطمئن ترامب على تمرير قراراته.
لكن ما سبق ذكره عن تناقضات العوامل المؤثّرة على تطورات الموقف الإيراني ينطبق أيضًا مع اختلاف في بعض التفاصيل على الموقف الأمريكي في ظلّ إدارة ترامب. فلقد أفصح الأخير في أثناء حملته الانتخابية عن رغبته في إنهاء الصراعات الدولية. ومع أن حرص ترامب على عدم التورّط في الحروب الخارجية معروف لدينا من قبل إلا أن الأربعة أعوام الفاصلة ما بين خروجه من البيت الأبيض وعودته إليه انطوت على تعقّد شديد في العلاقات الدولية مع اندلاع الحرب في أوكرانيا ووقوع الحرب على غزّة. وبالتالي فإن حزمة الأهداف التي يتطلّع إليها ترامب تتضمّن: تصفية القضية الفلسطينية وإتمام صفقة القرن وتوقيع اتفاقية التعاون الاستراتيجي الضخمة مع السعودية وردع إيران وحلفائها-أهداف يعاكسها واقع جديد قوامه تزّعم السعودية لتحالف دولي يتبنّى حل الدولتين والتطور الحثيث في العلاقات السعودية-الإيرانية على كافة المستويات بما في ذلك المستويين العسكري والأمني والتطور في القدرات النووية الإيرانية وكذلك في قدرات حلفائها. وهكذا فإنه في الوقت الذي صرّح فيه ترامب أثناء حملته الانتخابية بأنه لا يريد إيذاء إيران، استطرد قائلًا إنه لا يمكن لإيران أن تمتلك سلاحًا نوويًا. وهذا معناه أن الموقف الأمريكي مفتوح على عدة خيارات سيتم ترتيبها بما يتوافق مع المصلحة الأمريكية لكن إلى أي مدى يتوافق هذا مع المصلحة الإسرائيلية؟ هذا ينقلنا إلى النقطة التالية.
٣-مبدئيًا فإن ثمّة تطورّات مهمة في إسرائيل وقعَت خلال الشهور القليلة الماضية. تمثّلت في انسحاب بيني جانت وجادي زينكو الوزيرين في مجلس الحرب الإسرائيلي من حكومة الطوارئ برئاسة نتنياهو في يونيو ٢٠٢٤م.ثم إقالة نتنياهو لوزير دفاعه يوآف جالانت في نوڤمبر ٢٠٢٤م.وسمحَت التطورّات السابقة لنتنياهو بإحكام قبضته على صنع القرار عبر التخلّص من أبرز منتقدي طريقته في إدارة الحرب في غزّة ولبنان ممن اتهموه بالتحرّك وفق مصالحه الضيّقة. كما أن هذه التطورّات جعلَت-وهو الأهم-الدائرة المحيطة بنتنياهو تخلو من شخصية ذات خلفية عسكرية. ففي مقابل الخبرة العسكرية الطويلة ليوسف جالانت جاء خَلَفه يسرائيل كاتس من خلفية غير عسكرية. يضاف لذلك أن كاتس لم يتعلّم من أخطاء الماضي، فبينما رفض جالانت علنًا عودة السيطرة الإسرائيلية على قطاع غزّة بعد انتهاء الحرب نجد أن كاتس كان رافضًا لخطة رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون بالانسحاب من غزّة وهدّد في حينه بالاستقالة من منصبه كوزير للزراعة. كما أن لكاتب رؤيته لليوم التالي في غزّة ومن بين عناصرها إقامة جزيرة قرب سواحل غزّة تسيطر إسرائيل على محيطها وينشأ فيها ميناء ومحطات للكهرباء والغاز وتحلية المياه. وعلى الجبهة اللبنانية يرفض كاتس أي تسوية سياسية لا تشمل نزع سلاح حزب الله. أما بخصوص إيران فإنه يعتبر أن منشآت إيران النووية صارت أقرب للقصف من أي وقت مضى. ومثل هذه الأطروحات يتوافق معها نتنياهو الذي يراوغ في قبول كل مبادرات التسوية في غزة ويمضي في تنفيذ خطته بفصل شمال غزّة عن جنوبها ويؤسّس لوجود عسكري إسرائيلي دائم فيها إضافة إلى تكثيف خطة التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية. وما يفعله في غزّة يحاول أن يفعله في لبنان عبر اشتراطه إدخال تعديلات مستحيلة على قرار مجلس الأمن رقم ١٧٠١ من نوع احتفاظ إسرائيل بحق تنفيذ أعمال عسكرية داخل لبنان حتى بعد التوصّل لوقف إطلاق النار. وهو المسكون بهدف ضرب المنشآت النووية الإيرانية كما فعلت إسرائيل من قبل في العراق وسوريا. أما عن حدود التأثير التي يمكن أن تصل إليها هذه التغييرات في طقم الحكم في إسرائيل فإن هذا مرتبط بتطورات الواقع الميداني في غزّة ولبنان من جهة، ومرتبط بالحسابات الأمريكية وتصوّر إدارة ترامب للدور الذي يمكن أن تلعبه في صراعات الشرق الأوسط من جهة أخرى لكنها لا تدور في فراغ.
ثانيًا: التغيّر على مستوى قيادة حركتّي حماس وحزب الله
منذ 7 أكتوبر ٢٠٢٣م، رفع حسن نصر الله شعار وحدة الساحات، ما يعني ترابط ميادين المواجهة مع إسرائيل، وتوزيع الأدوار بين محور المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق وسوريا واليمن وبالضرورة في إيران ومن هذا المنطلق اشتبك حزب الله مع إسرائيل وقصفها صاروخيًا في اليوم التالي مباشرةً على وقوع طوفان الأقصى. ومنذ هذا التاريخ وحتى اغتيال نصر الله في ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤م، توالى انضمام عناصر محور المقاومة الواحد منها تلو الآخر إلى حرب غزّة. وعلى الرغم من اشتداد حدّة الهجمات الإسرائيلية على حزب الله بشكلٍ غير مسبوق، وتوسيع نطاق تلك الهجمات من الجنوب والضاحية إلى أنحاء متفرقة في بيروت، إلا أن قيادة الحزب كانت تسمح له بمواصلة التمسّك بشعار وحدة الساحات. أما بعد اغتيال نصر الله فقد اختلف الوضع وبدأت ترتفع الأصوات المنادية بوقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية وتنفيذ القرار ١٧٠١، وهو ما كان يعني عمليًا فكّ الارتباط بين الساحتين اللبنانية والفلسطينية. أكثر من ذلك ظهرت المطالبة بسرعة انتخاب رئيس للجمهورية استغلالًا لانشغال حزب الله بإعادة ترتيب البيت الداخلي. وفي هذا الإطار أعلن حزب الله تفويض نبيه برّي رئيس مجلس النوّاب بالتفاوض نيابةً عنه من أجل إنهاء الحرب وقام في الوقت نفسه بتكثيف هجماته الصاروخية على إسرائيل لحين تحقيق التسوية السياسية. وفي أول خطاب يلقيه نعيم قاسم بعد أن انتُخب أمينًا عامًا للحزب خلفًا لحسن نصر الله انبرى في تبرير سبب الانخراط في طوفان الأقصى قائلًا إن الحزب لجأ إلى حربٍ استباقية لإحباط المشروع الأمريكي-الإسرائيلي الذي يهدف إلى القضاء على المقاومة وعلى شعوب المنطقة. ونفى قاسم أي دور لإيران في قرار الحزب بالمشاركة في الحرب وإن كان قد حيّا علي خامنئي المرشد الإيراني الذي وجّه الحرس الثوري ليكون في خدمة أصحاب الأرض كما حيّا قاسم سليماني القائد الأسبق لفيلق القدس الذي وصفه بقائد محور المقاومة، والذي كان يتنقّل بين إيران ولبنان وسوريا والعراق من أجل تعزيز المقاومة وأعطى المقاومة الفلسطينية بالذات ما لم يعطه لها أحد.
وحتى نقدّر أثر التغيّر في قيادة الحزب على اختلاف تعامله مع مبدأ وحدة الساحات نعود إلى القرار الذي اتخذّه حسن نصر الله بدعم نظام بشّار الأسد بعد ٢٠١١م،هذا الدعم الذي لقي انتقادًا واسعًا من خصوم الحزب لتوريط لبنان في الحرب السورية وحتى من قطاع واسع داخل أنصار الحزب لكون هذه الحرب ليست حربًا عادلة وهو ما أثّر فعليًا على الشعبية العربية الواسعة التي كان قد اكتسبها الحزب في حرب يوليو٢٠٠٦م.لكن الحزب لم يتزحزح عن موقفه وتمسّك في الحرب السورية بمبدأ وحدة الساحات لإسناد نظام بشّار الأسد كما أن الحرس الثوري الإيراني والحشد الشعبي العراقي وجماعتي فاطميون وينبئون من أفغانستان وباكستان شاركوا جميعًا في الإسناد. وبرّر نصر الله مشاركته في الحرب السورية بأن هناك مؤامرة على نظام الأسد لأنه يعّد ركنًا أساسيًا من أركان محور المقاومة.
هذه العلاقة بين تغيّر القيادة والتغيّر في طريقة إدارة المعركة لا تظهر لنا في حالة حماس بعد اغتيال يحيي السنوار، وذلك أن الحركة كانت قد قبِلت بمبدأ التفاوض لوقف الحرب قبل عملية الاغتيال بشهور طويلة. وطرح الوسطاء المصريون والقطريون العديد من المبادرات للتوصّل لوقف إطلاق النار إلا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أفشلها جميعًا لإفساح الوقت أمام تصفية القضية الفلسطينية وإعادة تشكيل خريطة المنطقة. ويستثنى من ذلك هدنة قصيرة تم التوصّل إليها في -نوڤمبر ٢٠٢٣م، جرى خلالها تبادل للأسرى من الجانبين. هكذا فإن خيار التسوية السياسية على الجبهة الفلسطينية كان خيارًا مبكّرًا لحركة حماس وهو ما يختلف بوضوح عن حالة حزب الله.
خاتمة
حاولتَ هذه الورقة أن تحلّل أبعاد الخريطة الجديدة لقيادات الشرق الأوسط على مسار صراعات المنطقة، وبينما رصدَت تأثيرًا للتغيّر في القيادات الإيرانية والأمريكية وبعض قيادات إسرائيل فضلًا عن قيادة حزب الله على التطورّات المحتملة لتلك الصراعات، فإنها لم تتوصّل لمثل هذا التأثير بعد تغيّر قيادة حماس.