أكد ثوماس نيف في كتابه (Fallen Pillars 1995) عن السياسة الأمريكية حول فلسطين وإسرائيل، أن خبراء وزارة الخارجية الأمريكية ووزارة الدفاع ووكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) عارضوا عام 1947م، إنشاء دولة إسرائيل، لأن إنشائها لن يحقق الاستقرار في الشرق الأوسط، سيثير المشاكل وسيهدد المصالح الأمريكية، ولكن الرئيس ترومان تجاهل كل هذه المعارضة ووافق على قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة 29 نوفمبر 1947م، وكان ترومان في عام الانتخابات الرئاسية، وفضل مصلحته الشخصية وارتباطه بالحركة الصهيونية والجماعات اليهودية، ونشهد الآن مصداقية الخبراء فلم تشهد منطقة الشرق الأوسط استقرارًا منذ إنشاء إسرائيل حتى الآن، والمنطقة تعيش حالة الحروب التي تشنها إسرائيل 1956، 1967، 1973، 197، 198، 2006، 2008، 2012، 2014، 2019، 2021م، وحربها المستعرة على الشعب الفلسطيني، هي إبادة جماعية كما نشهدها اليوم، وحتى اتفاقيات السلام التي عقدتها إسرائيل تجاوزتها ولا تنفذها، بل تثير المشاكل داخل الدول العربية وكما قال رئيس وزراء إسرائيل الأسبق ومؤسسها " على إسرائيل أن تكون دائمًا داخل المعادلة السياسية لكل دولة عربية " بمعنى أن تتدخل بطريقة أو أخرى في التأثير السياسي داخل الدول العربية وذلك من خلال دعم الأقليات الموجودة أو التجسس في داخل الدول أو إدخالها في مشكلات وحروب مع دول أخرى، كما دعمت الأكراد في العراق وتدعم اليوم الحكومة اليمينية المتطرفة لدولة الأكراد الكبرى وانفصال جنوب السودان وبعض الفصائل الطائفية في لبنان وبناء علاقات مع بعض الأطراف الأمازيغية بالمغرب، فالحقائق المشاهدة أن عدم الاستقرار في المنطقة مرتبط فعليا بإسرائيل.
جذور عدم الاستقرار: هندسة النظام الإقليمي الهجينة
تبلور تشكيل النظام الإقليمي بعد الحرب العالمية الأولى، بعد اتفاقية سايكس/ بيكو وتشكيل بعض دول المنطقة، كانت بريطانيا تتلاعب بالقوميات العرقية وتشعر كل قومية أنها تؤيدها في مطالبها وتثيرهم على بعض لإسقاط الدولة العثمانية العرب والفرس والأتراك والكرد وكل منهم يتصور أنه صاحب الحظوة عند بريطانيا، وعندما اتصلت بريطانيا بالحسين بن علي في مكة كما في مراسلات حسين / مكماهون أن يقوم بحركته ضد الدولة العثمانية، بوعد له أنه سيكون ملك العرب، ولكن انتهى به المقام بعد الحرب العالمية الأولى منفياً في قبرص، ففي المراسلات الداخلية بين حكومة الهند البريطانية وبين الخارجية البريطانية في لندن أكدت الرسائل " يبدو أن الهند مسكونة بهاجس الخوف من دولة عربية موحدة وقوية. هذه الدولة لن تظهر إلى الوجود ما لم تبلغ بنا الحماقة حد خلقها"، كانت بريطانيا تحكم الهند وتعتبرها درة التاج البريطاني، وعندما تشكلت الدول العربية كانت معظم حدودها هندسية حتى تثير النزاعات بين الدول العربية، فأغلب الدول العربية لها مشكلات حدودية مع جيرانها وهذا ما قصدته بريطانيا حتى أن وزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرتشل قال في عام 1921م " لقد أنشئت دولة بجرة قلم، وكان المندوب السامي البريطاني في العراق بيرسي كوكس قد رسم حدود العراق مع جيرانه ما عرف "بالخط الأحمر"والتي كانت قنبلة موقوته تفجرت فيما بعد، وحتى جامعة الدول العربية كانت بريطانيا خلف تأسيسها، وإن كان الهدف منها التعاون العربي في سبيل الوحدة بل عمقت الخلافات، وأكدت على شرعية الانقسامات من خلال دولها وكان، المستشرق البريطاني هاملتون جب اقترح على الحكومة البريطانية نوعًا من الاتحاد العربي لإبعادهم عن ألمانيا حيث كانت الحرب العالمية الثانية في أوجها والقوات الألمانية في شمال إفريقيا ـ فأصدر وزير الخارجية البريطانية أنتوني إيدن في 29 مايو 1941م، تصريحًا قال فيه أي خطوة للتضامن العربي وفي 24 فبراير 1943م، كرر دعوته وتأييده لشكل من الاتحاد العربي " أن الحكومة البريطانية تنظر بعين العطف إلى كل حركة بين العرب ترمي إلى تحقيق وحدتهم الاقتصادية والثقافية " وكما قال الدكتور عبد العزيز نوار ـ رحمه الله ـ " كانت عند إنشائها جسم عربي برأس بريطاني. ونذكر بالخلافات الأخرى بين الدول الناشئة مثال التنافس على منصب الخلافة بعد سقوطها في تركيا 1924م، وكان التنافس بين بغداد والقاهرة الملك فؤاد والملك فيصل بالعراق وكلاهما تحت النفوذ البريطاني والتي لا تقبل بعودة الخلافة، كما حدث الصراع على عرش سوريا بين القاهرة وبغداد وعمان وحتى تركيا دخلت على الخط، والتنافس حتى بين الإخوة أبناء الحسين بن علي حتى 1936م، ولكن فرنسا ومعها بريطانيا أكدتا على النظام الجمهوري في سوريا ، وكل هذا التنافس يدخل في التوازن السياسي والمصالح الشخصية وطلب التـأييد من بريطانيا ولذلك يظهر أن النظام الإقليمي منذ نشأته هش وضعيف وحتى الجامعة العربية التي أشرنا إليها ظهرت بعد مخاض عسير بسبب عدم الثقة بين النخب الحاكمة والتنافس بينها لولا الضغط البريطاني سيد الموقف.
ومع إعلان قيام إسرائيل دخلت منطقة الشرق الأوسط في دوامة عدم الاستقرار والحروب وخلفها بريطانيا عقادة العقد وما زالت بريطانيا رغم تراجعها تلعب دورًا خفيًا في المنطقة وكانت تتدخل حتى من يأتي حاكمًا في الأسرة الواحدة، وتبنت الولايات المتحدة إسرائيل بعد الحرب العالمية الثانية ودخلت المنطقة في صراعات الحرب الباردة وإثارة الصراعات العرقية والطائفية وانتشرت الحروب بالوكالة والانقلابات العسكرية تهندسها مرة واشنطن ومرة أخرى لندن تبادل الأدوار في التنافس بينها.
إسرائيل والحرب الباردة وعدم الاستقرار
أعلنت إسرائيل في مايو 1948م، وكانت إسرائيل مستعدة للحرب وبدعم بريطانيا والدول الغربية وعلى رأسها أمريكا التي اعترفت بإسرائيل بعد دقائق من إعلانها ورغم دخول الجيوش العربية بدون تنسيق وتعاون بينها، وحتى عدم الثقة بين قيادتها فليس غريبًا أن تتفوق عليهم، ولعل من طريف ما حدث في الحرب، وأن لدى العراق ثمانية طائرات ذوات قنابل بمواصفات خاصة وكان لدى مصر قنابل تصلح للاستعمال على هذه الطائرات، فعرضت مصر أن تأخذ الطائرات ورأى العراق أن تقدم مصر القنابل، وتشبث كل برأيه حتى انتهت الحرب، أعطت العراق مصر أربعة طائرات وسوريا ثلاثًا وسقطت الثامنة في الطريق، بل أثبتت الوثائق فيما بعد بأن الحركة الصهيونية كانت تنسق مع بعض النخب العربية، وكان قائد الجيش الأردني الذي دخل الحرب الجنرال الانجليزي كلوب.
وكان لحرب 1948م، آثارها فحدثت في مصر ثورة 23 يوليو 1952م، وحدث انقلاب حسني الزعيم في سوريا 1949م، والذي أثبت أن الاستخبارات الأمريكية هندست من أجل خط التابلاين ليمر عبر سوريا للبحر المتوسط وعرض الزعيم على بن غوريون توطين الفلسطينيين في سوريا ومقابلة بن غوريون الذي رفض اللقاء، وبعد ستة أشهر حدث انقلاب عسكري على الزعيم بقيادة سامي الحناوي دعمته بريطانيا وأعدم الزعيم، وعاد في ظل الحرب الباردة التنافس على سوريا مما اضطر النخبة السورية للتوجه إلى مصر وإعلان الجمهورية العربية المتحدة 1958م، هذه الوحدة التي رفضتها الدول الغربية وحتى بعض الدول العربية وحدثت الحرب الباردة العربية، حرب الإذاعات العربية وهذا يؤكد عدم الاستقرار السياسي وفشل التعاون العربي، ومع العدوان الثلاثي على مصر 1956م، بسبب تأميم القناة حتى أن نوري السعيد الذي صادف وجوده في لندن عند التأميم طالب أنتوني أيدن بالتخلص من عبد الناصر ، وكانت مصر قد توجهت للسلاح السوفيتي فأخذت دول عربية تميل في علاقاتها للمعسكر الشرقي والأخرى للمعسكر الغربي ، وأصبح التضامن العربي شعارًا أكثر مما هو سياسة فعلية.
ومن جهة أخرى، استغلت إسرائيل الخلافات العربية وتبنى بن غوريون " استراتيجية الأطراف " لإحاطة الدول العربية بدول غير عربية لتقيم إسرائيل معها علاقات استراتيجية، متميزة وتثير الخلافات بين هذه الدول مع الدول العربية وهي إيران الشاه وتركيا العلمانية وأثيوبيا، وأثارت إسرائيل الأكراد ضد الدولة العراقية بدعم من الموساد الإسرائيلي والسافاك الإيراني والاستخبارات الأمريكية ، وأثارت الخلافات الحدودية بين تركيا وسوريا والخلاف حول مياه نهري دجلة والفرات، وتوترت العلاقات بين مصر وإيران الشاه ولكن استطاعت مصر احتواء الخلاف مع أثيوبيا في الحرب الباردة، وبعد سقوط الشاه 1979م، الذي اعتبرته واشنطن شرطي الخليج، حدث التحول في النظام الإقليمي، والتحول السياسي في تركيا منذ عهد توغورت أوزال وانفتاحه نحو الدول العربية، أضعف استراتيجية الأطراف، ولكن إسرائيل بعد نهاية الحرب الباردة تبنت "استراتيجية الأطراف الجديدة" في التعاون تجاه الهند التي أقامت علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل يناير 1992م، وتوطدت تجارة السلاح بينهما والتعاون الاستخباراتي وعلاقات استراتيجية بعد أن كانت تخشى الدول العربية والمسلمين الهنود، كانت مصر والهند ويوغسلافيا تشكل قادة دول عدم الانحياز وتم احتواء الهند ولكن الواقع الحالي وفي ظل التحول السياسي أصبحت الهند تتبنى خط الإمداد من الهند عبر الخليج العربي إلى إسرائيل، وأقامت إسرائيل علاقات متميزة في التعاون الاستخباراتي وتجارة السلاح وقواعد تجسس في أذربيجان ضد إيران المجاورة لأذربيجان، فقد أقامت علاقات دبلوماسية 1993م، وحسب صحيفة هآرتس الإسرائيلية (6 مارس 2023م) أنه منذ 2016م، دخلت 92 طائرة شحن تابعة لإسرائيل إلى أذربيجان تحمل أسلحة ومتفجرات في70% من أسلحة أذربيجان من إسرائيل، السلاح الإسرائيلي مقابل البترول الأذربيجاني والسماح بإقامة قاعدة للموساد والتجسس على إيران، وسمحت لإسرائيل باستخدام مطاراتها للقيام بعمليات وهجمات بالمنطقة وهذا يضع علامة استفهام على بعض الأحداث في المنطقة (مثل سقوط طائرة الرئيس إبراهيم رئيسي مايو الماضي) في ظل توتر علاقة أذربيجان مع أرمينيا وإيران، فإسرائيل دائمًا موجودة في الخلافات الإقليمية وأعادت إسرائيل نشاطها مع دول إفريقية وتسللت في علاقاتها مع دول أخرى مثل تشاد وأثيوبيا وكينيا وفي عام 2011م، عرضت إسرائيل على كينيا مساعدتها في تأمين حدودها من هجمات تنظيم حركة الشباب الإسلامي الصومالية وكشفت عن معاهدة أمنية سرية بين إسرائيل وكينيا وأرسلت فريق كوماندو لمساعدتها، وهذا يعكس تحول إسرائيل بإقامة علاقات محيطة بالعالم العربي من مغربها حتى مشرقها بعد علاقة التطبيع مع المغرب.
إن أسباب سهولة الاختراق الإسرائيلي لدول إفريقية وآسيوية هي معاهدات السلام العربية الإسرائيلية منذ مؤتمر مدريد أكتوبر 1991م، وقبلها اتفاقية كامب ديفيد مع مصر 1979م، واتفاقية أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية 1993م، واتفاقية السلام مع الأردن أكتوبر 1994م، قامت إسرائيل بحملات إعلامية ودبلوماسية أنها في حالة سلام مع العرب ولا مبرر لمقاطعتها، فالهدف من السلام الإسرائيلي تكتيك سياسي لمصالحها، وواقع الحال لم تنفذ معاهداتها ولم تحسن المعاهدات الحالة الاقتصادية والسياسية في الدول العربية بل زادت أوضاعها ترديًا لأن إسرائيل تريد تغلغل سياسي واقتصادي في المنطقة العربية، وهذا ما أشار إليه شمعون بيرس في كتابه "الشرق الأوسط الجديد"، تغلغل اقتصادي عمالة عربية رخيصة وأموال عربية وتكنولوجيا إسرائيلية التي ثبت أنها تكنولوجيا تجسس كما حدث برنامج التجسس الإسرائيلي الذي أعلنت صحيفة هآرتس أن شركة "إن أس أو " باعت برامج تجسس بلغت مئات ملايين الدولارات، وأجهزة البيجر اللاسلكية بحسب صحيفة الواشنطن بوست صممها الموساد وسوقها عن طريق مسؤولة تسويق لها صلات بالشركة التايوانية "أبولو"، ولذلك تبقى مشاريع التكنولوجيا الإسرائيلية خطيرة على الأمن القومي العربي وتسهل تغلغلها في أنظمة الدول.
النظام العالمي الجديد والاستقرار الإقليمي
إن النظام الثنائي القطبية قد حقق نوعًا من الاستقرار العالمي وأصبحت دول العالم الثالث تناور بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، بين المعسكر الشرقي والغربي، ومع انهياره ظهر النظام الأحادي القطبية، وهيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي الذي أصبح كارثة على عالم الجنوب وخاصة في الشرق الأوسط، وأشعل عدم الاستقرار السياسي والحروب يقودها اليمين المحافظ في واشنطن المتحالف مع الصهيونية، فشنت الولايات المتحدة عملية درع الصحراء عام 1991م، مستغلة أخطر عمل قام به الرئيس العراقي صدام حسين باحتلال دولة عربية " الكويت"، وكان العراق قد خرج من حربه مع إيران التي شنها 1980م، وتؤكد المصادر أن الرئيس كارتر المتورط آنذاك في أزمة الرهائن في إيران وفي عام الانتخابات الرئاسية أوعز عن طريق أصدقائه للرئيس العراقي بالدخول لإيران لأن الجيش الإيراني كان مفككا والبلد في حالة فوضى علمًا بأن الحرب خدمت الخميني وحشدت الدعم الشعبي لأن العدو الخارجي يوحد الداخل واستمرت الحرب ثماني سنوات حتى 1988م، دول كثيرة سخرت أموالها لشراء الأسلحة، وكانت أمريكا تمد إيران بالأسلحة، وتمد أيضا العراق بالمعلومات الاستخباراتية، وكانت فضيحة إيران كونترا 1985م، عندما أرسلت إدارة ريغان لإيران صواريخ أرض ـ جو من طراز هوك وكانت زيارة روبرت ماكفارلين المستشار السابق للرئيس ريغان لطهران سراً، وأخيرًا دمرت الولايات المتحدة العراق وأسلحته التي استوردها 1991م، وفي عام 2003م، احتلت العراق، وهذه الأحداث أضعفت النظام الإقليمي العربي، حيث انقسمت الدول العربية بعد زيارة الرئيس السادات للقدس ثم احتلال العراق للكويت واستشرت الخلافات العربية وأصبح الدور العربي ثانونيًا إقليميًا ودوليًا، وأدى سوء الأحوال الاقتصادية والاجتماعية إلى الانتفاضات الشعبية العربية عام 2011م، وترتب على ذلك الحرب الأهلية في بعض الدول العربية وعدم الاستقرار في بعضها وانهيار بعض الدول وغياب الدولة المركزية القوية والاختراق الإسرائيلي بالتطبيع وجاءت أحداث السابع من أكتوبر 2023م، لتحدث تحولًا كبيرًا في المنطقة، حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة ثم الحرب الإسرائيلية في لبنان بالإضافة إلى الحرب الروسية / الأوكرانية، التي اعتبرتها روسيا تهديدًا للأمن القومي الروسي بمحاولة الناتو ضم أوكرانيا لعضويته وهو ما ترفضه موسكو، كما أثبت السابع من أكتوبر أن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية في الشرق الأوسط لا يمكن تجاهلها، وأخذت تجد تعاطفًا قويًا على المستوى الشعبي العالمي وحتى على مستوى المنظمات الدولية وتحرك دول أخرى لتتبنى القضية مثل تقديم جنوب إفريقيا شكوى لمحكمة العدل الدولية وقدمت قضية الإبادة الجماعية إلى المحكمة الجنائية الدولية وهو يعكس تحدياً قوياً للدول المؤيدة لإسرائيل مثل الولايات المتحدة كما أن التوتر الصيني / الأمريكي حول تايوان يزيد من الانقسام في النظام الدولي الذي أصبح نظامًا متعدد الأقطاب من روسيا الاتحادية والصين والهند والاتحاد الأوروبي، وأصبحت الولايات المتحدة لا تستطيع أن تتحكم في النظام الدولي كما كانت قبل عقدين، بل تراجعت على أرض الواقع السياسي والسؤال أين العالم العربي في ظل هذه التحولات العالمية والدولية.
الدول العربية في ظل التحولات الدولية: السلام المفقود
يشهد النظام الدولي محاور جديدة تتحدى المحور الأمريكي، محور الصين وروسيا الاتحادية وكوريا الشمالية ويمكن اعتبار إيران ضمن هذا المحور كما يردد بعض الغربيين، والثلاثة الأولى نووية ويضاف إليها محور المقاومة المناهض لسياسة الولايات المتحدة، المحور الثاني الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وما يتبعهما من بعض الدول، وهناك مجموعة البريكس التي من ضمنها جنوب إفريقيا والبرازيل والهند بالإضافة إلى الصين وروسيا وضمت لهما بعض الدول مؤخرًا أو دول مراقبة وهو أقرب للتعاون الاقتصادي، كوريا الشمالية أرسلت عشرة آلاف جندي إلى الحدود الروسية / الأوكرانية وفقًا لاتفاقية التعاون بين روسيا وكوريا الشمالية، وتمد الصين روسيا بالسلاح وكذلك قدمت إيران المسيرات والصواريخ إلى روسيا كما قدمت الأخيرة إلى إيران بعض الصواريخ المتقدمة وبالتالي تصل إلى المقاومة خاصة في لبنان والحوثيين في اليمن، فعلى المستوى الدولي أصبح واضحًا صراعا بين كتلتين بسبب تناقض المصالح، وعلى المستوى الإقليمي في الشرق الأوسط تبقى تركيا كقوة إقليمية وإيران التي يعتبرها الغرب ضمن محمور الصين وروسيا، ولكن واقع الحال أن هناك قنوات مباشرة أو غير مباشرة بين الولايات المتحدة وإيران لعدم التصعيد للمواجهة بينهما بسبب العدوان الإسرائيلي ، وخاصة هناك تعاون سابق بين إيران في قضايا مهمة مثل غزو الولايات المتحدة لأفغانستان واحتلال العراق ساهمت إيران بشكل قوي لإسقاط حركة طالبان 2001م، واحتلال العر اق 2003م، ولذلك كانت المكافأة صعود التيار الشيعي في العراق للحكم بدعم أمريكي وتهميش السنة باعتبارهم مناصري النظام السابق، والتوافق الأمريكي / الإيراني واضح بشكل جلي في الضربة الإيرانية لإسرائيل في 14 أبريل 2024م، ردًا على الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق الأول من أبريل، وتبين أن هناك إشعار مسبق في الأهداف التي قصفت، وردت إسرائيل في 19 أبريل بقصف بعض الأماكن في مدينة أصفهان وكل هذه العمليات محدودة لعدم التصعيد، ولكن اغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية في ظهران أثناء حضوره تنصيب الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان 31 يوليو ثم اغتيال بعض القادة الإيرانيين في سوريا ولبنان واغتيال زعيم حزب الله حسن نصرالله 27 سبتمبر وهو انتهاك للسيادة الإيرانية، مما دفع إيران شن هجوم واسع على إسرائيل في الأول من أكتوبر ، وفي 26 أكتوبر شنت إسرائيل ضربات على مواقع إيرانية كان قد تم تسريب الأهداف التي تضربها إسرائيل مسبقًا وحدث جدل في إدارة بايدن عن التسريب ولكنه متعمد لاحتواء التصعيد وتتوعد إيران بالرد، ولكن العلاقة بين طهران وواشنطن معقدة وتسعى أطراف إيرانية داخل التيار الإصلاحي بالتطبيع مع الولايات المتحدة ويروي تريتا بارزي في كتابه " حلف المصالح المشتركة: التعاملات السرية بين إسرائيل وإيران والولايات المتحدة " الصفقات بين هذه الدول الثلاث في مناسبات عدة رغم الحملات الإعلامية والتوتر بينهما.
إن إسرائيل تحاول دائمًا منع التطبيع بين واشنطن وطهران، وهذا ما يؤكده البروفسور جون ميرشايمر الاستاذ بجامعة شيكاغو ومؤلف كتاب " اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية"، الذي أثار ضجة عند صدوره أقلق اللوبي الإسرائيلي، الذي اعتبر أن تأييد إسرائيل يهدد المصالح الأمريكية، وحسب ميرشايمر، فإن التطبيع بين واشنطن وطهران يعني انسحاب القوات الأمريكية من الشرق الأوسط وهذا ما لا تريده إسرائيل وعندما يحدث نوعاً من التقارب تحرك اللوبي الإسرائيلي للضغط على أعضاء الكونغرس لمعارضة التطبيع، والهدف الثاني أن إسرائيل تريد استمرار التوتر مع طهران لإكمال حلقة التطبيع مع الدول العربية تحت شعار التهديد الإيراني المشترك ولذلك تستفيد من اسطوانة التهديد الإيراني، ولذلك فإن التعاون السعودي / الإيراني حاليًا ووساطة الصين بينهما أقلق إسرائيل وأثار حفيظتها لأنها لا تريد تقارب عربي / إيراني لأنه ليس من مصلحتها ، وهذا يذكرنا بغضب مناحم بيغن رئيس وزراء إسرائيل عام 1988م، عندما توقفت الحرب الإيرانية / العراقية التي أنهكت البلدين وكان هنري كيسنجر قد قال ضربنا القومية العربية بالثورة الإيرانية وكلها لصالح إسرائيل.
والسؤال أين الواقع العربي في ظل هذه التحولات، إن النظام الإقليمي العربي يذكرنا ببداية النشأة، لم يستطع منذ عام كامل أن يوقف حرب الإبادة في غزة، والخلافات والتوترات في داخل النظام الإقليمي بين دول الإقليم متفاقمة وحتى داخل الدولة الواحدة توتر بين المعارضة والأنظمة السياسية وسيطرت النزعة القطرية في سياسة الدول على التعاون العربي والمصالح المشتركة مما أضعف دور النظام الإقليمي العربي على مستوى العالم وضعف دوره على مستوى إقليم الشرق الأوسط، وحتى في مسار التطبيع يبقى السؤال ما هي المصالح التي تحققت من التطبيع سوى مصالح لإسرائيل، فقد عقدت اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل منذ أكثر من أربعة عقود والآن تمر ثلاثة عقود على اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل والأردن وإسرائيل فلم تتحسن الأوضاع السياسية ولا التنمية وحتى الاستقرار والأمن، بل وجدت إسرائيل فرصتها للاستفادة من هذه الاتفاقيات دوليًا وإقليميًا وتفتيت الصف العربي واختراق المجتمعات العربية، ولذلك يحتاج النظام الإقليمي العربي لإعادة النظر في سياساته الإقليمية والدولية وأثبتت طوفان الأقصى 7 أكتوبر مركزية القضية الفلسطينية وتحول في نظرة شعوب العالم لها وأصبح ينظر لإسرائيل كدول مارقة في النظام الدولي، ويمكن القول إن القوة هي التي تفرض السلام والاستقرار والتنمية وليس العكس، فسياسة الدول الغربية لا تقوم على الأخلاق وتتجاهل حقوق الإنسان بل تنظر بمعايير مزدوجة وكما قال عالم السياسة الأمريكي مورجنثو لا أخلاق في السياسة الخارجية وهذا ما كان يردده وزراء الخارجية الأمريكيين وآخرهم بلينكن، وأثبتت قراءة التاريخ أن سياسة الترضية فاشلة وأدت للحرب العالمية الثانية، فالقوة تحقق المصالح ،والتعاون بين الدول العربية يعزز ميزان القوة لصالحها، والسياسة القطرية حالة الضعف لأن السياسة العالمية تقوم على التكتلات الاقتصادية والعسكرية، ويملك العالم العربي جميع مصادر القوة التي تجعله في مقدمة التكتلات مؤثرًا في النظام الدولي في حالة استعمالها، وأن الدول دائمًا تحترم القوة، وفي ظل الانتخابات الرئاسية الأمريكية لا فرق بين الحزب الجمهوري والديمقراطي في موقفه من إسرائيل والقضية الفلسطينية والعلاقات مع الدول العربية، فسياسة بايدن الديمقراطي هي استمرار لسياسة ترامب فلم يغير شيئًا بل قدم لإسرائيل المال والسلام في الحرب على غزة ولبنان ، 26 مليار قدمتها إدارة بايدن مساعدات عسكرية لإسرائيل خلال حربها الحالية ، ولذلك أقول بكل ثقة إن القوة هي أساس العلاقات في سياسة الدول بشتى أنواع القوة والتي يملكها العرب ولا يمكن تحقيق السلام إلا بالقوة ولذلك لا يمكن تصور السلام في الشرق الأوسط على المدى القريب إلا بتغير ميزان القوى الذي يفرض تحقيق السلام عندما تحقق كل الدول مصالحها وعلى رأسها حقوق الشعب الفلسطيني وفي ظل اليمين المتطرف الذي يعلن صراحة سياسة التوسع للمشروع الصهيوني لا يمكن وجود السلام، وكما قيل " أطلب الموت توهب لك الحياة " القوة أولًا ، والعدو لا يفهم إلا سياسة القوة.