منذ هجمات حركة المقاومة الفلسطينية حماس في السابع من أكتوبر 2023م، والتي نجم عنها مقتل ما يقرب من 1200 شخص، شنت إسرائيل الحرب الأكثر دمارًا وخرابًا على مدار تاريخها، والتي راح ضحيتها عشرات الآلاف من الفلسطينيين ونزوح ما يقرب من 2 مليون آخرين. في حين لم تُحدد تل أبيب بعد رؤيتها الخاصة بشأن كيفية إدارة قطاع غزة بعد انتهاء الحرب الدائرة، بعيدًا عن المفاهيم العامة بشأن تولي الفلسطينيين الذين لا تربطهم صلة بحماس أو السلطة الفلسطينية السيطرة تدريجيًا على القطاع. وفي الوقت الذي أشار فيه الجيش الإسرائيلي إلى عدم رغبته في احتلال القطاع إلى أجل غير مسمى، كشف عدد من أعضاء الحكومة اليمينية التي يتزعمها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، عن سعيهم للقضاء على حركة حماس. كما تزايدت دعوات وزراء جناح اليمين الإسرائيلي بشأن الترحيل القسري للفلسطينيين خارج قطاع غزة وأن يتم بناء المستوطنات الإسرائيلية داخل القطاع، حيث تصبو حكومة نتنياهو إلى تحقيق ما لا يقل عن إعادة خلق واقع جديد على كافة الحدود الإسرائيلية.
وبعد مضي أكثر من عام على بدء الحرب، أصبحت احتمالية معايشة "غدٍ أفضل" غير واردة لسكان قطاع غزة أو لسائر دول المنطقة. على النقيض، فبعد عام من أعمال القتل والاستهداف الإسرائيلي غير المشهود والتدمير المنهجي لبنية القطاع، وسًعت تل أبيب نطاق حربها من خلال قصفها المُكثف للأراضي اللبنانية. وحتى بدون أن يطرأ تغيير على هيكل الحكومة الإسرائيلية الراهنة، قد تتجه إسرائيل ودول الجوار نحو غد مُغاير تمامًا: تُعيد فيه القوات الإسرائيلية احتلال قطاع غزة وربما حتى جنوب لبنان، إلى جانب بسط سيطرتها على أراضي الضفة الغربية إن لم يكن ضمها. وهو ما يعد الوصفة المثالية لمفهوم الحرب الأبدية، حيث يستمر القتال، وتتصاعد حصيلة القتلى، ويتواصل الدمار المادي الكارثي، فضلًا عن النزوح الجماعي للمواطنين، وتردي الأوضاع الإنسانية
السياسات الأمريكية
منذ 7 أكتوبر، 2023م، قام وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بـ 11 زيارة إلى منطقة الشرق الأوسط. حيث تشمل أهداف واشنطن بشكل عام إلى إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين، وتسريع وتيرة وصول المساعدات الإنسانية إلى الفلسطينيين، والتفاوض بشأن خطة ما بعد الحرب داخل القطاع والتي من شأنها أن تمنع حركة المقاومة الفلسطينية حماس من تولي مسؤولية إدارة القطاع، فضلًا عن انسحاب القوات الإسرائيلية، وإنشاء قوات داعمة للاستقرار تحت قيادة عربية. وبخلاف هدف إنهاء القتال الدائر بقطاع غزة، تسعى الولايات المتحدة إلى التوصل إلى توافق بشأن التوقيع على اتفاق وقف لإطلاق النار بين إسرائيل ولبنان من شأنه أن يُمهد الطريق أمام سلام دائم. ومع ذلك، تحطمت الأهداف الأمريكية المنشودة على صخرة دعم واشنطن العسكري والدبلوماسي الراسخ لإسرائيل.
الدعم الأمريكي العسكري لإسرائيل
على مدار أكثر من عام، ساهم الدعم العسكري الأمريكي الهائل لإسرائيل في تغذية واستمرارية عمليات الأخيرة العسكرية على كل من قطاع غزة، والضفة الغربية، ولبنان، وسوريا، والعراق، واليمن، وإيران. لطالما كان ذلك الدعم الراسخ لأمن إسرائيل ركيزة أساسية للسياسات الخارجية الأمريكية على مدار تاريخ كافة الإدارات المتعاقبة منذ عهد الرئيس الأمريكي الراحل هاري ترومان. ومنذ نشأة إسرائيل في 1948م، حرصت الولايات المتحدة على دعمها بما يقرب من 160 مليار دولار في شكل مساعدات ثنائية تركز على معالجة البيئة الأمنية الجديدة والمُعقدة من خلال قنوات الدعم العسكري والتعاون المشترك. إلى جانب العمل على تعزيز قابلية التشغيل البيني عبر المناورات العسكرية المشتركة، ومساعدة إسرائيل في الحفاظ على تفوقها العسكري النوعي على كافة جيرانها داخل المنطقة. ساهم هذا الدعم الأمريكي في تحويل الصناعة العسكرية الإسرائيلية وقطاع التكنولوجيا لدى تل أبيب إلى أحد أكبر المُصدرين للقدرات العسكرية على مستوى العالم. ومنذ عام 1983م، حرصت الولايات المتحدة وتل أبيب على عقد لقاءات دورية بصفة مستمرة من خلال مظلة المجموعة العسكرية-السياسية -العسكرية المشتركة. وذلك بهدف دعم السياسات المشتركة للدولتين، ومخاطبة المخاوف المشتركة، وتعريف مجالات جديدة للتعاون الأمني. وتؤكد هذه الاجتماعات واللقاءات صلابة الشراكة الاستراتيجية القائمة بين البلدين.
وتعد إسرائيل أكثر دول العالم تلقيًا للمساعدات العسكرية الأمريكية بموجب البند رقم 22 للبرنامج الأمريكي بشأن "التمويل العسكري الأجنبي". وقد اتخذ ذلك طابعًا رسميًا عبر التوقيع على مذكرة تفاهم بين الجانبين تمتد لمدة 10 أعوام (2019-2028م). وتماشيًا مع بنود المذكرة، تقدم الولايات المتحدة سنويا 3.3 مليار دولار من التمويل العسكري الأجنبي لإسرائيل، و500 مليون دولار تخصص لدعم برامج التعاون المشترك في مجال الدفاع الصاروخي. ومنذ السنة المالية لعام 2009م، بلغ إجمالي التمويل الأمريكي المقدم لتدعيم منظومة الدفاع الصاروخي الإسرائيلي ما يقرب من 4 مليارات دولار، بما في ذلك 1.3 مليار دولار مخصصة لدعم منظومة القبة الحديدية اعتبارًا من السنة المالية 2011م. وعبر مظلة برنامج التمويل العسكري الأجنبي، تمنح واشنطن إسرائيل إمكانية الحصول على أكثر المعدات العسكرية تقدمًا وتطورًا على مستوى العالم، بما في ذلك المروحيات المقاتلة من طراز "إف-35". كذلك تعد إسرائيل مؤهلة للحصول على تمويل التدفق النقدي ومصرح لها باستخدام مخصصاتها السنوية من التمويل النقدي الأجنبي لشراء المواد، والخدمات، وبرامج التدريبات الدفاعية من خلال نظام المبيعات العسكرية الأجنبية. كما تتيح مذكرة التفاهم الحالية لإسرائيل إمكانية إنفاق جزء من التمويل العسكري الأمريكي-الذي تتلقاه بموجب برنامج التمويل الأجنبي-على المواد الدفاعية إسرائيلية المنشأ وليس الأمريكية. ومنذ عام 1992م، قدمت الولايات المتحدة لإسرائيل معدات وذخيرة عسكرية بقيمة تقترب من 7 مليارات دولار بموجب برنامج المواد الدفاعية الزائدة، بما في ذلك برامج أسلحة وقطع غيار. كما تحتفظ الولايات المتحدة بذخيرة حربية احتياطية داخل إسرائيل، والتي يمكن استخدامها لتدعيم دفاعات الأخيرة في حالات الطوارئ العسكرية.
بخلاف المساعدات الأمنية ومبيعات الأسلحة، تنخرط الولايات المتحدة ضمن مجموعة من المبادلات مع الجانب الإسرائيلي، والتي تشمل إجراء المناورات العسكرية المشتركة، وإجراء البحوث المشتركة، وتطوير الأسلحة. فضلًا عن، توقيع الجانبين عددًا من اتفاقيات التعاون الدفاعي الثنائية والتي تشمل: اتفاقية المساعدة الدفاعية المتبادلة (1952م)؛ اتفاقية الأمن العام للمعلومات (1982م)؛ اتفاقية الدعم اللوجستي المتبادل (1991م)؛ اتفاقية مركز القوات (1994م). وبموجب القانون الأمريكي، تم تصنيف إسرائيل كحليف رئيسي غير عضو بحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهي مكانة تُتيح للشركاء من خارج حلف الناتو مزايا معينة في مجالات التجارة الدفاعية والتعاون الأمني. كما أنها ترمز بشكل قوي لعلاقتها الوثيقة مع الحليف الأمريكي. واتساقًا مع المتطلبات التشريعية، تقوم السياسات الأمريكية على مساعدة إسرائيل في الحفاظ على تفوقها العسكري وتدعيم قدراتها في مجابهة وهزيمة أي تهديد عسكري تقليدي حقيقي يواجهها من قبل دولة ما، أو ائتلاف محتمل من الدول، أو من جانب أطراف فاعلة غير حكومية، مع الحفاظ على الحد الأدنى من الأضرار والإصابات.
وعلى الرغم من أنه غير مسموح للولايات المتحدة بتقديم مساعدات أمنية للحكومات الأجنبية التي تتورط في ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بموجب ما ينص عليه قانون "ليهي" الأمريكي باعتبار ذلك " خط أحمر"، إلا أن واشنطن قامت، منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023م، بسن تشريع يقضي بتقديم دعم عسكري لإسرائيل بما يُناهز قيمته 17 مليار دولار، بما يشكل نحو 15 % من إجمالي قيمة الميزانية الدفاعية لإسرائيل. وهو ما دفع عددًا من الخبراء التشريعيين وبعض المنتقدين الآخرين للمجادلة بأن واشنطن لم تطبق ما ينص عليه قانون "ليهي" فيما يتعلق بممارسات إسرائيل لاسيما بعد قتلها عشرات الآلاف من المواطنين الفلسطينيين واللبنانيين العزل، بما في ذلك النساء والأطفال، وتسبُبها في نزوح مئات الآلاف.
وخلال الأشهر الأخيرة، كانت مشاعر الدعم والمؤازرة لإسرائيل من قبل بعض الجماعات داخل الولايات المتحدة والعديد من الدول الأخرى قد بدأت تخفت في ضوء الحملة الإسرائيلية العسكرية الشرسة ضد حركة المقاومة الفلسطينية حماس وضد لبنان والتي أودت بحياة الآلاف من المدنيين، وأشعلت فتيل أزمة إنسانية تصل إلى حد المجاعة.
في الوقت ذاته، دعا بعض المحللين الأمريكيين والإسرائيليين خلال الأعوام الأخيرة، إلى ضرورة إعادة تقييم المساعدات العسكرية الموجهة لإسرائيل، خاصة بعد أن أصبحت الأخيرة في مصاف الدول الغنية-حيث تحتل المركز الرابع عشر عالميًا في قائمة أغنى الدول من حيث نصيب الفرد من الناتج المحلي-فضلًا عن، امتلاكها واحداً من أعتى الجيوش على مستوى العالم. وبخلاف وضع إسرائيل خلال حقبة الحرب الباردة إبان سبعينيات القرن الماضي، حينما بدأت المساعدات الأمريكية تنهال على تل أبيب، فقد أضحت إسرائيل الحديثة أكثر حتى من كونها قادرة على حماية أمنها الخاص. لذلك، فإن المساعدات الأمريكية قد تتسبب في تشويه بلا داع للعلاقات الثنائية والسياسات الخارجية للدولتين. على الجانب الآخر، قام أكثر من 300 مشرع من الحزب الجمهوري -خلال عام 2021م -بالمجادلة بأن الدعم الأمريكي لإسرائيل يعد وجهًا حيويًا للإنفاق ويتسم بالجدوى من حيث التكلفة، كونه يساهم في تدعيم الأمن القومي الأمريكي، بالتالي، ينبغي ألا يتم تقليصه أو جعله مشروطًا.
الدعم الأمريكي الدبلوماسي لإسرائيل
تعتبر الولايات المتحدة أولى دول العالم اعترافًا بالحكومة الإسرائيلية المؤقتة التي تشكلت بعد إعلان قيام دولة إسرائيل في عام 1948م، وظلت واشنطن، على مدار عقود عدة، داعمًا عتيدًا وحائط صد منيع للدولة اليهودية. لطالما استخدمت واشنطن حق الاعتراض "الفيتو" الذي تمتلكه بصفتها عضو دائم لدى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في سبيل عرقلة القرارات التي تعارضها إسرائيل. ورغم دعم الرئيس بايدن الهائل “لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" ومواصلته تزويد إسرائيل بالمساعدات العسكرية، إلا أنه وبعض أعضاء الكونجرس الأمريكي أبدوا انتقادات متزايدة لمواصلة بنيامين نتنياهو حربه على قطاع غزة ولبنان، وسط غياب تام لأي خطة تخص اليوم التالي للحرب. كما حذر بايدن من أن إسرائيل تجازف، من خلال قصفها الصاروخي العشوائي، بخسارة الدعم الدولي الذي تحظى به. في أثناء ذلك، سعى بعض المُشرعين الديمقراطيين إلى جعل الدعم الأمريكي لإسرائيل مشروطًا بالتزامات من قبل تل أبيب بالحد من الخسائر في صفوف المدنيين.
مع ذلك، احتشدت إدارة بايدن خلف الحكومة الإسرائيلية في أواخر مايو الماضي، بعد أن طالب قضاة المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي يواف غالانت على خلفية الاتهامات بارتكاب جرائم حرب. حيث وصف البيت الأبيض قرار الجنائية الدولية بأنه " شائن" و"خاطئ للغاية". وفي الوقت الذي توشك إدارة بايدن على نهايتها، لاتزال الهجمات الإسرائيلية بالقنابل أمريكية -الصنع، تواصل قصفها للأسر الفلسطينية بقطاع غزة، ويزداد نطاق الحرب اتساعًا ليشمل لبنان. فضلًا عن، تنامي احتمالات تصاعد وتيرة الهجمات المتبادلة بين إسرائيل وإيران. وإزاء هذه الأحداث، يبقى المسؤولون الأمريكيون في أمس الحاجة لإيجاد سبيل من أجل إعادة الاستقرار لمنطقة الشرق الأوسط.
وخلال ما تبقى لإدارة بايدن من بضعة أسابيع قليلة، يبدو وأن المسؤولين الأمريكيين يصبون تركيزهم على رسم خطة لما بعد الحرب داخل قطاع غزة، والتوصل لاتفاق وقف إطلاق نار في لبنان. مع ذلك، لا توجد أي بادرة تشير إلى أن نتنياهو قد يكون مستعدًا أو راغبًا في إنهاء الحرب سواء داخل غزة أو في لبنان. ووسط غياب تام للرؤية الاستراتيجية لايزال نتنياهو مصرًا على هزيمة حركة المقاومة الفلسطينية حماس وحزب الله اللبناني شر هزيمة، فيما تبدو إدارة بايدن غير مستعدة أيضًا للامتناع عن تزويد إسرائيل بالأسلحة كوسيلة للضغط. بعبارة أخرى، لم تكن إسرائيل لتقوى على مواصلة أعمال القتل والتشريد للمدنيين داخل غزة ولبنان لولا الدعم العسكري و"الدبلوماسي “الأمريكي. وعلى الرغم من امتلاك واشنطن القدرة على ممارسة نفوذ على الحكومة الإسرائيلية، إلا إنها تفتقر للإرادة السياسية لفعل ذلك. فضلًا عن، أن رفض إدارة بايدن المتواصل أو عدم رغبته لوضع حواجز أو رسم خطوط حمراء لإسرائيل، قد أدى إلى توسيع نطاق الحربين داخل قطاع غزة ولبنان. وعلى ما يبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد خلص إلى أنه في إمكانه فعل ما يحلو له دون تحمل أية عواقب. ففي لبنان، تواصل إسرائيل قصفها لمواقع حزب الله، وتحدى التحذيرات الأمريكية، وضرب أهدافا سكنية داخل العاصمة بيروت، مما أودى بحياة المئات من النساء والأطفال. ويشار إلى أنه قبل بضعة أسابيع، عندما بدأت إسرائيل هجومها على لبنان، حاولت إدارة بايدن التفاوض على وقف إطلاق النار وفشلت في ذلك، ومنذ ذلك الحين توقفت عن الدعوة إلى وقف فوري للقتال.
يجادل بعض المسؤولين الأمريكيين بأنه مع الإعلان عن مقتل قادة حماس وحزب الله اللبناني، تكون إسرائيل قد حققت أهدافها الاستراتيجية المنشودة، وأصبح لدى نتنياهو الغطاء السياسي الذي يخوله اتخاذ قرار بإنهاء الحرب داخل قطاع غزة ولبنان، مع ذلك لاتزال نوايا رئيس الوزراء الإسرائيلي مُبهمة. حيث يشهد الداخل الإسرائيلي محاكمات لقادة إسرائيليين على خلفية تهم فساد وتحميلهم مسؤولية الفشل الأمني الذريع المشهود العام الماضي. لذا، فإن تقييمات العديد من المسؤولين الأمريكيين تُشير إلى أن نتنياهو يرى في هذه الحرب طوقًا للنجاة. وبرغم من دعوة المسؤولين الأمريكيين إلى إنشاء قوة حفظ سلام عربية وإعادة تشكيل للسلطة الفلسطينية من أجل تولي إدارة قطاع غزة، إلا أن الحكومة الإسرائيلية لم تبد بعد قبولها بهذه المقترحات ولم تفصح في الوقت ذاته عن رؤيتها الخاصة بشأن ما ينبغي حدوثه بعد انتهاء الحرب. من ناحية أخرى، يبدو نتنياهو واثقا من إمكانية النجاح في مقاومة أية ضغوط أمريكية للقبول بهذه المقترحات. ورغم الدعوات الأمريكية لإسرائيل بالسماح بدخول المساعدات الإنسانية، إلا أن سياسة تجويع الشعب الفلسطيني لاتزال مستمرة على مدار أشهر بمختلف أنحاء القطاع. لذلك، يبدو وأن استنتاجات نتنياهو خلصت إلى أن اقتراب موعد إجراء الانتخابات الأمريكية والانتقال من إدارة أمريكية لأخرى، يٌفسح له مجالًا ويسمح له بمتابعة أهدافه دون أن يأبه كثيرًا، أو بالأحرى دون أن يأبه مطلقًا، بالأمنيات والمطالب الأمريكية.
الآفاق المستقبلية:
قبل اندلاع أحداث أكتوبر 2023م، ببضعة أعوام، كانت إسرائيل تقترب من أن تحظى بقبول جيرانها في المنطقة. حيث قررت تركيا، التي تعد أحد أكبر القوى الإقليمية، استئناف علاقاتها الدبلوماسية مع تل أبيب، بالإضافة إلى اللقاء الذي جمع بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والعلاقات التجارية المتنامية بين البلدين. فضلًا عن، معاهدات السلام التي وقعتها تل أبيب مع مصر والأردن في السابق. في حين أن بعض البلدان العربية الأخرى كانت على وشك تأسيس علاقات اقتصادية، وتجارية، ودبلوماسية مع تل أبيب. وكان المسؤولون الأمريكيون يحاولون في هذا الصدد إقناع سائر الدول العربية بأن تحذو حذو جيرانها. إلا أن هذه الديناميات قد تبدلت على نحو كبير نتيجة الخيارات التي اتخذتها القيادة الإسرائيلية منذ أكتوبر 2023م، لاسيما في ظل دعم إدارة بايدن غير المتزعزع لتل أبيب عبر منحها الغطاء السياسي، والعتاد، والذخيرة بما يقضي على أية احتمالات بشأن اللجوء إلى الخيار الدبلوماسي والاعتماد كليًا على الخيارات العسكرية. وهكذا برزت إسرائيل كقوة مهيمنة تهدد الاستقرار الإقليمي والمصالح القومية الرئيسية للولايات المتحدة.
وقد تمثل رد الفعل الإقليمي في إعادة بعض دول المنطقة التفكير في علاقاتها مع تل أبيب والتأكيد على سياساتها المتبعة في هذا الشأن منذ أمد بعيد. حيث قررت أنقرة تعليق علاقاتها التجارية مع الجانب الإسرائيلي في أوائل 2024م، فيما أدانت وزارة الخارجية التركية بأشد العبارات الهجمات الإسرائيلية على إيران التي وقعت في أواخر أكتوبر. كما عكس البيان الصادر عن الرياض موقفًا مماثلًا بالقول " من خلال مواصلة ارتكاب أعمال الإبادة الجماعية داخل قطاع غزة، والتلويح باحتمالية ضم أراضي الضفة الغربية، إلى جانب قتل المدنيين يوميًا في لبنان، فإن إسرائيل قد دفعت منطقتنا صوب شفا حرب كبرى". وشدد البيان على موقف المملكة الراسخ بشأن رفض التصعيد المستمر داخل المنطقة وتوسع نطاق الصراع بما يهدد أمن واستقرار دول المنطقة وشعوبها". بالمثل، أعلنت دولة الإمارات عن إدانتها الشديدة للاستهداف العسكري الإسرائيلي للجمهورية الإسلامية الإيرانية، معربة عن قلقها البالغ إزاء التصعيد المستمر وتبعات ذلك على السلام والاستقرار الإقليميين.
بأي حال من الأحوال لا يمكن للقوة العسكرية المُطلقة أن تجعل إسرائيل أو المنطقة تنعمان بالأمن. وقد ثبت أن الدعم الدبلوماسي والعسكري الأمريكي الراسخ لإسرائيل قد لعب دورًا أساسياً في استمرار عملياتها العسكرية ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني وغيرهم.
إن الخيار العسكري لن يكون حلاً للصراع سواء داخل غزة أو لبنان. وقد قال وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان آل سعود خلال تصريحات صدرت في أكتوبر 2024م:" أن خفض التصعيد وتمهيد الطريق صوب سلام مستدام وسط هذا الدمار واليأس يستلزم التحلي بروح القيادة والشجاعة. فقد حان الوقت لبدء مسار للتسوية لا رجعة فيه، يقودنا في النهاية إلى إقامة دولتي فلسطين وإسرائيل تعيشان جنبًا إلى جنب".
عادة ما يكون الأمريكيون هم من يحاولون إنجاز تقدم سياسي لأزمات الشرق الأوسط. إلا أن الأمر قد يستغرق من الإدارة الأمريكية الجديدة بضعة أشهر كي تقرر وتحدد أولوياتها. وقد يأمل المرء أن تأتي الفرق القيادية الجديدة التي ستتشكل داخل البيت الأبيض، ومجلس الأمن القومي، ووزارتي الخارجية والدفاع الأمريكيتين، برؤية أخرى تسعى إلى تقييد اعتماد إسرائيل المطلق على القوة العسكرية وإقناع قادتها بالسعي إلى الحل الدبلوماسي والاعتراف بالمطالب الشرعية للشعب الفلسطيني. وقد تم بالفعل وضع إطار متصور للسلام والاستقرار الإقليمي ضمن مبادرة السلام العربية المطروحة من قبل القيادة السعودية قبل بضعة عقود، وتنص مبادئها الرئيسية على إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية. ولا يزال هذا المقترح يحمل نفس القوة التي كان يتمتع بها قبل بضعة عقود، ومن شأنه أن يعزز السلام والاستقرار الإقليميين، وأن يخدم كلا من مصالح الولايات المتحدة والمصالح الإقليمية، وأن يُساهم في السلام والازدهار العالميين.