نشأت منظمة التعاون الإسلامي وتطورت في ارتباط وثيق مع القضية الفلسطينية، فقد كان أول اجتماع لقادة الدول الإسلامية في وسط الغضب العارم الذي ساد العالم الإسلامي، في أعقاب حريق المسجد الأقصى في 21 أغسطس 1969م، وتأكيدًا لهذه الرمزية، احتل القدس الشريف، والقضية الفلسطينية مكانًة متميزة في ميثاق المنظمة واهتماماتها. ويهدف هذا المقال إلى عرض أهم جوانب الدور السياسي للمنظمة، كما ظهر في ميثاقها وممارساتها، مع تحليل لأهم العقبات التي تحول دون فاعلية هذا الدور.
أولًا: التكييف القانوني للمنظمة وطبيعة دورها السياسي
ترتبط الأدوار التي تقوم بها أي منظمة بطبيعتها والمهام أو الوظائف التي حددها ميثاقها. وفي هذا الشأن، يمكن القول إن منظمة التعاون الإسلامي هي منظمة فريدة من نوعها، فهي ليست منظمة عالمية على غرار هيئة الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة، بحكم أن عضويتها ليست مفتوحة لجميع دول العالم، فهي تشترط أن تكون الدولة طالبة العضوية ذات أغلبية مسلمة. وهي ليست منظمة إقليمية تقوم على الجوار الجغرافي لأعضائها، مثل منظمة الدول الأمريكية، والاتحاد الإفريقي. فدول المنظمة البالغ عددها 57 دولة، تمتد على مساحة واسعة في قارات آسيا وإفريقيا وأوروبا، وهي ثاني أكبر منظمة حكومية سياسية من حيث عدد الأعضاء بعد الأمم المتحدة.
يمكن اعتبار منظمة التعاون الإسلامي منظمة إقليمية عبر قارية، فتعود نشأتها إلى اجتماع قادة الدول الإسلامية في مدينة الرباط المغربية في 25 سبتمبر 1969م، والذي أسفر عنه قيام منظمة المؤتمر الإسلامي، وصدر ميثاقها في فبراير 1974م، ثم تحول الاسم إلى منظمة التعاون الإسلامي، وصدر ميثاقها في مارس 2008م.
أشارت ديباجة ميثاق المُنظمة، إلى التزام الدول الأعضاء بضرورة "المساهمة في السلم والأمن الدوليين والتفاهم والحوار بين الحضارات والثقافات والأديان، وتعزيز العلاقات الودية وحسن الجوار والاحترام المتبادل والتعاون". كما أشارت أيضًا إلى "تعزيز وتقوية أواصر الوحدة والتضامن بين الشعوب المسلمة والدول الأعضاء". كما أكدت الديباجة على " تعزيز حقوق الإنسان، والحريات الأساسية، والحكم الرشيد، وسيادة القانون، والديمقراطية، والمساءلة في الدول الأعضاء وفقًا لأنظمتها الدستورية والقانونية". وتحقيقًا لذلك، نصت المادة الخامسة عشر من الميثاق على إنشاء الهيئة الدائمة المستقلة لحقوق الإنسان، والتي تعتبر هيئة استشارية لتعزيز تلك القيم بين الدول الأعضاء
حددت المادة الأولى من الميثاق عشرين هدفًا للمنظمة من بينها: تعزيز أواصر الأخوة والتضامن بين الدول الأعضاء، وصون وحماية المصالح المشتركة بينها، واحترام حق تقرير المصير للشعوب، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والمشاركة الفاعلة للدول الأعضاء في "عمليات اتخاذ القرار على المستوى العالمي" وذلك لضمان مصالحها المشتركة، ودعم حقوق الشعوب المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، وتعزيز موقف موحد من القضايا ذات الاهتمام المشترك والدفاع عنها في المنتديات الدولية.
وأشارت المادة الثانية إلى المبادئ التي يستند إليها عمل المنظمة والدول الأعضاء، مثل الالتزام بمقاصد ميثاق الأمم المتحدة، والمساواة بين الدول الأعضاء في الحقوق والواجبات، والالتزام بحل النزاعات بالطرق السلمية، والامتناع عن استخدام القوة أو التهديد بها، والمساهمة في صون السلم والأمن الدوليين.
ثانيا: دعم كفاح الشعب الفلسطيني
احتلت قضية دعم كفاح الشعب الفلسطيني والحصول على حقوقه المشروعة، مكانة متميزة في صلب ميثاق المنظمة. فنصت الديباجة على "دعم كفاح الشعب الفلسطيني الخاضع حاليًا للاحتلال وتمكينه من الحصول على حقوقه غير قابلة للتصرف، بما في ذلك حقه في تقرير المصير وإقامة دولته ذات السيادة وعاصمتها القدس الشريف، مع المحافظة على طابعها التاريخي والإسلامي وعلى الأماكن المقدسة فيها". وتكرر نفس المعنى في البند الثامن من المادة الأولي.
واتصالا بذلك، أكدت البيانات الصادرة عن مؤتمرات القمة الإسلامية ووزراء الخارجية على "مركزية قضية فلسطين وقضية القدس الشريف بالنسبة للأمة الإسلامية"، فأدانت المنظمة كافة التصرفات والإجراءات غير القانونية التي نفذتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، واعتبرتها انتهاكات صارخة للقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية وتحديًا لإرادة المجتمع الدولي.
ومن أمثلة ذلك، أدانت ضم إسرائيل لمدينة القدس والتصريح ببناء وحدات سكنية فيها للإسرائيليين، وأدانت الدول التي نقلت سفاراتها إلى مدينة القدس المحتلة. كما أدانت إقامة المستوطنات اليهودية على الأراضي المحتلة في الضفة الغربية وغزة والتضييق على سكانها الفلسطينيين، ومصادرة أراضيهم واعتداءات المستوطنين عليهم. واعتبرت أن سياسة الاستيطان الإسرائيلي غير قانونية، وتخالف مقررات الأمم المتحدة، وأنها تهدف إلى تقويض حل إقامة الدولة الفلسطينية. أنشأت المنظمة أيضًا لجنة دائمة لمتابعة أوضاع مدينة القدس، وكذلك صندوق القدس لتوفير الموارد المالية لدعم صمود أهلها.
عقد وزراء خارجية دول المنظمة الكثير من المؤتمرات الاستثنائية (الطارئة) لبحث تطورات القضية الفلسطينية. ومن أمثلة ذلك، المؤتمر الذي انعقد بمقر الأمم المتحدة بنيويورك في أكتوبر 2015م، بشأن الاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى، والمؤتمر الذي انعقد في إسطنبول بتركيا في ديسمبر 2017م، والمؤتمر الذي انعقد في جدة بالسعودية في سبتمبر 2019م، في أعقاب إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي نيته بضم أراضي من الضفة الغربية المحتلة، ومؤتمر جدة في يوليو 2023م، بشأن اقتحام مسؤولين إسرائيليين للمسجد الأقصى الشريف.
عقدت القمة الإسلامية أيضًا أكثر من دورة استثنائية لنفس الغرض، كالدورة الاستثنائية السادسة في إسطنبول في ديسمبر 2017م، لبحث آثار "اعتراف الإدارة الأمريكية لمدينة القدس الشريف عاصمة مزعومة لإسرائيل، السلطة القائمة بالاحتلال، وقرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس"، والدورة الاستثنائية السابعة التي انعقدت بنفس المدينة في مايو 2018م، للتنديد بالممارسات العنيفة لسلطات الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.
وفي سابقة مهمة في نوفمبر 2023م، تم دمج مؤتمري القمة العربية والإسلامية في مؤتمر واحد بالسعودية، والذي قرر في بيانه إدانة العدوان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية وارتكابه لعدد كبير من "مجازر الحرب والمجازر الهمجية الوحشية واللاإنسانية"، ورفض أي تبريرات تسوقها إسرائيل في هذا الشأن، وإدخال قوافل مساعدات إنسانية عربية وإسلامية ودولية.
وطالب البيان جميع الدول "بوقف تصدير الأسلحة والذخائر إلى سلطات الاحتلال"، ومن المدعى العام لمحكمة العدل الدولية استكمال التحقيق في الجرائم التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية، وتكليف أمانتي جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي بإنشاء "وحدتي رصد إعلامية لتوثيق كل جرائم سلطات الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني"، وتكليف لجنة من وزراء خارجية الدول الأعضاء لبلورة " تحرك دولي لوقف الحرب على غزة".
وامتد نشاط المنظمة في هذا الشأن ليشمل مجالات متعددة. وعلى سبيل المثال، انعقد في فبراير 2024م، المؤتمر الاستثنائي لوزراء إعلام المنظمة، لكشف التضليل الإعلامي الذي تمارسه إسرائيل، وإدانة اعتداءات سلطات الاحتلال الإسرائيلية على الصحفيين وممثلي أجهزة الإعلام.
ثالثًا: تسوية النزاعات بين الدول الأعضاء
نصت المادة الثانية من الميثاق على التزام الدول الأعضاء بحل خلافاتها بالطرق السلمية، والامتناع عن استخدام القوة أو التهديد بها. وأضافت المادة السابعة والعشرين، إنه يتعين على الدول الأعضاء، الأطراف في أي نزاع، أن "تسعى لحله أولا عن طريق المساعي الحميدة أو التفاوض أو التحقيق أو الوساطة أو المصالحة أو التحكيم أو التسوية القضائية أو أي وسائل سلمية أخرى تختارها."
وفي هذا السياق، أكد بيان مؤتمر القمة الأول لقادة الدول الإسلامية المنعقد في الرباط 1969م، على أن الدول المشاركة تلتزم بتسوية المشكلات التي قد تنشأ فيما بينها بالوسائل السلمية، بما يدعم السلام والأمن الدوليين وفقًا لأهداف ومبادئ الأمم المتحدة. وهو نفس المعنى الذي ورد في بيان مؤتمر القمة الثاني في لاهور عام 1974م، والذي نص على "تصميم الدول الأعضاء على حل ما قد ينشأ بينها من خلافات بالوسائل السلمية وبروح الأخوة، والاستعانة، كلما كان ذلك ممكنا بجهود الوساطة أو المساعي الحميدة من جانب دولة أو أكثر، من الدول الإسلامية الشقيقة، لحل مثل هذه الخلافات". ويلاحظ على هذه النصوص، اتسامها بالعمومية وبعدم تحديد الأجهزة أو الهيئات التي سوف تُنفذ هذه المهام، كما أنها خلت من إشارة إلى أيه آليات لحماية الأمن الجماعي للدول الأعضاء.
وفي اجتماع وزراء الخارجية بالخرطوم في 2002م، قرر المجلس إنشاء جهاز متخصص دائم لمعالجة الخلافات التي قد تنشأ بين الدول الأعضاء وحلها بالوسائل السلمية، ولكن لا يوجد ما يشير إلى تكوين هذا الجهاز وقيامه بممارسة عمله. ثم أصدر مؤتمر وزراء الخارجية الحادي والأربعين في 2014م، قرارًا بإنشاء وحدة الأمن والسلام وفض النزاعات، ولا يوجد أيضًا ما يشير إلى تكوين هذه الوحدة وممارستها لعملها. ورغم تكرار الدعوة من عدد من الأعضاء لضرورة إنشاء قوات لحفظ السلام تابعة للمنظمة، فإنه لم يتم الاتفاق على ذلك.
على المستوى العملي، كان للمنظمة خبرات متنوعة في التدخل لفض المنازعات بين الدول الأعضاء أو بداخلها. كانت الحرب العراقية الإيرانية من أول الصراعات المسلحة التي تصدت لها المنظمة، فأصدر مجلس وزراء الخارجية في اجتماعه الطارئ عام 1980م، قرارًا بإنشاء "لجنة السلام الإسلامية" للقيام بالمساعي الحميدة بين الطرفين. وفي العام التالي، رفعت اللجنة إلى مؤتمر القمة الإسلامية الثالث تقريرًا بشأن الإطار القانوني والسياسي لتسوية الصراع، وناشد المؤتمر البلدين الموافقة على وقف إطلاق النار، وقبول المبادرة الإسلامية، وتسهيل مهمة لجنة المساعي الحميدة التي أنشأتها لهذا الغرض.
تدخلت المنظمة أيضًا في النزاع بين باكستان وبنجلاديش بين عامي 1973-1974م، وبين موريتانيا والسنغال عام 1989م، وبين السودان وتشاد عندما وقع الرئيسان السوداني والتشادي اتفاقية سلام في مؤتمر القمة الإسلامية الحادي عشر في داكار في مارس 2008م، وأعقب ذلك مبادرة المنظمة بتنظيم مؤتمر للمانحين بشأن دارفور الذي عقد بالقاهرة في 2010م.
تدخلت المنظمة أيضًا في بعض النزاعات الداخلية بالدول الأعضاء، كتدخلها في الخلاف الذي نشأ في داخل باكستان بين شطري الدولة باكستان الشرقية "التي تحولت إلى بنجلاديش" والحكومة الباكستانية في 1970-1972م. وفي مؤتمر وزراء الخارجية بداكار عام 1978م، ساهمت المنظمة في تسوية الصراع الداخلي في تشاد، من خلال تشجيع ليبيا والسودان والنيجر وجبهة التحرير الوطنية التشادية لتسوية النزاع.
وإزاء تطور الخلافات بين السنة والشيعة في العراق في أعقاب الغزو الأمريكي عام 2003م، دعت المنظمة مجموعة من أبرز العلماء الشيعة والسنة في العراق إلى الاجتماع لبحث هذا الموضوع بحضور ممثلي مجمع الفقه الإسلامي، لإبراز موقف الإسلام تجاه تلك الخلافات المذهبية. وصدر عن هذا الاجتماع الذي انعقد بمكة المكرمة في 2006م، "وثيقة العراق"، التي أكدت تحريم الإسلام لاستباحة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، وتحريم الاعتداء على دور العبادة من المساجد والحسينيات، وأماكن عبادة غير المسلمين. ودعت كل العراقيين من سنه وشيعة إلى الوحدة والوقوف صفًا واحدًا للحفاظ على استقلال العراق وسلامة أراضيه.
ومن مظاهر تدخل المنظمة في النزاعات التي تجري في داخل أحد أعضائها أيضًا، جهودها لتسوية الحرب الأهلية في الصومال التي بدأت عام 1991م، فشاركت في مفاوضات السلام بين طرفي النزاع، والتي أدت إلى إبرام اتفاقية جيبوتي عام 2008م.
هناك صراعات أخرى تجاهلتها المنظمة تمامًا، مثل النزاع الجزائري / المغربي حول الحدود 1976م، وبين اليمن الشمالي واليمن الجنوبي 1979م، وبين مالي وبوركينا فاسو في 1985م، وهناك نزاعات أشارت إليها المنظمة في قراراتها ولكن دون التدخل في تسويتها، كالنزاع بين الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1970م، والسنوات التالية. كما لم تتدخل في حالة الغزو العراقي للكويت في أغسطس 1990م، رغم انعقاد مؤتمر وزراء خارجية دول المنظمة في القاهرة في هذا الوقت، فقد قرروا تأجيل الاجتماع لإعطاء الفرصة لوزراء الخارجية العرب للقيام بدورهم.
رابعًا: مكافحة التوجهات المُهَددة للسلم والأمن المجتمعي والإقليمي والدولي
نصت المادة الأولى من الميثاق، أن أحد أهداف المنظمة التعاون في مكافحة الإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره والجريمة المنظمة والاتجار غير المشروع في المخدرات والفساد وغسيل الأموال والاتجار في البشر". وتطبيقًا لهذا النص، أصدرت المنظمة مدونة قواعد سلوك الدول الأعضاء في المنظمة لمكافحة الإرهاب الدولي، ثم وافق مجلس وزراء الخارجية في اجتماعه ببوركينافاسو في يونيو 1999م، على اتفاقية مكافحة الإرهاب الدولي.
نشطت المنظمة في مجال مكافحة الإرهاب والتطرف، والتطرف العنيف والتشدد والطائفية والإسلاموفوبيا، باعتبارها من المهددات الرئيسية للسلم والأمن والاستقرار على الصعيدين الدولي والإقليمي. واعتبرت المنظمة "أن الإرهاب لا يمكن مواجهته بالإجراءات الأمنية والعسكرية وحدها"، وذلك حسبما ورد في برنامج العمل للمنظمة خلال الفترة 2016-2025م.
توضح وثائق المنظمة أن محاربة الإرهاب تتطلب إقامة مجتمعات صحية، تقوم على احترام القيم الإسلامية، حقوق الإنسان، ويدخل في ذلك محاربة كل مظاهر الفساد الإداري. فعقدت أجهزة مكافحة الفساد للدول الأعضاء اجتماعًا على المستوى الوزاري في السعودية في يناير 2023، تم فيه إقرار اتفاقية مكة المكرمة للتعاون في مجال إنفاذ قوانين مكافحة الفساد. وحث بيان مؤتمر القمة الإسلامية الخامس عشر الذي انعقد في جامبيا في مايو 2024 م، الدول الأعضاء على الإسراع بالتوقيع/ المصادقة على هذه الاتفاقية. وفي نوفمبر 2024م، وقع ممثلو 21 دولة عضو في اجتماعه بقطر عليها.
وعلى مستوى العلاقات الدولية، تشجع المنظمة الحوار بين الثقافات والديانات، وذلك لتأكيد ثقافة السلم والوسطية في العالم. وتعمل على محاربة أفكار الإسلاموفوبيا التي أدت إلى ممارسات تمييزية ضد المسلمين في الدول الغربية.
خامسًا: محكمة العدل الإسلامية الدولية
أنشأت المنظمة " محكمة العدل الإسلامية الدولية"، وأقرت نظامها الأساسي في مؤتمر القمة الإسلامية الخامس المنعقد بالكويت في 29 يناير 1987م، والتي قرر المؤتمر أن تكون مقرًا لها. ووفقًا للمادة الرابعة عشر من الميثاق، فإن المحكمة هي "الجهاز القضائي الرئيسي للمنظمة، اعتبارا من تاريخ دخول نظامها الأساسي حيز التنفيذ".
ووفقًا للنظام، تتشكل المحكمة من سبعة قضاة ينتخبون بالاقتراع السري من قبل مجلس وزراء الخارجية لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة (المادتين 3 و5)، على أن يكون المرشح لعضوية المحكمة "مسلمًا عدلا من ذوي الصفات الخلقية العالية"، وعلى أن يكون من "فقهاء الشريعة المشهود لهم بالكفاءة وله خبرة في القانون الدولي، ومؤهلًا للتعيين في أرفع مناصب الإفتاء أو القضاء في بلاده" (المادة 4)، على أن يراعي في الاختيار "التوزيع الإقليمي والتمثيل اللغوي" (المادة 5).
تختص المحكمة بالنظر في الدعاوى التي ترفعها دول المنظمة، ويجوز للدول غير الأعضاء فيها التقاضي أمامها، بشرط قبولها اختصاص المحكمة وموافقة مجلس وزراء خارجية المنظمة (المادة 21). وتشمل ولاية المحكمة القضايا التي تتفق الدول الأعضاء الأطراف في نزاع ما على إحالتها لها (المادة 25). وعلى غرار محكمة العدل الدولية، فإن المحكمة لا تمتلك الاختصاص الإلزامي، وإنما على الدول المتنازعة الاتفاق فيما بينها على إحالة الموضوع للمحكمة. ويؤكد هذا، ما ورد في (المادة 26 تحت عنوان قبول الاختصاص الإلزامي) على انه "للدول الأعضاء في المنظمة أن تصرح دونما الحاجة إلى اتفاق خاص بأنها تقر للمحكمة حرية الفصل في المنازعات القانونية".
وعندما تصدر المحكمة حكمها، يكون "قطعيًا ويعتبر غير قابل للطعن"، وفي حالة امتناع أحد أطراف النزاع عن تنفيذ الحكم يتم إحالة الموضوع إلى مجلس وزراء خارجية المنظمة (مادة39)، ولا تعيد المحكمة النظر في الموضوع إلا إذا ظهرت وقائع جديدة بشأن الدعوى لم تكن تحت نظرها من قبل (مادة 40).
وعلى غرار محكمة العدل الدولية أيضًا، أعطى النظام الأساسي للمحكمة اختصاص الإفتاء، فيجوز لها "أن تفتي في المسائل القانونية غير متعلقة بنزاع معروض عليها"(مادة 42). كما أعطاها اختصاصًا إضافًيا، وهو القيام " بالوساطة والتوفيق والتحكيم في الخلافات التي قد تنشب بين عضوين أو أكثر " من الأعضاء، بناء على طلب الأطراف أو توصية من القمة الإسلامية أو مجلس وزراء الخارجية. وفي هذه الحالة، تمارس المحكمة هذا الاختصاص بواسطة "لجنة من الشخصيات المرموقة، أو عن طريق كبار المسؤولين في جهازها" (مادة 46). ومؤدى ذلك، أن هذا الاختصاص لا تمارسه المحكمة من خلال قضاتها.
وحتى ديسمبر 2024م، فإن هذه المحكمة لم تتكون بعد، بسبب عدم توقيع/ تصديق العدد الكافي وهو ثلثي عدد الأعضاء أي 38 دولة، فلم يصدق عليها سوى 14 دولة فقط، وكان العراق هو أحدث من صدق على نظامها في مارس 2024م.
سادسًا: تقييم الدور السياسي للمُنظمة
في عام 2019م، احتفلت مُنظمة التعاون الإسلامي باليوبيل الذهبي لإنشائها. وعلى مدى هذه السنوات، انتظمت اجتماعات مؤتمرات القمة ووزراء الخارجية، وطورت أمانتها العامة من أدوات أعمالها، وتم إعداد خطط عشرية وبرامج عمل مرحلية، أعدت بشكل محترف. ومع ذلك، لم تحقق المنظمة أهدافها وخصوصًا في المجال السياسي، ولم تتعامل كثير من دولها معها بالجدية المطلوبة كما سوف يتضح في عدم تصديق الكثير منها على الاتفاقيات والمعاهدات التي أقرتها المنظمة.
لم يأخذ دور المنظمة في التدخل لحل وتسوية النزاعات بين الدول الأعضاء مجالًا واسعًا من أنشطتها. فمن ناحية أولى، حرصت المنظمة على عدم التدخل في النزاعات التي تجري بين دول تنتمي إلى تنظيم إقليمي آخر كجامعة الدول العربية أو منظمة الوحدة الإفريقية التي تحولت إلى الاتحاد الإفريقي. وعلى سبيل المثال، فقد دعت المنظمة في 2002م، الدول المتصارعة في منطقة القرن الإفريقي إلى تسوية نزاعاتها سلميًا، والتفاوض تحت إشراف منظمة الوحدة الإفريقية.
ومن ناحية ثانية، فإن المنظمة لم تطور الأجهزة القادرة على التدخل لحل النزاعات. يؤكد هذا مثلًا أن اللجان الدائمة للمنظمة وهي: لجنة القدس، واللجنة الدائمة للإعلام والشؤون الثقافية، واللجنة الدائمة للتعاون الاقتصادي والتجاري، واللجنة الدائمة للتعاون العلمي والتقني، ليس من بينها لجنة للتعاون السياسي أو حل وتسوية النزاعات. وينطبق نفس الشيء على الأجهزة المتفرعة والمؤسسات المنتمية والمتخصصة، والتي أنشئت بقرارات من مؤتمرات القمة أو مؤتمرات وزراء الخارجية، فإنها أيضًا لا تشمل مثل هذا الجهاز. ومن ناحية ثالثة، فإن العدد المحدود من النزاعات الذي تدخلت المنظمة لتسويته، كان نصيبه من النجاح يختلف من حالة لأخرى.
يرجع ذلك إلى أن المنظمة، شأنها في ذلك شأن جامعة الدول العربية، هي منظمة تعاون وتنسيق بين الدول الأعضاء. ومن ثم، فإنها ليست سُلطة فوق الدول وإنما "مرآة" تنعكس عليها سياسات وأولويات الدول الأعضاء، فإذا تعاونوا نشطت المنظمة، وإذا اختلفوا توقفت مؤسساتها عن العمل. تتمسك الدول الأعضاء بكل السلطات والاختصاصات في كل المجالات والقطاعات، وترفض التنازل عن أي جزء منها لصالح المنظمة.
في هذا السياق، تتسم دول المنظمة بالتنوع الكبير في أنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي مستويات التنمية الاقتصادية فيها ومدى استقرارها السياسي، وتعيش بعضها ظروف الحروب الأهلية أو الداخلية وشيوع الفقر المدقع. وبحكم امتدادها الجغرافي، فإنها تتضمن العديد من اللغات والثقافات، كما تتعدد النزاعات والخلافات بين أعضائها.
تعاني عديد من المنظمات الدولية والإقليمية من مشاكل عدم الفاعلية والمفارقة بين الأقوال والأفعال، أي بين العبارات الرنانة وشعارات التضامن العامة التي يتحدث بها ممثلو الدول الأعضاء، وبين تنفيذها وتحويلها إلى أمر واقع. ويكفي للدلالة على ذلك في حالة منظمة التعاون الإسلامي، ما ورد في البند 139 في بيان القمة الإسلامية الخامس عشر في جامبيا في مايو 2024م، ونصه "دعا المؤتمر مجددًا إلى تنشيط عملية إصلاح منظمة التعاون الإسلامي"
لقد بلغ الأمر أن بعض الدول الأعضاء لم يصدقوا بعد على ميثاق المنظمة، أو على التعديلات التي أدخلت عليه، وأن كثيرًا من الاتفاقيات التي تم إبرامها لم يتم العمل بها، لعدم توقيع/ تصديق العدد اللازم من الدول لسريانها.
لذلك، نص البند 140 من بيان قمة جامبيا على "دعا المؤتمر جميع الدول الأعضاء إلى التعجيل بالتوقيع/ التصديق على ميثاق المنظمة ومختلف الاتفاقيات المبرمة في إطار المنظمة"، وأشار خصوصًا إلى الإسراع بالتوقيع/التصديق على النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية الإسلامية، حتى "تتمكن المحكمة من إطلاق أنشطتها والاضطلاع بالمهام الموكلة إليها". ونص البند 141 على ضرورة الإسراع بالتوقيع/التصديق على النظام الأساسي لمركز منظمة التعاون الإسلامي للتعاون والتنسيق الشرطي.
هناك عقبات تعترض طريق التعاون السياسي بين دول منظمة التعاون الإسلامي، يعود بعضها إلى أسباب داخلية تتعلق بتوجهات النخب السياسية الحاكمة، وبعضها خارجي يتعلق بارتباطات هذه الدول مع القوى الإقليمية والدولية. من المهم الإشارة إلى إدراك قادة دول المنظمة لهذه العقبات، ودعوتهم إلى إصلاح مؤسسات المنظمة وتطويرها، ولكن الأهم هو التنفيذ والممارسة.