يركز هذا الجزء على التداعيات الناجمة عن الحرب الجارية في السودان، فبعد مرور ما يقارب السنتين منذ بداية الحرب في 15 أبريل 2023م، تبدو الأوضاع الحالية والمستقبلية أكثر قتامة وتأزما وتعقيدًا في جميع المجالات. تسعى هذه الورقة إلى تتبع وتحليل ثلاث أزمات رئيسية: وضع ومستقبل التنمية بالسودان بكل جوانبها، ومستوى التعايش السلمي، ودرجة الوفاق الوطني. نستشرف مآلاتها المستقبلية وما تحمله من تداعيات وتأثيرها على أمن واستقرار البلاد وعلى التوازنات الاستراتيجية في المنطقة عامة ومنطقة القرن الإفريقي على وجه الخصوص.
تداعيات الحرب على مستقبل التنمية في السودان
تجدر الإشارة أولًا إلى أن السودان يزخر بالكثير من الثروات الطبيعية، والتي تتمثل في الموارد الزراعية والغابية والحيوانية والسمكية والمائية والثروات المعدنية وثروة نفطية واعدة بجانب الثروة البشرية والتنوع المناخي. وتحيط به عدد كبير من الدول التي لا تطل على منفذ بحري منها جنوب السودان وأثيوبيا وتشاد وإفريقيا الوسطى حيث يشكل السودان معبرًا لتجارة تلك الدول مع العالم عبر موانئه على البحر الأحمر. وهذا ما يدفعنا للقول بأن السودان لا يعاني مشكلة اقتصادية بمعنى ندرة الموارد وعدم إمكانيتها في تلبية الحاجات إذ يتمتع بالكثير من الثروات والفرص والموارد.
ورغم كل تلك الإمكانات الهائلة والفرص المتاحة إلا أنها لم تستغل بالطريقة المثلى وقد توقفت عجلة التنمية والبناء والتعمير منذ فترة طويلة في عموم السودان، وتم إهمال خطط التنمية والبنية التحتية تمامًا لتتوجه كل الإمكانات المتوفرة إلى الحرب، وهو ما أدى إلى انهيار الكثير من المشاريع الزراعية والصناعية الكبيرة. ومنذ انقلاب البشير وما تلاه عانت البلاد من ركود اقتصادي وارتفاع في الأسعار والتضخم والعطالة، وتراجعت العملة المحلية مقابل الدولار مع تراجع كميات الإنتاج وبالتالي الصادرات. كما شهدت البلاد عدم استقرار سياسي وأمني إلى جانب انتشار الفساد والمحسوبية وسوء الإدارة وارتفاع الدين الخارجي والداخلي وتوقفت خطط الدعم الدولي من جانب المؤسسات الاقتصادية الدولية والدول الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وكان لخضوع السودان للعزلة الدولية وتوالي العقوبات الأمريكية عليه أثر سلبي كبير على خطط التنمية والإعمار وجذب الاستثمارات الأجنبية، كل هذا وغيره ساهم في انطلاق احتجاجات شعبية في جميع أنحاء البلاد أدت إلى سقوط نظام البشير تبعتها فوضة سياسية أدت إلى اندلاع الحرب الحالية.
ولذلك ليس غريبًا أن يتم تصنيف السودان في تقرير التنمية البشرية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في 2013م، ضمن أكثر الدول تدنيًا في التنمية البشرية حيث حل في المرتبة (171) من بين (187) بلدا في جميع أنحاء العالم. والمعروف ان دليل التنمية البشرية هو مؤشر مركب يستخدم معدلات الوفيات والتعليم والدخل لقياس الإنجاز في غضون ثلاثة أبعاد أساسية للتنمية البشرية، بما في ذلك الصحة، وتحقيق المعرفة والمستوى اللائق في المعيشة. وكذلك ليس غريبًا أن نقرأ في بيان لبرنامج الأغذية العالمي في 20\4\2023م، عقبَ اندلاع الحرب مباشرة أن ثُلث سكان السودان كانوا يواجهون الجوع قبل هذا الصراع، محذرًا بأن هذه الحرب يمكن أن تُغرق ملايين آخرين، وهو ما حدث فعلًا. وفي بيان آخر بعد اندلاع الحرب أيضًا أعلن برنامج الأغذية العالمي أن جميع ولايات السودان تعاني من انعدام الأمن الغذائي. رغم أن السودان بلد زراعي، وتتوفر فيه جميع مقومات الاكتفاء الذاتي من الغذاء. فالصراع الحالي في السودان جاء بعد فترة توقفت فيها عجلة التنمية لما يزيد عن عقد من الزمان، كانت لها تبعاتها الوخيمة على أداء الاقتصاد الكلي وعلى خطط التنمية ومستوى معيشة المواطن السوداني ورفاهيته ومستقبله. ولذلك فهذا الصراع له أصول اقتصادية وسياسية واجتماعية ولا يمكن فهمه بمعزل عن جملة من الإشكالات والتحديات التي عانى منها السودان منذ الاستقلال.
ومع انطلاق شرارة الحرب في العاصمة الخرطوم بدأت الأوضاع الاقتصادية والإنسانية والصحية في التدهور، وهو ما يعكس هشاشة البنية التحتية وانعدام التنمية المتوازنة والمستدامة وعدم وجود خطط للاستعداد ومواجهة الطوارئ، وقد شهدنا انهيار مفاصل الدولة وتوقف معظم الخدمات الحكومية في اليوم الأول من الحرب، وتفاقم أزمة انقطاع الكهرباء والماء وشح الغذاء والدواء والوفود ، حيث بدأ سكان العاصمة الخرطوم في النزوح بكميات كبيرة إلى المدن الآمنة وإلى دول الجوار في ظروف صعبة لا تتوفر فيها حماية اجتماعية ولا مساعدة من السلطات الحكومية.
إن تداعيات الحرب الحالية على مستقبل التنمية في السودان فاقت كل التصورات، فالحرب ولأول مرة تندلع داخل العاصمة الخرطوم حيث توجد مقار الأجهزة الرسمية، والمقار الرئيسية للشركات والبنوك، ومعظم المصانع الكبرى، ومراكز التصنيع الأخرى وحيث تتركز التنمية من طرق وكباري وخدمات صحية وتعليمية ومالية ولوجستية. وهي أكثر مدن السودان المأهولة بالسكان حيث يقدر عـدد سـكانها بـ 12 مليـون نسـمة، أي ما يقارب ربع سكان السودان. ولذلك فقد كان تأثير هذه الحرب كبيرًا على عموم السودان وعلى أداء الدولة في خدمة وحماية المواطنين. ونتيجة لتمركز الحرب في العاصمة فقد حدثت حالة من الشلل والعجز والانهيار للدوائر الحكومية، كما أدت إلى نتائج كارثية من حيث أعداد القتلى والجرحى، وحجم الدمار في البنى والهياكل التحتية وخاصة المياه والطاقة والصحة والممتلكات العامة والخاصة. وفي ظل الحرب المستمرة يواجه السودان مستقبلاً مجهولاً، وتتجه التداعيات إلى أن تكون أكثر عمقاً وتأثيرًا ونتائجها كبيرة على وضع ومستقبل التنمية على المدى القريب والبعيد. ويتطلب استعادة النمو الاقتصادي وبعث التنمية المستدامة جهودًا كبيرة وتعاون دولي لإعادة إعمار البنية التحية وتعزير الاستثمارات وتنشيط القطاعات الزراعية والصناعية وغيرها. فهذه المحنة قد تكون فرصة للنهوض مجددًا وبناء مستقبل أفضل.
تداعيات الحرب على مستقبل التعايش المجتمعي في السودان
لقرون طويلة ظل السودان نموذجاً فريداً للتعايش والسلام الداخلي ومع دول وشعوب الجوار وذلك رغم التنوع في الأعراق والألوان والأديان وصعوبة الحياة، فكان ملاذاً للاجئين، وقبلة للمهاجرين، ولكن واقع السودان اليوم يختلف كثيرًا عما كان عليه حيث الاختلافات والصراعات بين مكوناته الاجتماعية المختلفة لا حصر لها بل تعدت إلى البعد الإقليمي. فقد عانى السودان خلال الفترة الماضية من صراعات على أسس عرقية وجهوية وكان من المتوقع أن يتم الاستفادة من التعدد العرقي واللغوي والثقافي في السودان ليكون عنصر قوة ووحدة لا عنصر تفرقة وضعف، فقضايا التعايش السلمي والاندماج الوطني وترسيخ مفهوم المواطنة هي قضايا تتعلق بالأمن القومي السوداني. ووحدة السودان تكمن في توفير قدر معتبر من احترام الانتماءات الدينية والفكرية والقبلية والخصائص الثقافية والاجتماعية، والحرص على التفاعل بأسلوب حضاري سلمي وتلقائي على أساس التفاهم والتسامح والتعايش كما كان.
بدأ الصراع السوداني على أًسس مطلبية وعرقية وجهوية منذ بداية الاستقلال وساعدت بعض الحكومات الوطنية في إزكاء الانتماءات الجهوية والقبلية من خلال رفض الآخر وعدم احترام واقع التعدد الثقافي والاجتماعي لمكونات الشعب السوداني، ومن خلال تعميق حالة التهميش السياسي والاقتصادي لمناطق عديدة في السودان وهو ما أسهم في ظهور حركات التمرد المسلحة في الجنوب والغرب والشرق وغيرها، وتسبب في حروب أهلية وصراعات مستمرة لقرابة 20 عامًا منذ إعلان الاستقلال، أقعدت بالوطن وأخرته عن ركب التقدم وحرمته من السلام والاستقرار.
ورغم ذلك إلا أن الحرب الحالية والتي اندلعت بين الجيش والدعم السريع تعتبر علامة فارقة في المشهد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي السوداني. ونتيجة هذه الحرب يواجه السودان العديد من المشكلات الاجتماعية والتغيرات الديمغرافية وخلل في التركيبة السكانية خاصة مع نزوح وفرار الكثير من سكان وسط وشمال وغرب السودان ودخول عناصر غير معروفة. فقد شهدت البلاد دخول أعدادًا هائلة من العناصر من دول الجوار الإفريقي من أجل الاستيطان والنهب وخلق الفوضى وتشريد المواطنين.
وهناك ظواهر جديدة أنتجتها الحرب وأهمها تفاقم الانقسام بين مكونات المجتمع السوداني نتيجة استغلال الانتماءات القبلية من قبل ميليشيات الدعم السريع التي نجحت في تجنيد العديد من الشباب من كل قبائل السودان، وخاصة قبائل غرب السودان وكردفان وبعض سكان الجزيرة من الكنٌابة، وهناك أنباء عن انتهاكات واعتداءات عشوائية وتعميم للتهم ضد مكونات بأكملها بسبب وجود أفراد منها قاتلوا أو ساندوا أو تخابروا مع ميليشيات الدعم السريع وهو ما يشكل في الوقت الحالي تهديدًا خطيرًا للنسيج الاجتماعي والاستقرار السياسي في البلاد. والمعروف بأنه في هذه الحرب لا توجد قبيلة سودانية وقفت على الحياد ومسكت العصا من منتصفها، الكل شارك بصورة أو بأخرى وقد لعب المال والانتماء القبلي دوراً كبيراً في عملية الحشد لبعض المجموعات القبلية من داخل السودان ومن دول الجوار للانضمام لقوات الدعم السريع. إن دخول ومشاركة أجانب في الحرب الحالية وارتكابهم جرائم فظيعة هي التي أسهمت في تحفيز المستنفرين وكل السودانيين على القتال بضراوة في مواجهة هذا العدوان وأدت إلى تغيير المعادلة على الأرض لصالح الجيش السوداني.
لقد صاحبت هذه الحرب ظواهر خطيرة مثل التمييز على أسس عرقية ومناطقية وانتماءات حزبية وقد استشرى خطاب الكراهية بين الحواضن الاجتماعية لطرفي القتال و تحول الخطاب السياسي إلى خطاب إقصائي، وقد ظهرت لأول مرة بوادر انقسامات على أسس عرقية بصورة جدية في السودان لم تشهده حتى في فترة الحرب الأهلية بجنوب السودان، حيث ظهرت حواضن قبلية لقوات الدعم السريع في بعض المناطق تم إغراؤها بالمال والجاه وبالتهديد في بعض الأحيان، خاصة وأن الدعم السريع أصلاً قائم على أساس ملكيته لأسرة "آل دقلو" ومعتمد بشكل أسياسي على العصبية القبلية والتي تمتد عبر السودان إلى تشاد وليبيا ومناطق واسعة في غرب إفريقيا.
إن أهم تداعيات هذه الحرب على مستقبل التعايش المجتمعي في السودان هو أنها زادت من النزاعات والصراعات على أسس جهوية وعرقية، وهناك تحركات قديمة جديدة بمساعدة أطراف دولية عديدة لبعض المجموعات في دول الجوار خاصة تلك التي لديها تداخلات عرقية في مناطق التماس الحدودية مع السودان مثل دارفور والشرق والجنوب للدخول والاستيطان في هذه المناطق والاستفادة من حالة الحرب لفرض واقع جديد وهو ما يمكن أن يشكل تهديدًا لأمن واستقرار السودان.
تداعيات الحرب على مستقبل الوفاق السياسي في السودان
رغم انشغال العالم بالبحث عن حل لوقف الحرب، ورفع المعاناة عن المواطنين وحفظ أرواحهم وتأمين البنية التحتية من الدمار الشامل، باعتبارها من الأولويات العاجلة، فإن هناك قضايا أخرى مهمة تتعلق بمستقبل البلاد وعن وجود أفق للتوافق الوطني السوداني؟ وعن تداعيات هذه الحرب على هذا الوفاق؟
بلا شك أن أحد الأسباب الرئيسية لاندلاع الحرب الحالية تتمثل في فشل وعجز القوى السياسية والنخب السودانية بصفة عامة في إيجاد حلول فعالة لتحديات ومتطلبات الفترة الانتقالية التي أعقبت الإطاحة بحكومة المؤتمر الوطني، بل أوصلت عملية التوافق السياسي الداخلي إلى طريق مسدود يصعب اختراقه إلا بصعوبة. وقد كان من الممكن إدارة الصراع السياسي بين القوى المدنية في تلك الفترة للوصول إلى اتفاق شامل، لكن لجوءها إلى الاستعانة بالقوى العسكرية وتصلبها في اختياراتها السياسية أدى في النهاية إلى أن تنشأ عملية استقطاب حادة بين الأطراف العسكرية أدت في النهاية إلى الوصول لمرحلة الحرب.
والآن فإن أحد أهم العوامل التي تساهم في استمرار الحرب هو عدم التوافق والانقسامات السياسية وطغيان مظاهر عدم الثقة والعداء والاتهامات المتبادلة بين الفرقاء السياسيين. إن التعددية الحزبية وتوفر حرية تكوين الأحزاب كان من المفترض أن تثري الحياة السياسية في السودان إلا أنها كانت مصدرًا لإشعال الصراع بين القوى السياسية على أساس طائفي وجغرافي وسياسي، وكانت الأحزاب السياسية ضمن إحدى عوامل تأجيج الصراع في الساحة السياسية السودانية، وسبباً رئيسياً في استمرار أزماته، وتبديد ثرواته وإضاعة فرص تحقيق تنمية مستدامة رغم كل الإمكانات والفرص والموارد الهائلة في السودان. وإذا أمعن النظر في أداء النخب السياسية سنجد نمطاً متكرراً من الخلافات والصراعات المزمنة على حساب بناء الدولة، وعلى حساب التوافق السياسي من أجل تقديم رؤية وطنية مشتركة لبناء مؤسسات الدولة، ولإدارة التنوع بما يجعله عامل قوة لا سبباً من أسباب الضعف والحروب المزمنة.
ماتزال الخلافات مستمرة وماتزال الساحة السودانية تعاني من استقطاب حاد، وخطاب إقصائي ينذر باستمرار الأزمات حتى عندما تنتهي الحرب. ولذلك نعتقد بأن السودان بوضعه الراهن والمرحلة التي يمر بها يحتاج إلى ترتيب الأولويات فيما يخص قضايا الخلاف، وأولى هذه القضايا الوصول إلى وفاق سياسي بين الفرقاء السياسيين ونبذ العنف والإقصاء. على أن تكون الوحدة مع التنوع أساساً للوفاق الذي يمكن أن تُبنى عليه الدولة السودانية بعد نهاية الحرب. وهذا يتطلب في المقام الأول التغلب على النزعة الإقصائية لأنً الإقصاء السياسي واحتكار السلطة هما من أكبر دوافع العنف في المجتمعات، والعنف لا يولد إلا عنفًا ولا يترك أدنى مساحة للوفاق أو التسوية.
تداعيات حرب السودان على الاستقرار في منطقة القرن الإفريقي
يعتبر السودان من الدول الكبيرة والمحورية في منطقة القرن الإفريقي، ويمتد ساحله على البحر الأحمر لأكثر من 700 كيلومترًا. تحيط به عدد من الدول الحبيسة بحريًا، ويشكل معبرًا للتجارة والثقافة والبشر، كما أنه يشكل موردًا رئيسيًا للكثير من هذه الدول في احتياجاتها من السلع الاستراتيجية. وهو من أهم البوابات لدول العالم عامة والدول العربية خاصة للتواصل مع إفريقيا غربًا وشرقًا وجنوبًا، ويربط بين شمال إفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء ومنطقة القرن الإفريقي، فضلًا عن قربه من منطقة الشرق الأوسط كما أنه حلقة وصل هامة في حفظ الأمن ووقف الهجرة غير الشرعية والنزوح العابر للدول، وعصابات الجريمة المنظمة وتهريب البشر ... وأي خلل في السودان له تداعياته الأمنية الخطيرة والتي تنعكس على دول الجوار والإقليم ويمتد حتى دول الخليج وأوروبا. وهو ما يمثل عقبة كبيرة أمام الجهود الدولية الرامية إلى تهدئة الصراعات في منطقة القرن الإفريقي التي تعاني اضطرابات عديدة. فلا يمكن عزل الصراع السوداني عن مجاله الإقليمي وفي حال استمرار الحرب وطالت أمدها ستتفاقم مخاطره ويمكن أن تكون الشرارة الأولى لانتشار الفوضى وعدم الاستقرار في الإقليم.
الحرب الحالية لا شك سوف تؤثر على مكانة وأهمية السودان الجيوسياسية والاستراتيجية ونشاطه التجاري ودوره الثقافي في المنطقة في مقابل صعود مكانة ودور أثيوبيا. وفي الوقت الحالي أصبح السودان مصدر قلق ومخاوف إقليمية ودولية لما تحمله الحرب الجارية من تداعيات خطِيرة أمنية وتجارية واجتماعية وسياسية تهدد استقرار المنطقة، وقد ينتقل تأثيرها إلى دول الجوار، وقد تؤدي إلى احتمالية تدخل أطراف خارجية دولية وإقليمية. خاصة وأنه من المتوقع أن تمتد تداعيات الحرب السودانية إلى جميع دول الجوار، والتي لكل منها أزماتها الداخلية وتعاني من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني، وهناك مخاوف من أن يمتد الصراع إلى دوائر أكثر اتساعاً وأن تمتد إلى دول الخليج العربي والشرق الأوسط، خاصة في حال استمرار حرب الاستنزاف وانهيار السلطة المركزية. وهناك احتمالات أن يؤدي هذا الصراع إلى زعزعة أمن البحر الأحمر الذي يعد أحد الشرايين المهمة للتجارة العالمية.
وتزداد المخاوف من زيادة موجات نزوح السودانيين بشكل اوسع في وقت تعاني فيه معظم دول جوار السودان من أزمات شتى ولا تبدو في حالة استعداد لاستقبال مزيد من اللاجئين الفارين من ويلات الحرب. كما أن هناك احتمالات استغلال التنظيمات الإرهابية للصراع حال استمراره وامتداده إقليميًا، وسوف يكون لهذه الاحتمالات تداعياتها الكارثية ليس على الدولة والمجتمع في السودان فحسب، بل على الصعيد الإقليمي. فعدم استقرار السودان أمر مقلق فعلًا خاصة لمنطقة القرن الإفريقي الاستراتيجية.
وأهم ما تتحسب له معظم دول القرن الإفريقي من تداعيات الحرب في السودان هي زيادة وتفاقم أزمة النزوح الجماعي لأراضيها وتدهور الوضع الأمني العام نتيجة انتشار الأسلحة وازدهار الجماعات المسلحة. أما جنوب السودان الذي يعاني من انقسامات داخلية عميقة فيتحسب من تأثيرات أمنية واقتصادية جراء استمرار الحرب، وتترقب أثيوبيا تأثيرات الأزمة على الملفات العالقة وعلى رأسها سد النهضة والحدود المشتركة والتي شهدت نزاعاً خلال السنوات الأخيرة. أما الجارة إرتريا فتترقب مآلات الصراع السوداني وتتخوف من تأثير الحرب على وضع أكثر من 500 ألف لاجئ إرتري في الأراضي السودانية لا ترغب عودتهم اليها.
الخلاصة
خلص المقال إلى أن أزمة السودان أعمق من صراع الجيش والدعم السريع، وبغض النظر عن الأسباب المباشرة للحرب بين الجانبين فإنه في الأخير لا يمكن فهمها بمعزل عن جملة من التحديات والأزمات التي عانى منها السودان في مرحلة ما بعد الاستقلال. وتعود في أصلها إلى عدم وجود تنمية وتوزيع عادل للثورة وعدم القدرة على استيعاب التعدد المجتمعي -العرقي والجهوي والديني والفكري -والتعثر في بناء دولة وطنية ديمقراطية حديثة، وإرساء حد أدنى من التوافق الوطني. بالإضافة إلى وجود تهميش سياسي واقتصادي واجتماعي لمعظم المناطق. إلا أن هذه الحرب أدت إلى تفاقم الوضع وفرضت تحديات جديدة فيما يتعلق بالتنمية والتعايش السلمي والوفاق الوطني والاستقرار في المنطقة، وأن استمرار الحرب خلال الفترة المقبلة سيزيد الأمر تعقيدًا ويدفع إلى مزيد من تدهور الأوضاع الاقتصادية والبنية التحتية، وسوف يؤثر على أمن واستقرار الإقليم بأسره.