الدول مهما بلغت من تقدم وغنىً وقوة، بنوعيتها الصلبة والناعمة، ونفوذها الإقليمي والدولي، إلا أنها في النهاية محدودة الموارد لإشباع متطلباتها الأمنية واحتياجاتها التنموية. كما أن الدول مهما بلغت مواردها وخلفيتها الأيدلوجية وميولها للعزلة، إلا أنها لا تقوى على غلق حدودها وبحارها وأجوائها عن الاتصال بالعالم، ولا بد لها أن تتبع يوماً سياسة خارجية تداخلية، إن لم يكن من أجل دفع تكلفة احتياجاتها الأمنية ومتطلبات التنمية، فمن أجل تعظيم قدراتها الدفاعية وسد تكلفة التنمية لمجتمعاتها وتقوية نفوذها على مسرح السياسة الدولية.
هذه هي أهم دوافع الدول للانجذاب ناحية التكامل الإقليمي والدولي مع غيرها من الدول للاستفادة من ميزات التكامل الإقليمي والدولي، لتعظيم مصالحها القومية، عن طريق خيار التكامل الإقليمي مع دول، تجد بينها وبينهم قواسم أيدلوجية وجغرافية وثقافية مشتركة… والأهم: روابط اقتصادية تتمتع الدولة بينها بميزة تنافسية (اقتصادية وأمنية) تعظم من خلالها انخراطها في سياسة خارجية تداخلية تخدم مصالحها السياسية والاقتصادية وتعظم من خلالها حضورها الدولي، لزيادة نفوذها ودعم إمكاناته الأمنية وتوفير موارد مضافة من محيطها الإقليمي للمساعدة في دفع تكلفة التنمية لمجتمعاتها وخدمة مصالحها الخارجية. الدول الإسلامية، ليست بدعاً في هذا التوجه نحو خيار التكامل الإقليمي.
اقتراب مختلف للتكامل الإقليمي
لكن ما الذي يجعل الدول الإسلامية مختلفة، عن تجارب الدول الأخرى، للتحمس تجاه إنشاء منظمة أممية تأخذ بنهج التكامل الإقليمي فيما بينها للاستفادة من موارد الأقاليم الإسلامية الزاخرة بالمورد الطبيعية، بينما هي – في نفس الوقت – أكثر ضعفاً في الاستفادة منها وتشكو من مخاوف استراتيجية خطيرة تهدد أمن الكثير منها. بالإضافة إلى تخلفها التكنلوجي والعلمي، اللذان يحولان دون الاستفادة من مواردها الطبيعية الزاخرة. وكذا ما تعاني منه الدول الإسلامية من عدم الاستقرار السياسي الداخلي، الذي معظمه بسبب محيطها الإقليمي والدولي، الطامعة بعض دوله في تلك الموارد الطبيعية، التي تحتاجها في صناعاتها التحويلية وتوفير الطاقة لإدارة عجلة النمو في مجتمعاتها… ويكفي أن نشير هنا لأهمية النفط الاستراتيجية التي تحتاجها الدول الصناعية الكبرى في صناعة التقدم الحضاري، التي وصلت إليه.
بدأت مسيرة التكامل الإقليمي بين الدول الإسلامية، بصيغته الرسمية، بمؤتمر القمة العربية في الرباط (٢٢-٢٥ سبتمبر ١٩٦٩م)، الذي أنشأ منظمة المؤتمر الإسلامي. الملفت هنا أن المنظمة، التي تحولت فيما بعد إلى منظمة التعاون الإسلامي لإعطائها طابع وشكل ومؤسسات المنظمة الإقليمية، شأنها شأن بقية منظمات التكامل الإقليمي، التي تقوم على خدمة مصالح الأعضاء، لا على قاسم مشترك يجمعهم على مستوى الحد الأدنى من التضامن، غير الملزم، لخدمة هدف لا يختلف عليه المسلمون ألا وهو الدفاع عن القدس والعمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، حتى أن المنظمة جعلت القدس مقرها الرئيس بعد أن يتحقق إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للمدينة المقدسة، باختيار جدة (المملكة العربية السعودية) مقراً مؤقتاً للمنظمة.
الخلاف حول إقامة المنظمة
فكرة المنظمة ليست بالجديدة، وكان الملك فيصل بن عبد العزيز ـ يرحمه الله ـ عرابها الأول. واكتسبت زخماً جديداً بإقدام الصهاينة على حرق المسجد الأقصى (١٢ أغسطس ١٩٦٩م). وكانت المنظمة وليدة صراع داخل النظام العربي حول الهوية السياسية للعرب. وكان الصراع، في ذلك الوقت، بين التيار الإسلامي وبين التيار القومي. كان التيار القومي يزعم أن هناك مخطط لإقامة حلف إسلامي تقوده ما أسموه بـ "الرجعية العربية"، لمقاومة المد القومي (الثوري)، عدو العرب الأول (الاستعمار والإمبريالية). وأن فكرة إنشاء منظمة إسلامية، إنما هو امتداد لحركة قيام الأحلاف في المنطقة، تحت شعار ملئ الفراغ، الذي دعا إليه الرئيس الأمريكي دوايت ايزنهاور، بعد انسحاب الدول الاستعمارية، بالذات بريطانيا وفرنسا، من المنطقة وأضحت المنطقة مفتوحة لزحف المد الشيوعي إليها بقيادة الاتحاد السوفيتي. وما فكرة إنشاء منظمة إسلامية، إلا بديل لفشل حلف بغداد وبعده الحلف المركزي، لضرب مد القومية العربية، كما زعم التيار القومي.
لكن بتوالي النكسات للتيار القومي بانفصال أول وحدة عربية بين مصر وسوريا (٢٨ سبتمبر ١٩٦١م) .. وفشل المد القومي للزحف نحو الجزيرة العربية، بتعثر التدخل العسكري في اليمن، بعد ثورة اليمن (٢ سبتمبر ١٩٦٢م). وأخيراً: جاءت الطامة الكبرى للمد القومي بحرب الأيام الستة (٥ يونيو ١٩٦٧م)، ظهرت أول بادرة لتقدم فكرة إنشاء منظمة إسلامية إقليمية، وكان مؤتمر القمة العربي في الرباط هو المدخل الرسمي، لتبني النظام العربي لفكرة إنشاء منظمة إسلامية إقليمية، التي تضم اليوم ٥٧ دولة إسلامية.
الغريب هنا أن العرب هم من تبنوا الفكرة واستثمروا فيها، بينما منظمتهم العربية (جامعة الدول العربية) تراوح مكانها على مستوى منظمة المؤتمر الإسلامي، ولم تتطور إلى مستوى منظمة إقليمية تكاملية، كما حدث لمنظمة التعاون الإسلامي ومنظمة الاتحاد الإفريقي. لتسبق صيغة المنظمة التكاملية الإقليمية في مجلس التعاون لدول الخليج العربية، صيغة جامعة الدول العربية التقليدية، التي من الصعب أن تتحول إلى منظمة تكاملية عربية تصبح مع الوقت منظمة فوق إقليمية (Supranational National Organization) تتجاوز صلاحياتها في التنمية والدفاع والتنسيق في بعض أمور السياسة الخارجية للدول الأعضاء صلاحيات الدول الأعضاء، مع حفظ السيادة الوطنية للدول الأعضاء في الأمور الاستراتيجية الكبرى، كقضايا الدفاع والسياسة الخارجية.
أين إنجازات التكامل الحقيقية
كانت فكرة صائبة أن تبدأ منظمة التعاون الإسلامي بقضية لا يوجد عليها خلاف، ألا وهي قضية القدس وهدف تحريرها من ربقة الاحتلال الصهيوني. إلا أن لب أي مشروع أممي لإنشاء منظمة إقليمية، لابد أن يقوم على أسس المصلحة المشتركة وأن ما يغري الأعضاء لإنشاء منظمة تكاملية إقليمية، هو كما سبق وذكرنا آنفاً، خدمة متطلبات الدفاع عن حياض الوطن والمساهمة الفعالة للدفع بمشاريع تنموية ملموسة، قد تعجز الدولة العضو من توفير الموارد المتاحة لديها، من تحمل تكلفتها الباهظة. بالإضافة لتعظيم الدول الأعضاء لخدمة مصالحها القومية، من خلال اقتسام موارد الإقليم الذي تنتمي إليه، بانضمامها للمنظمة الإقليمية المزمع قيامها، مما يعد قيمة مضافة للانضمام إلى المنظمات التكاملية الإقليمية.
ربما يكون تعثر منظمة التعاون الإسلامي في إقامة مشاريع عملاقة أو إحداث تقدم في متطلبات التكامل الإقليمي، تطال البيئة الاجتماعية للدول الأعضاء أو الإحساس بوجود تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية في السياسات الداخلية والخارجية للدول الأعضاء، إن البداية رغم نبل القصد، كانت من ردة فعل آنية، عاطفية ووجدانية، أكثر منها مادية محسوسة تطال احتياجات الدول الحديثة والمجتمعات المتعطشة لتنمية سياسية واقتصادية حقيقية، تزيد من كفاءة الدول وفاعليتها في تحقيق أهداف قومية عليا وإحداث معدلات نمو مرتفعة ومتواترة للتغلب على المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية داخل مجتمعات الدول الأعضاء.. بالإضافة إلى إيجاد حلول عملية للتغلب على المشاكل البينية بين الدول الأعضاء والتخفيف من حدة التوتر بينها، نتيجة خلافات على الحدود أو بقايا ثارات تاريخية فيما بينها، تعكس التعددية العرقية والطائفية والدينية والثقافية لمجتمعات الدول الأعضاء.
في المقابل: لنأخذ على سبيل المثال تجربة الاتحاد الأوروبي الذي من بين أهم إنجازاتها، أنها جعلت من المستحيل اللجوء إلى الحرب بين أعضاء الاتحاد، مما أتاح تفعيل مشاريع تكاملية مشتركة، مثل إنشاء سوق أوروبية موحدة. وصك عملة موحدة للاتحاد. وتأسيس محكمة عدل اتحادية تسمح لمواطني الدول الأعضاء لرفع قضايا على دولهم. وإنشاء برلمان أوروبي موحد، ومفوضية أوروبية مشتركة تدير السياسة الخارجية للاتحاد تجاه القضايا الدولية والإقليمية المشتركة. مثل هذه المشاريع التكاملية الناجحة، ساهمت في تفعيل تكامل إقليمي حقيقي بين الدول الأعضاء ونمو حقيقي داخل مجتمعات الدول الأعضاء بعيداً عن سطوة حكومات الدول الأعضاء في مواجهة مواطنيها. تجربة تكاملية لم تتحقق لأي تجمع إقليمي، دعك من كثرة تجارب التكامل الإقليمي، في جنوب الكرة الأرضية.
أين قضية القدس من أجندة المنظمة؟
بعد أكثر من خمسة عقود على إنشاء منظمة التعاون الإسلامي، التي كانت في قمة أوليات مؤسسات المنظمة وأهدافها: العمل على تحرير القدس وإنشاء مؤسسة أممية، كانت من أول اللجان التي انبثقت من المنظمة تشكيل (لجنة القدس)، التي يرأسها ملك المغرب وتضم في عضويتها ستة عشرة زعيم دولة. هذه اللجنة رغم دورية انعقادها لمتابعة التطورات على جبهة القدس لم تجتمع منذ عشر سنوات. بالتحديد كان آخر اجتماع للجنة (٢١ يناير ٢٠١٤م). منذ إنشاء المنظمة وإلى اليوم جرى في نهر قضية القدس مياه ومياه منها الباردة ومنها الشديدة السخونة سريعة الجريان، ولم يصدر عن المنظمة ولا من اللجنة المكلفة المنبثقة عنها ما يوحي اهتمامًا أو متابعة للتطورات الحادثة على جبهة القدس والقضية الفلسطينية، وكأن العرب والمسلمين فقدوا الحماس لاستعادة القدس وقيام الدولة الفلسطينية.
كانت جامعة الدول العربية قد تبنت قرارًا في قمة عمان ١٩٨٠م، بقطع العلاقات الدبلوماسية مع أي دولة تنقل سفارتها من إسرائيل إلى القدس. القرار الذي لم يُفعّل أبداً، الأمر الذي دعا إلى إقدام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في إدارته الأولى (٩ سبتمبر ٢٠١٧م)، الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده من تل أبيب للقدس، مع الاعتراف بضم الجولان إلى الدولة العبرية. القرار الذي تم رفضه من قبل منظمة التعاون الإسلامي، وعقدت المنظمة بسببه قمة غير عادية في إسطنبول (١٨ مايو ٢٠١٨م) للتنديد بالقرار ورفضه، لا أكثر.
كما أن موجة التطبيع مع إسرائيل، التي قادها الرئيس ترامب في نهاية ولايته الأولى، أذهبت بالالتزام العربي والإسلامي تجاه القدس والقضية الفلسطينية أدراج الرياح. هناك عدة دول عربية منها من طبع بالفعل مع إسرائيل، بدون أي تحفظ، ولتذهب المواقف العربية والإسلامية المعلنة بربط التطبيع بانسحاب إسرائيل من الأراضي، مع ريح التحولات التي عصفت بالمنطقة في بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.
ظهرت هذه اللامبالاة بالقضية الفلسطينية وعلى رأسها قضية القدس، بشكل أكثر وضوحاً في العدوان الإسرائيلي الأخير على غَزّةَ الذي استمر لأكثر من 400 يوم ومازال مستمراً إلى الآن، وكان قد بدأ بالعمل الذي قامت به المقاومة الفلسطينية في غزة وأسمته طوفان الأقصى. هذا الحدث كشف موقف العالمين العربي والإسلامي، بالقضية الفلسطينية وبالقدس لكن هناك دول تعترض وتنظم مؤتمرات وتتحدث في المحافل الدولية وترفض الممارسات الإسرائيلية.
لقد عَزّ على الدول الإسلامية الالتزام حتى بلغة الخطاب العربي والإسلامي الرسمي تجاه القضية الفلسطينية وقضية القدس. وتخلوا عن تسمية الأسماء بمسمياتها الحقيقية الذي التزم بها النظامان العربي والإسلامي، لأكثر من سبعة عقود. لقد جارى البعض الغرب في إدانة أحداث السابع من أكتوبر ٢٠٢٣م. وذهب الآخر، إلى خذلان أهل غزة في عز مقاومة الفصائل الفلسطينية للعدوان الهمجي الصهيوني على القطاع. وأخيراً عزّ على ٥٧ دولة إسلامية أن تقف مع جنوب إفريقيا في دعواها ضد إسرائيل نظير جرائم الحرب وأعمال الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، التي ترتكبها ضد الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية إلا فيما ندر من مواقف عربية وإسلامية.
ترى هل فقدت منظمة التعاون الإسلامي بوصلتها، ومعها جامعة الدول العربية، بخذلانهما قضية القدس وقضية الشعب الفلسطيني المركزية الذي أنشئت المنظمتان من أجل حمايتها من مشاريع ومخططات الصهاينة لتهويدها ونزع قدسية الصفة الدينية للمسلمين والمسيحيين في زهرة المدائن وبهية المساكن.