array(1) { [0]=> object(stdClass)#13667 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 206

نجاح ميثاق المستقبل يتوقف على 4 متطلبات وتوافق الشمال مع الجنوب وتحويل الأقوال لأفعال

الخميس، 30 كانون2/يناير 2025

شهد مقر الأمم المتحدة بمدينة نيويورك الأمريكية في شهر سبتمبر 2024م، حدثًا مُميزًا، وهو إصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل بدء دورتها رقم 79 "ميثاق المستقبل"، تحت شعار "حلول متعددة الأطراف لغد أفضل"، والذي ناقشته في البند رقم 123 من جدول أعمالها بعنوان "تعزيز منظومة الأمم المتحدة".

صدر الميثاق بهدف تعزيز التعاون الدولي لمواجهة التحديات العالمية، مثل التغير المناخي، والأزمات الاقتصادية، والصدمات العالمية، وتعزيز الحوكمة العالمية، وإعادة تأكيد التزامات الدول التي سبق أن تعهدت بالعمل وفقًا لها في إطار الأمم المتحدة.

وتعود جذور فكرة انعقاد هذا المؤتمر إلى عام 2015م، عندما أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة "أجندة 2030 للتنمية المستدامة"، التي تضمنت 17 هدفًا رئيسيًا و169 هدفًا فرعيًا لتكون مرشدًا وبوصلة للعمل من أجل مستقبل مستدام. وفي 2020م، ومع احتفال الأمم المتحدة بمرور 75 عامًا على إنشائها، والتي أكد فيها قادة دول العالم التزامهم بالسعي إلى تحقيق الأمن والسلم الدولي في مواجهة الأخطار المحدقة بالعالم، وطالبوا السكرتير العام أنطونيو جوتيريتش بالتقدم بمقترحات وخطة عمل لإنجاز هذه المهمة. واستجابة لذلك، قدم السكرتير العام في سبتمبر ٢٠٢١م، تقريرًا بعنوان "خطتنا المشتركة"، دعا فيه إلى تجديد الثقة والتضامن بين الشعوب والدول والأجيال، وإحياء النظام متعدد الأطراف، والتي تضمنت العديد من الرؤى والمقترحات، والتي كان منها عقد "قمة المستقبل". وتلا ذلك، قرار من الجمعية العامة في سبتمبر ٢٠٢٢م، حول كيفية عقد القمة وطبيعة مخرجاتها المتوقعة، ثم صدر قرار من الجمعية العامة في سبتمبر ٢٠٢٣م، حول المحاور التي ستتناولها القمة.

 وعلى مدى هذه السنوات، دارت مناقشات ومساجلات بين الدول الأعضاء حول أولويات المخاطر التي يواجهها العالم، وطريقة التعامل معها، وتقاسم التكلفة المالية اللازمة لمواجهتها. وعبر مفاوضات شاقة، تم الوصول إلى التفاهمات والتوافقات التي تبلورت في "ميثاق المستقبل".

 وفي إطار الاستعداد لعقد المؤتمر، أصدر الأمين العام أحد عشر تقريرًا أو ملخصًا للسياسات، هي بمثابة أدلة عمل يشمل كل منها موضوعًا بعينه والأهداف المراد تحقيقها والإجراءات والخطوات التي ينبغي اتخاذها بشأنه. وتضمنت تلك التقارير والأوراق أفكارًا جديدة وغير تقليدية. وعلى سبيل المثال، فإن الورقة المعنونة "إضفاء القيمة على الأشياء ذات الأهمية .. إطار عمل لتجاوز الناتـج المحلـي الإجمالي"، مثلت تحديًا للمقاييــس التقليديــة لتقــدم دولة ما، مثل معدل النمو الاقتصادي وارتفاع قيمة الناتج القومي الإجمالي، فدعت الورقة إلــى تجاوز هذا المقياس، وتبني نهــج شــامل يركز على هدف التنمية المستدامة ورفاهية الإنسان، وتطوير المؤشرات والمقاييس المرتبطة بذلك واعتبارها الأكثر مناسبة بدلًا من الناتج القومي الإجمالي.

    وكذلك، ففي إطار تحول العالم إلى التكنولوجيا الرقمية، ركزت الورقة الخاصة بــ " الميثاق الرقمـي العالمي"، على ضرورة بلورة مسـتقبل رقمـي يتمحـور حـول الإنسان، فاقترحت المبادئ والأهداف والإجراءات اللازمـة لتعظيم فوائـد التقنيـات الرقميـة، والتقييد من آثارها السلبية. تناولت الأوراق أيضًا الهيكل المالي الدولي، وصحة المعلومات على المنصات الرقمية، والحاجة إلى خطة جديدة للسلام.

    بدأت الاجتماعات التحضيرية للمؤتمر في 20 و21 سبتمبر، والتي شارك فيها ممثلون للمجتمع المدني والقطاع الخاص، والجامعات ومراكز البحوث والهيئات المحلية، والمثقفون والأدباء، وممثلو المنظمات الإقليمية، مع التركيز على مشاركة الشباب. وأعقبها في 22 و23 سبتمبر اجتماع الوفود الرسمية التي أقرت ميثاق المستقبل.

     يتكون الميثاق في نسخته الرسمية الصادرة عن الأمم المتحدة باللغة العربية من 66 صفحة، منها 42 صفحة لنص الميثاق، و24 صفحة لمرفقين. يشمل متن الميثاق عدد 84 بندًا، تضم مقدمة وخمسة محاور لم تحمل اسم فصل أو قسم، وإنما تحت عناوين: أولًا: التنمية المستدامة وتمويل التنمية، وثانيًا: السلام والأمن الدوليين، وثالثًا: العلوم والتكنولوجيا والابتكار والتعاون الرقمي، ورابعًا: الشباب والأجيال القادمة، وخامسًا: إحداث تحول في الحوكمة العالمية. وأعقب نص الميثاق مرفقان. الأول، بعنوان "التعاهد الرقمي العالمي" ويتكون من 74 بندًا، والثاني بعنوان " إعلان الأجيال المقبلة" ويتكون من 32 بندًا. وجدير بالذكر، أن هيكل ميثاق المُستقل جاء مُغايرًا لميثاق الأمم المتحدة الذي تكون من مقدمة وعدد تسعة عشر فصلًا تضم 111 مادة.

     يمثل ميثاق المستقبل وثيقة تتسم بالشمول والتكامل، وتقوم على التشاركية وتعاون الأطراف الرسمية وغير الرسمية، والمرونة التي تسمح لها بالتكيف مع التغيرات المتلاحقة السريعة التي يشهدها عالم اليوم، وهدفه هو إقامة مسـتقبل عالمي أكثر شمولًا واستدامة ومرونة يقوم على المساواة والتضامن.

ويهدف هذا المقال إلى عرض وتحليل الأفكار الرئيسية التي تضمنها "ميثاق المستقبل"، ومدى جدتها، وإمكانية تطبيقها على أرض الواقع.

أولًا: محاور "ميثاق المستقبل"

يبدأ الميثاق بمقدمة يعلن فيها قادة العالم أنهم يوقعون على هذا الميثاق باعتبارهم ممثلين لشعوب العالم، وذلك "لحماية احتياجات ومصالح الأجيال الحالية والمقبلة من خلال الإجراءات الواردة في هذا الميثاق من أجل المستقبل".  ثم يشيرون إلى إدراكهم لأهمية المخاطر والتحديات العالمية، فيشير بند 2 من الميثاق إلى" أننا نمر بوقت يطرأ فيه على العالم كله تحول عميق. ونواجه فيه مخاطر كارثية ووجودية متصاعدة، العديد منها ناجم عن الخيارات التي نتخذها. وإخواننا في البشرية يعانون أشد المعاناة. وإذا لم نغير مسارنا، سنصبح مهددين بمستقبل تستحكم فيه الأزمات وحالات الانهيار".  

 ويدركون أن هناك فرصة سانحة لصنع مستقبل أفضل وأكثر إشراقًا للجميع، دون تفرقة أو تمييز، ويتعهدون بتدشين بداية جديدة للعمل متعدد الأطراف، لتفعيل التعاون بين الدول في إطار ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه ومقاصده ومبادئ القانون الدولي. أشاروا أيضًا إلى الترابط والتساند بين الركائز الثلاثة لعمل الأمم المتحدة، وهي التنمية المستدامة، والسلام والأمن، وحقوق الإنسان، وأنه لا يمكن إنجاز أحدها دون التقدم في الأخرى، وأن منظومة حقوق الإنسان تمثل كلًا متكاملًا ينبغي احترامها جميعًا.

وفي مجال المقارنة بين هذه المقدمة التي تم صياغتها في 2024م، ومقدمة ميثاق هيئة الأمم المتحدة التي كتبت في 1945م، يبرز تأثير السياق التاريخي لكل منهما. فبينما كان التركيز في عام 1945م، على ويلات الحرب العالمية الثانية، أعطت الثانية الأولوية للقضايا المتعلقة بالتنمية المستدامة.

تتسم بنود ميثاق المستقبل بالاختصار، وأنها صيغت بشكل عام وتضمنت قدرًا من التكرار، كما أن الترجمة العربية له استخدمت تعبيرات مدغمة تحتاج إلى تفصيل حتى يتضح معناها. وأعرِض هنا باختصار لأهم البنود التي وردت في الخمسة محاور، مستخدمًا عبارات الميثاق كلما أمكن ذلك وإعادة الصياغة في بعض النقاط لتوضيح المعنى.

أكدت بنود المحور الأول الخاص "بالتنمية المستدامة وتمويل التنمية "على ضرورة مراجعة ما تحقق من أهداف التنمية المستدامة 2023م، التي أقرتها دول العالم عام 2015م، وذلك لأن التقدم في تحقيق هذه الأهداف "إما أنه يسير بوتيرة أبطأ مما ينبغي أو أنه تراجع إلى ما دون خط الأساس لعام 2015م". ودعا الميثاق إلى اتخاذ الإجراءات الضرورية لتنفيذ أجندة الأمم المتحدة 2030، وفي القلب منها القضاء على الفقر والجوع، وكذلك خطة عمل أديس أبابا، واتفاق باريس، والإعلان السياسي لمؤتمر القمة المعني بأهداف التنمية المستدامة لعام 2023م، وتعبئة الموارد والاستثمارات اللازمة لتمويل التنمية المستدامة، وتوفير الحماية الاجتماعية للجميع ودعم البلدان والمجتمعات المحلية المتضررة من انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية، ومساعدة الدول التي تعاني من ضائقة مالية في التعامل مع تقلبات أسواق الغذاء، وزيادة المساعدات الإنمائية إلى الدول النامية وضمان وصولها إلى البلاد الأكثر فقرًا، وكذا ضمان الحوكمة الرشيدة وشفافية المؤسسات للنهوض بالتنمية المستدامة، والتوقف عن إجراءات الإكراه الاقتصادي.

 دعا الميثاق أيضًا إلى أن يكون النظام التجاري العالمي متعدد الأطراف قاطرة للتنمية المستدامة، وإعطاء الأولوية للاستثمار في البشر للقضاء على الفقر وتعزيز الثقة والتماسك الاجتماعي، وتدعيم العمل من أجل إقامة مجتمعات يعمها السلام والعدل وتحتوي الجميع وتكفل المساواة في إمكانية اللجوء إلى القضاء لا يتم فيها تهميش أحد، والعمل على إقامة مؤسسات فعاله وشفافة، والتمسك بحقوق الإنسان والحريات الأساسية، وحماية البيئة ومكافحة التغيرات المناخية ودعم الدول النامية للتكيف مع أثاره وتمويلها، واعتبار الثقافة مكونًا أساسيًا للتنمية المستدامة، وتعزيز العمل على تحقيق المساواة على المستوى الدولي.

عرض المحور الثاني لقضايا "السلم والأمن الدوليين"، فأشار إلى ازدياد المخاطر التي يواجهها العالم وخصوصًا خطر اندلاع حرب نووية، وأكد على ضرورة إزالة التوترات بين الدول وفض المنازعات بينها بالطرق السلمية وفقًا لميثاق الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي، والامتثال لقرارات محكمة العدل الدولية، وبناء السلام الاجتماعي داخل كل دولة، والإسراع بتنفيذ التزامات الدول الخاصة بالمرأة والشباب والأمن، وضرورة حماية المدنيين في النزاعات المسلحة، وحماية حقوق الشعوب التي تواجه أزمات إنسانية وتوفير الدعم لهم. أشار الميثاق أيضًا إلى ضرورة متابعة تأثير التغيرات المناخية على السلم والأمن، وتطوير سبل إقامة السلام بما يستجيب بشكل أفضل للتحديات القائمة والمستجدة، وإقامة عالمًا خاليًا من الأسلحة النووية والإرهاب والجريمة المنظمة العابرة للحدود، ومكافحة التهديدات الموجهة إلى الأمن البحري والسلامة البحرية، وتحقيق الالتزامات المتصلة بنزع السلاح، والتعامل مع المخاطر المترتبة على التكنولوجيات الجديدة والناشئة وخصوصا في مجالات المعلومات والاتصالات والذكاء الاصطناعي.

جاء المحور الثالث بعنوان "العلم والتكنولوجيا والابتكار والتعاون الرقمي"، ليؤكد على ضرورة الاستفادة من إسهامات التقدم العلمي والتكنولوجي والابتكار لصالح البشرية والكوكب، وسد الفجوة المتزايدة بين المستفيدين وغير المستفيدين منها في داخل كل دولة وبين الدول المتقدمة والنامية، ودعم الدول النامية لتعزيز قدراتها في هذه المجالات. وكذلك دعم تمتع الجميع بحقوق الإنسان وتعزيز المساواة بين الجنسين، والوفاء بحقوق الملكية الفكرية وتطبيقها بمرونة بما يساعد الدول النامية على تحقيق التنمية، والبناء على المعارف التقليدية والمحلية ومعارف الشعوب الأصلية في كل مجتمع، ودعم جهود الأمم المتحدة في مجالات العلم والتكنولوجيا والابتكار.

ازداد اهتمام دول العالم بقضايا الشباب إدراكا منها بأنهم صانعو المستقبل، وظهر هذا الاهتمام في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر حيث شملت كلمات رئيس الجمعية العامة، والأمين العام للأمم المتحدة، وممثلين عن شباب العالم. وكان المحور الرابع من الميثاق بعنوان "الشباب والأجيال المقبلة"، الذي دعا إلى تمكين الشباب من الاستخدام الكامل لقدراتهم وذلك في الاستثمار في الخدمات الاجتماعية المقدمة للأطفال والشباب، وتعزيز الفرص المتساوية لهم وخصوصًا الفئات الأكثر هشاشة وهامشية، وحمايتهم من العنف من خلال شمول السياسات والاندماج الاجتماعي، وتعزيز مشاركة الشباب على المستويين الوطني والدولي، وأن تراعي عملية صنع القرار وتبني السياسات احتياجات الشباب ومصالح الأجيال المقبلة.

وناقش المحور الخامس "إحداث تحول في الحوكمة العالمية"، فدعا إلى الالتزام بالتحول في الحوكمة الدولية وتنشيط النظام متعدد الأطراف، وإصلاح مجلس الأمن "لجعله أكثر تمثيلًا وشمولًا وشفافية وكفاءة وفعالية وديمقراطية وخضوعًا للمساءلة"، وتنشيط عمل الجمعية العامة، ودعم المجلس الاجتماعي والاقتصادي للإسراع بإنجاز أهداف التنمية المستدامة، وتعزيز لجنة بناء السلام، وتعزيز دور منظومة الأمم المتحدة وخصوصًا في مجال حقوق الإنسان لضمان حصول الجميع على حقوقهم. دعا الميثاق أيضًا إلى إصلاح النظام المالي الدولي لإعلاء صوت البلدان النامية وتعزيز تمثيلها، وتعبئة رؤوس الأموال الكافية لتمويل متطلبات التنمية في الدول الأكثر احتياجًا وتمكينها من الاقتراض دون ضرر، وتحاشي الاقتراض الخطر وغير المستدام، وتيسير إمكانية إعادة جدولة الديون والإعفاء منها في توقيتات مناسبة وبشكل منسق وعادل، وتوفير الحماية المتكافئة خلال الأزمات المالية الهيكلية بما يجعل العالم أكثر استقرارًا، وبما يمكنه أيضًا من التعامل مع تحدي التغيرات المناخية.

واتصالًا بما ورد أعلاه بشأن معايير قياس التنمية، ورد بند يدعو إلى تطوير مجموعة من الإجراءات لقياس التقدم لا تقتصر على معيار الناتج المحلي الإجمالي، وتدعيم إجراءات الحوكمة في مجال البيئة لحماية الكوكب، وتعزيز التعاون الدولي من أجل استكشاف الفضاء الخارجي واستخدامه في الأغراض السلمية ولما فيه مصلحة البشرية.

أما بشأن المرفقين اللذين تضمنهما الميثاق، فقد كان الأول "التعاهد الرقمي العالمي" الذي دعا إلى تضييق الفجوة الرقمية بين الشمال والجنوب، وتوسيع فرص الاستفادة من الاقتصاد الرقمي ليعم الجميع، وتدعيم فضاء رقمي مفتوح يتسم بالشمول والسلامة والأمن ويشمل ذلك حوكمة الإنترنت والثقة والسلامة الرقمية والنزاهة المعلوماتية، ويشمل ذلك خصوصية وأمن المعلومات وتبادلها واستخدام نظم المعلومات بما يحقق أهداف التنمية، وكذلك الحوكمة الدولية للتكنولوجيات البازغة، وأبرزها الذكاء الاصطناعي. وناشد السكرتير العام للأمم المتحدة إنشاء صندوق دولي للذكاء الاصطناعي للإسراع ببناء القدرات في الدول النامية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة.

وركز المُرفق الثاني بعنوان "إعلان الأجيال المقبلة" على ضرورة اعتماد الدول على الاستفادة من العلم والمعلومات والإحصاءات والنظرة الاستراتيجية المستقبلية وذلك لضمان اتخاذ القرارات على أسس تستند إلى الدلائل وجعل الحوكمة أكثر استشرافا للمستقبل واستجابة للفرص والمخاطر والتهديدات المستقبلية، وتعزيز الابتكار والتفكير النقدي والمهارات الحياتية للجميع حتى يصبحوا عوامل إيجابية للتغيير، ويشمل ذلك ضمان ألا تتحمل الفئات الأكثر فقرًا والأشد هشاشة الآثار السلبية المترتبة على الأزمات الدولية المستقبلية، وضرورة تعاون الحكومات مع أصحاب المصلحة كالمجتمع المدني والأكاديمي والعلمي والتكنولوجي والقطاع الخاص لتحقيق هذه الأهداف،  وتمكين الأمم المتحدة والنظام المتعدد الأطراف من دعم الدول بناء علي طلبها في جهودها لتنفيذ بنود ميثاق المستقبل، وتعزيز ثقافة مؤسسية مستقبلية في منظومة الأمم المتحدة. وتضمن البند 32 وهو آخر بنود الإعلان، إحاطة المجتمعين " باقتراح الأمين العام تعيين مبعوث خاص معني بالأجيال القادمة"، والاتفاق على عقد اجتماع عام شامل رفيع المستوى للجمعية العامة بشأن الأجيال المقبلة خلال الدورة الثالثة والثمانين-أي بعد أربعة أعوام-لاستعراض ما تم تنفيذه من هذا الإعلان.

جاء ميثاق المستقبل تلخيصًا وبلورة لدعوات إصلاح النظام الدولي من مختلف جوانبه. ولذلك، لقي صدوره ترحيبًا دوليًا واسعًا، ومن أمثلته ما جاء في نص المادة 12 من الإعلان الختامي لقمة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية المنعقد في الكويت في 1 ديسمبر 2024 م،  والتي نصت على "رحب المجلس الأعلى بنتائج قمة المستقبل التي عقد في نيويورك، بتاريخ 22 سبتمبر 2024م، واعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة "ميثاق المستقبل"، والذي يضع أسس الإصلاح والعمل على مسارات عدة منها السلم والأمن والتنمية المستدامة والذكاء الاصطناعي، ويدعو إلى التحرك العاجل لمعالجة التحديات العالمية مثل تغير المناخ والفجوة الرقمية."

  ثانيًا: ميثاق المستقبل بين المبادئ وإمكانية التنفيذ

يشير ميثاق المستقبل صراحة إلى عمق المخاطر والتحديات التي يواجهها العالم، وأكد ممثلو دول العالم، أننا "سنتخذ إجراءات جريئة وطموحة ومعجلة وعادلة وتحولية لتنفيذ خطة عام 2023م، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة وعدم ترك أحد خلف الركب". وتم إقرار الميثاق الذي يقوم على منظومة ثلاثية السلام والأمن والتنمية، والذي علق الأمين العام على إقراره بعبارة " لقد فتحنا الباب، وعلينا الأن جميعًا عبوره، لأن الأمر لا يتعلق بسماع أحدنا الآخر بل أيضًا بالتحرك".

فهل تضع بنود الميثاق الأساس لمثل هذا التحرك والنقلة للنظام الدولي والعلاقات بين الدول وتضمن تنفيذها؟

عند الإجابة على هذا السؤال، لا بد من الانطلاق بحقيقة أننا ما زلنا نعيش في عالم قوامه" الدول ذات السيادة"، وأن التعاون الدولي وإقامة الشراكات تتحقق بقرار الدول ووفقًا لمصالحها على المضي في هذا الاتجاه. ويترتب على ذلك، أن العالم يشهد مختلف أشكال الاضطراب وعدم الالتزام بميثاق الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي، بسبب صراع المصالح والاستقطاب بين الدول، مما أدى إلى اتضاح عجز الأمم المتحدة عن وقف العدوان الذي تمارسه دولة كإسرائيل، ووقف إطلاق النار في الحرب الأوكرانية والشرق الأوسط، مما أدى إلى تراجع الثقة في مؤسسات حفظ الأمن والسلم الدوليين.

في هذا السياق، فإننا نشير إلى النقاط الأربع التالية:

  1. هناك مفارقة بين مبدأ سيادة الدولة من الناحية القانونية، وحتمية التعاون الدولي الذي تفرضه التحديات الراهنة. فتحديات مثل التغيرات المناخية وتدهور البيئة، والجريمة المنظمة بكافة أشكالها وأنماطها، وانتشار الأمراض والأوبئة هي ذات طابع عالمي ولا يمكن لأي دولة أن تتعامل معها بنجاح منفردة أو في غيبة تعاون إقليمي ودولي أكثر اتساعًا. وبينما تدرك كافة الدول هذه الحقيقة، فإن الدول الكبرى تناور في سياساتها لتحقيق مصالحها. فمثلًا الدول الغربية الكبرى لا تعترف بأنها المسؤولة عن ظاهرة الاحتباس الحراري وما ترتب عليها من آثار، ولا تريد تحمل مسؤوليتها في دعم الدول النامية لمواجهة التداعيات السلبية لتلك التغيرات، وتسيطر هذه الدول الغربية الكبرى على مؤسسات التمويل والإقراض الدولية، وتسهم بنسبة كبيرة في إجمالي المساعدات الإنمائية للدول النامية، فتفرض أنواعًا من المشروطية السياسية والمشروطية الاقتصادية عليها.
  2. ويترتب على ذلك وجود مفارقة ثانية بين مصالح الدول الغربية المتقدمة ومصالح دول الجنوب أو الدول النامية. فبينما تسعى الأولى بشكل عام إلى الحفاظ على أوضاع العالم القائمة التي حققت في سياقها تقدمها وازدهارها، فإن دول الجنوب تسعى إلى تغيير تلك الأوضاع.

وأدت هاتان المفارقتان إلى تفريغ كثير من مبادئ الأمم المتحدة من محتواها، وتعطل تنفيذ توصيات مؤتمرات القمة العالمية في مجالات الأرض والتنمية والمرأة وحقوق الإنسان، وتعثر محاولات إصلاح مؤسسات النظام الدولي على مدى فترات تولي د. بطرس غالي وكوفي أنان وبان كي مون وجوتيريتش منصب الأمين العام. لذلك، فإن صياغة كثير من الوثائق الدولية، ومنها ميثاق المستقبل، يأتي نتيجة عملية مفاوضات ومساومات منهكة ومرهقة بين مجموعة الدول الغربية المتقدمة، وفي قلبها الولايات المتحدة وبقية دول العالم.

  1. وكنتيجة لذلك ورغبة من ممثلي دول العالم في تحقيق نجاح ما، فإنهم يستخدمون في الوثائق الدولية عبارات عامة وغير محددة، أو الإشارة إلى أهداف نبيلة ومثل عليا دون تحديد لسبل تنفيذها وخطواتها ومراحلها. ناهيك عن مصادر تمويلها.

ظهر هذا في المفاوضات التي سبقت إصدار ميثاق المستقبل، فاختلفت أولويات الدول. ركزت دول الجنوب اقتصاديًا على قضايا الفقر والجوع وتدهور الصحة العامة، وسياسيًا على المشروطيات السياسية والإجراءات القسرية الأحادية ومحاولات فرض منظومات قيمية والمعايير المزدوجة من الناحية السياسية. أما دول الشمال المتقدم، فاهتمت بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمسؤولية المشتركة وتقاسم الأعباء، وليس المسؤولية المشتركة المتباينة الأعباء كما تطالب دول الجنوب.  وظهر الاختلاف أيضًا، في مضمون ومحتوى نفس القضية. وعلى سبيل المثال، ففي موضوع حقوق الإنسان كان تركيز دول الشمال على الحقوق السياسية، بينما ركزت دول الجنوب على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. ولذلك نص الميثاق على أن حقوق الإنسان تمثل منظومة متكاملة مترابطة لا تنفصل عن بعضها البعض، وأنها ذات طابع عالمي.

  1. واتصالا بذلك، استخدم ميثاق المستقبل عبارات لا يمكن الاختلاف بشأنها، مثل المساواة بين الدول والأفراد، واحترام الحقوق والحريات الأساسية، وضرورة تنفيذ أهداف التنمية المستدامة 2030 والحفاظ على البيئة ودعم منظومة الأمم المتحدة، ولكن دون تحديد لكيفية التنفيذ ومراحله وتحمل الأعباء المالية المترتبة على تنفيذه. وعلى سبيل المثال، فعلى صعيد إصلاح الأمم المتحدة وتحديدًا مجلس الأمن، لم يضف الميثاق جديدًا، وكرر ألفاظًا وعبارات استخدمت في وثائق دولية سابقة. فالمفاوضات بين الدول بشأن إصلاح مجلس الأمن بدأت في الدورة 62 للجمعية العامة في 2008م، بشأن "التمثيل العادل وزيادة العضوية في مجلس الأمن والمسائل الأخرى المتصلة بالمجلس"، واستمرت هذه المناقشات على جدول أعمال الجمعية العامة حتى صدور ميثاق المستقبل في سبتمبر 2024م، دون الوصول إلى توافق دولي بشأن كيفية تنفيذ هذا الهدف.

وينطبق نفس التحفظ على العبارات الواردة بشأن المؤسسات المالية الدولية التي نشأت وفقًا لاتفاق بريتون وودز، فكانت هناك مطالبات عديدة في داخل أروقة الأمم المتحدة وخارجها بالدعوة إلى إصلاحها، وتعهد البيان الصادر عن أول مؤتمر لمجموعة دول العشرين، الذي انعقد في واشنطن في أعقاب الأزمة المالية، في عام 2008م، بالتزام دولها بإجراء إصلاح جذري للنظام المالي العالمي بالنظر إلى الأضرار الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة التي أحدثتها الأزمة.

انتهى المشاركون في مؤتمر سان فرانسيسكو عام 1945م، في أعقاب الحرب العالمية الثانية إلى الاتفاق على ميثاق هيئة الأمم المتحدة الذي وضع الأساس القانوني للعلاقات الدولية في الحقب التالية. وعلى مدى هذه السنوات، تغير شكل العالم وأطرافه وتوازناته وقضاياه الحيوية بشكل كبير للغاية، بحيث لم تعد المؤسسات التي نشأت وقتذاك قادرة على المواجهة الفعالة لقضايا اليوم وتحدياته. وانتهى المشاركون في مؤتمر نيويورك عام 2024م، إلى الاتفاق على ميثاق المستقبل، الذي سعوا فيه إلى بث الحيوية وتجديد المبادئ التي قامت عليها مؤسسات الأمم المتحدة في ضوء السياق التاريخي لعالم اليوم وقضاياه وتحدياته المستقبلية.

 يلخص ميثاق المستقبل آمال البشرية في غد أفضل، وأشار إلى كافة المشاكل التي تئن منها دول الجنوب، وبذلك يمثل وثيقة سياسية وأخلاقية مهمة، ولكنها غير ملزمة للدول وتطبيقها يعتمد على التزام الدول بها والعمل على تحقيق أهدافها، ونقل الأقوال إلى أفعال. وفي المقابل، يمكن القول إن ميثاق المستقبل لم يكن أول دعوة لإصلاح النظام الدولي ولن يكون الكلمة الأخيرة فيه، إذ ينبغي النظر لهذا الإصلاح على أنه عملية تدريجية متطورة، فإذا كان الميثاق قد صدر في سبتمبر 2024م، فإن مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ COP 29 الذي انعقد في نوفمبر من نفس العام بالعاصمة الأذربيجانية باكو شهد مناقشات إضافية بشأن تمويل قضايا المناخ. وفي ديسمبر، انعقد مؤتمر الأمم المتحدة بشأن البلدان النامية غير الساحلية في بواتسوانا وناقش قضايا التنمية المستدامة في هذه الدول. وفي يونيو 2025م، ينعقد المؤتمر الدولي لتمويل التنمية في إسبانيا وسوف يناقش إصلاح النظام المالي الدولي، ومؤسساته التي تضع القواعد والشروط الخاصة بتقديم القروض والمنح والمساعدات الفنية للدول النامية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

إن عملية إصلاح النظام الدولي مستمرة، بفعل وطأة التحديات والمخاطر العالمية وضغوط دول الجنوب التي تمثل أغلبية سكان العالم، والشعور المتزايد بالمصير المشترك لدول العالم. ومسؤولية التوعية بهذه العملية ودفعها، لا تنحصر على الحكومات ولكنها تمتد لتشمل كافة أصحاب المصلحة.  

مقالات لنفس الكاتب