عندما نبحث في احتمالات استمرار المواجهات العسكرية والعمليات القتالية في الشرق الأوسط في مواجهة احتمالات وقف إطلاق النار والعودة إلى الدبلوماسية، لا بد أن يأتي إلى الذهن مباشرة الدور الذي تقوم به إسرائيل في ترجيح أحد المسارين، وأهداف سياستها الراهنة، وهل يكون من شأن هذه السياسات الاستمرار في الحروب، أم تبني اختيار الدبلوماسية والمفاوضات؟
ويسعى هذا المقال إلى تناول هذا الموضوع من خلال أربعة عناصر، يتناول أولها بعض الخلفيات التاريخية والسياسية والإيديولوجية المتعلقة بتكوين إسرائيل، ويعرض ثانيها لرؤية رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لصدمة طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023م، ويناقش ثالثها موقف إسرائيل تجاه الحرب وتداعياتها، أما رابعها فيستعرض لتأثير مواقف إسرائيل على استمرار الحرب في 2025م.
أولًا: خلفيات تاريخية وسياسية وأيديولوجية
من الضروري عند تحليل المواقف الإسرائيلية الراهنة، دراسة الموضوع في سياقه التاريخي المرتبط بنشأة إسرائيل وتطورها. نشأ الكيان الإسرائيلي من خلال الاستعمار الاستيطاني، أي هجرة أعداد من اليهود من أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين إلى فلسطين بقصد استيطانها واتخاذها وطنًا لهم، وبحيث يحلوا محل سكانها الفلسطينيين.
في هذا السياق، تراوحت مواقف رواد الحركة الصهيونية ما بين إنكار وجود السكان الفلسطينيين أصلًا، أو الاعتراف بوجودهم والعمل على إقصائهم وطردهم خارج الحدود. فكتب الصحفي النمساوي تيودور هيرتزل مؤسس المنظمة الصهيونية العالمية عام 1897م، في كتابه "الدولة اليهودية"، عن "شعب بلا أرض لأرض بلا شعب"، بمعنى أن هدف الصهيونية هو تشجيع هجرة اليهود إلى أرض فلسطين الخاوية من أي شعب. وروجت الدعاية الصهيونية في أوروبا وقتذاك لفكرة أن اليهود سوف يقومون بتعمير فلسطين الخاوية من السكان.
كان هيرتزل يعرف أن هذا الشعار كاذب وغير حقيقي، وأن أرض فلسطين ليست خاوية كما زعم، وإنما يسكنها شعب آخر. ويدل على ذلك، أنه سجل بتاريخ 12 يونيو 1895م، في يومياته التي ترجمتها إلى اللغة العربية السيدة هيلدا شعبان صايغ، "أننا سنسعى لتشجيع السكان المعدمين، يقصد الفلسطينيين، على عبور الحدود بأن نجد لهم أعمالاً في البلاد التي يمرّون بها، مع الامتناع التام عن تشغيلهم في بلدنا."
واتصالًا بذلك، ساير هيرتزل في إنكار وجود سكان في فلسطين، صديقه الكاتب الإنجليزي إسرائيل زانجويل الذي زار فلسطين عام 1897م، وأدرك أنها ليست خالية من السكان، وأعترف بذلك في خطاب له عام 1905م، قائلًا" الكثافة السكانية في ولاية القدس تبلغ ضعفي نظيرتها في الولايات المتحدة، إذ تبلغ نسبة الأنفس فيها اثنتين وخمسين في الميل المربع، ولا يكاد اليهود يشكلون ربع هذا العدد؛ لذلك لا بد من أن نعد أنفسنا لإخراج القبائل (العربية) المتملكة بقوة السيف...."
كان من الطبيعي إذا أن تمارس الحركة الصهيونية في فلسطين مبكرًا ممارسات الترانسفير والتهجير القسري، وقام الصندوق القومي اليهودي بشراء الأراضي من كبار الملاك الغائبين. وبمقتضى لائحة هذا الصندوق، فإن الأراضي المُشتراة تصبح "أرضًا يهودية"، لا يجوز لغير اليهودي زراعتها أو العمل فيها.
لم يقتصر الأمر على استخدام الضغوط الاقتصادية لإجبار الفلسطينيين على مغادرة قراهم، بل امتد إلى استخدام وسائل القوة والعنف. وعلى سبيل المثال، فبعد صدور قرار الأمم المتحدة في نوفمبر 1947م، بتقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية مع تدويل الأماكن المُقدسة، سارعت التنظيمات الصهيونية العسكرية كالهاجاناه والإرجون وشتيرن بتصعيد عملياتها الإرهابية في مناطق الريف. وتكرر ذلك في الأحياء السكنية التي سكنها الفلسطينيون في المُدن وذلك بهدف السيطرة على أكبر مساحة من الأراضي الفلسطينية التي كانت مُخصصة لإقامة الدولة العربية. وهو ما تحقق، فبينما كانت مساحة الدولة اليهودية حسب قرار التقسيم 54% من أرض فلسطين، فإنه مع نهاية حرب 1948م، سيطرت إسرائيل على78% من هذه المساحة، وأجبرت 800 ألف فلسطيني على مغادرة ديارهم. كان الهدف وقتذاك السيطرة على أكبر قدر من أراضي فلسطين مع إفراغها من سُكانها العرب، وهو هدف لا يزال قائمًا لأن استمرار وجودهم يمثل عقبة أمام هدف الصهيونية، وهو استيطان فلسطين إنشاء دولة خالصة لليهود.
استمرت إسرائيل في ممارسة نفس السياسات في الأراضي التي احتلتها بعد حرب 1967م، فقامت بشكل منظم بمصادرة الأراضي في الضفة الغربية، وإعلان بعض المناطق كمناطق عسكرية وترحيل سكانها منها، والتضييق على أهالي مدينة القدس الشرقية، وتقديم الحوافز لهم للهجرة لدول أخرى مثل أمريكا وكندا وأستراليا. ووصل الأمر إلى التشكيك في سلامة عقود الملكية للعائلات الفلسطينية في المنازل التي قطنتها من عشرات السنين، كما حدث في حي الشيخ جراح وحي سلوان، وعدم إعطاء تصاريح البناء في القرى لمواجهة الزيادة السكانية الطبيعية، وهدم أي منازل يتم إقامتها بدون تصريح.
من مظاهر هذه السياسة أيضًا، التوسع في بناء مستوطنات في مناطق استراتيجية، وربطها بشبكة من الطرق تصلها بأراضي إسرائيل، وتصميم مسار الجدار العازل بما يقسم القرى الفلسطينية فيصبح جزء منها في فلسطين والآخر في إسرائيل، أو بفصل بيوت القرية عن الأراضي الزراعية التي يمتلكها سكانها فيتعذر عليهم زراعتها.
وعلى مدى هذه السنوات، تحدث قادة الأحزاب اليمينية الإسرائيلية عن ترحيل الفلسطينيين من أراضيهم، بحيث تصبح إسرائيل دولة يهودية بحق، وهو المعنى الذي أكده قانون "يهودية الدولة"، الذي صدر عام 2017م، وأصبح جزءًا من القانون الأساسي للدولة (الدستور). فتنص مادته الأولى بند "أ" على " أن أرض إسرائيل هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي"، وبند "ب "على أن دولة إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي"، وبند "ج" على "أن ممارسة حق تقرير المصير في دولة إسرائيل حصريًا للشعب اليهودي". وتعتبر المادة السابعة أن قيام الدولة بمهمة "تطوير الاستيطان اليهودي قيمة قومية، وتعمل لأجل تشجيعه ودعم إقامته وتثبيته"
ومؤدى هذا القانون، أن إسرائيل لا تعترف بالحقوق القومية للفلسطينيين الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، ولا تعتبرهم مواطنين كاملي الأهلية، كما ترفض إقامة دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1967م، وتجعل إقامة هذه الدولة أكثر صعوبة من خلال تنشيط إقامة المستوطنات في أراضي الضفة الغربية.
والخلاصة، أن استخدام العنف المفرط ضد الفلسطينيين، وإنكار حقوقهم القومية، والسعي إلى ترحيلهم، وتوسيع المستوطنات اليهودية في الأراضي الفلسطينية، هي ممارسات صهيونية وإسرائيلية تطل برأسها وتأخذ موقع الصدارة عندما تسمح الفرصة.
ثانيًا: رؤية نتنياهو لصدمة طوفان الأقصى
مثلت العملية العسكرية التي قامت بها حركتا حماس والجهاد الإسلامي في 7 أكتوبر 2023م، صدمة مروعة لكافة مؤسسات حكومة إسرائيل وجيشها وأجهزة مخابراتها وللرأي العام فيها، وضربة للثقة الأمنية الزائدة التي عاشوا فيه، واعتقادهم بأن الإجراءات العسكرية والتكنولوجية التي اتبعوها كانت كفيلة بحمايتهم ومنع هذا الهجوم.
فقد انهارت في هذه الليلة منظومة الأمن الإسرائيلي التي تقوم على الردع، والحسم، والإنذار المبكر. مما أدى بالنخبة السياسية والعسكرية الحاكمة إلى محاولة ترميم هذا الوضع، من خلال تحقيق انتصارات ميدانية تعيد لردعها مكانته، وتم ذلك من خلال إطلاق يد آلة الحرب الإسرائيلية بلا ضوابط على كافة الجبهات، واستخدام مُختلف أساليب الفتك والبطش، مثل استهداف المدنيين واغتيال القادة العسكريين والسياسيين من الخصوم، وتدمير المساكن والبنية التحتية بما يجعل الحياة في هذه الأماكن غير ممكنة.
كان لعملية طوفان الأقصى وقعها الخاص على نتنياهو، الذي طالما تشدق بأنه "سيد الأمن" وحامي "شعب إسرائيل"، وسار لقبه "الملك بيبي". أدرك نتنياهو أن العملية وضعت نهاية درامية ومهينة لحياته السياسية، وأنه مع وقف الحرب فإن التحقيق سوف يبدأ معه ومع كبار رجال الحكم والجيش والمخابرات عن مسؤوليتهم في التقصير الفادح في صباح السابع من أكتوبر، وهو ما أقره في أول مؤتمر صحفي عقده في 28 أكتوبر 2023م، بأن "هناك إخفاقًا فظيعًا" وأن التحقيق سوف يشمل الجميع. وإزاء هذا الوضع، كان قراره إطالة الحرب واستخدام القوة الغاشمة، لتغيير المشهد واستعادة صورته كــ "رجل إسرائيل القوي".
ينظر نتنياهو إلى نفسه باعتباره طرازًا فريدًا من الساسة الإسرائيليين، فقد تولى منصب رئاسة الوزراء لأطول مدة في تاريخ إسرائيل، وهي قرابة ستة عشر عامًا. انتخب الرجل رئيسًا لحزب الليكود في عام 1993م، وأصبح رئيسًا للوزراء لأول مرة في عام 1996م، وكان أصغر من تولى هذا المنصب سنًا (ستة وأربعين سنة)، وأول من تولاه من المولودين في إسرائيل، وتقلد رئاسة الوزراء ست مرات.
وعبر مسيرته السياسية، تبنى نتنياهو أكثر المواقف إنكارًا لحقوق الفلسطينيين، والداعية لاستخدام القوة في التعامل معهم، فكان من المنتقدين لاتفاقية أوسلو في سبتمبر 1993م، ووصفها بالكارثة والخطأ الأكبر، وشن هجومًا شديدًا ضد رئيس الوزراء إسحاق رابين لموافقته على الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية وإقامة الحكم الذاتي الفلسطيني. قاد مظاهرات من أنصار اليمين التي رفعت شعارات "رابين خائن" و "رابين قاتل"، ووصفه في إحدى المناسبات بأنه خطر على إسرائيل. وأدى هذا الجو المحموم إلى قيام أحد العناصر اليمينية المتشددة باغتيال رابين في نوفمبر 1995م، ومن مواقفه المتشددة أيضًا، أنه استقال من وزارة أرئيل شارون في عام 2005م، احتجاجًا على تبنيها خطة فك الارتباط مع غزة، ومعارضته كزعيم للمعارضة في الكنيست وقف إطلاق النار مع حماس في حرب 2008م.
أعتقد نتنياهو اعتقادًا مُطلقًا في حق اليهود في الاستيطان في كل أراضي فلسطين التاريخية. ويظهر ذلك جليًا في الكتاب الذي ألفه بعنوان "مكان بين الأمم: إسرائيل والعالم" الذي صدر باللغة العبرية عام 1993م، وترجم إلى العربية عام 1996م. فقد برر فيه تمسك إسرائيل بالأراضي المحتلة عام 1967م، بادعاءات مختلفة، منها الحجة الدينية التاريخية وأن اليهود امتلكوا هذه الأرض من آلاف السنين، وأنه في مؤتمر فرساي تم "التعهد لليهود بإقامة دولة في فلسطين، وشمل الوطن القومي آنذاك ضفتي نهر الأردن".
وأضاف إلى ذلك، الحجة الأمنية وحاجة إسرائيل إلى عمق استراتيجي يضمن أمنها، وأنها بدونه ستتعرض لخطر الإبادة من جانب جيرانها الطامحين في إزالتها عن الوجود. ومن ثم، فإنه لا يحق لأي حكومة " التفريط بالسيطرة الاستراتيجية على الجولان، ومناطق الضفة الغربية"، التي اعتبرها " قلب الوطن القومي اليهودي " و"السور الواقي لدولة إسرائيل".
وبناء على هذه الحجج، وصل نتنياهو إلى أن "المطالبة بقيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية تتعارض كليًا مع السعي لتحقيق سلام حقيقي". وفسر ذلك، بأن قيام مثل هذه الدولة، سوف يؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار والنزاعات المستمرة مما يفضي إلى الحرب. أما الحل في نظره فيكمن في وجود دولتين، الأولى دولة يهودية للشعب اليهودي في غرب نهر الأردن، والثانية دولة عربية للشعب العربي في شرقي النهر (وقصد بذلك أن الأردن هي الوطن البديل للفلسطينيين). وفي هذا السياق، لا يوجد للفلسطينيين الذين يعيشون في إسرائيل حقوق قومية، وإنما ممكن مناقشة حقوقهم المدنية، وذلك في إطار حكم ذاتي.
أعتقد نتنياهو دوما بدور القوة كوسيلة لتحقيق الأهداف الإسرائيلية تجاه العرب، وأنها وحدها الكفيلة بضمان أن تحتل إسرائيل مكانتها بين الدول، فهي توفر لها الأمن والسيطرة في الشرق الأوسط، وحدد مفهوم هذه القوة بأنها "قوة الردع المعتمدة على قوة الحسم". تأثر نتنياهو في بلورة هذا المفهوم، بآراء معلمه الإيديولوجي زئيف فلاديمير جابوتينسكي (1880-1940م)، الذي أعتقد أن على المشروع الصهيوني أن يبني قوة عسكرية تفوق ما يمتلكه العرب وقادرة على إلحاق الهزيمة بهم. ومن ثم، يصلون إلى أنهم لا يستطيعون هزيمة هذا المشروع وأن عليهم قبوله.
يرى نتنياهو أن الفلسطينيين لن يقبلوا قط بوجود إسرائيل. ولذلك، فإن على إسرائيل أن تركز على بناء قوتها، فالقوة تردع الأعداء، أما مظهر الضعف و"تقديم التنازلات" فإنه يؤدي إلى "دعم شوكتهم وهلاك إسرائيل". فالقوة وحدها هي التي سوف تفرض عليهم القبول بإسرائيل والاعتراف بها والإكراه. ومن كلماته الدالة على ذلك،" القوة تجذب ...والضعف يُنَفر... في الشرق الأوسط، يبقي الأقوياء على قيد الحياة، والقوة تصنع السلام".
كانت هذه الأفكار هي منطلق نتنياهو في إدارة الحرب ضد الفلسطينيين في أكتوبر 2023م، ولبنان عام 2024م.
ثالثًا: موقف إسرائيل تجاه الحرب على غزة وتداعياته
منذ السابع من أكتوبر، تحدث القادة الإسرائيليون عن رؤيتهم للحرب، فصورها نتنياهو في أول فقرة من خطابه أمام الاجتماع المشترك للكونجرس الأمريكي بمجلسيه النواب والشيوخ في 25 يوليو 2024م، بأنها " هذا ليس صراع حضارات، هذا صراع بين البربرية والتحضر"، وأن إسرائيل تقوم بمحاربة الإرهاب نيابة عن أمريكا والعالم. ثم عاد للقول "هذا صراع بين من يعظمون الموت، وبين من يقدسون الحياة"، وهو عندما يربط بين الفلسطينيين من ناحية، والبربرية وتعظيم الموت من ناحية أخرى، فإنه ينزع عنهم إنسانيتهم وشرعية مطالبهم، ويرفض الاعتراف بهم كشعب يقاوم من أجل تحرير أرضه المحتلة وممارسة حقه في تقرير المصير.
حددت الحكومة الإسرائيلية أهداف الحرب التي تقودها على غزة، في هزيمة حماس وتدمير البنية التحتية لها، والإفراج عن المحتجزين الإسرائيليين، والحيلولة دون تكرار ما حدث في 7 أكتوبر مرة أخرى. وفي 17 سبتمبر 2024م، تم إضافة هدف رابع وهو ضمان عودة سكان المناطق الشمالية في إسرائيل بشكل آمن إلى منازلهم.
ولكن تطور الأحداث والطريقة التي أدارت بها القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية للحرب، كشفت عن أهداف أخرى، لعل أبرزها الانتقام ليس فقط من حماس والجهاد الإسلامي بل من كل الفلسطينيين كعقاب جماعي لهم، وإعادة ثقة الرأي العام الإسرائيلي بجيشه وحكومته، والضرب بعنف على كل الجبهات للقضاء على أي مصدر يمثل تهديدًا عسكريًا لإسرائيل من وجهة نظرها، وإنشاء مناطق عازلة تحيط بإسرائيل. وكل ذلك بهدف إعادة تأسيس صورة الردع الإسرائيلي.
وهناك أيضًا هدف المواجهة مع إيران، التي تعتبر إسرائيل أنها تستخدم أذرعها العسكرية في لبنان والعراق واليمن كخط دفاع أول عنها، ولتوجيه ضربات عسكرية ضد إسرائيل. ما زالت إسرائيل تعتقد أن الخطر الرئيسي عليها في الأجل المتوسط هو قدرة إيران النووية، التي ينبغي تحجيمها، بل وإزالتها إذا سمحت الظروف بذلك. فأشار نتنياهو إلى "لعنة إيران النووية" في خطابه أمام الجمعية العامة بالأمم المتحدة في 22 سبتمبر 2023م، متعهدًا " بأنني سأفعل كل ما في وسعي لمنع إيران من الحصول على أسلحة نووية"، ودعا في خطابه أمام الكونجرس يوليو 2024م، إلى إنشاء تحالف شرق أوسطي ضد إيران.
أكد نتنياهو أنه لن يُكرر خطأ أوسلو، وأن غزة لن تكون "حماسستان" ولا "فتحستان". مما يعنى رفض وجود سلطة فلسطينية مستقلة في غزة. وفي خطابه أمام الكونجرس أشار إلى رؤيته لليوم التالي، والتي تتضمن سيطرة إسرائيل عسكريًا على قطاع غزة في المرحلة الانتقالية التي تعقب انتهاء الحرب، ونزع سلاح الفلسطينيين أهالي القطاع، وأن تتولى إدارة مدنية غير متطرفة "لا تسعى إلى تدمير إسرائيل" تصريف أمور القطاع، مؤكدًا رفض بلاده القاطع لعودة حماس للسلطة، وعدم قيام السلطة الفلسطينية لأي دور في إدارة القطاع. مضيفًا أن "الجيل القادم من الفلسطينيين يجب أن يتعلم كيف يعيش جنبًا إلى جنب مع اليهود "، داعيًا إلى العمل من أجل نزع مشاعر التطرف لدى الفلسطينيين في غزة، أسوة بما حدث في اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية.
ظل استمرار الحرب الخيار الوحيد لحكومة الحرب الإسرائيلية. وعلى مدى أكثر من عام، تمكن نتنياهو من احتواء الضغوط الدولية التي شملت قرارات إدانة من الجمعية العامة للأمم المتحدة، وانتقادات من الدول الغربية التي قام بعضها بالاعتراف بدولة فلسطين وهي إسبانيا وإيرلندا والنرويج، وبعضها الآخر بإصدار قرارات منع تصدير أنواع معينة من السلاح إليها، شملت في أوروبا المملكة المتحدة وإيطاليا وهولندا وإسبانيا وبلجيكا، وفي خارجها كندا واليابان. وحكم محكمة العدل الدولية بتاريخ 26 يناير 2024م، في الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا، والذي تتضمن مطالبة إسرائيل باتخاذ تدابير فورية لمنع الإبادة في القطاع.
كما نجح أيضًا، في احتواء الضغوط الداخلية المتمثلة في انتقادات أحزاب المعارضة لسياساته، ومظاهرات عائلات المحتجزين، والآثار السلبية التي أصابت الاقتصاد الإسرائيلي في كل قطاعاته الإنتاجية والخدمية، وانخفاض الاستثمارات الأجنبية، وازدياد عجز الموازنة، والدين العام.
رابعًا: إسرائيل واستمرار الحرب في 2025
عندما نفكر في مستقبل الأحداث الراهنة واحتمالات التصعيد والتهدئة، فإن ذلك يتوقف على مدى تحقيق الأطراف المتحاربة لأهدافها. فالحروب تستمر طالما أعتقد أطرافها بأنهم لم يحققوا أهدافهم بعد، وأن التكلفة التي يتحملونها نتيجة استمرار الحرب أقل من ثمن الموافقة على وقف إطلاق النار، وأنهم ما زالت لديهم القدرة على الاستمرار في القتال.
تبدو إسرائيل في نهاية عام 2024م، مصممة على أن يكون لها الكلمة الأخيرة في الحرب، ويشعر قادتها – وتحديدًا نتنياهو-أنهم في وضع غير مسبوق يسمح لهم بالقضاء على ما يعتبرونه مصادر تهديد لإسرائيل، وتعميق الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية، والسيطرة العسكرية على غزة، وإعادة رسم الخريطة الجيوسياسية للمنطقة بحيث تكون إسرائيل هي القوة العسكرية المهيمنة فيها، والمتحكمة في أوضاعها وتوازناتها.
ويبدو أن هذا التصور هو محل اتفاق بين قطاع كبير من المراقبين الإسرائيليين والرأي العام، وهو ما تعكسه المقالات والتغطية الإعلامية في الصحف ووسائل الإعلام الإسرائيلية، وذلك من واقع متابعة النشرة اليومية التي تصدرها مؤسسة الدراسات الفلسطينية. وعلى سبيل المثال، فإن العدد الصادر 25 أكتوبر 2024م، تضمن مقالًا كتبه عيدي شفارتس في صحيفة يسرائيل هيوم عن اليوم التالي في غزة، اقترح فيه أن على إسرائيل التمسُك بـ "ألا يوجد في غزة لاجئ فلسطيني بعد اليوم، ولا مخيمات لاجئين، ولا وكالة إغاثة لهم (الأونروا)". ومقالًا كتبه غادي عزرا في جريدة يديعوت آحرنوت بعنوان "ثمة أمر واحد واضح: الأمم المتحدة لا يمكن أن تتدخل في اليوم التالي في لبنان ".
وتضمن عدد 29 أكتوبر تعليقًا ليسرائيل زيف في قناة 12، ورد فيه أن الهجوم الإسرائيلي علي إيران " يشكل منعطفًا في إضعاف محور المقاومة، وفي تغيير موازين القوى الاستراتيجية في المنطقة"، وأن أذرع إيران تدرك الآن أنه "لم يعد لديهم من يعتمدون عليه". ومقال كتبه درور إيدار في جريدة "يسرائيل هيوم" بعنوان "المطلوب الحسم وليس التسوية"، بمعنى أن المطلوب هو "القضاء على العدو، وعلى قدراته، بحيث ألا تقوم له قيامة بعدها"، وأسمى وجود قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام "اليونيفيل" في لبنان بالمهزلة، والتي "أقام حزب الله إمبراطورية الإرهاب تحت أنظارها".
ونشرت صحف يوم 3 نوفمبر خبر موافقة البرلمان الإسرائيلي "الكنيست" على مشروع قانون ينص على منع وجود أي تمثيل لمنظمة الأونروا، ووقف تقديم خدماتها وألا تقوم بأي نشاط بشكل مباشر أو غير مباشر، وذلك "داخل الأراضي التابعة لسيادة الدولة الإسرائيلية"، وتمت الموافقة عليه بأغلبية 91 صوتًا مقابل معارضة 10 أعضاء، ومؤدى القانون وقف نشاط الأونروا في القدس المحتلة والتي تشرف فيها على مخيم شفعاط للاجئين. كما صدر قانون آخر ينص على "منع مؤسسات الدولة وكيانات وأشخاص آخرين يتولون مناصب عامة، من إقامة أي علاقة بالأونروا، أو أي جهة من طرفها"، وإلغاء التسهيلات الضريبية والحصانة الدبلوماسية التي تمتعت بها. ومؤدى ذلك، وقف أنشطة المنظمة في الضفة الغربية وقطاع غزة. وأعقب ذلك إبلاغ الحكومة الإسرائيلية الأمم المتحدة بانها قطعت كل علاقاتها مع الأونروا.
يشير ما تقدم إلى أن هدف إسرائيل هو تغيير الواقع الأمني الذي كان قائمًا في العشرين عامًا الماضية. يدل على ذلك، ما كرره نتنياهو في أكثر من مناسبة، وهو أن إسرائيل تتبع خطة منهجية لتغيير واقع الشرق الأوسط. وأشار إلى ذلك في خطابه أمام الجمعية العامة بالأمم المتحدة في 27 سبتمبر 2024م، وبعد اغتيال حسن نصر الله في نفس اليوم حيثُ صرح بأن إسرائيل ستغير الواقع الاستراتيجي في الشرق الأوسط. وأعاد الإشارة إلى هذا المعنى في خطاب له يوم 7 أكتوبر 2024م، عندما ذكر أن الحرب التي تشنها إسرائيل تغير الواقع الأمني في المنطقة.
تشعر إسرائيل بانها مطلقة اليد في استمرار الحرب، بفضل الدعم الأمريكي السياسي والعسكري. وفي خطابه أمام الكونجرس، أشار نتنياهو لعمق العلاقات الاستراتيجية مع واشنطن بغض النظر عن أيٍ من الحزبيين الديمقراطي والجمهوري في الحكم، وأن الفرصة سانحة لتحقيق هدف شرق أوسط جديد.
تستمر إسرائيل في تصعيد عملياتها العسكرية. وفي نهاية أكتوبر 2024م، وجهت إسرائيل ضربة جوية ضد إيران، أعقبها تصريح نتنياهو في أول نوفمبر، بان "إسرائيل تتمتع بحرية التصرف في إيران أكثر من أي وقت مضى، ويمكنها الوصول إلى أي مكان فيها بحسب الحاجة".
تبدو خطورة هذا التوجه في أنه يقود إلى مواجهة مفتوحة مع إيران، مما يترتب عليه تداعيات إقليمية ودولية خطيرة.
فعلى المستوى الإقليمي، قد تؤدي الحرب إلى استهداف القواعد العسكرية الأمريكية الموجودة في أكثر من دولة عربية، ويدفع ذلك إلى وضع هذه الدول في مواقف صعبة وحرجة. والأرجح، أن أذرع إيران لن تظل صامته، مما يؤدى إلى عدم الاستقرار الداخلي في الدول التي توجد فيها، وإلى مزيد من التوتر في العلاقات الإقليمية. وعلى المستوى الدولي، قد تؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط واضطراب أسواقه العالمية، والى توثيق عرى التحالف بين إيران وكل من روسيا والصين.
يتفق الباحثون أن هذا الواقع الاستراتيجي الجديد الذي تسعى إسرائيل لإقامته، يرتكز على ثلاثة أسس، هي: تدمير القوة العسكرية لكل خصوم إسرائيل، والتوسع في استيطان الضفة الغربية، ومنع إقامة دولة فلسطينية مستقلة، بتأييد ودعم من الولايات المتحدة وخاصة بعد نجاح المرشح الجمهوري دونالد ترامب في الانتخابات.
لكن الطريق إلى تحقيق ذلك، محفوف بالمخاطر. والأرجح، أن مضى إسرائيل قدما في هذا الطريق، سوف يقود إلى مواجهات عسكرية وعدم استقرار سياسي وفوضى إقليمية، فطالما استمر الاحتلال فسوف توجد مقاومة. صحيح أن إسرائيل حققت انتصارات تكتيكية كبيرة ضد حماس وحزب الله، ولكنها لم تنجح في تحويلها إلى مكاسب استراتيجية، ولم تنجح بعد أكثر من عام في حسم الصراع معهم. ومن ثم، فمن الصعب للغاية الحديث عن نهاية قريبة لهذه الحرب. قد يتوقف القتال لفترة، ثم يعود بأشكال مختلفة ومتقطعة.
كذلك، لن تستطيع الانتصارات التكتيكية الإسرائيلية من محو الآثار النفسية التي تعرض لها الإسرائيليون يوم 7 أكتوبر، ولا من إزالة الشعور بعدم الأمن الذي عاشوه عشرات المرات، بسبب إطلاق صفارات الإنذار ولجوئهم إلى المخابئ. كما أنها لن تضع نهاية لحماس وحزب الله، ولا لمشاعر الغضب والرغبة في الثأر لدى الفلسطينيين واللبنانيين من هول ما تعرضوا له في هذه الفترة.
لا يوجد الآن في سلوك إسرائيل ما يبشر بوقف إطلاق النار وانتهاء الحرب.