array(1) { [0]=> object(stdClass)#13667 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 207

معاناة السودان مع الهوية ولدت مبكرًا مع ثنائية الجغرافيا التي تتنازع القطر في ثقافته وتوجهاته

الخميس، 27 شباط/فبراير 2025

يرى كثير من الباحثين أن السودان الحديث اكتمل بناؤه في العام 1821م، على يد محمد علي باشا حين سير جيوشه في ذلك العام ليقضي على مملكة سنار التي حكمت أجزاءً واسعة من السودان، بينما يرى فريق آخر أن هذه الرؤية غير صحيحة، إذ أن السودان وبحضارته القديمة كان قائمًا قبل الميلاد وشهد مدنية عظيمة خلال حكم مملكة نبتة التي امتد سلطانها إلى البحر الأبيض المتوسط لعقود. الرأيان لهما حجيتهما في أروقة التاريخ، ففي حين ينصرف الرأي الأول لتأكيد توحيد إقليم دارفور وجنوب السودان وأرض البجة في السودان مع شمال السودان على يد محمد علي باشا، يقصد الرأي الثاني أن أجزاء واسعة من السودان الحالي شهدت قيام حضارات قديمة وممالك عظيمة .

   من حسن الحظ أن تاريخ السودان ومنذ أزمان سحيقة ظل مكتوبًا وموثقًا نتيجة التواصل مع الحضارات القديمة، يقول عالم الآثار وصاحب كتاب ( النوبة رواق إفريقيا ) ويليامز ي آدامز ( أسرت أرض النوبة العليا النائية  بحيوانها الغريب، وسكانها ذوي البشرة الداكنة خيال الإغريق والرومان الملتهب بالبطولة والمغامرة كما لم تفعل بالمصريين أبدًا)، وكان المؤرخ اليوناني هيرودوت الذي زار مصر عام 448 ق م، ووصل حدودها الجنوبية مع بلاد النوبة أول مؤرخ ينقل معلومات موثقة عن السودان القديم، حيث كان قدماء اليونان يسمون سكانه  بالإثيوبيين، وهي كلمة يونانية تعني أصحاب الوجوه المحروقة في إشارة لسواد بشرتهم، ( وأنهم شعب يعيش في قطر نائي في جنوب غرب الأرض الصالحة للسكن يوجد فيه الكثير من الذهب) ..

الممالك الوثنية القديمة 3703 ق م 350 م:

يمكن قراءة تاريخ السودان القديم من خلال الممالك التالية:

1/  مملكة كوش أو إثيوبيا كما يسميها اليونانيون والرومان القدماء، قامت  في الفترة من   3703 -1600 ق م،  وسكانها من السود الذين سكنوا جنوب الشلال الأول على نهر النيل وأقاموا حضارة كرمة، وينسبهم المؤرخون إلى الحاميين، ويرى أستاذ التاريخ بجامعة الخرطوم الدكتور أحمد إلياس حسين أن جذور هؤلاء السكان تعود إلى مجموعات نوبية هاجرت من الجنوب إلى منطقة شمال السودان   ( ساهم الباحثان ديري وسليقمان في الإجابة على من هم أولئك السود، أظهرت نتائج أبحاثهما المعملية لأحجامهم وجماجمهم وفكوكهم أن أولئك السكان القدماء يشبهون بدرجة كبيرة سكان جبال النوبة الحاليين مما يشير إلى صلة القرابة بين السلالتين ، فسكان السودان الأوسط والشمالي القدماء هم من السلالة التي تعيش سلالتها في جبال النوبة).

 2/ مملكة نبتة 1600_664 ق م: بلغت حضارة النوبة أوج عظمتها في هذا العصر، حيث قام الملك بعانخي بغزو مصر (ولما تمت له الغلبة على مصر ألحقها ببلاده وأبقى لأمرائها الامتياز الذي كان لهم من قبل، وجعل تفنخت ملكا بالنيابة عنه، فأقام في تانيس مركز حكومته القديم، وعاد بعانخي إلى نبتة فجعلها مركز الملك لمصر والسودان) نعوم شقير، واستمر حكم نبتة لمصر 49 عامًا، وبحسب نعوم شقير (كان حكمهم عادلًا ومع ذلك لم يكن مقبولًا لأنهم غرباء).

3/ مملكة مروي م644-545 ق م

كانت عاصمتها مدينة مروي في نهر النيل وامتدت من الشلال الأول إلى أعالي النيل الأزرق، غير أن أثرها الحضاري يتجاوز ذلك بكثير (ويتقدم أثر مروي إلى الأمام حتى يصل شعب يوربا وغيرها من شعوب غرب إفريقيا إذ اكتشف المنقبون أن هؤلاء عبدوا عين الآلهة التي عرفتها مروي وعبدتها في أيامها الأولى، أما عقيدة الشمس والخروف فقد صارت دينًا يدين له بالولاء شطر من إفريقيا كبير) أبو القاسم حاج حمد  ..

    وكانت نهاية هذه المملكة عام 350م، على يد عيزانا ملك أكسوم الحبشية.

ولن نبارح الممالك الثلاث القديمة قبل أن نذكر أن معاناة السودان مع قضية الهوية ولدت منذ ذلك التاريخ القديم، إذ برزت باكرًا الثنائية الجغرافية التي تتنازع القطر في ثقافته وتوجهاته، ما بين بيئة المكان في قلب القارة الإفريقية التي يشكل السودان مفتاحها وعنوان معرفة العالم عنها، وهو الأمر الذي يؤكده عالم الآثار وليامز ( لقرون كانت النوبة إفريقية إلى الحد الذي كان فيه العالم الخارجي معنيًا )، وما بين نزوع القطر نحو الأفق المتوسطي شمالًا باتجاه مصر ، وقد يبدو للبعض أن هذه الملاحظة الثنائية عابرة، ولكنها شكلت  لقرون  لاحقًا جوهر الصراع نحو تخلق الهوية الوطنية للبلاد، فبينما يرى أبو القاسم حاج حمد أنه ( كلما اتجه مركز الثقل الحضاري في السودان إلى الوسط الذي تحيط به الأرجاء الإفريقية غربًا وجنوبًا وشمالًا ، كلما مالت هويته للأخذ بمعطيات التكوين الإفريقي ) ويتوصل تبعًا لذلك إلى أن مملكة مروي ضمرت حضاريًا حين فقدت تواصلها مع المحيط المتوسطي الشمالي فكان مصيرها الانهيار ، ولذلك ينادي بأهمية استصحاب البعدين المتوسطي والإفريقي عند معالجة قضية الهوية ..

لا يتوقف وليامز عند هذه المعادلة التي يعقدها حاج حمد لضمان التوازن في أطروحة الهوية، ولكنه يبرز انحيازًا واضحًا حين يقرر (أن التاريخ السوداني يتميز بحركية مصرية /متوسطية وركود إفريقي). ويتبنى دكتور أحمد إلياس حسين نظرة مغايرة كليًا عن هذا التصور، إذ يعتقد أن (الصحراء الغربية لا البحر الأحمر أو مصر هي المؤثر الأكبر على تاريخ السودان في كل مراحله، ومن المستحيل دراسة وفهم تاريخ السودان فهمًا مؤسسًا إذا لم تكن الصحراء الغربية على رأس قائمة حساباتنا) ويسترسل أحمد حسين مستشهدًا بالمجموعات السكانية لتأكيد منطقه الأكاديمي (إن اسم النوبا كان علمًا على سكان السودان من مناطق الشعوب النيلية في الجنوب إلى مناطق حلفا في الشمال، وكان اسم النوبة هو الهوية التي ربطت أولئك السكان وبها عرفوا).

وعلى كل فإن هذين التيارين ظلا محور الجدل لتشكيل هوية السودان وعندما ظهر الإسلام والعروبة لاحقًا تعمق هذا الجدل بقوة، ولم تكن كل فصوله معتمدة على الجدال بالحسنى والاندماج الخلاق.

المسيحية تتسلل إلى السودان:

ما إن استقرت مصر للإمبراطورية الرومانية وانتشرت فيها المسيحية على المذهب الأرثوذكسي حتى بدأت المسيحية تتسلل جنوبًا نحو بلاد النوبة حوالي العام 540 م، وسرعان ما تحولت ممالك النوبة الثلاث التي كانت قائمة حينئذ إلى دويلاتٍ مسيحيةِ على النحو التالي:

1/ مجموعة من المسيحيين الذين فروا من بطش الإمبراطور جستنيان الذي حاول فرض المذهب الأرثوذكسي بالقوة، وارتكب مجازر كبيرة بحق المصريين ففر جزء منهم جنوبًا نحو النوبة العليا واستوطنوا بها، فانتشر مذهب الكنيسة القبطية، وأقاموا دولة مع السكان المحليين عرفت بمملكة نوباتيا أو المريس وعاصمتها فرس.

2/ أرسل الامبراطور جستنيان حملة تبشيرية اتجهت إلى منطقة النوبة السفلى بين المريس وعلوة، أو ما عرف بمنطقة الأبواب ونشروا المذهب الرسمي للكنيسة الرومانية الشرقية، وأقاموا دولة المقرة وعاصمتها دنقلة العجوز.

3/ لم تكن زوجة الامبراطور جستنيان ثيودورا على وفاق مع مذهب زوجها فأرسلت حملة أخرى توغلت جنوبًا حتى منطقة سوبا وسط السودان الحالي، فقامت مملكة علوة وعاصمتها سوبا.

 وعلى الرغم من استمرار هذه الدويلات لمدة طويلة ( سقطت مملكة علوة عام 1504 م) إلا أنها لم تترك أثرًا عميقًا في صيرورة الهوية السودانية وتفاعلاتها مع عوامل الزمن وتركيبة المجتمعات المحلية، ويقول البروفيسور حسن مكي أن المسيحية حين دخلت السودان كانت تحمل بذور فنائها في داخلها ( نسبة لما شابها من التعقيد المذهبي ونسبة لأنها فشلت في أن تخاطب الناس بلغتهم وتنزل إلى واقعهم) هذه الأسباب جعلت الطبقة المسيحية طبقة سطحية وفوقية عن المجتمع، وهناك أسباب أخرى موضوعية ساهمت في عدم تغلغل المسيحية وسط الفئات الشعبية وهي أن المسيحية منذ البداية كانت ديناً للدولة ولم تتجه لإحداث نهضة مجتمعية وثقافةً محلية ولذلك عندما سقطت الدولة الرومانية في مصر بعد الفتح الإسلامي، انقطع التواصل بين الكنائس المحلية وبين مراكزها في كل من الإسكندرية والقسطنطينية ..

الإسلام يزحف جنوبًا نحو أرض النوبة:

لم يتأخر الفاتحون المسلمون كثيرًا بعد استقرار الإسلام في مصر ، إذ أرسل اليها عمرو بن العاص حملة قادها عقبة بن نافع إلى بلاد النوبة، لم تصب تلك الحملة نجاحًا كبيرًا حيث تصدى أهالي النوبة لها بسهامهم الدقيقة التي استهدفت جيش المسلمين، ومن دقة رميهم على العيون سماهم العرب المسلمون برماة الحدق، عاود المسلمون مرة أخرى غزو بلاد النوبة عبر حملة قادها عبدالله بن السرح الذي وقع في النهاية عهدًا مع النوبة عرف باتفاقية البقط، وذلك عام 31 هجرية ، وقضت الاتفاقية بالسماح للمسلمين أن يجتازوا بلاد النوبة غير مقيمين، وللنوبة كذلك أن يجتازوا بلاد المسلمين غير مقيمين، وعلى النوبة المحافظة على المسجد الذي بناه المسلمون وتنظيفه، وفتح هذا الاتفاق المجال واسعًا للتجار المسلمين والرعاة ليتوغلوا جنوبًا، كما أن الاضطهاد السياسي الذي تعرضت له فئات من المسلمين أدت لهجرتهم لبلاد النوبة، ساهم هذا التفاعل في التزاوج بين المسلمين العرب والنوبة، حتى انتهى هذا إلى سقوط دولة المقرة في يد العرب الفاتحين نتيجة لنظام الأمومة في التوريث، أما دولة علوة فقد سقطت عام 1504م، حين قامت دولة سنار الإسلامية ..

 الهوية العربية والإسلامية تسيطر على المشهد:

بينما كانت حركة الهجرة من القبائل العربية تزدهر خلال القرنين التاسع والعاشر الميلاديين نحو بلاد النوبة وتتوغل جنوبًا، كانت القبائل العربية قد زادت من وجودها في مناطق البجة شرق البلاد خاصة بعد الاتفاقية التي وقعها عبد الله بن الجهم مع تلك القبائل عام 841 م، والتي ألزمتهم باحترام الإسلام، وبعد سقوط مملكة المقرة إبان عهد المماليك في مصر وتنصيب أول حاكم مسلم من بني كنز عام 1474م، في النوبة العليا لم يبق للمسيحية إلا دولة علوة وسط السودان ..

   كان تأسيس مدينة أربجي بواسطة حجازي بن معين والد عبد الله جماع خواتيم القرن الخامس عشر الميلادي محطة مهمة وفارقة في إسقاط علوة بعد أن تحالفت القبائل العربية بزعامة عبد الله جماع وقبيلة الفونج ذات الأصول الإفريقية، ومن رحم ذلك التحالف ولدت السلطنة الزرقاء في وسط وشمال السودان، أو الدولة السنارية كما تسمى في بعض المصادر التاريخية، وذلك في العام 1504م.

 استمرت السلطنة الزرقاء حتى العام 1821م، حين اجتاح محمد علي باشا البلاد، وعلى الرغم من استمرار الممالك الوثنية والمسيحية قبلها بقرون إلا أن الدولة السنارية هي التي لعبت دورًا حاسمًا في تشكيل الشخصية السودانية وفي الهوية الوطنية للبلاد لاحقًا، لقد لعبت عوامل الإسلام والعروبة الممتزجة مع السكان الأصليين من السود والزنوج، والطرق الصوفية، وأنظمة الحكم الأدوار البارزة التي قام عليها الجدال المستمر حول هوية السودان وثقافته.

 خلال فترة الدولة السنارية اتسعت دائرة تأثر السودان بالعالم الخارجي والذي كان موقوفًا على مصر خلال المراحل السابقة، ولكن خلال هذه الفترة انفتحت قنوات التواصل مع الحجاز والمغرب العربي، وارتحل كثير من العلماء من شتى أرجاء العالم الإسلامي إلى الدولة الوليدة التي انتشر فيها المذهب المالكي، غير أن التطور الأبرز في الدولة السنارية كان هو سيطرة الطرق الصوفية على المشهد العام، وكانت الطريقة الشاذلية أول طريقة تدخل إلى السودان بواسطة الشريف حمد أبودنانة الذي استقر في بربر شمال السودان، والتي انشقت عنها لاحقًا الطريقة المجذوبية ، ثم تلاه تاج الدين البهاري الذي أدخل الطريقة القادرية عام 1550 م، وعين عددا من الخلفاء منهم محمد الأمين عبد الصادق ( جد الصادقاب ) وبان النقا الضرير مؤسس اليعقوباب، واللافت أنه عين من خلفائه الشيخ عجيب عبد الله جماع الذي ورث والده في زعامة الدولة السنارية تحت راية السلاطين الفونج، تتابع دخول الطرق الصوفية حتى كبر سلطانها على الناس وعلى الأمراء، ( ومن المعروف أن جل الطرق التي تأسست في ذلك العهد لا تزال موجودة إلى اليوم وتحتفظ بنوع من التأثير) وعلى الرغم من أدوارها الدينية والاجتماعية الكبيرة التي قامت بها وساهمت في ترسيخ الثقافة الدينية في الوعي الشعبي وفي تكريس الثقافة الإسلامية والعربية في البلاد ، إلا أن هناك من يرى أن بعضها  يتحمل الدور الأكبر في تعطيل النمو الطبيعي للإسلام العلمي، وفي نشر الخرافات والعقائد الباطنية، الأمر الذي لا يزال متمكنا في الثقافة الشعبية في السودان، ويرى حسن مكي أن بدايات انتشار الإسلام قامت على أسس علمية مستندة على  الكتاب والسنة الصحيحة، ومن أبرز رموزه غلام الله بن عايد، الشيخ حمد أبودنانة، إدريس ود الأرباب وآخرين، غير أن هناك تيار باطني تسرب إلى الثقافة السنارية المتشربة بالفكر الصوفي أدى إلى نشر الخرافة والجهل، وكان السبب الأساسي في إضعاف ذلك التيار الأول، ويحمل حسن مكي تاج الدين البهاري وتلاميذه بذر تلك البذرة الباطنية في الوعي الشعبي السوداني ..

 خلال الدولة السنارية قامت مملكة الفور في أقصى غرب السودان في دارفور ، ويدعي الفور أنهم ينتسبون للعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن المصادر التاريخية ترى أنهم قبائل إفريقية تزاوجت مع المهاجرين العرب الذين انحدروا من تونس إلى دارفور ، وكذلك قامت مملكة المسبعات في كردفان وسط السودان بين دولتي الفونج ومملكة دارفور ، كانت العلاقة بين هذه المماليك تتراوح بين الحرب والسلم ، ومن أشهر سلاطين دارفور السلطان  سليمان صولونج الذي بحسب الرحالة الألماني ناختيقال ( أعطى روحًا جديدة للسلطنة بفضل قوته العسكرية، كما أدخل الإسلام فيها ووسع سلطانه شرقًا حتى نهر عطبرة ) وهوما يعني أن سلطنة دارفور في بعض مراحلها توغلت شرقًا أبعد من الحدود المعروفة بينها وبين مملكة سنار ...

السودان الحديث .. وتفاعل الهويات ..

 في العام 1821م، غزا محمد علي باشا السودان  وقضى على الدولة السنارية، واستطاع توحيد أقاليم السودان المختلفة في دولة واحدة، وتمثلت أخطر الآثار التي خلفتها تجربة الدولة الخديوية في تأسيس طبقة العلماء الرسميين أو الموظفين لدى الدولة ليقوموا بمهمة الإفتاء نيابة عنها، مما ترتب عليه نشوء نفور بين الدولة وبعض رجالات الطرق الصوفية الذين كانوا يعبرون عن ضمير الشعب، زاد ذلك النفور سوء الإدارة التي اتسم به عهد الخديوية والضرائب الباهظة التي فرضت علي المواطنين، كما أن الدولة الجديدة سمحت لأول مرة بعد سقوط الممالك المسيحية للكنائس الأجنبية بمباشرة التبشير المسيحي  في البلاد، ولما كان الوعي الشعبي في ذلك الزمان قائمًا على العرفان الصوفي لم يجد محمد أحمد المهدي صعوبة كبيرة في إقناع جمهرة غفيرة بدعوته للمهدية، فاستطاع في زمن وجيز من حشد أتباعه وهزيمة الدولة الخديوية وقتل الجنرال شارلس غردون آخر حكامها . انشغلت الدولة المهدية التي امتدت بين 1885_1898م، بالحروب الداخلية والخارجية، وعمقت ممارسات الخليفة عبد الله التعايشي الانقسام القبلي في البلاد بين القادمين من دارفور وبين سكان السودان في الوسط والشمال، في خواتيم القرن التاسع عشر احتلت بريطانيا السودان بعد أن قضت على الدولة المهدية في معركة كرري الشهيرة، واستمرت فترة الحكم البريطاني المصري (الحكم الثنائي) حوالي ستين عامًا حتى نال السودان استقلاله في العام 1956م.

 الاستعمار يعمق جدل الهوية:

سيطرت على الإدارة الاستعمارية مخاوف عودة المهدية، وركزت جهدها في كيفية منع توظيف المشاعر الدينية الكامنة في الشخصية السودانية للثورة على الحكم الجديد، فقامت منذ سنواتها الأولى بتكريس الفصل بين المؤسسات الدينية الرسمية وبين الطرق الصوفية أسوة بالحكم الخديوي الذي ابتدر مشروع ( فصل الدين عن الدولة )، وأخطر ما بذرته تلك الإدارة هو التقنين لتقسيم البلد على أسس عرقية وجهوية كانت أبرز تمثلاته  في إنشاء الإدارات الأهلية وتنمية النخب التقليدية القبلية وإعطائها أدوارًا وسلطات مكنتها من السيطرة على المشهد العام منذ ذاك الوقت ولا تزال، كما عمقت الإدارة الاستعمارية من الفصل بين جنوب السودان الزنجي وشماله العربي، وبثت بينهما خطاب الكراهية الذي ولدت منه الحروب اللاحقة والانفصال في العام 2011م.

شهدت حقبة المستعمر قيام النظم الحديثة وإنشاء الخدمة المدنية والعسكرية، وكان من نتائج ذلك  ظهور طبقة اجتماعية حديثة تخرجت من كلية غوردون التذكارية ( تعرف على نطاق واسع بالأفندية )، ورأت هذه النخبة الحديثة أن مستقبل البلاد رهين بتقدمها هي في مقاعد القيادة والإدارة، ولكن اللعبة الاستعمارية القائمة على صناعة الثنائيات المتناقضة في كل المجالات لم تمكن هذه النخبة من الانفراد بأمر الحكم بعد استقلال البلاد، حيث انتهت قضية النفوذ إلى مساومة بين هذه النخبة من جهة وبين الطائفية السياسية أو المؤسسة العسكرية من جهة أخرى، ونسبة لانشغال المنظومات هذه بقضية السياسة المباشرة أهملت موضوع الاندماج القومي ورعاية حسن التعامل مع التنوع الاجتماعي والتباين الديني الذي خلفه الاستعمار ، وهوما انتهى بالبلاد إلى الحروب المستمرة دون أن تتفق نخبتها على مساومة تاريخية تؤسس للعيش المشترك وتحافظ على سلامة الوطن وتعمل على رفاهية المواطن.

مقالات لنفس الكاتب