تأخُذ دول مجلس التعاون الخليجي على عاتقها مُهمة تغيير أنظمة الطاقة لديها بما يُلبي أهداف التنمية العالمية المستدامة مع الحفاظ على أمن سلاَسل الإمداد واستقرار الأسواق. مُسترشدة بالمبادئ التوجيهية لقمة مجلس التعاون الخليجي 2024م، باتت هذه الدول تمنح الأولوية إلى تطوير التقنيات المتقدمة من أجل إدارة الانبعاثات ورفع مستوى الكفاءة، مع اعتماد نهج متوازن يدمج بين كافة مصادر الطاقة. ولضمَان تدعيم النمو الاقتصادي المستدام لكافة دول المنطقة، شدد البيان الصادر عن المجلس الأعلى، على أهمية الأدوار التي تضطلع بها مفاهيم مثل؛ تطوير الهيدروجين النظيف، واحتجاز الكربون، واستخدامه، وتخزينه، والاقتصاد الدائري في تشكيل السياسات، والاستراتيجيات، والمشروعات. بشكل عام، تعكف دول المنطقة الخليجية على تسريع وتيرة انتقالها إلى حقائب متنوعة من مصادر الطاقة من خلال الدمج بين التقنيات المتطورة، والتشجيع على التعاون الإقليمي والعالمي. كذلك يتضح مدى التزام هذه الدول بهدف خفض الانبعاثات الكربونية دون الاستغناء تدريجيًا عن موارد الطاقة التقليدية، عبر استثماراتها المتواصلة في مجالات الهيدروجين، والطاقة المتجددة، وتقنيات إدارة الكربون.
في الوقت ذاته، تلعب التحالفات الاستراتيجية بين دول مجلس التعاون والاقتصادات المتقدمة وكبار عملاء الطاقة، دورًا في زيادة تدعيم مكانة الدول الخليجية كلاعب رئيسي على مستوى أسواق الطاقة العالمية، حيث تساعد مثل هذه الشراكات في رفع مستوى تبادل المعلومات، ورعاية الابتكار، وتحصيِن شبكات الإمداد. وقد نجحت دول مجلس التعاون في تحقيق توازن دقيق بين أمن الطاقة، والمرونة الاقتصادية، والريادة البيئية، من خلال اعتماد نهج شامل ومتوازن. وبخلاف أهمية ذلك في تعزيز مساعي التنويع الاقتصادي داخل المنطقة، فإن هذا الالتزام والتفاني من جانب دول الخليج تجاه تحقيق أهداف التنمية المستدامة، يهيئ للمنطقة موطئ قدم على الساحة الدولية كرائدة في مجال التحول الطاقي، ويُكرس نموذجًا يُحتذى به.
التوسع في الطاقة المتجددة
من خلال التركيز على تنفيذ مشروعات توليد الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، نجحت دول مجلس التعاون الخليجي في قطع أشواط كبيرة في تعظيم قدراتها الإنتاجية للطاقة المتجددة. لاسيما وأن هذا النمط من المشروعات العملاقة، يتلاءم جيدًا مع طبيعة هذه البقعة من العالم، التي تزخر بأشعة الشمس الوفيرة والمساحات المفتوحة الشاسعة. علاوة على ذلك، فإن مثل هذا التغيير، يُلبي أهداف الحفاظ على أمن الطاقة الإقليمي والأهداف المناخية العالمية، إلى جانب تدعيم دور مصادر الطاقة الصديقة للبيئة. وفي هذا الصدد، تتصدر كل من المملكة العربية السعودية والإمارات طليعة الحراك الإقليمي صوب التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة، كما وضعت كل منهما أهدافًا عالية ضمن خطط الإصلاح التنموية الخاصة بكل منهما. حيث تستهدف المملكة ضمن رؤيتها "2030" إنتاج نصف طاقتها من الكهرباء من خلال مصادر الطاقة المتجددة بحلول 2030م، في حين لا يزال يجرى العمل داخل الأراضي الإماراتية على تنفيذ مشروعات الطاقة الشمسية المتكاملة. وقد ساهمت هذه المبادرات، بدورها، في مضاعفة القدرات الإنتاجية لدول مجلس التعاون الخليجي من الطاقة المتجددة، متجاوزة مستوى 5 جيجاوات في عام 2022م، بعدما كانت قد سجلت مستويات هامشية في عام 2013م. مع ذلك، لاتزال الطاقات المتجددة تمثل 3 % فقط من إجمالي قدرة دول مجلس التعاون الخليجي المركبة لتوليد الطاقة، مما يؤكد على الإمكانات الهائلة للنمو. كذلك، ساهم التقدم المحرز على صعيد الطاقة الشمسية الكهروضوئية وتقنيات الطاقة الشمسية المُركزة، إلى جانب انخفاض التكاليف، في زيادة تعزيز مكانة البلدان الخليجية على صعيد الانتقال الطاقي. ومن شأن هذه التطورات، تمهيد الطريق أمام زيادة التنويع في مصادر الطاقة، ودفع عجلة النمو الاقتصادي طويل الأجل، والاستدامة البيئية.
الهيدروجين النظيف وإدارة الكربون
اعتمادًا على خبرَاتها الوفيرة في مجال الطاقة، سطع نجم البلدان الخليجية في سماء الريادة العالمية في مجال إنتاج الهيدروجين النظيف وإدارة الكربون. حيث تستفيد المنطقة من إمكانات توليد الطاقة المتجددة المتوفرة والبنية التحتية، في سبيل إنتاج الهيدروجين الأخضر، الذي يعتمد على الطاقة المتجددة لفصل جزيئات الماء وتقسيِمها إلى غاز الهيدروجين، والأوكسجين، والهيدروجين الأزرق، حيث يتم الدمج بين تقنية استخلاص الكربون، واستخدامه، وتخزينه، وبين العمليات الهيدروكربونية التقليدية.
في السياق ذاته، تتصدر سلطنة عمان طليعة دول المنطقة الخليجية، بدعم استراتيجية الهيدروجين الأخضر الطموحة التي تنتهجها، والتي تستهدف زيادة الإنتاج إلى 8.5 مليون طن متري بحلول 2050م، وبلوغ مستوى 1 مليون طن متري سنويًا بحلول 2030م. هذه الأهداف إنما تعكس التزامًا وجدية حيال حلول الطاقة المستدامة، كما أنها تتوافق مع الطموحات الأكبر لسلطنة عمان من أجل التنويع الاقتصادي. في سياق مماثل، تعكف دول مجلس التعاون الأخرى على دعم تنفيذ مشروعات الهيدروجين لديها، من خلال تدفق الاستثمارات الأجنبية، وعقد الشراكات بين القطاعين العام والخاص، بما يضمن الحفاظ على قدرتها على المنافسة داخل سوق الهيدروجين العالمي. كذلك يساعد دمج استخدام تقنيات متطورة مثل تقنية احتجاز الكربون، واستخدامه-التي تركز على تجميع واستخلاص انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون من العمليات الصناعية سواء بهدف التخزين أو الاستخدام التجاري-على دعم المبادرات الخضراء. ويتجلى التزام مجلس التعاون الخليجي حيال الإبقاء على التوازن بين الريادة البيئية والرفاه الاقتصادي، من خلال التركيز بشكل مزدوج على إنتاج الهيدروجين الأخضر والأزرق، بما يسهم في ترسيخ مكانته كلاعب مؤثر في مسيرة انتقال الطاقة العالمية.
استقرار أسواق الطاقة ووفرة المعروض
تعكف دول مجلس التعاون الخليجي حاليًا على توسيع خططها الخاصة بالطاقة من أجل تلبية أهداف الاستدامة والحفاظ على استقرار الأسواق ومصادر الطاقة الموثوقة. ذلك إلى جانب العمل على تحجيم المخاطر المترتبة على التأرجح في أسعار النفط والاضطرابات الجيوسياسية، من خلال الاستثمار في التكنولوجيا النظيفة والطاقات المتجددة، والتي من شأنها أن تُنمي المرونة لدى بيئة الطاقة العالمية التي أضحت يومًا تلو الآخر أكثر ديناميكية. كما تحرص البلدان الخليجية، التي تتمتع بموقع جغرافي مميز بين الشرق والغرب، على تحقيق الاستفادة المثلى من قربها الجغرافي من أجل تحصين خطوط تجارة الطاقة، وضمان استدامة الإمدادات إلى الأسواق المهمة داخل كل من آسيا، وأوروبا، وما خلفهما. وبالنظر إلى المكانة المهمة التي تعتليها هذه البلدان، فإنها تنعم بالقدرة على دعم تجارة الطاقة الدولية وأهداف الانتقال الطاقي. علاوة على ذلك، تعمل دول مجلس التعاون الخليجي على استكشاف سلاسل الإمداد الخاصة بالمعادن الحيوية للعناصر الأرضية النادرة، والليثيوم، والكوبالت -والتي تعد جميعها عناصر ضرورية لتقنيات الطاقة الخضراء. كما أنها تكتسب أهمية محورية ضمن عمليات تصنيع توربينات الرياح، والألواح الشمسية، والبطاريات. من جانبها، تأمل دول مجلس التعاون الخليجي في دعم أهداف الطاقة المتجددة، وتعزيز موقفها التفاوضي، وتحسين مكانتها داخل سوق الطاقة العالمية، من خلال تأمين الاستثمارات وعقد الشراكات في هذه الموارد.
نحو مستقبل مستدام
تشكل التقنيات المتطورة، والسياسات المبتكرة، والتفاني نحو تحقيق أهداف الاستدامة البيئية، الركائز التي تقوم عليها استراتيجية تنويع مصادر الطاقة لدول مجلس التعاون الخليجي. فإن مثل هذه البرامج تساعد على ترسيخ مكانة المنطقة الخليجية كرائدة في التحول الطاقي العالمي، مع العمل على تحسين مستوى استقرار الأسواق وأمن منظومة الطاقة. حيث تعكف دول مجلس التعاون الخليجي على خلق منظومة قوية للطاقة، قادرة على مواكبة التغيرات التي تعصف بالنظام العالمي عبر معالجة قضايا مثل نقاط الضعف في سلاسل التوريد، وتقلبات الأسواق، والمخاوف البيئية. ومن خلال اعتماد نهج استباقي، فإن الدول الخليجية تقدم نموذجًا يمكن لمُصدري الطاقة التقليدية أن يصبحوا من دعاة أهداف الاستدامة دون التفريط في النمو الاقتصادي القوي أو المساس بدورهم المؤثر في معادلة الطاقة العالمية.
الانعكاسات على إنتاج الطاقة وديناميات السوق
تُسهم استراتيجيات دول مجلس التعاون الخليجي من أجل تنويع مصادر الطاقة في إعادة رسم ملامح الاقتصادات الإقليمية فضلًا عن، انعكاساتها على أسواق الطاقة العالمية. وعبر الاستثمار في الطاقات المتجددة والتقنيات النظيفة، يتقلص حجم اعتماد هذه الدول على الهيدروكربون وتضع حجر الأساس لبناء اقتصاد أكثر مرونة واستدامة على المدى الطويل، حيث يقود هذا المحور الاستراتيجي التغييرات في الأنماط الخاصة بـ المعروض والطلب العالميين، ليرتقي بالبلدان الخليجية من مُصدر للهيدروكربون التقليدي إلى مورد لمَزيج متنوع وغني من مواد الطاقة.
إحدى ثمار هذه الاستثمارات، تتمثل في رفع مستوى الاكتفاء الذاتي من الطاقة داخل المنطقة. فضلًا عن، مساهمة مشروعات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، في تقليص الاعتماد المحلي على الوقود الأحفوري من أجل توليد الكهرباء، وتحرير الهيدروكربون من أجل الأغراض التصديرية، ودعم استقرار الإمداد العالمي للطاقة. بالمثل، تساهم مثل هذه المشروعات في جعل مجلس التعاون الخليجي مركزًا عالميًا لتقنيَات إنتاج الطاقة المتجددة، وإتاحة آفاق للتجارة، والتعاون، والاستثمارات في الطاقة النظيفة. في السياق ذاته، فإن خطوة دمج مشروعات الطاقة المتجددة ضمن الاستراتيجيات الخليجية الوطنية تُظهر حرص دول مجلس التعاون على مواءمة ازدهارها الاقتصادي مع طموحات الريادة البيئية. في حين أن الالتزام الذي تُبديه دول المنطقة تجاه الأهداف المناخية العالمية، مقترنًا بالتطوير المشهود في قطاع البنية التحتية للطاقة المتجددة، يساعد على دفع مساعي التنويع الاقتصادي، واستحداث وتنويع القاعدة الصناعية، وزيادة فرص العمل.
إن مساعي التنويع الخليجية تُسهم في تدعيم نفوذها الجيوسياسي داخل أسواق الطاقة العالمية. وبفضل تفوقها في قطاعَي الطاقة التقليدية والمتجددة، باتت دول مجلس التعاون الخليجي قوة مؤثرة في صياغة السياسات العالمية للطاقة. كما أن هذه الخبرة المزدوجة تُمكنها من معالجة التحديات العالمية مثل تقلبات السوق والتحولات العادلة في مجال الطاقة. وتُعد دول مجلس التعاون الخليجي نموذجًا على قدرة الاقتصادات المعتمدة على الموارد الطبيعية، على الإبحار عبر التحولات المعقدة في مجال الطاقة، مع الحفاظ على هيمنتها العالمية في الوقت ذاته.
التعاون الدولي
تُمثل الشراكات الدولية عاملًا محوريًا ضمن عملية التحول الطاقي لدول مجلس التعاون الخليجي، حيث تساعد على تسريع وتيرة إحراز تقدم وتعزيز آفاق التعاون الدولي بشأن حلول الطاقة المستدامة. كما تُسهم هذه الشراكات في توفير الخبرات التقنية، والموارد المالية، وتحسين المكانة الجيوسياسية لدول المنطقة الخليجية بوصفها مٌبتكر للطاقة النظيفة. ومن بين الأمثلة البارزة على ذلك، توسع نطاق التعاون بين الصين ودول الخليج حول مبادرات الطاقة المتجددة. حيث تضطلع الشركات الصينية بدور كبير ضمن رؤية المملكة 2030، على صعيد تطوير مشروعات توليد الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وتقنيات الشبكات الذكية. كما تسلط هذه الشراكة الضوء على التناغم والتضافر بين القدرات الصينية التقنية والتصنيعية والأهداف الاستراتيجية لدول مجلس التعاون، بما يُسهم في توليد الزخم اللازم لنشر الطاقة المتجددة والابتكار.
بالمثل، عمد الاتحاد الأوروبي إلى تعميق شراكته في مجال الطاقة مع مجلس التعاون الخليجي، بالأخص قطاعي الطاقة المتجددة والهيدروجين. وفي ظل مساعيه إلى تنويع حقيبة الطاقة لديه وتقليص الاعتماد على الهيدروكربون، ينظر التكتل الأوروبي إلى بلدان مجلس التعاون الخليجي باعتبارها شريكًا رئيسيًا في بناء أنظمة الطاقة المستدامة. فيما تسهم هذه الشراكات والتعاون في مشروعات إنتاج الهيدروجين الأخضر والطاقة المتجددة على نطاق واسع، في دعم الأهداف المناخية للمنطقتين وتعزيز الاندماج الاقتصادي في الوقت ذاته. كما أنها تُتيح لدول مجلس التعاون الخليجي إمكانية النفاذ إلى التكنولوجيا الأوروبية المتقدمة والوصول إلى الأسواق الأوروبية، بجانب تعزيز دورها في الإطار العالمي للطاقة.
في سياق متصل، تمثل استضافة دولة الإمارات لمؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ في نسخته ال 28 "كوب 28" علامة فارقة مهمة، حيث تُظهر التزام مجلس التعاون الخليجي بشكل عام حيال العمل المناخي العالمي. فضلًا عن، إتاحة منصة لتسليط الضوء على التقدم المحرز على صعيد تقنيات الطاقة النظيفة، والمبادرات الاقتصادية المستدامة، والريادة في السياسات المناخية. كما ساهم المؤتمر في تيسير سبل التعاون والشراكات بين الحكومات، ورواد الصناعة، ومنظمات المجتمع المدني، مُبينًا استعداد المنطقة لمعالجة التحديات الحرجة الخاصة بالطاقة والمناخ. إلى جانب ذلك، تضخ دول مجلس التعاون الخليجي استثمارات كبيرة في مشروعات الطاقة المتجددة ومبادرات نقل التكنولوجيا داخل البلدان النامية، لاسيما داخل إفريقيا وآسيا. وتسهم هذه الجهود المبذولة في دعم أهداف الاستدامة العالمية وتعظيم النفوذ الخليجي داخل الأسواق الصاعدة. ومن خلال تشارك الخبرات والموارد، تُعزز المنطقة شراكَاتها على الساحة الدولية، بما يتوافق مع أولوياتها الاقتصادية وأولويات الطاقة لديها على المدى الطويل.
مكاسب دول الخليج الاقتصادية من التحول إلى أنظمة طاقة منخفضة الكربون
يُمثل التحول نحو اقتصاد منخفض الكربون فرصة ذهبية لدول مجلس التعاون الخليجي لتحقيق تنويع اقتصادي مستدام، وخلق الوظائف، وضمان التمتع بنفوذ دائم داخل أسواق الطاقة العالمية. ويتمركز في قلب هذا التحول، العمل على تقليص الاعتماد على صادرات النفط والغاز. ومن خلال الاستثمار في قطاعات الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، تخلق دول مجلس التعاون مسارات جديدة للعائدات وجذب الاستثمارات الأجنبية. كما أن تطوير التقنيات الابتكارية مثل الهيدروجين الأخضر يُعزز المرونة الاقتصادية ويجعل المنطقة لاعبًا رئيسيًا في مشهد الطاقة المُتغير. كذلك، يدعم التحول إلى أنظمة طاقة مُنخفضة الكربون، توفير فرص عمل موسعة وتنمية المهارات. في حين أنه من المتوقع أن تسهم المبادرات الخاصة بإزالة الكربون ونمو الصناعات الخضراء في توفير الملايين من الوظائف عبر أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بحلول 2050م، حيث تطلب مشروعات الطاقة المتجددة واسعة النطاق توظيف قوة عاملة ماهرة، وهو ما يقود إلى تطوير رأس المال البشري ورفع مستوى الإنتاجية على الصعيد الإقليمي. كذلك، تتيح القطاعات الناشئة مثل كفاءة الطاقة، والاقتصادات الدائرية، وإعادة تدوير المخلفات، سبلًا إضافية للعمالة ذات المهارات العالية والاستدامة الاقتصادية طويلة الأجل.
في السياق ذاته، تُمثل التكاليف المنخفضة للطاقة الشمسية الكهروضوئية، التي تعد حاليًا أرخص مصادر الطاقة، حافزًا قويًا لجذب الاستثمارات وتعزيز النمو الاقتصادي في المنطقة، حيث تصل تكلفة إنتاج الكهرباء منها إلى أقل من سنتين أمريكيين للكيلووات/ساعة. وهو ما يجعل مجلس التعاون الخليجي رائدًا عالميًا في مجال الطاقة المتجددة ويدفع صوب الابتكار التكنولوجي. وتُشير التقديرات إلى أن التحول نحو اقتصاد أخضر يمكن أن يضاعف الناتج المحلي الإجمالي لدول مجلس التعاون الخليجي بحلول عام 2050م، ليصل إلى 13 تريليون دولار أمريكي، مقارنة بـ 6 تريليونات دولار في ظل السيناريو الاعتيادي. وهو ما يعكس حجم الإمكانات الاقتصادية التي ينطوي عليها التحول إلى أنظمة الطاقة منخفضة الكربون. كما أن الانتقال إلى الطاقة الخضراء من شأنه أن يفتح آفاقا تصديرية جديدة، فالموارد الطبيعية التي تزخر بها دول مجلس التعاون سواء على صعيد الطاقة الشمسية أو الرياح، تجعلها رائدة في إنتاج الهيدروجين الأخضر، الذي يعد أحد مصادر الطاقة الحيوية مستقبلا. في الوقت ذاته، تساهم المزايا الجيولوجية والفنية لدول مجلس التعاون الخليجي في تعزيز مكانتها كمركز عالمي لاحتجاز وتخزين الكربون، كما أن موقعها الاستراتيجي يجعلها قادرة على لعب دور محوري في تزويد العالم بالطاقة المتجددة ويدعم دور المنطقة كُمبتكر عالمي في مجال الطاقة.
تسهم سياسات التحول الطاقوي لدول مجلس التعاون الخليجي في تعزيز التنوع الاقتصادي، من خلال تخفيض الاعتماد على صادرات النفط والغاز، وإرساء أسس اقتصادية قوية. وتدعم هذه المبادرات التنمية المستدامة، وتعزز القدرة التنافسية في الأسواق الناشئة، كما تقلص من فرص التعرض إلى التذبذب والتقلبات في أسعار النفط العالمية. ويمثل قطاع الطاقة المتجددة عاملًا بارزًا في الدفع بهذا التغيير، حيث يطلق العنان للتوسع في الاقتصاد الأخضر، وخلق العديد من فرص العمل الممكنة. وعلى نفس القدر من الأهمية، من المتوقع أن تسهم مبادرات إزالة الكربون داخل منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في خلق 10 ملايين فرصة عمل بحلول 2050م، فضلًا عن دعمها للاستقرار الاقتصادي على المدى الطويل ومساعي التنويع الاقتصادي الأشمل.
تُظهر دول مجلس التعاون الخليجي التزامًا جادًا تجاه هدف حماية البيئة والتخفيف من آثار التغير المناخي، وذلك من خلال سعيها الحثيث إلى مباشرة عمليات إزالة الكربون وتحقيق أهداف الطاقة المتجددة. وبحسب رؤية 2030، فإن المملكة تستهدف توليد 50 % من طاقتها من خلال مصادر الطاقة المتجددة، في حين تهدف سلطنة عمان إلى توليد 30 % من طاقتها الكهربائية عبر مصادر الطاقة المتجددة. على الصعيد الإماراتي، يتجلى التزام البلاد تجاه تبني الاقتصاد الدائري للكربون، الذي يُركز على خفض انبعاثات غاز الاحتباس الحراري، وإعادة استخدامها، وإعادة تدويرها، وإزالتها، عبر طرحها "خارطة طريق تحقيق الريادة في مجال الهيدروجين"، التي تهدُف إلى احتجاز 10 ملايين طن من غاز أوكسيد الكربون سنويًا بحلول 2030م. بشكل عام، تُبدي أغلبية دول مجلس التعاون الخليجي التزامًا تجاه تحقيق هدف صافي صفر انبعاثات كربونية بحلول منتصف القرن الجاري، بما يعكس نهجها الاستباقي في معالجة القضايا المناخية العالمية. ومن شأن مثل هذه التعهدات، المساهمة في تموضع مجلس التعاون الخليجي كرائد في مجال الاستدامة والطاقة المتجددة، وستجعل من المنطقة قبلة للمستثمرين الدوليين. ومن خلال تبني مسيرة الانتقال إلى الطاقة منخفضة الكربون، تكفل دول مجلس التعاون الخليجي لشعوبها مستقبلًا ناجحًا ومتوازنًا، من خلال تأمين المزايا الاقتصادية، وتعزيز النمو الأخضر، وتقديم مساهمة كبيرة في الاستدامة البيئية الإقليمية والعالمية.
التحديات
ثمة عديد من العراقيل المؤسسية وتلك المرتبطة بالسياسات العامة التي تعترض مسيرة الانتقال الطاقي لدول مجلس التعاون الخليجي، والتي من شأنها أن تعيق التحول إلى الإنتاج المستدام من الطاقة المتجددة والاستهلاك. وعلى الرغم من التقدم المحرز على صعيد التشريعات الخاصة بمصادر الطاقة المتجددة، ثمة افتقار إلى وجود أطر شاملة بين القطاعات، فضلًا عن، غياب القدرة المؤسسية اللازمة للتعامل مع التحديات الخاصة بـ التكامل وإصلاح منظومة أسعار الطاقة. كما تنذر هذه الفجوات بتقويض مسيرة تحول البنية الأساسية للطاقة وتعريض أهداف الاستدامة طويلة الأجل للخطر. وهو ما يقتضي العمل على تعزيز التنسيق المؤسسي وبناء القدرات لمعالجة أوجه القصور المشار إليها وضمان التنفيذ الفعال لمشروعاَت التحول في مجال الطاقة. وبالرغم من أن إصلاح منظومة أسعار الطاقة تعد خطوة أساسية في سبيل تطوير عنصري الاستدامة والفعالية، إلا إنها تظل قضية غير محسومة بعد. في الماضي، كانت إعانات الدعم لمواد الطاقة داخل دول الخليج تخدم كعامل دعم لبقاء الأسعار عند مستويات منخفضة، مما فتح الباب أمام انعدام الكفاءة والمبالغة في الاستهلاك. مع ذلك، تظل إعانات الدعم قضية شائكة، خشية أن يؤدي التخلي عنها إلى قفزة في الأسعار، يستتبعُها ارتفاع التضخم ومضاعفة الصعوبات المالية الواقعة على كاهل الفئات المحرومة، مما يستلزم دعمًا وتكاتٌفًا على المستوى العام، مُقترنًا بالتزام وعزيمة سياسية راسخة. وبقدر ما تمثل الإصلاحات شقًا محوريًا من عملية التحول الطاقي، بقدر ما تُشكل قضية حساسة، تقتضي من صناع السياسات توخي الدقة في موازنة أهداف الاستدامة مقابل التأثيرات والتبعات الاقتصادية.
من بين التحديات الأخرى التي تتطلب جهدًا خليجيًا للتغلب عليها، ضرورة العمل على ملاءمة التشريعات المحلية مع معايير الاستدامة الدولية، والموازنة بين المصالح القومية والمنافسة العالمية. حيث ينطوي هذا النهج المتوازن، على إدارة التبعات الاقتصادية للتحول في مجال الطاقة، وتأمين الاستثمارات في التكنولوجيا المتجددة، والتفاوض بشأن التحديات الجيوسياسية. وفي سبيل امتلاك القدرة على التأثير في الاستراتيجية العالمية وإظهار القدرة على الريادة أثناء عملية التحول الطاقي، ينبغي لدول مجلس التعاون الخليجي المشاركة بشكل نشط في المناقشات الدولية حول الطاقة والمناخ. بالأخص، أنه بوسعها الحفاظ على استقرارها ونفوذها بموازاة العمل على تحصين مكانتها داخل مشهد الطاقة العالمي المتغير من خلال رفع مستوى تمثيلها الدولي ومواءمة اتفاقياتها الدولية مع الأهداف الإقليمية.
الآفاق
من خلال تطويع الموارد المالية الوفيرة والتركيز على مصادر الطاقة المتجددة، يضمن مجلس التعاون الخليجي ريادته العالمية في مسيرة التحول إلى أنظمة الطاقة منخفضة الكربون. ومن خلال الاستثمار في تقنيات الهيدروجين الأخضر، وتوليد الرياح والطاقة الشمسية، تُرسي المنطقة المعايير لُممارسات الطاقة المستدامة، وتستقطب التحالفات الدولية، وتظهر القدرة على البراعة والابتكار. وبخلاف مساهمة هذه الريادة في الطاقة المتجددة، في تدعيم أهداف التنويع الاقتصادي، فإنها تساعد على ترسيخ مكانة مجلس التعاون الخليجي كرائد عالمي في مجال التنمية المستدامة وتعظيِم نفوذه في صناعة الطاقة.
علاوة على ذلك، يعزز الموقع الفريد الذي تنعم به دول الخليج باعتبارها همزة وصل بين الشرق والغرب مكانتها كمركز عالمي للطاقة. حيث تُعنى المنطقة بالعمل على تحسين سلاسل الإمداد وزيادة نفوذها الاقتصادي والسياسي عبر التنسيق بين السياسات التجارية، وأهداف النمو المستدام، وتعزيز التعاون الإقليمي في مجال الطاقة. ومن خلال عقد توازن بين مواصلة إنتاج مصادر الطاقة التقليدية، والأهداف البيئية المنشودة على المدى الطويل، يتسنى لدول مجلس التعاون تدعيم مكانتها في مشهد الطاقة العالمي، مدعومة بموقعها الجغرافي الفريد. ومع الحرص كذلك على مواصلة ضخ استثمارات في التكنولوجيا النظيفة والطاقة المتجددة، تحظى دول الخليج بإمكانية تقليص المخاطر الناتجة عن التذبذب في أسعار المعدن الأسود. كما أن العمل على تنويع مزيج الطاقة لديها، يعزز قدرة هذه الدول على تأمين إمدادات مستقرة للطاقة، وتقليص المخاطر الاقتصادية، وتعزيز الاستدامة البيئية. فضلًا عن، مساهمة مثل هذه المبادرات في ترسيخ مكانة المنطقة الخليجية كمركز رائد في ابتكارات التكنولوجيا الخضراء، ودعم مكانة المنطقة على الساحة الدولية وتعزيز قدرتها على التكيف في ظل مشهد الطاقة المتغير.
في السياق ذاته، فإن التنفيذ الدؤوب لسياسة الطاقة المستدامة داخل دول مجلس التعاون يرسي معيارًا عالميًا للمزايا المالية والبيئية المترتبة على التحولات لأنظمة الطاقة منخفضة الكربون. حيث تقدم المنطقة نموذجًا مُلهمًا للعالم في تبني ممارسات مشابهة عبر إظهار القدرة على الدمج الفعال بين مختلف التقنيات الخاصة بالطاقة المتجددة. وبخلاف المكاسب المالية، من شأن هذه الريادة تسليط الضوء على الدور المحوري الذي يضطلع به مجلس التعاون في تنفيذ الأهداف المناخية العالمية، وتطوير أهداف التنمية المستدامة دوليًا. ومن خلال الجمع بين الاستثمارات الضخمة في مجال الهيدروجين النظيف، والطاقة المتجددة، وتكنولوجيا إدارة الكربون المتقدمة من جهة والهيدروكربون التقليدي من جهة أخرى، تُعيد البلدان الخليجية تشكيل اقتصاداتها عبر انتهاج استراتيجية مزدوجة للطاقة. وسوف تثمر هذه الاستراتيجية عن العديد من المنافع على رأسها؛ تعزيز الابتكار، وخلق فرص عمل، وخفض الانبعاثات الكربونية، إلى جانب ضمان استقرار الأسواق، وتنوع مزيج الطاقة. كما ترسي مثل هذه الاستثمارات أساسًا لنُمو اقتصادي مستقر ومرن، إلى جانب تلبية مطالب الأهداف العالمية الخاصة بإزالة الكربون.
أخيرًا، يعتمد الانتقال الخليجي في مجال الطاقة بشكل كبير على التعاون الدولي، حيث تساعد الشراكات مع الدول الغنية وكبار عملاء الطاقة في تيسير مشاركة تكنولوجيا الطاقة النظيفة والمعرفة، بما يسرع وتيرة إحراز خطى متقدمة على صعيد إدارة الكربون والطاقة المتجددة. كذلك فإن مثل هذا النوع من الشراكات يضمن لدول مجلس التعاون الخليجي ريادتها المستدامة في مجال التحول الطاقي من خلال تطويع هذا التعاون في تدعيم دورها. وقد برهنت دول الخليج على قدرتها على الموازنة بين التقدم الاقتصادي والاضطلاع بمسؤولياتها البيئية عبر الإبقاء على توازن بين هذه الفرص والعقبات مثل التغيرات في أسعار مواد الطاقة والمنافسة الجيوسياسية. وهو ما يكرس دورها في تشكيل مستقبل عالمي مستدام.
ختامًا
يمثل التحول الطاقي في الخليج تحولًا استراتيجيًا لتحقيق التوازن بين الحفاظ على دور الهيدروكربونات في الاقتصاد وبين الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر وتقنيات إدارة الكربون. هذا التوجه يضمن استقرار أسواق الطاقة مع بناء اقتصاد أكثر تنوعًا ومرونة في مواجهة التحديات. كما تتوافق مثل هذه المبادرات مع مطالب قمة مجلس التعاون الخليجي لعام 2024م، بشأن اتباع استراتيجية شاملة تحتضن الإبداع في مجال التحكم في الانبعاثات والاستخدام الاقتصادي لكافة مصادر الطاقة. إجمالًا، تتبنى دول مجلس التعاون الخليجي نهجًا استباقيًا في مُعالجة هذه التعقيدات على الرغم من أوجه القصور المؤسسية والصعوبات المتعلقة بإصلاح أسعار الطاقة والقدرة التنافسية الدولية. كما تسعى إلى ترسيخ مكانتها على الساحة العالمية كلاعب رئيسي في مسيرة التحول الطاقي.
وفي الوقت الذي تستفيد دول مجلس التعاون من مواردها المالية ومزاياها الاستراتيجية، تتفتح لها العديد من الآفاق من أجل الريادة، والتنوع الاقتصادي، والتعاون الدولي. كما تحرص على تقليص حجم مخاطر تذبذُب أسعار النفط، وتعزيز الابتكار بإعطاء الأولوية لإنتاج الهيدروجين النظيف، وتكنولوجيا الطاقة المتجددة، ومشروعات الاقتصاد الدائري. وتمثل الشراكات مع الدول المتطورة وكبار مستهلكي الطاقة عنصرًا أساسيًا في التعجيل بهذا التحول. وعبر العمل على تدعيم سلاسل الإمداد وتيسير نقل المعرفة، فإن هذه الشراكات تحسن القدرة الخليجية على تضمين مجموعة متنوعة من مصادر الطاقة في مزيج الطاقة لديها. ومن شأن هذه "المسيرة " أن تكفل مستقبلًا مزدهرًا للمنطقة، وتعزز مكانتها كرائد عالمي في مكافحة أزمة التغير المناخي.
ونظرًا إلى اعتمادها المُفرط على صادرات الطاقة، فإن النهج الذي تعتمده المنطقة سيخلف تبعات واسعة النطاق على صعيد التنمية المستدامة والاقتصاد الإقليمي الأوسع نطاقًا. عبر الحرص على معالجة نقاط الضعف والثغرات الاقتصادية، بالتوازي مع التشجيع على الريادة البيئية من خلال تنويع حقيبتها من موارد الطاقة والالتزام بسياسيَات حماية البيئة ومكافحة أزمة تغير المناخ. ومن شأن هذه التدابير أن تكرس نموذجًا في مجال التنمية المستدامة من خلال السماح لدول مجلس التعاون بخفض بصمتها الكربونية دون المساس بنموها الاقتصادي. علاوة على ذلك، فإن رعاية وتطبيق التقنيات المتطورة، يُسهم في تحسين القدرة الاقتصادية الخليجية على الصمود وقدرتها التنافسية في الأسواق العالمية. بعبارة أخرى، إن ما تنجزه دول مجلس التعاون لا يقتصر صداه على البُعد المحلي، بل يمتد ليُرسي معيارًا عالميًا لممارسات الطاقة المستدامة عبر التوفيق بين السياسيات الوطنية والأهداف العالمية.