"مع من أتواصل إذا ما أردت مخاطبة أوروبا؟ هكذا طرح هنري كيسنجر مستشار الأمن الأمريكي إبان سبعينات القرن الماضي، تساؤله ساخرًا، في إشارة إلى غياب المؤسسات الأوروبية المشتركة وتباين السياسات الخارجية والمصالح الوطنية لدول القارة. ومنذ ذلك الحين، طرأت العديد من الأحداث والتطورات جاءت بدايتها عام 1992م، مع التوقيع على الاتفاقية المؤسسة للاتحاد الأوروبي فيما يعرف بــ “معاهدة ماستريخت"، التي تبنت خلالها الكتلة الأوروبية سياسة أمنية وخارجية مشتركة، وحرصت على تدعيمها فيما بعد، عبر إضافة بند خاص بالسياسة الدفاعية والأمنية المشتركة خلال عام 1999م، ثم جاء تأسيس "الاستراتيجية الأمنية الأوروبية" في ديسمبر عام 2003م، والتي للمرة الأولى تُقوم بتحديد مجموعة من الأولويات للسياسات الخارجية يتفق عليها كافة الدول الأعضاء؛ كذلك خضعت الاستراتيجية إلى المراجعة خلال عام 2008م، لكي يتم تضمينها قضايا الأمن الطاقي والتغير المناخي، مدفوعة بمخاوف متنامية حيال عدم موثوقية إمدادات الغاز الروسية. فضلًا عن، تدشين "سياسة الجوار الأوروبي" عام 2004م، وتوسع الاتحاد الأوروبي شرقًا، وإنشاء "الاتحاد من أجل المتوسط" عام 2008م، الذي اتخذ من مدينة برشلونة الإسبانية مقرًا له. وفي عام 2009م، طُرحت "معاهدة لشبونة"، والتي نصت فيما بعد على استحداث منصب الممثل الأعلى للاتحاد للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، وتم بإضافة خدمة العمل الخارجي الأوروبي في عام 2011م، التي تشبه السلك الدبلوماسي للاتحاد الأوروبي.
أصبحت كل من فرنسا، وألمانيا، والمملكة المتحدة، والاتحاد الأوروبي فيما بعد جزءًا من المفاوضات الناجحة بشأن برنامج إيران النووي، التي توجت بالتوقيع على ما يعرف بـ “خطة العمل الشاملة المشتركة" عام 2015م، وشهد العام ذاته، إطلاق اتحاد الطاقة الأوروبي-الذي يتمتع بقدرات تنظيمية تخوله ممارسة نفوذ كبير في المفاوضات التي يخوضها أمام نظرائه من خارج الاتحاد. وفي عام 2016م، تم تدشين "الاستراتيجية العالمية للاتحاد الأوروبي بشأن السياسة الخارجية والأمن "، لتحل محل “الاستراتيجية الأمنية الأوروبية"، حيث دافعت عن بناء "الاستقلال الاستراتيجي" -وهو النهج الذي تم تصوره باعتباره مكملًا لالتزامات حلف شمال الأطلسي "ناتو" وليس منافسًا لها.
بشكل عام، تختلف ملامح أوروبا اليوم عما كانت عليه خلال العصر الذهبي لكيسنجر في منصبه كمستشار للأمن القومي الأمريكي. حيث أصبحت أكبر نطاقًا وأكثر مركزية ونفوذًا، إذا تسنى القول، فضلًا عن، طموحاتها الدولية الشامخة. فقد كشفت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين عن رغبتها في قيادة "مفوضية أوروبية ذات طابع جيوسياسي"، في حين شدد الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيف بوريل، على أهمية أن "يتعلم "الاتحاد الأوروبي كيفية التحدث بلغة القوة. مع ذلك، تعمد أوروبا، في أغلب الأحيان، إلى الحديث بأكثر من لغة، دون إثارة صخبًا حتى في أحلك الأوقات. على سبيل المثال، تعد منطقة الشرق الأوسط مبعث قلق أوروبي بالغ، في ظل الاعتماد على إمدادات النفط والغاز الطبيعي القادمة من المنطقة، فضلًا عن، مخاوف بروكسل من تجدد اندلاع موجات الهجرة، أو امتداد الأزمات الأمنية التي تعصف بالمنطقة إلى داخل الأراضي الأوروبية في شكل أعمال إرهابية. ورغم معطيات سالفة الذكر، هناك افتقار إلى وجود دور أوروبي ملموس وموحد عندما يتعلق الأمر بقضايا الشرق الأوسط. فمثلاً إبان الغزو الأمريكي للعراق، أعلنت دول أوروبية مثل: المملكة المتحدة، وإسبانيا، وإيطاليا، عن دعمها لقرار الغزو الأمريكي للعراق عام 2003م، بينما عارضته كلا من فرنسا وألمانيا. ومؤخرًا، لم يصطف الأوروبيون أيضًا خلف موقف أوروبي موحد خلال التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر بشأن الحرب الدائرة على قطاع غزة، حيث سلكت أصواتهم دروبا مختلفة ومتضاربة.
فمن جانب، يبدي عدد من دول أوروبا، ذات الميول اليمينية، مثل؛ المجر، والتشيك، وكرواتيا، والنمسا، دعمًا إلى أقصى درجة لحكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وانعكس ذلك عبر معارضتها لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة (ES-10/21) الصادر في ديسمبر 2023م، والذي دعا إلى تطبيق هدنة إنسانية" فورية ومستدامة"، ووقف الاعتداءات وإدانة "كافة أشكال العنف الممارس ضد الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي"، ومطالبة كافة الأطراف بالامتثال الفوري والكامل بالتزاماتها بموجب القانون الدولي". وفي الوقت الذي صوت عدد من الدول الأوروبية لصالح القرار الأممي من بينها فرنسا، وإسبانيا، والنرويج، امتنع آخرون بما في ذلك ألمانيا، وبولندا، وإيطاليا.
بشكل عام، تعتبر ألمانيا، أحد أعتى حلفاء إسرائيل داخل أوروبا. وبالنظر إلى ماضيها النازي وارتكابها لمجازر “الهولوكوست"، فقد أضحت تعتبر أمن إسرائيل جانبًا أصيلًا وجزءًا أساسيًا من أسباب وجود الدولة الألمانية حاليًا (Staatsräson)، على حد تعبير المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، في خطابها أمام الكنيست الإسرائيلي عام 2008م، في ضوء ذلك، أصبحت ألمانيا ثاني أكبر مورد للأسلحة إلى إسرائيل، بعد الولايات المتحدة، حيث لم تفكر برلين في حظر تسليم بعض شحنات الأسلحة مثلما فعلت كل من فرنسا، وكندا، وبريطانيا. وعلى غرار العديد من دول غرب أوروبا والولايات المتحدة، لم تعترف ألمانيا بفلسطين كدولة، مشيرة إلى أن الإقدام على اتخاذ مثل هذه الخطوة لن يأتي سوى بعد إجراء مفاوضات ناجحة بين الأطراف المعنية. على النقيض، أقدمت دول أوروبا الشرقية على الاعتراف بفلسطين كدولة باعتبار هذه الخطوة جزءًا من إرث ماضيهم الشيوعي. في أثناء ذلك، انضمت بعض دول غرب أوروبا مثل أسبانيا، وأيرلندا، والنرويج مؤخرًا إلى أيسلندا والسويد في مسعى الاعتراف بفلسطين كدولة.
في السياق ذاته، فقدت المبادرات الأوروبية الدبلوماسية داخل منطقة الشرق الأوسط بريقها، بحيث لم تعد مؤثرة في زمن يشهد نظامه العالمي الليبرالي انحسارًا، وتواجه أعرافه الدولية القانونية تحديات جمة. فمن ناحية، تخلت الإدارة الأمريكية السابقة بزعامة دونالد ترامب عن اتفاق خطة العمل الشاملة-الذي يعد بصمة نجاح لإسهامات أوروبا في المفاوضات أمام إيران حول برنامجها النووي-حتى أن إدارة خلفه جون بايدن لم تعبأ بإعادة إحياء الاتفاق. كذلك لم تجد الدعوات الأوروبية المطالبة بإقامة حل الدولتين آذان صاغية سواء في الداخل الإسرائيلي الجانح صوب اليمين، أو من قبل حركة المقاومة الفلسطينية حماس، التي لطالما عارضت هذه الدعوات، داعية إلى هلاك إسرائيل.
في سياق آخر، لم يساهم تمويل الاتحاد الأوروبي للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية سوى في منحها قدر محدود من المكاسب السياسية مع الفلسطينيين، بخلاف الدعم القطري لحركة حماس في قطاع غزة الذي جعلها تتمتع بنفوذ كبير. فضلًا عن، محدودية الحضور الأوروبي العسكري داخل منطقة البحر الأحمر، رغم المخاطر التي تهدد المصالح الأوروبية التجارية الحيوية في ظل اختراق جماعة الحوثي لأمن الملاحة البحري، وذلك باستثناء القاعدة الفرنسية البحرية المقامة داخل دولة جيبوتي.
إن نهج القوة الناعمة الذي تنتهجه أوروبا ربما كان موفقًا خلال حقبة التسعينيات وبداية الألفية الثالثة، حينما كان المناخ العام العالمي أكثر سلمية وأمانًا. إلا أن افتقار هذا النهج لعنصر القوة الصلبة وعدم توافر رغبة أوروبية في استخدام هذه القوة، بات يفقدهُ جدواه وفعاليته على نحو متزايد. وهو ما عبر عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت آرييل شارون -خلال حديث سابق -قائلا:" إن أوروبا تعد جهة تمويل وليست جهة فاعلة". وبالمقارنة مع اللاعبين الدوليين الآخرين مثل روسيا، والصين، وإيران، وتركيا، يتبين أن النفوذ الأوروبي داخل المنطقة ازداد انحسارًا على مدار العقدين الماضيين.
بالتالي، كيف يمكن للقارة العجوز الاضطلاع بدور أكثر أهمية في المنطقة وغرس موطئ قدم لها هناك؟ إن ذلك يقتضي أن يتم إعادة مُعايرة القوة الناعمة والقوة الصلبة، وتوافر الرغبة والاستعداد من أجل التدخل. حيث تُميل أوروبا إلى اعتماد سياسة "العصا والجزرة" وتُجيد استخدامها. ولكن ثمة مقولة تٌشير إلى أن السبيل من أجل تحقيق الاستقلال الاستراتيجي، "يتطلب من بريطانيا أن تكون أكثر صرامة مع الولايات المتحدة، وأن تتبنى فرنسا موقفًا أشد حزمًا مع العرب، وأن تعتمد ألمانيا نهجًا أكثر حسمًا مع إسرائيل". وفي ضوء هذا، تبرز على وجه الخصوص ثلاثة مجالات رئيسية للسياسة العامة 1)إعادة الاستقرار إلى العراق، وسوريا، ولبنان ومخاوف من تدفق اللاجئين. 2) دور إيران الإقليمي. 3) الصراع الفلسطيني -الإسرائيلي.
فقد أصبحت قضية تدفق اللاجئين القضية الساخنة لخطاب السياسة العامة الأوروبي، وعامل دعم لتنامي شعبية الأحزاب اليمينية عبر مختلف أنحاء القارة. وفي إطار هذا الشأن، عقدت أوروبا صفقات ثنائية مع دول عدة، ولجأت إلى اعتماد استراتيجية الاستعانة بمساعدة الدول المحيطة بها مثل تركيا، ومصر، والمغرب من أجل احتواء تدفق الهجرة. في السياق ذاته، تقف أوروبا مُمزقة في مواجهة خيارين كلاهما مر؛ إما معارضة تطبيع العلاقات مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد على غرار ما فعلت جامعة الدول العربية، أو إعادة اللاجئين السوريين الذين تم رفض طلبات اللجوء الخاصة بهم إلى موطنهم. ويشكل الخيار الثاني إشكالية كبيرة نظرًا إلى استمرار انعدام الأمن في أجزاء مختلفة من البلاد، كما أنه يتطلب تعاونًا مع نظام بشار الأسد. بشكل عام، سوف تسعى أوروبا إلى الحد من تدفقات الهجرة الوافدة من دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إلا أن استقرار الأوضاع داخل البلدان التي برزت مؤخرًا كرافد أساسي للهجرة، أضحى مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالتطورات في مجالي السياسات العامة الأُخريين وهما؛ إيران والصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
كحال أي دولة، لدى إيران مصالح أمنية مشروعة، إلا أن الاستراتيجية التي تنتهجها عبر شن حروب إقليمية من خلال الاستعانة بوكلائها فيما يعرف ب “محور المقاومة" كان لها تأثيرها المُدمر في المنطقة. فمن خلال دعمها لنظام الأسد في سوريا، فإنها تكون قد ساندت نظامًا يقتل ويقصف أبناء شعبه بقنابل الغاز دون هوادة، فضلًا عن، تداخلاتها بشكل واسع في السياسات العراقية، وتسببها في تقويض سيادة لبنان على أراضيه، من خلال دعمها لجماعة حزب الله، الذي أفضى إلى نشأة دولة داخل الدولة اللبنانية. ومؤخرًا، فمن خلال دعمها لجماعة الحوثي، تكون طهران سببًا في المعاناة الإنسانية التي يُعايشها الشعب اليمني، إلى جانب زعزعة استقرار أمن الملاحة البحرية في البحر الأحمر. كما تتحمل إيران ووكلاؤها مسؤولية الهجمات الصاروخية وتلك التي شنت بواسطة طائرات مُسيرة على المنشآت النفطية داخل المملكة العربية السعودية عام 2019م، ومثيلاتها في الإمارات خلال عام 2022م، كما لعبت طهران دورًا في الهجمات التي شنتها حركة حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023م، والتي أعقبها هجمات من قبل حزب الله في 8 من أكتوبر. في الوقت ذاته، تحركت إيران بشكل صريح ضد المصالح الأمنية الأوروبية عبر تزويد روسيا بالطائرات المسيرة لقصف المدن الأوكرانية ومحاولاتها تنفيذ عمليات اغتيال داخل الأراضي الأوروبية. حيث تمتلك القذائف الإيرانية القدرة على الوصول إلى جنوب-شرق أوروبا بقدر قدرتها على الوصول إلى دول المنطقة.
ثمة مخاوف أوروبية مُبررة حيال تجاوز إيران العتبة النووية، بما قد يؤدي إلى اشتعال سباق تسلح نووي إقليمي. من ثم، تقتضي المصلحة الأوروبية دحر طموحات إيران الإقليمية والنووية مع العمل في الوقت ذاته على إيجاد مخرج للنظام الإيراني وإفلاته من القبضة الروسية والصينية. وينطوي ذلك على ضرورة "السير على خيط رفيع" ما بين استمرار حملات الضغط الأمريكية على طهران، وبين المسار الدبلوماسي المُتجذر بعمق في الحمض النووي الأوروبي. فإن الحوافز التي تتيحها أوروبا ضمن سياسة "العصا والجزرة"، ممثلة في تخفيف العقوبات والتعاون الاقتصادي، تعد جزءًا مهمًا من هذا المسار، لكن تظل الحاجة إلى الإبقاء على الخيارات العسكرية على الطاولة كي تؤتي السياسات الأوروبية ثمارها. بمنأى عن الأفعال الإسرائيلية، لم تضطر إيران حتى الآن إلى مواجهة رد انتقامي على أراضيها بسبب حروبها بالوكالة داخل المنطقة. ولكن قد يتغير الوضع كثيرًا في المستقبل، بما يحتم على أوروبا ضرورة تقرير مدى استعدادها وجاهزيتها للمشاركة في مساعي ردع إيران. وينطبق ذلك بشكل خاص على أزمة هجمات الحوثيين على ممرات الشحن داخل البحر الأحمر، والتي لم تكن لتحدث دون دعم إيراني. حيث تؤدي هذه الهجمات إلى رفع تكاليف التجارة الأوروبية مع آسيا على نحو كبير، في ظل اضطرار السفن إلى تحويل مساراتها إلى مسارات حول طريق رأس الرجاء الصالح. وهو ما أدى إلى الحد من عائدات مصر من قناة السويس وتقويض استقرارها المالي، وربما السياسي بنهاية المطاف. بالتالي، ينبغي لأوروبا العمل على درء النفوذ الإيراني الإقليمي، لاسيما داخل لبنان. وفي هذا الصدد، يتعين على بروكسل العمل على تطبيق وقف لإطلاق النار، استنادًا على قرار الأمم المتحدة رقم 1701 الصادر لعام 2006م، الذي لم يلتزم به أي من طرفي النزاع-حزب الله وإسرائيل. وقد نص القرار على انسحاب حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني ووقف إسرائيل انتهاكاتها للأجواء اللبنانية.
على جانب آخر، أفضى تجدد اشتعال الصراع الفلسطيني -الإسرائيلي منذ 7 أكتوبر 2023م، والغضب الذي اجتاح الشارع العربي بعد ذلك، في تعزيز موقف إيران داخل القطر العربي حتى الآن. مع ذلك، فإن استخدام طهران لوكلائها داخل المنطقة واستعدادها "للقتال حتى آخر قطرة دم عربية" من أجل تحقيق مصالحها الإقليمية، كلف دول المشرق ثمنًا غاليًا. فضلًا عن، الفشل الذي منيت به استراتيجية الردع الإيرانية من خلال شن حروب بالوكالة، داخل لبنان، نتيجة تدهور القدرات العسكرية لجماعة حزب الله، والتي قد تشكل حافزًا إضافيًا أمام إيران كي تواصل سعيها لامتلاك سلاح نووي.
ربما استطاعت تل أبيب تصفية قيادات حركة حماس وحزب الله وتقويض قدراتهما العسكرية، إلا أن ذلك يندرج تحت بند المكاسب التكتيكية فقط. حيث لن تتمكن إسرائيل من التخلص من أزماتها الأمنية عبر أعمال القتل وإزهاق الأرواح، بجانب افتقارها إلى انتهاج استراتيجية سياسية مقنعة. وهو ما يُبرز أهمية إيجاد حلول سياسية للقضية الفلسطينية، باعتبار ذلك جزءًا من عملية تطبيع إقليمية أكثر شمولًا مع الجانب الإسرائيلي وتعاون إقليمي أمني. فقد أصبحت الاستراتيجية التي تقوم عليها اتفاقات "إبراهام"، والتي تتجاهل القضية الفلسطينية مقابل السعي للتطبيع مع إسرائيل موضع شك وتساؤل. فلا يمكن "للمرء الاحتفاظ بكعكته، وأن يأكلها في الوقت ذاته"؛ أي أنه لا يمكن الجمع بين الأمر ونقيضه. وعلى الرغم من مواصلة ساسة أوروبا التشدق بأهمية تطبيق حل الدولتين، إلا أنهم فشلوا في التصرف عندما أبدت إسرائيل عدم اكتراثها بهذا الحل وإعلان الكنيست معارضته له. عوضًا عن ذلك، دعا المتطرفون في جناح اليمين الإسرائيلي علنًا إلى الاستيلاء على أراضي الضفة الغربية المحتلة، التي يطلقون عليها "يهودا والسامرة". بالتالي، فإن المعاناة التي يخوضها أبناء الشعب الفلسطيني لا تقتصر فقط على العنف الممارس من جانب الدولة الإسرائيلية بل ومن قبل المستوطنين المتطرفين الذين يسعون لطردهم من أراضيهم ومنازلهم.
وفي الوقت الذي تعرب أوروبا دومًا عن دعمها لحق إسرائيل في الوجود ودعمها لمخاوفها الأمنية، بدأت بعض البلدان الأوروبية التفكير في فرض عقوبات على المستوطنين المتطرفين والمتشددين داخل جناح اليمين في الحكومة الإسرائيلية الراهنة مثل وزير المالية بتسلئيل سموتريتش ووزير الأمن القومي إيتمار بن جفير. وقد يشهد الأمر مزيدًا من التصعيد بحيث يتم إقرانه بجهود دولية للضغط على إسرائيل، بما يشمل ذلك اتباع المسارات القانونية واللجوء لساحة "الحرب القانونية". فقد سبق وأن دعمت أوروبا مواقف المؤسسات الدولية مثل محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، كما رحبت بإصدار الأخيرة مذكرات اعتقال ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتهمة ارتكاب جرائم حرب داخل أوكرانيا. لكنها ستكون على موعد مع اختبار حقيقي لمدى قبولها للاستقلال المؤسسي والقضائي دون خوف أو محاباة، إذا ما أقدمت المحكمة الجنائية الدولية على إصدار مذكرات اعتقال ضد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، كما طالب المدعي العام الرئيسي كريم أحمد خان، بإصدار مذكرات اعتقال ضد ممثلي حركة حماس الذين أصبحوا في عداد الموتى اليوم. وقد أشارت دولة المجر بالفعل، إلى أنها لن تمتثل لأحكام مذكرة الاعتقال، على غرار ما فعلته منغوليا، حين سمحت للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بحرية التنقل داخل وخارج البلاد، رغم كونها إحدى الدول الموقعة على اتفاقية المحكمة الجنائية الدولية.
كذلك من المتوقع أن تشعر أوروبا إنها واقعة تحت ضغط متزايد من أجل تنمية حضور أقوى وأكبر داخل المنطقة في ظل ولاية رئاسية ثانية لدونالد ترامب، بعد فوز المرشح الجمهوري في سباق انتخابات الرئاسة الأمريكية، الأمر الذي سيخلف تبعات واسعة داخل المنطقة. حيث من المتوقع أن يفرض قيودًا أقل على سياسات الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة وممارسات الاحتلال بالضفة الغربية مقارنة بسلفه جون بايدن. على صعيد آخر، ستواجه الحكومة الكردية، التي تتمتع بحكم شبه ذاتي، في شمال شرق سوريا ضغوطًا في حال قررت الولايات المتحدة سحب قواتها الخاصة المتمركزة هناك. وهو ما قد يجذب كل من تركيا، ونظام الأسد، وربما أيضًا البقايا المتناثرة لتنظيم الدولة الإسلامية إلى استغلال الفراغ الذي سيحدث في السلطة.
وبشكل عام، يعد ترامب شخصًا محب للصفقات والمقايضات، ويستَهويه كثيرًا تحقيق المكاسب الشخصية. فقد كان حصول صندوق الأسهم الخاص الذي يديره صهره جاريد كوشنر على استثمارات من قبل المملكة العربية السعودية بنحو ملياري دولار أمريكي عقب انتهاء الولاية الرئاسية الأولى لترامب، استثمارًا ذكيًا من الناحية السياسية وسيؤتي ثماره بشكل جيد.
من ناحية أخرى، قد تشعر دول المنطقة الخليجية مع مجيء ترامب بالضغط بسبب تقاربها مع الجانب الصيني (ومن الأمثلة على ذلك، استيراد المملكة العربية السعودية تكنولوجيا الصواريخ الصينية، وتصدير تكنولوجيا المعلومات بما في ذلك تكنولوجيا الجيل الخامس من شركة هواوي الصينية إلى دولة الإمارات). كذلك قد يسعى ترامب وراء تمديد اتفاقات "إبراهام" رغم عدم تسوية القضية الفلسطينية. في حين يظل التساؤل مطروحًا حول ما قد يفعله في حال قررت إيران السير نحو تصنيع قنبلة نووية. فمن جانب، يحرص الرئيس الجمهوري على تقديم نفسه في صورة الشخص الانعزالي الذي لا يَود الانجرار إلى حرب جديدة داخل المنطقة، وعلى الجانب الآخر، فقد كان هو من قرر الانسحاب بشكل أحادي من الاتفاق النووي خلال عام 2018م، بما أدى إلى تصاعد الموقف، فضلًا عن تصريحاته ذات الطابع العسكري في الحديث عن إيران.
إجمالًا، يتعين على أوروبا العمل على مجابهة النفوذ الإيراني في المنطقة، بالأخص داخل لبنان. وفي سبيل ذلك، ستبرز الحاجة لاستخدام "سياسة العصا والجزرة" من خلال تقديم حوافز لطهران، في شكل عقوبات مخففة أو تعاون اقتصادي، مع الإبقاء على الخيارات العسكرية مطروحة على الطاولة وإمكانية المشاركة في عمل عسكري إذا ما استدعى الأمر. يشمل ذلك أيضًا، استئناف العمل على الملف النووي الإيراني ومحاولة دمج إيران داخل منظومة الأمن الإقليمي، واحترام مخاوفها الأمنية المشروعة، في الوقت الذي تحاول التكيف والتعامل مع ولاية ثانية لدونالد ترامب. ورغم أن فكرة التطبيع مع نظام الأسد ليست مطروحة على الطاولة الأوروبية للوقت الراهن، لكنه يتعين على أوروبا استكشاف مسارات غير مباشرة لكيفية تحسين الأوضاع الإنسانية داخل سوريا.
على صعيد الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، يتطلب الأمر من بروكسل الذهاب لما هو أبعد من مجرد التشدق بالخطابات الرنانة، بل أن تُمارس ضغطًا على إسرائيل لتمهيد الطريق أمام تطبيق حل الدولتين، وإلا ستبدو أية حلول بديلة مقترحة مثل صيغة الكونفدرالية، غير واقعية خلال الوقت الراهن. يتضمن الأمر كذلك، ضرورة التواصل مع المملكة العربية السعودية ودول عربية أخرى كانت سببا في أن تبصر مبادرة السلام العربية النور في عام 2002م. وفي سبيل تحقيق هذه الأهداف السياسية المنشودة، يتسنى لأوروبا أن تلقي بثقلها الاقتصادي الذي يخول لها إتاحة العديد من الحوافز. ومن الأمثلة على ذلك: السماح بالنفاذ إلى الأسواق الأوروبية عبر خفض قيمة التعريفة الجمركية، والتعاون بشأن الضوابط والاستثمارات الصناعية داخل بلدان الشرق الأوسط تحت مظلة سياسة "الاستعانة بدول الجوار لتنفيذ الأعمال" التي برزت في أعقاب أزمة تفشي جائحة كورونا. إلى جانب التعاون في الاستثمارات في الطاقة المتجددة، ومشروعات الربط الكهربائي.
إن أي جهد سياسي واقتصادي يبذل من هذا القبيل سيكون أكثر مصداقية، إذا تم تحقيق قدر أعظم من الوحدة الأوروبية. ويتطلب ذلك، إعمال مبدأ الأغلبية في القرارات التي تتخذ بشأن السياسات الخارجية والتخلي عن مبدأ الإجماع، الذي تستغله دولة مثل المجر بصورة مستمرة لإفساد المبادرات الأوروبية. وأخيرًا، إذا ما أرادت أوروبا أن تصبح لاعبًا أكثر تأثيرًا ونفوذًا داخل المنطقة، فإنها في حاجة أولًا إلى أن تتحمل مسؤولياتها كاملة وأن تتجاوز التصريحات النبيلة والنظرة السطحية إلى الفهم العميق والأفعال المؤثرة. فلا يكفي أن تكون أوروبا مجرد مراقب، بل عليها أن تكون شريكاً فاعلاً يساهم في بناء مستقبل أكثر استقرارًا لشعوب المنطقة.