array(1) { [0]=> object(stdClass)#13494 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 204

العالم يحبس أنفاسه طوال الأربع سنوات القادمة مترقبًا ما يصدر عن البيت الأبيض

الخميس، 28 تشرين2/نوفمبر 2024

  • يوم الثلاثاء ٥ نوفمبر الماضي ذهب ما يقرب من ١٦٠ مليون أمريكي لاختيار أهم أفرع الحكومة (الرئاسة والكونجرس). معروف في الديمقراطية أن الولاء للدولة والدستور وإرادة الشعب. ومعروف أيضاً عن الديمقراطية أنها منظومة من القيم، قبل أن تكون ممارسة سلوكية. والأهم: أنه في الديمقراطية المرجعية تكون للدستور وحكم المؤسسات في دولة القانون. كما أنه في الديمقراطية الدولة هي الباقية وأن السيادة هي للشعب، بينما الحكومة، بموسساتها ورموزها شخوصاً مؤقتة، يبقون في مؤسسات الدولة لممارسة السلطة، طالما الإرادة العامة للشعب، التي جاءت بهم إلى السلطة تقرهم على ذلك، أو تستبدلهم بنخب أخرى. من المفترض، في الديمقراطية، أن لا أحد يصل إلى السلطة أو يبقى فيها خارج إرادة الشعب العامة.

 أفضل أنظمة الحكم السيئة

لكن، في النهاية: الديمقراطية، ليست بهذه الصورة الرومانسية، التي تجعلها نطام سياسي كامل وفاضل. الديمقراطية، كما وصفها السياسي الأشهر ونستون تشرشل، هي: أفضل الأسوأ بين الأنظمة السياسية. بمعنى: أن الديمقراطية، من البداية، هي من بين الأنظمة السياسية السيئة، لانه ليس هناك نظام سياسي فاضل أو كامل يمكن أن يزعم كونه نموذجاً صالحاً للحكم، على إطلاقه

كما أن الديمقراطية بآلية الانتخاب لاختيار رموز السلطة، احتكاماً لمعادلة الأغلبية، ليس بالضرورة تأتي بالأصلح من بين المرشحين لتقلد مناصب مؤسسات السلطة، خاصةً في المجتمعات الأقل تعليماً والأقل فهماً لحكمة الديمقراطية وغايتها. بل حتى في تلك المجتمعات التي وصلت إلى مراحل متقدمة من الوعي السياسي، لا يمكن ضمان وصول الأصلح لسدة المناصب السيادية الرفيعة في المجتمع. الإغريق فطنوا لهذه المعضلة في الديمقراطية، فصنفوا الديمقراطية في أدنى درجات الأنظمة السياسية، لأنه في عرفهم أن الأغلبية ليس هناك من ضمان لتمثيلها لأحسن وأفضل وأكفأ من يتقلد المناصب الرفيعة في المجتمع… بل العكس هو الصحيح: الديمقراطية تظل حكم الرعاع والغوغاء والدهماء، لأنهم يمثلون السواد الأعظم من الناس.

لكن، في النهاية: ليس هناك من آلية لقياس المفاضلة بين المرشحين لتقلد المناصب العامة الرفيعة في المجتمع، غير معيار الأغلبية، مع افتراض المساواة، لكل شخص صوتٌ واحد.

النظام السياسي الأمريكي

في الولايات المتحدة يأخذ نظامها السياسي بنظام الحزبين. هذا لا يعني: اقتصار العملية السياسية على حزبين فقط، فحرية الممارسة السياسية تأخذ شكل المشاركة الواسعة في العمل السياسي المتاح للجميع. لذا قد يوجد هناك أكثر من حزب، بل قد يكون هناك عشرات الأحزاب، فقط جرى تاريخياً وعرفاً، أن تداول السلطة (سلمياً) في الولايات المتحدة ينحصر بين حزبين رئيسيين (الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري). كما أن التمثيل الديمقراطي في الولايات المتحدة لا يأخذ فقط بالمتغير الديمغرافي (السكاني)، بل يأخذ بالتمثيل الجغرافي لأعضاء الاتحاد الفيدرالي، لضمان التمثيل الحقيقي للإرادة العامة، لمنع استبداد الأغلبية، حتى لا تطغى الولايات كثيفة السكان على النظام السياسي، على حساب الولايات قليلة السكان، فجيء بنظام الأصوات الانتخابية، بدل من الأصوات الشعبية.

الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة

في انتخابات يوم الثلاثاء الخامس من نوفمبر الماضي، اكتسح الجمهوريون مؤسسة الرئاسة، وكذا الكونجرس بغرفتيه (مجلس النواب ومجلس الشيوخ). وإذا ما أخذنا في عين الاعتبار الفرع الثالث للحكومة الممثل للسلطة القضلئية (المحكمة الدستورية العليا) بوجود ستة قضاة من تسعة جرى تعيينهم من قبل رؤساء جمهوريون، ثلاثة منهم جرى تعيينهم من قبل الرئيس ترامب في فترة ولايته الأولى، يمكن قياس مدى القوة السياسية التي يتمتع بها الرئيس المنتخب (دونالد ترامب)، في ولايته الثانية القادمة. بل وستزداد قوته السياسية، لدرجة أنه خلال السنتين القادمتين من حكمه يمتلك بين يديه ما يشبه الحكم المطلق (أغلبية جمهورية في الكونجرس بغرفتيه وأغلبية في حكام الولايات الجمهوريين)، مما يتيح له الحكم بأريحية كبيرة. كما أن الرئيس ترامب لم يحظَ في الانتخابات الأخيرة بأغلبية المجمع الانتخابي، فحسب… بل بالأصوات الشعبية، أيضاً.  ميزة لم تحظَ بها ولايته الأولى. لقد تفوق على المرشحة الديمقراطية نائبة الرئيس كامالا هاريس، بأكثر من أربعة ملايين صوت!

التوجه صوب الفاشية

الخلل في الديمقراطية، بل الخطر عليها يأتي من داخلها. أحياناً: عندما يَظن الكثيرون أن الديمقراطية هي الحل الأمثل للمشكلة السياسية، خاصةً عندما تتابع وتتوالى نجاحاتها في استئناس حركة الصراع على السلطة، بتكريس آلية التداول السلمي للسلطة، يغفل هؤلاء عن حقيقة: دوام الحال من المحال، وأن الديمقراطية، إذا صح التعبير، تحمل جينات عدم الاستقرار في داخلها. لقد أحسن رواد الديمقراطية المتحمسون لخيارها الظن في الديمقراطية، حتى أنهم استبعدوا احتمالات عدم الاستقرار في خيارها. لقد بلغ حسن ظن هؤلاء بالديمقراطية وخيارها، حتى أنهم نسوا أو استبعدوا احتمال تحولها إلى نقيضها (الفاشية)!

لكن هذا تاريخياً وقع، وسيقع، حتى في أعرق الأنظمة الديمقراطية. أول يناير ١٩٣٣م، حصل الحزب النازي على الأغلبية في البرلمان الألماني (الريشستاغ)، ولم تمض ٤٥ يوماً إلا ويضرم النازيون النار في الرايشستاغ ويحولونه إلى كومة رماد، ليحكم هتلر ألمانيا بالحديد والنار، وكذا فعل ما فعل بالعالم. أيضاً كثير من دول العالم اختارت الديمقراطية، لكنها لم تعمر كثيراً، فإما تتحول إلى نظام فاشي يحكمه حزب أو أحد، أو يتغلب العسكر على الحياة السياسية في مجتمعهم، فيحكمون بلا منازع، حتى ولو احتفظوا بشكليات الممارسة الديمقراطية، بعيداً عن جوهرها.

في النهاية: ليس هناك من ضمانة ألا يصحا مارد الفاشية في "جينات" الديمقراطية، ويمحو عقود، بل قرون من الممارسة الديمقراطية.

عودة ترامب للبيت الأبيض

في خضم اهتمام الناخب الأمريكي بقضايا الاقتصاد والهجرة غير الشرعية والرعاية الصحية والإنجاب والإجهاض وحريات المثليين والديمقراطية، غفى عن احتمالات الانقلاب على النظام الديمقراطي، بعودة ترامب في ولاية ثانية إلى البيت الأبيض، بما فيه من خطورة على الديمقراطية وتهديد لاستقرار النظام السياسي، الذي امتد منذ الاستقلال وقيام الجمهورية، إلى الآن.

غفى الشعب الأمريكي عما كان يردده الرئيس ترامب من تهديد لخصومه السياسيين، الذي زعم سرقتهم لنتيجة انتخابات ٢٠٢٠م، الرئاسية، متوعداً الانتقام منهم. لقد تكلم كثيراً عن أن أعداء أمريكا الحقيقيين من داخلها وليس أعداءها التقليديين في الخارج مثل: الصين وروسيا. بل أنه ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك (عسكرة الدولة) باستخدام الجيش والحرس الوطني وقوى إنفاذ القانون، لاستئصال خصومه السياسيين وقمع المظاهرات والاحتجاجات والإضرابات، وكل أشكال المعارضة لحكمه.

لقد تعهد باستخدام أجهزة الدولة القمعية، للحكم بعيدًا عن الدستور والقانون، حتى أنه ذهب إلى التعبير عن إعجابه وحسده لهتلر وموسيليني ورؤساء الصين وكوريا الشمالية وروسيا، مع محاولة التحرش بالجيش الأمريكي، واتهام جنرالاته بسيئ الألفاظ والنعوت، كونهم، كما زعم: جبناء وصعاليك، استمرأوا وضعية الخضوع لرؤسائهم المدنيين. مما حمل رئيس الأركان السابق مارك ميلي، الذي خدم في ولاية ترامب الأولى وفي عهد الرئيس الأسبق أوباما وقال عنه: أنه فاشيٌ للعظم، وخطر بينٌ وناجزٌ على الولايات المتحدة.

لن يقتصر خطر الرئيس ترامب على الولايات المتحدة وحدها، بل يمتد إلى العالم، بأسره، بالذات حلفاء أمريكا التقليديين. لقد عبر الكثيرون في أوروبا عن قلقهم من عودة ترامب، الذي كان في ولايته الأولى لم يخفِ انعزاليته الشديدة، عندما هدد حلفاءه في معاهدة حلف شمال الأطالس (النِاتو) برفع الحماية الأمريكية عنهم، بجعلهم خارج المظلة النووية الأمريكية، مما قد يجعل منهم فريسة سهلة للدب الروسي. ليس فقط هذا، بل طالبهم بتكلفة هذه الحماية بأثر رجعي، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، بما فيها تكاليف إعادة إعمار اوروبا واليابان، التي قام بها مشروع مارشال.

كما أن الناخب الأمريكي وهو يعيد الرئيس ترامب مرة أخرى إلى البيت الأبيض، لم يتعظ من الفضائح وكم المحاكمات والأحكام، التي صدرت ضده بعد خروجه الأول من البيت الأبيض. لقد أدين في قضايا جنائية كادت أن تخلع عنه لقب ومزايا الرئيس السابق، وتطلق عليه لقب المجرم المدان وغير ذلك من القضايا المدنية التي صدرت بحقه، والتي تترواح بين الرشوة والهروب من دفع الضرائب والنصب والاحتيال، التي أدين ببعضها وصدرت ضده أحكام، لولا ان المحكمة الدستورية أوقفت المضي في تلك المحاكمات قائلةً: إنه لا يجوز محاكمة رئيس الولايات المتحدة عن أفعال ارتكبها أثناء فترة رئاسته. علينا هنا أن نتذكر أن ثلاثة من قضاة المحكمة التسعة، جرى تعينهم واختيارهم من قبل إدارته.  هذا جانب من جوانب القصور في الديمقراطية.

الخاتمة

الرئيس ترامب، سيكون مصدر قلق داخل الولايات المتحدة وخارجها. الخطر ليس فقط على الديمقراطية في الولايات المتحدة، والتهديد بالإضرار البليغ بأكثر أنظمة الحكم ديمقراطية واستقرارًا، بل أكثر احتمالاً أن يمتد الخطر إلى العالم، مما يضر باستقرار النظام الدولي والسلام العالمي. سيحبس العالم أنفاسه طوال الأربع سنوات القادمة مترقبًا ومتوجساً ما يصدر عن البيت الأبيض، كما أن رواد الديمقراطية وأنصارها في الولايات يتحسبون لسلوكيات الرئيس ترامب فيما يخص مستقبل الديمقراطية في البلاد، وتهديد الرئيس ترامب بأن الانتخابات الأخيرة ستكون آخر انتخابات تُجرى في الولايات المتحدة. أيضاً محاولة الرئيس ترامب الزج بالجيش بالنزول إلى الشوارع في مواجهة أي مظاهرات أو مسيرات أو إضرابات قد تشتعل ضده، تعد سابقة لم يعتادها الجيش الأمريكي وليست ضمن عقيدته القتالية المحترفة.

ليس علينا إلا أن ننتظر ونتابع ونراقب ونترقب. هل الديمقراطية بإمكانها أن تتجاوز إدارة الرئيس ترامب القادمة، أم تراث سياسي استمر لأكثر من ٢٥ قرناً، تودي به عاصفة، كتلك التي يهدد بها الرئيس ترامب. وهل النظام الدولي، الذي يرزح تحت الهيمنة الأمريكية، بقادر على مواجهة تلك العاصفة. أسئلة نحاول معرفة الإجابة عنها من أول يوم يدخل فيه الرئيس ترامب البيت الأبيض، للمرة الثانية، الذي ربما يخطط ألا يخرج منه، أبداً.

ولاية الرئيس ترامب القادمة تمثل أسوأ كابوس تتعرض له الديمقراطية، كخيار يتمتع بالكفاءة والفاعلية للتعامل مع حركة السلطة وقيمها في التاريخ السياسي للإنسانية.

مقالات لنفس الكاتب