array(1) { [0]=> object(stdClass)#13549 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 205

أهداف شديدة الطموح وآليات تحقيقها محدودة الصلاحيات والإمكانات

الإثنين، 30 كانون1/ديسمبر 2024

  • النشأة والتطور: في 21 أغسطس من عام 1969م، أقدم أحد المتطرفين في إسرائيل على إشعال النار في المسجد الأقصى المبارك، ما أدى إلى تدمير جزء من سقفه الخشبي واحتراق منبر أثري يزيد عمره عن ثمانية قرون. ولأن لهذا المسجد قدسية خاصة عند جميع المسلمين، باعتباره "أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ومسرى النبي محمد عليه السلام"، فقد كان من الطبيعي أن تثير تلك الجريمة النكراء ردود أفعال شعبية ورسمية واسعة النطاق، شملت معظم أرجاء العالم الإسلامي، تحسبًا لأن يكون ما جرى بداية لمخطط صهيوني طويل الأمد يستهدف هدم المسجد الأقصى وإقامة "الهيكل الثالث"، استنادًا إلى معتقدات صهيونية يعتنقها غلاة المتطرفين اليهود والمسيحيين المتصهينين.

 في ظل تلك الأجواء المشحونة بالتوتر والقلق، وجه الشيخ أمين الحسيني، مفتي القدس آنذاك، نداءً ناشد فيه قادة الدول الإسلامية أن يهبوا لبحث السبل الكفيلة بحماية المقدسات الإسلامية ومواجهة الأخطار المحدقة بسبب الاحتلال الإسرائيلي، خاصة في القدس الشريف. وتلبية لهذا النداء، انعقدت في سبتمبر عام 1969م، قمة في الرباط، استجابة لدعوة وجهها ملك المغرب، حضرها 24 من قادة الدول الإسلامية وصدر عنها قرار يدعو الحكومات الإسلامية إلى "التشاور المنتظم لتعزيز وتوثيق التعاون والمساعدة المتبادلة في كافة المجالات الاقتصادية والعلمية والثقافية والروحية". وتنفيذًا لهذا القرار توالت المؤتمرات التي انعقدت على مستوى وزراء خارجية الدول الإسلامية إلى أن قرر المؤتمر الذي انعقد بجدة في مارس 1970م، إنشاء "أمانة عامة دائمة" لمتابعة القرارات الصادرة عن هذه المؤتمرات ومن ثم بدأت تتشكل الملامح الأولية لمنظمة دولية حكومية تم استكمال بقية مقوماتها حين أقر المؤتمر الثالث لوزراء خارجية الدول الإسلامية الذي انعقد بجدة أيضًا في فبراير عام 1972م، ميثاقها وسماها "منظمة المؤتمر الإسلامي" وتم اختيار مدينة جدة لتكون "المقر المؤقت لهذه المنظمة إلى أن يتم تحرير القدس" وبقيامها ولدت أول منظمة دولية حكومية تضم دول العالم الإسلامي في إطار مؤسسي واحد.

كان على المنظمة الوليدة أن تحدد ما إذا كانت هدفها سيقتصر على حماية المسجد الأقصى والقدس المهددان بفقدان هويتهما جراء المخاطر المحدقة بعد الاحتلال الإسرائيلي عام 1967م، أم أن نشاطها يتسع ليشمل تنظيم شؤون العالم الإسلامي في مختلف المجالات. وقد حسم ميثاق المنظمة هذا الجدل حين حددت مادته الثانية أهداف "منظمة المؤتمر الإسلامي" على النحو التالي:

"تعزيز التضامن الإسلامي بين الدول الأعضاء ودعم التعاون بينها في المجالات الاقتصادية، الاجتماعية، والثقافية، والعلمية، والمجالات الحيوية الأخرى والتنسيق بين سياساتها في المنظمات الدولية والعمل على محو التفرقة العنصرية، والقضاء على الاستعمار بجميع أشكاله. واتخاذ التدابير اللازمة لدعم السلام والأمن الدوليين القائمين على العدل وتنسيق العمل من أجل الحفاظ على سلامة الأماكن المقدسة وتحريرها ودعم كفاح الشعب الفلسطيني ومساعدته على استرجاع حقوقه وتحرير أراضيه. ودعم كفاح جميع الشعوب الإسلامية في سبيل المحافظة على كرامتها واستقلالها وحقوقها الوطنية وإيجاد المناخ الملائم لتعزيز التعاون والتفاهم بين الدول الأعضاء والدول الأخرى".

ويتضح من هذا النص أن الدول الإسلامية التي تحركت عقب حريق المسجد الأقصى قررت تأسيس منظمة عامة الاختصاص تهتم بتطوير التعاون بين الدول الإسلامية في كافة المجالات بدلًا من قصر مهمتها على بحث سبل توفير الحماية للمقدسات الإسلامية في القدس خاصة المسجد الأقصى. ومع ذلك يلاحظ أن الميثاق تحدث بشكل عام عن الحاجة إلى "دعم كفاح الشعوب الإسلامية" وخص الشعب الفلسطيني بالذكر حين أكد حرصه على "دعم كفاح الشعب الفلسطيني ومساعدته على استرجاع حقوقه وتحرير أراضيه". صحيح أنه لم يشر إلى المسجد الأقصى أو إلى مدينة القدس بالاسم لكنه أشار إلى أهمية "تنسيق العمل من أجل الحفاظ على سلامة الأماكن المقدسة وتحريرها" ما يعني اهتمامه بالمسألة الفلسطينية ككل بدليل حديثه عن "تحرير الأماكن المقدسة" وعدم الاكتفاء بالتعهد بالحفاظ على سلامتها فحسب.

كان على المنظمة أن تحدد آليات وأساليب العمل لتحقيق أهدافها وهو ما جاء في المادة الثالثة من ميثاقها التي أشارت إلى أن الهيكل التنظيمي لمنظمة المؤتمر الإسلامي يتكون من ثلاثة أجهزة رئيسية هي: مؤتمر ملوك ورؤساء الدول والحكومات وهو الجهاز المختص برسم السياسات العامة واتخاذ القرارات ويعقد مرة كل ثلاث سنوات ويمكنه الانعقاد في دورة طارئة في أي وقت بناء على رغبة أغلبية الدول الأعضاء، ومؤتمر وزراء الخارجية وهو الجهاز المختص بالإشراف على شؤون المنظمة وتعيين أمينها العام ومتابعة تنفيذ قرارات أجهزتها خاصة مؤتمرات القمة ويعقد مرة واحدة على الأقل كل عام، الأمانة العامة وهو جهاز يتولى تنفيذ الأعمال الإدارية والفنية للمنظمة ويعد الدراسات والتقارير لتمكينها من أداء وظائفها ومهامها.

وطرأت تغييرات على المنظمة عبر ما يزيد على نصف قرن. فارتفع عدد الدول الأعضاء من 30 عند التأسيس إلى 57 عضوًا حاليًا، كما تم تغيير اسم المنظمة عام 2008م، ليصبح "منظمة التعاون الإسلامي" بدلا من "منظمة المؤتمر الإسلامي" وصدر لها ميثاق جديد أسهب في شرح وتوضيح أهداف المنظمة التي تسعى لتحقيقها في طورها الجديد وتوسع كثيرًا في إنشاء الأجهزة والفروع التي لم يتضمنها الميثاق الأصلي، للتكيف مع التطورات التي طرأت على الأوضاع الإقليمية والدولية.

فعلى صعيد الأهداف حددت المادة الأولى من الميثاق الجديد أهداف "منظمة التعاون الإسلامي" على النحو التالي:

 "1-تعزيز ودعم أواصر الأخوة والتضامن بين الدول الأعضاء. 2-صون وحماية المصالح المشتركة لهذه الدول ومناصرة قضاياها العادلة وتنسيق جهودها وتوحيدها بغية التصدي للتحديات التي تواجه العالم الإسلامي خاصة والمجتمع الدولي عامة. 3-احترام حق تقرير المصير وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء واحترام سيادة واستقلال كل دولة عضو. 4-استعادة السيادة الكاملة ووحدة أراضي أي دولة عضو خاضعة للاحتلال من جراء العدوان وذلك استنادًا إلى القانون الدولي والتعاون مع المنظمات الدولية والإقليمية ذات الصلة 5-ضمان المشاركة الفاعلة للدول الأعضاء في عمليات اتخاذ القرارات على المستوى العالمي. في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لضمان مصالحها المشتركة. 6-تعزيز العلاقات بين الدول على أساس العدل والاحترام المتبادل وحسن الجوار، لضمان السلم والأمن والوئام العام في العالم. 7-تأكيد دعمها لحقوق الشعوب المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي 8-دعم الشعب الفلسطيني وتمكينه من ممارسة حقه في تقرير المصير وإقامه دولته ذات السيادة وعاصمتها القدس الشريف، والحفاظ على الهوية التاريخية والإسلامية للقدس الشريف وعلى الأماكن المقدسة فيها. 9-تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري الإسلامي بين الدول الأعضاء من اجل تحقيق التكامل الاقتصادي فيما بينها بما يفضي إلى إنشاء سوق إسلامية مشتركة. 10-بذل الجهود لتحقيق التنمية البشرية المستدامة والشاملة والرفاه الاقتصادي في الدول الأعضاء. 11-نشر وتعزيز وصون التعاليم والقيم الإسلامية القائمة على الوسطية والتسامح، وتعزيز الثقافة الإسلامية والحفاظ على التراث الإسلامي, 12-حماية صورة الإسلام الحقيقية والدفاع عنها والتصدي لمحاولات تشويه صورة الإسلام وتشجيع الحوار بين الحضارات والأديان". 13-الرقي بالعلوم والتكنولوجيا وتطويرها، وتشجيع البحوث والتعاون بين الدول الأعضاء في هذه المجالات. 14 تعزيز حقوق الإنسان والحريات الأساسية وحمايتها، بما في ذلك حقوق المرأة والطفل والشباب والمسنين وذوي الاحتياجات الخاصة والحفاظ على قيم الأسرة الإسلامية. 15-تعزيز دور الأسرة وحمايتها وتنميتها باعتبارها الوحدة الطبيعية والجوهرية للمجتمع. 16-حماية حقوق الجماعات والمجتمعات المسلمة في الدول غير الأعضاء وصون كرامتها وهويتها الدينية والثقافية. 17-تعزيز موقف موحد من القضايا ذات الاهتمام المشترك والدفاع عنها في المنتديات الدولية. 18-التعاون في مجال مكافحة الإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره والجريمة المنظمة والاتجار غير المشروع في المخدرات والفساد وغسيل الأموال والاتجار في البشر. 19-التعاون والتنسيق في حالات الطوارئ الإنسانية مثل الكوارث الطبيعية. 20-تعزيز التعاون بين الدول الأعضاء في المجالات الاجتماعية والثقافية والإعلامية.

ويتضح من هذا النص أن الأهداف التي تسعى "منظمة التعاون الإسلامي" لتحقيقها باتت أكثر تفصيلًا وتضمنت مصطلحات ومفاهيم جديدة لم ترد في ميثاق "منظمة المؤتمر الإسلامي" كالتأكيد على "حقوق الشعوب" خاصة "الحق في تقرير المصير" وضرورة قيام "دولة فلسطينية ذات السيادة عاصمتها القدس الشريف" وأهمية الحفاظ على "الهوية التاريخية والإسلامية للقدس الشريف" وعلى "صورة الإسلام الحقيقية". وتحقيق "التنمية المستدامة" وإنشاء "سوق إسلامية مشتركة" وضرورة المشاركة الفعالة في "الحوار بين الحضارات" ...الخ وكلها أهداف كبرى لا يمكن تحقيقها إلا من خلال هياكل تنظيمية ومؤسسية قوية تتمتع بسلطات وصلاحيات واسعة. 

أما الهيكل التنظيمي فقد حددته المادة الخامسة من الميثاق على النحو التالي: "تتكون أجهزة منظمة التعاون الإسلامي من: القمة الإسلامية ومجلس وزراء الخارجية واللجان الدائمة واللجنة التنفيذية ومحكمة العدل الإسلامية الدولية والهيئة الدائمة المستقلة لحقوق الإنسان ولجنة الممثلين الدائمين والأمانة العامة والأجهزة المتفرعة والمؤسسات المتخصصة والمؤسسات المنتمية". ويتضح من هذا النص أن تطورًا كبيرًا طرأ على الهيكل التنظيمي لمنظمة التعاون الإسلامي مقارنة بنظيره في منظمة المؤتمر الإسلامي. فبالإضافة إلى الأجهزة الثلاث التي نص عليها ميثاق 1972م، وهي مؤتمر القمة، ومجلس وزراء الخارجية، والأمانة العامة نص ميثاق 2008 م،على إنشاء أجهزة الجديدة مثل: اللجان الدائمة، وعددها خمس لجان يرأس كل منها أحد الملوك أو الرؤساء حددها الميثاق بالاسم على النحو التالي: لجنة القدس، واللجنة الدائمة للإعلام والشؤون الثقافية (الكومياك)،واللجنة الدائمة للتعاون الاقتصادي والتجاري (الكومسيك)، واللجنة الدائمة للتعاون العلمي والتكنولوجي (الكومستيك)، واللجنة التنفيذية وتضم رؤساء القممم الإسلامية الثلاث الحالية والسابقة واللاحقة ورؤساء مجالس وزراء الخارجية الثلاث الحالي والسابق واللاحق والأمين العام للمنظمة، ومحكمة العدل الإسلامية الجهاز القضائي الرئيسي للمنظمة، والهيئة الدائمة المستقلة لحقوق الإنسان وتعمل على "تعزيز الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية الواردة في عهود المنظمة وإعلاناتها وفي مواثيق حقوق الإنسان المتفق عليها عالميا، بما ينسجم مع القيم الإسلامية"، و الأجهزة المتفرعة والمؤسسات المتخصصة وهي أجهزة "يجوز للمنظمة إنشاؤها ومنحها صفة المؤسسات المنتمية بعد موافقة مجلس وزراء الخارجية" وفقاً لنص المادة 22، وأخيرًا المؤسسات المنتمية والتي عرفتها المادة 25 بأنها "كيانات أو هيئات تتفق أهدافها مع أهداف الميثاق ويعترف بها مجلس وزراء الخارجية بصفتها مؤسسات منتمية. وعضويتها اختيارية ومفتوحة لأجهزة الدول الأعضاء في المنظمة ومؤسساتها. وتكون ميزانياتها مستقلة عن ميزانيات الأمانة العامة والأجهزة المتفرعة والمؤسسات المتخصصة. ويجوز أن تمنح المؤسسات المنتمية صفة المراقب بموجب قرار صادر عن مجلس وزراء الخارجية"

  • المسيرة والواقع المأزوم:

تعد "منظمة التعاون الإسلامي" ثاني أكبر منظمة دولية حكومية بعد الأمم المتحدة إذ يبلغ عدد الدول الأعضاء فيها حاليًا 57 دولة موزعة على أربع قارات. يقع معظمها في قارتي آسيا وإفريقيا بينما تقع دولة واحدة في أوروبا (ألبانيا) ودولتان في أمريكا الجنوبية (غيانا وسورينام) ويبلغ سكانها حوالي 2 مليار نسمة غير أنها تتباين فيما بينها في كل شيء تقريبًا: في المساحة، وتعداد السكان، وفي القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية، وفي مستوى التقدم العلمي والتكنولوجي وفي حجم الدخل الإجمالي ومتوسط الدخل الفردي، وفي شكل وطبيعة النظم السياسية التي تحكمها، وفي الانتماءات الإثنية والهويات الثقافية واللغوية، ودرجة التماسك الاجتماعي لشعوبها  ,, الخ. ولأن هذه الدول تنتمي إلى الجنوب، أو عالم الدول النامية ولا يجمع بينها سوى رابطة روحية يجسدها اعتناق غالبية شعوبها للدين الإسلامي فمن الطبيعي أن يواجه الإطار المؤسسي الذي يضمها صعوبات في توحيد الرؤى والسياسات التي غالبًا ما تكون متنافرة وأحيانًا متصادمة.

كانت الرابطة الروحية كافية وحدها لتوحيد الشعوب الإسلامية على مدى ما يقرب من ألف وأربعمائة عام تحت راية نظام يقوده "خليفة" غير أن هزيمة الامبراطورية العثمانية آخر الامبراطوريات الإسلامية وسقوط نظام الخلافة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وهيمنة الدول الاستعمارية على معظم الولايات التي كانت تابعة لها، أدى إلى تفتت الشعوب الإسلامية إلى "دول" و "إمارات" استندت إلى أسس إثنية أو قبلية تعكس إرادة المستعمر الأوروبي الذي رسم لعدد كبير منها حدوده الجغرافية الحالية لكن ما إن تحررت من قبضة الاستعمار الأوروبي وحصلت على استقلالها السياسي، أصبحت حريصة على سيادتها و مصالحها إلى درجة النفور التام من المشاركة في أي مؤسسات تتمتع بسلطات وصلاحيات "فوق دولية". ولذلك يمكن القول إنه رغم قوة الروابط الروحية بين الدول الأعضاء في "منظمة التعاون الإسلامي" إلا أن هذه الروابط لم تكن كافية لتأسيس منظمة قادرة على فرض إرادتها على الأعضاء. لذلك يمكن القول إن "منظمة التعاون الإسلامي" أقرب إلى كونها منظمة "تنسيقية" ما يجعل دورها منحصرًا في التنسيق الطوعي بين دول ذات سيادة منها إلى منظمة لها صلاحيات تمكنها أن تصبح لاعبًا فاعلًا على الساحة الدولية. بل ويصعب القول إن هذه المنظمة تملك أهلية التحدث باسم الشعوب الإسلامية لسببين الأول: أن معظم النظم في الدول الأعضاء وصلت للسلطة بطرق مختلفة وبعضها غير صحيحة والثاني: أن أعدادًا كبيرة من المسلمين يعيشون في دول لم تقبل عضويتها في هذه المنظمة كالهند مثلا التي يصل تعداد المسلمين فيها إلى أكثر من 200 مليون مسلم يشكلون ما يزيد على 10% من إجمالي تعداد المسلمين في العالم، فضلًا عن أن عددًا لا يستهان به من الدول الأعضاء في المنظمة يضم أقليات غير مسلمة يصل تعدادها إلى عشرات الملايين. ورغم ذلك ينبغي ألا نغفل أن منظمة التعاون الإسلامي هي المنظمة الحكومية الوحيدة في العالم التي تقوم على أسس دينية أو روحية، صحيح أن الرابطة الروحية بين الدول الإسلامية قوية ولا ينبغي التقليل من شأنها، وهو ما يفسر صمود واستمرار منظمة التعاون الإسلامي لأكثر من نصف قرن، إلا أنها لا تكفي وحدها لكي تجعل منها مؤسسة قادرة على تمكين العالم الإسلامي من موجاهة التحديات التي تعترض طريقه في مختلف المجالات.

وبإلقاء نظرة عامة على سجل هذه المنظمة، فسوف نكتشف أنه يخلو من إنجازات كبرى يمكن مقارنتها بتلك التي حققتها منظمات دولية أخرى، إقليمية أو عالمية، لا تربط بين شعوب الدول الأعضاء فيها روابط بنفس قوة الروابط التي تربط بين شعوب الدول الإسلامية، كالاتحاد الأوروبي أو حتى الأمم المتحدة. ويكفي أن نقارن بين الأوضاع الحالية للدول والشعوب الإسلامية بالأوضاع التي كانت عليها عند نشأة "منظمة التعاون الإسلامي" لنصل إلى نتيجة مفادها رجحان الكفة لصالح الماضي على حساب الحاضر، ما يعني أن هذه المنظمة أخفقت في تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها. ويمكن الاستدلال على صحة هذا الاستنتاج من خلال مؤشرات عديدة ومتنوعة منها: كم ونوعية الأزمات والصراعات المحتدمة حاليا داخل وبين الدول الأعضاء فيها عدد المهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين، أو طالبي اللجوء من مواطني هذه الدول، مدى تمتع المواطنين ومؤسسات المجتمع المدني في الدول الأعضاء بحرياتهم وبحقوقهم المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، مدى توافر معايير النزاهة والشفافية والحرص على مكافحة الفساد في هذه الدول...الخ.

فعدد الأزمات والصراعات التي اندلعت داخل وبين الدول الأعضاء في المنظمة، خصوصا التي استخدمت فيها القوة المسلحة، زادت خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة، والدول الإسلامية من أكثر دول العالم تصديرًا للاجئين، بسبب ما تعانيه من أزمات مسلحة وحروب أهلية وبينية، أو لتدهور الأوضاع المعيشية والبيئية فيها. وحالة الحقوق والحريات العامة الجماعية والفردية منها متدهورة وكذلك حالة النزاهة والشفافية، تزداد سوءًا. ويكفي أن نلقي نظرة سريعة على الإحصاءات السنوية الخاصة بهذه المؤشرات لندرك أن معظم الدول الأعضاء في المنظمة تأتي في ذيل قائمة التصنيفات العالمية.

على صعيد آخر، يمكن القول إن منظمة التعاون الإسلامي لم تتعامل بنجاح مع التحديات السياسية التي تواجه العالم الإسلامي. لنأخذ الطريقة التي تعاملت بها المنظمة مع القضية الفلسطينية، عامة، وقضية القدس خاصة، كمثال. فحماية المسجد الأقصى والمحافظة على الهوية العربية والإسلامية للمقدسات الدينية في القدس كان السبب المباشر لقيام هذه المنظمة. ولأنه يصعب تحقيق هذا الهدف دون دعم فعال لنضال الشعب الفلسطيني وتمكينه من تحرير أرضه والحصول على حقه في تقرير المصير، فقد كان من الطبيعي أن يصبح في مقدمة الأهداف التي تسعى المنظمة لتحقيقها، غير أن ما تم إنجازه على هذا الصعيد لا يكاد يذكر. صحيح أن المنظمة اتخذت مئات القرارات لدعم نضال الشعب الفلسطيني وتأكيد حقه في تقرير مصيره والتزامها بحماية المسجد الأقصى، لكن لم يكن لهذه القرارات أي فاعلية في الواقع. فقد واصلت إسرائيل احتلالها للقدس الشرقية وسارعت من وتيرة المخططات الرامية لتهويدها، وقررت ضم القدس الشرقية وإعلان القدس الموحدة عاصمة أبدية. بل أن أمريكا، اعترفت في عهد ترامب بالقدس "عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل"، ونقلت سفارتها إليها واكتفت المنظمة بالتنديد والاستنكار. واقتحم المستوطنون اليهود باحة المسجد الأقصى مرارًا في حماية الشرطة، وأصروا على إقامة الشعائر اليهودية فيها، دون رد فعل قوي للمنظمة. بل يمكن القول إن موقف الدول الأعضاء من نضال الشعب الفلسطيني كان أقوى عند نشأة المنظمة منه حاليًا. فعند قيام المنظمة كانت الغالبية الساحقة من الدول الأعضاء في المنظمة ترفض الاعتراف بإسرائيل وتؤكد حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال، أما الآن فقد ازداد عدد الدول الأعضاء الذين اعترفوا بإسرائيل وطبعوا علاقاتهم معها، رغم استمرار الاحتلال الإسرائيلي ومواصلة مخططات تهويد القدس والاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى، وإدلاء مسؤولين في الحكومة الإسرائيلية بتصريحات تشي بعزمهم على هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل على أنقاضه.

        تجدر الإشارة إلى أن المنظمة، اختارت منذ البداية أن تكون منظمة عامة تختص بتحقيق التعاون بين الأعضاء في كافة المجالات، وليس متخصصة يقتصر نشاطها على المجالات التي كانت الدافع الرئيسي وراء تأسيسها. ومع ذلك فإن فحص قائمة الإنجازات التي حققتها المنظمة في هذه المجالات يشير بوضوح إلى أنها لم تتمكن من تحقيق إنجاز لافت في أي منها. ولأننا لا نستطيع في هذا الحيز المحدود فحص السجل الكامل لإنجازات المنظمة في مختلف المجالات فسوف نكتفي هنا بالإشارة إلى بعض الأمثلة.

        في المجال السياسي، يلاحظ أن المادة الأولى من الميثاق، التي تحدد أهداف المنظمة ومجالات اختصاصها لم تشر صراحة إلى أن للمنظمة اختصاصات واضحة في تسوية المنازعات بين الأعضاء ومع ذلك طالبت المادة 27" الدول الأطراف في نزاع من شأن استمراره أن يضر بمصالح الأمة الإسلامية أو أن يعرض السلم والأمن الدوليين للخطر، بالسعي لحله أولاً عن طريق المساعي الحميدة، أو التفاوض، أو الوساطة،أو المصالحة، أو التحكيم، أو التسوية القضائية أو أية وسائل سلمية أخرى تختارها"، ثم أضافت: "ويمكن أن تشمل المساعي الحميدة التشاور مع اللجنة التنفيذية والأمين العام". ويفهم من هذا النص أن الدول الأعضاء الأطراف في نزاع على هذه الدرجة من الخطورة ليست ملزمة بعرضه على أي من أجهزة المنظمة، لكنها تستطيع، إن أرادت "أن تتشاور مع اللجنة التنفيذية والأمين العام". ما يثير الاستغراب هنا أن الهيكل التنظيمي للمنظمة يتضمن جهازًا قضائيًا هو "محكمة العدل الإسلامية" لكنه لا يلزم الدول الأعضاء بعرض النزاعات ذات الأبعاد القانونية عليه، فضلًا عن أن الميثاق نفسه لا يشير إلى أي اختصاصات محددة له. بل إن النظام الأساسي لمحكمة العدل الإسلامية، والذي وافقت عليه الدول الأعضاء منذ عام 2008م، لم يدخل حيز التنفيذ حتى الآن، ومن الطبيعي، في سياق كهذا، أن يصبح أن تصبح الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، من أكثر مناطق العالم اكتظاظا بالأزمات.

        في المجال الاقتصادي، يلاحظ أن الميثاق كان طموحًا في تحديد أهدافه إلى درجة مبالغ فيها. فالفقرة التاسعة من مادته الأولى تشير إلى أن من بين أهداف المنظمة " تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري بين الدول الأعضاء من اجل تحقيق التكامل الاقتصادي فيما بينها بما يفضي إلى إنشاء سوق إسلامية مشتركة". ولأن تحقيق التكامل الاقتصادي وإنشاء سوق مشتركة بين 57 دولة إسلامية يحتاج إلى خطوات تمهيدية كثيرة، من بينها أولا توحيد التعريفة الجمركية، وهي خطوة تتطلب إجراءات معقدة، خصوصًا حين تكون الدول الأعضاء متفاوتة القدرات وموزعة على أربع قارات، يبدو الحديث عن "سوق إسلامية مشتركة" أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع. وعلى أي حال فليس في سجل المنظمة ما يشير من قريب أو بعيد إلى أنها اتخذت بالفعل أي إجراءات جادة على هذا الصعيد.

  • خاتمة ونظرة مستقبلية:

يعاني العالم الإسلامي من نوعين من المتناقضات الهيكلية التي تحد كثيرًا من فاعلية منظمة التعاون الإسلامي وتجعلها عاجزة عن تحقيق أي من الأهداف التي حددتها لنفسها:

الأول: التناقضات الناجمة عن وجود تفسيرات متباينه حول علاقة الإسلام بالسياسة، ما أدى إلى وجود أنواع مختلفة من أنظمة الحكم في الدول التي تقطنها أغلبية مسلمة، وهو التعريف الذي اعتمدته منظمة التعاون الإسلامي لقبول الدول الأعضاء فيها. فهناك دول ترى أن الدولة لا تكون "إسلامية" إلا إذا قادها "ولي فقيه" يطبق أحكام الشريعة الإسلامية بحذافيرها، وهذا هو الوضع السائد في إيران منذ نجاح ثورة الخميني عام 1979م. وهناك دول نجحت في التعامل مع الدين الإسلامي لخدمة مصالحها. ودول تمكنت من إقامة أنظمة حكم أقرب إلى "العلمانية"، وبالتالي قادرة على الفصل بدرجات مختلفة بين الدين والسياسة، مع احتفاظها في الوقت نفسه بهويتها الإسلامية. وقد أدى هذا التباين، إلى ظهور جماعات سياسية متطرفة تتبنى أطروحات أيديولوجية تدعي أنها وحدها التي تتسق مع التفسير الصحيح للدين الإسلامي وتستخدم العنف كوسيلة للوصول إلى السلطة، كما أدى، من ناحية أخرى، إلى إشعال فتن طائفية، خصوصًا بين الشيعة والسنة. وفي هذا السياق، برزت إلى حيز الوجود ظاهرة "الجماعات الإرهابية" التي دعمت وساعدت على انتشارها قوى إقليمية ودولية سعت لاستخدامها كأدوات لتحقيق مصالحها الخاصة، وذلك بالتوازي مع ظاهرة "الإسلاموفوبيا" الناجمة عن خلط واضح بين الإسلام والعنف. وقد أسهم ذلك كله في تسميم العلاقة بين الدول الإسلامية بعضها البعض وبين الدول الإسلامية والغرب، خصوصًا بعد نشر رسوم كاريكاتورية تسيء إلى النبي محمد في عدد من الصحف الغربية.

الثاني: التناقضات الناجمة عن افتقاد العالم الإسلامي لتقاليد مؤسسية في إدارة شؤونه الداخلية. فمعظم الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي تدار من خلال أنظمة حكم تنزع نحو شخصنة السلطة، وبالتالي لا تعرف مبدأ الفصل بين السلطات، ما يؤدي فعليًا إلى عرقلة عملية بناء المؤسسات على الصعيد المحلي، والاعتماد على التقاليد غير المؤسساتية في إدارة الشأن الداخلي. فكيف لمن لايستطيع بناء مؤسسات محلية يدير من خلالها شؤونه الداخلية أن ينجح في بناء مؤسسات إقليمة أو دولية؟ من الطبيعي في سياق كهذا أن يتسم الهيكل التنظيمي لمنظمة المؤتمر الإسلامي والذي تضخم بيروقراطيًا بفوضى شديدة تؤدى إلى تضارب الاختصاصات بين أجهزتها المختلفة وعدم التناسق بين الأهداف المطلوب تحقيقها والتي تبدو شديدة الطموح والوسائل والآليات المستخدمة في تحقيقها المحدودة الصلاحيات والإمكانات.

مقالات لنفس الكاتب