بعد إسقاط نظام الإنقاذ (1989-2019) في 11 أبريل 2019م، بدأ النِّزاع السِّياسيُّ بين اللَّجنة الأمنيَّة العليا للنظام (المكوَّن العسكريِّ)، الَّتي أعلنت انحيازها للثَّورة، وتحالف قوى إعلان الحرِّيَّة والتَّغيير (المكوَّن المدنيِّ)، الذي قاد الثَّورة ضدَّ النِّظام. ثمَّ انتقل هذا الصِّراع السياسي إلى طرفي الحكومة الانتقاليَّة، المكوَّنة من ممثِّلين للقوَّات المسلَّحة والأجهزة الأمنية والشرطة وقوات الدعم السريع وممثلين لقوى إعلان الحرِّيَّة والتَّغيير حسب نص الوثيقة الدُّستوريَّة لسنة 2019م، ثمَّ تصاعدت حدَّة الصراع بعد انقلاب المكوَّن العسكريِّ والقوى المدنيَّة المساندة له على ممثلي قوى إعلان الحرِّيَّة والتَّغيير في الحكومة الانتقالية، في 25 أكتوبر 2021م. ثم طُرحت بعد ذلك العديد من المبادلات لرأب الصدع بين الطرفين إلا أنها لم توفق، وكان آخرها الاتِّفاق الإطاري، الذي وقَّع عليه الطرفان في 5 ديسمبر 2022م. وبموجب هذا شكَّل الاتفاق الإطاري اصطفافاً سياسياً جديداً، حيث ساندته تنسيقيَّة قوى إعلان الحرِّيَّة والتَّغيير وقوَّات الدَّعم السَّريع؛ علماً بأنه ينص على تشكيل حكومة مدنيَّة انتقالية دون اصطحاب المكوَّن العسكريِّ، ودمج قوَّات الدَّعم السَّريع في القوَّات المسلَّحة خلال مدَّة تتجاوز الثَّلاث السَّنوات. وفي المقابل عارضه ممثِّلو القوَّات المسلَّحة، واحتشد خلفهم أنصار النِّظام القديم (المؤتمر الوطنيُّ). وبلغت عمليَّة التَّحشيد السِّياسيِّ والعسكريِّ بين الطَّرفين ذروتها في الأسبوع الأوَّل من أبريل 2023م، وجزء من الأسبوع الثَّاني منه إلى أنَّ اندلعت الحرب بين القوَّات المسلَّحة وقوَّات الدَّعم السَّريع في 15 أبريل 2023م. خلال فترة هذا الصراع الطويل بين الطرفين (المكون العسكري والمكون المدني) وأنصارهما توسَّطت بعض المنظَّمات الإقليميَّة والدَّوليَّة والدول الإقليمية والغربية بين الطَّرفين؛ لتجاوز الأزمة السياسيَّة والعسكريَّة؛ ولكنَّ جهودها باءت بالفشل. ثمَّ برزت هذه الوساطات مرة أخرى لإيقاف الحرب التي انعدلت في 15 أبريل 2023م، وتقديم المساعدات الإنسانية للمتضررين؛ لكنها واجهت سلسلة من التحديات المتوقعة وغيرها. في ضوء هذه التوطئة، يهدف هذا المقال إلى تقديم مقاربة-تحليلية للمبادرات الإقليميَّة التي طُرحت لحلِّ الأزمة السُّودانيَّة بعد اندلاع الحرب، مستندًا في ذلك إلى ثلاثة أسئلة محوريَّة: ما المبادرات الإقليميَّة الَّتي عُرضت لحلِّ الأزمة السودانية؟ وما الحلول الممكنة التي طرحتها؟ وما التَّحدِّيات الَّتي أعاقت تنفيذها، ولماذا؟
المبادرة السعودية-الأمريكية
بعد ثلاثة أسابيع من اندلاع الحرب في السودان دعت حكومتا المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية القوات المسلحة (الجيش) وقوات الدعم السريع إلى اجتماع تفاوضي في مدينة جدة في 6 مايو 2023م، وتمخضت نتائج اجتماعات الطرفين بالتوقيع على "إعلان جدة: الالتزام بحماية المدنيين في السودان" في 11 مايو 2023م. ونص الإعلان على إلزام طرفي الحرب (القوات المسلحة وقوات الدعم السريع) بتيسير "العمل الإنساني من أجل تلبية احتياجات المدنيين"، والالتزام "بمبادئ القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان"، والتي تنطبق على النزاع المسلح في السودان، وتحديدًا "البروتكول الإضافي الثاني لسنة 1977م، والملحق باتفاقيات جنيف الأربعة لسنة 1949م." إلا أن هذا الإعلان لم يتطرق إلى الوضع القانوني أو الأمني أو السياسي للطرفين الموقعين عليه، ولم يلزمهما بالانخراط في عملية تفاوض سياسي يمكن أن تفضي إلى إيقاف الحرب. وواصل الطرفان اجتماعاتهما في جدة، وطرحا تفاصيل هدنة جديدة، يكون أمدها الزمني أطول من الهدن السابقة لها، وفي أثنائها تحدد ممرات آمنه لخروج المدنيين، مع التزام قوات الدعم السريع بإخلاء المستشفيات والمرافق العامة ومنازل المواطنين. إلا أن الدعم السريع لم يلتزم بما جاء في إعلان جدة بشأن إخلاء المنازل والمرافق العامة، فأعلن وفد القوات المسلحة في 31 مايو 2023 تعليق مشاركته في المفاوضات، تعللاً بعدم تنفيذ قوات الدعم السريع لإعلان جدة وخرقه المستمر للهدن المعلنة. وبناءً على ذلك، أعلنت الدول الراعية لمنبر جدة (المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية) تعليق المفاوضات في 2 يونيو 2023م؛ لأن طرفي الصراع لم يتلزما بوقف العدائيات، وأنهما "يدّعيان تمثيل مصالح الشعب السوداني، لكن أفعالهما زادت من معاناته وعرّضت الوحدة الوطنية والاستقرار الإقليمي للخطر". ولذلك أُسس قرار التعليق على "الانتهاكات الجسيمة المتكررة لوقف إطلاق النار قصير الأمد وتمديد وقف إطلاق النار المؤخر من قبل القوات المسلحة السودانية (SAF) وقوات الدعم السريع (RSF)، التي أعاقت "إيصال المساعدات الإنسانية واستعادة الخدمات الأساسية" للمواطنين.
وبعد تعليق التفاوض بمنبر جدة لمدة تقارب الخمسة أشهر، استأنف المنبر الجولة الثانية في 26 أكتوبر 2023م، بهدف تسهيل إيصال المساعدات الإنسانية، وبناء الثقة بين الطرفين بإنشاء "آلية تواصل بين قادة القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع"، وإعادة احتجاز الهاربين من السجون، "وتحسين المحتوى الإعلامي لكلا الطرفين، وتخفيف حدة اللغة الإعلامية"، فضلًا عن إمكانية التوصُّل إلى وقف دائم للأعمال العدائية. وشهدت هذه الجولة تحسنًا نسبيًا في تدفق المساعدات الإنسانية؛ لكنها لم تفض إلى وقفٍ دائمٍ للعدائيات، بل ظلت الحرب مشتعلة في مناطق متفرقة في معظم ولايات السودان. وتعثر مسار المفاوضات نتيجةً لمطالبة الدعم السريع بالقبض على رموز النظام السابق الذين هربوا من السجن كإجراء لبناء الثقة، كما طالبت القوات المسلحة بخروج قوات الدعم السريع من مساكن المواطنين والمرافق العامة. ونتيجة لعدم التزام الطرفين بتنفيذ المطلبين المشار إليهما، أعلن الوسيطان السعودي والأمريكي تعليق المفاوضات رسميًا في 4 ديسمبر 2023م، إلى أجلٍ غير مسمى، وأوصيا بمغادرة الوفدين للتشاور مع قيادتهما بعد اخفاقهما في "تنفيذ إجراءات بناء الثقة وإنهاء الوجود العسكري في المدن الرئيسية."
وفي هذه الأثناء جرت مفاوضات سرَّيَّة في المنامة (العاصمة البحرينية) بين الفريق شمس الدين إبراهيم كباشي (ممثل القوات المسلحة) الفريق عبد الرحيم دقلو (ممثل قوات الدعم السريع) في شهر يناير 2024م، تحت رعاية الولايات المتحدة الأمريكية، وبحضور ممثلين من المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية ودولة الإمارات العربية المتحدة. وفي 20 يناير 2024م، وقَّع الطرفان على "وثيقة مبادئ وأسس الحل الشامل للأزمة السودانية"، التي أضحت تُعرف باتفاق المنامة (السرَّي). وجدد الاتفاق التزام الطرفان "بإعلان جدة (الالتزام بحماية المدنيين في السودان) المُوقَّع بتاريخ 11 مايو 2023م"، ونصَّ الاتفاق على "بناء وتأسيس جيش واحد مهني وقومي، يتكون من جميع القوات (القوات المسلحة، وقوات الدعم السريع، وحركات الكفاح المسلحة)"، وحدد شكل نظام الحكم، كما نادى "بتفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989م، في كافة مؤسسات الدولة." إلا أن هذا الاتفاق لم يُعْلَن عنه رسميًا، وظل طي الكتمان ومات في مهده؛ لأن الحكومة السودانية رفضت التوقيع النهائي عليه، متأثرة بمطالب أنصار النظام القديم والشرائح المستنفرة التي تصر على استمرار الحرب للقضاء على قوات الدعم السريع، التي انتهكت أملاكها وأعراضها، ولتحقيق مآرب سياسية أخرى لأنصار النظام القديم أثناء الحرب وما بعدها.
مبادرة الهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد)
بعد يوم من اندلاع الحرب في السودان أكَّد السكرتير التنفيذي للهيئة الحكومة للتنمية (إيغاد) على ضرورة إيقاف الأعمال العدائية الجارية في السودان فوراً، وخفض التصعيد العسكري، والعودة إلى طاولة المفاوضات، ثم كلَّف بعثة السلام الرفيعة المستوى التابعة للهيئة بالتواصل مع طرفي الحرب؛ لوضع الإجراءات اللازمة لإنجاز المطلوبات المشار إليها. وفي 12 يونيو 2023م، عقدت إيغاد جلستها الدورية رقم (14) في جيبوتي، ووضعت خارطة طريق لحل الأزمة السودانية، تتمثل في دعوة الرئيس الأثيوبي للانضمام إلى اللجنة الثلاثية المكونة من رؤساء كينيا وجنوب السودان وجيبوتي؛ للبحث عن حل الأزمة السودانية، وتكليف ويليام روتو (William Ruto)، رئيس جمهورية كينيا، أن يكون رئيساً للجنة الرباعية ومسؤولاً عن التنسيق بينها وبين مفوضية الاتحاد الإفريقي. وفي 19 يوليو عقد وزراء خارجية الدول الأربع اجتماعاً في أديس أبابا، وأوصوا بتنفيذ خارطة الطريق التي وضعها الاتحاد الإفريقي، والاستعانة بالاتحاد في تيسير إجراءات إيقاف الحرب؛ كما رحبوا بإعلان جدة؛ ونادوا بإطلاق عملية سياسية شاملة لإعادة الحكم الديمقراطي-المدني في السودان، تستضيفها كينيا في منتصف يوليو أو الأسبوع الأول من أغسطس 2023م، وفي 9 ديسمبر 2023م، عقدت القمة الطارئة رقم (41) في جيبوتي بحضور الفريق عبد الفتاح البرهان، ومن أبرز مخرجاتها تشكيل لجنة دولية برئاسة الاتحاد الإفريقي لمعالجة الأزمة السودانية، ودعوة الفريقين البرهان وحميدتي إلى لقاء مباشرٍ بينهما؛ إلا أن الخارجية السودانية رفضت البيان الختامي للقمة، ووصفته بأنه بيان معيب؛ لأنه لم يتضمن ملاحظات الجانب السودان، وإن الادعاء بموافقة البرهان على مقابلة حميدتي لم يكن دقيقاً، كما لم تُحذف الإشارة إلى مشاركة وزير الخارجية الإماراتي؛ لأن الحكومة السودانية تشكك في مواقف الإمارات العربية المتحدة وتتهمها بأنها داعم رئيس لقوات الدعم السريع. وبعد ذلك عقدت اللجنة الرباعية عدة اجتماعات، تبلورت خلاصتها عقد لقاء بين الفريق البرهان والفريق حميدتي في 28 ديسمبر 2023م. وفي آخر لحظة من انعقاد الاجتماع الثنائي اعتذر حميدتي عن حضور الاجتماع "لأسباب فنية" لم يُفصح عنها. وبُعَيْدَ هذا الاعتذار الغامض ظهر حميدتي في زيارات علنية متتابعة إلى رؤساء اوغندا وكينيا وإثيوبيا، وكذلك التقى بقيادات تنسيقية مع القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) في أديس أبابا، ووقَّع معها "إعلان أديس أبابا" في 2 يناير 2024م. وبعد فشل لقاء 28 ديسمبر 2023م، دعت اللجنة الرباعية الفريق البرهان لحضور اجتماع القمة الطارئ رقم (42)، والمزمع عقده بمدينة عنتيبي في يوم الخميس الموافق 18 يناير 2024م؛ إلا أنَّ الحكومة السودانية أصدرت قرارًا "بوقف الانخراط وتجميد التعامل مع إيغاد بشأن ملف الأزمة الراهنة في السودان"؛ لأن الهيئة قد اقحمت أزمة السودان ضمن جدول أعمالها دون "التشاور مع السودان"، كما أنها اعتبرت حضور "قائد الميليشيا" مكان انعقاد القمة الطارئة "سابقة خطيرة في تاريخ إيغاد والمنظمات الإقليمية والدولية ... ومخالفة جسيمة لمواثيق إيغاد، والقواعد التي تحكم عمل المنظمات الدولية والإقليمية،" واستخفافًا بـ"ضحايا الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والعنف الجنسي وكل الفظائع" التي تمارسها قوات الدعم السريع، وأشارت إلى أن خيارات تعاملها مع إيغاد ستكون مفتوحةً. وعند هذا المنعطف ظهر بصورة جلية انعدام الثقة بين الحكومة السودانية والهيئة الحكومية للتنمية، الأمر الذي أفضى إلى تعليق التواصل بينهما.
مبادرة الاتحاد الإفريقي
علَّق الاتحاد الإفريقي عضوية السودان في 27 أكتوبر 2021م، احتجاجاً على القرارات التي أصدرها الفريق عبد الفتاح البرهان بحل الحكومة الانتقالية في 25 أكتوبر 2021م، والسيطرة على دفَّة الحكم. وجاء قرار التعليق استناداً إلى نص المادة (30) من قانون تأسيس الاتحاد، الذي "لا يسمح للحكومات التي تصل إلى السلطة بطرق غير دستورية بالمشاركة في أنشطة الاتحاد،" كما أصدر مجلس الأمن والسلم بياناً، أدان فيه "بشدة سيطرة الجيش السوداني على السلطة، وحل الحكومة الانتقالية"، ورفض تغيير الحكومة غير الدستوري"، واعتبره أمرًا "غير مقبول" و"إهانة للقيم المشتركة والمعايير الديموقراطية للاتحاد الإفريقي". ولذلك تأزمت علاقة الاتحاد الإفريقي مع حكومة الفريق البرهان؛ لكن بعد اندلاع حرب الخامس عشر من أبريل 2023م، أصدر مجلس السلم والأمن الإفريقي خطة دمجت بين أهداف منبر جدة و"إيغاد في 25 مايو 2023م، ارتكزت هذه الخطة إلى ستة مقترحات عملية، تتمثل في "وقف إطلاق النار الدائم، وتحويل الخرطوم لعاصمة منزوعة السلاح؛ وإخراج قوات طرفي القتال إلى مراكز تجميع تبعد 50 كيلومترا عن المدن؛ ونشر قوات إفريقية لحراسة المؤسسات الاستراتيجية في العاصمة؛ ومعالجة الأوضاع الإنسانية السيئة الناجمة عن الحرب؛ وإشراك قوات الشرطة والأمن في عملية تأمين المرافق العامة." إلا أن القوات المسلحة السودانية رفضت هذه المقترحات واعتبرتها تدخل في الشأن السوداني. وبعد ذلك حاول الاتحاد أن يمارس دورًا تنسيقيًا عبر اجتماعات منبر جدة والهيئة الحكومية للتنمية؛ للمساهمة في وضع أسس لحل الأزمة السودانية. وبعد يوم من تجميد السودان لعضويته في إيغاد (16/1/2024م)، شكَّل الاتحاد الإفريقي آلية ثلاثية رفيعة المستوي؛ لتقدم حلولًا ممكنة للأزمة السودانية. أوضح أن الآلية ستعمل "مع جميع أصحاب المصلحة السودانيين المدنيين والعسكريين، والجهات الإقليمية والعالمية الدولية الفاعلة؛ لضمان عملية شاملة، تهدف إلى إعادة الحكم المدني، والعمل بالدستور، وبسط السلام والاستقرار في السودان. بالفعل تواصلت الآلية الثلاثية رفيعة المستوى مع كل ألوان الطيف السياسي السوداني دون استثناء والمؤسسات العسكرية والأمنية المختلفة والمنظمات الإقليمية والدولية المهتمة بالشأن السوداني، بهدف تأسيس حكومة مدنية ديمقراطية انتقالية، تكون نابعة من حوار سياسي سوداني شامل، يستهدف الأسباب التاريخية التي أفضت إلى اندلاع الحرب. وفي أكتوبر 2024م، وصلت اللجنة الثلاثية إلى بورتسودان، طالبت الحكومة السودانية بوقف العدائيات في ضوء مخرجات إعلان جدة، ورحبت الحكومة بتثمين اللجنة الثلاثية لإعلان جدة، لكنها طلبت رفع تجميد عضوية السودان في الاتحاد الإفريقي، وطرحت مقترحين للحل. يتمثل أولهما في إنشاء مناطق تجميع متفق عليها لقوات الدعم السريع باعتباره خطوة تجاه إيقاف الحرب. وثانيهما بتشكيل حكومة انتقالية بقيادة مدنية لإعادة الانتقال السياسي الديمقراطي. إلا أن المشاورات بين الحكومة والاتحاد لم تفض إلى حلول ممكنة للأزمة السودانية.
مبادرة دول الجوار
يبدو أنَّ مصر قد شعرت بأنها معزولة من المفاوضات الجارية بشأن معالجة الأزمة السودانية؛ ولذلك دعا الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى مبادرة جديدة في القاهرة، أطلق عليها "مبادرة دول الجوار"، وذلك في يوم الخميس الموافق 13 يوليو 2023م، وحضرها رؤساء وممثلون من مصر، وإثيوبيا، وأرتيريا، وجنوب السودان، وإفريقيا الوسطى، وتشاد، وليبيا، فضلاً عن حضور رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي، وأمين عام جامعة الدول العربية. وتقاطعت بنود المبادرة مع المبادرات الأخرى؛ إذ أنها طالبت "الأطراف المتحاربة بوقف التصعيد، والبدء دون إبطاء في مفاوضات جادة تهدف للتوصل لوقف فوري ومستدام لإطلاق النار"؛ وتسهيل "كافة المساعدات الإنسانية، وإقامة ممرات آمنة، لتوصيل تلك المساعدات، للمناطق الأكثر احتياجًا داخل السودان، ووضع آليات تكفل توفير الحماية اللازمة لقوافل المساعدات الإنسانية ولموظفي الإغاثة الدولية؛ لتمكينهم من آداء عملهم"؛ وإطلاق حوارٍ سوداني-سوداني "بمشاركة القوى السياسية والمدنية، وممثلي المرأة والشباب، يهدف لبدء عملية سياسية شاملة، تلبى طموحات وتطلعات الشعب السوداني في الأمن والرخاء والاستقرار والديمقراطية؛ وتشكيل آلية اتصال منبثقة عن هذا المؤتمر، لوضع خطة عمل تنفيذية للتوصل إلى حلٍ شاملٍ للأزمة السودانية"، كما تتواصل مع أطراف الأزمة مباشرة والتنسيق مع الآليات والأطر القائمة. لوضع هذه التوصيات موضع التنفيذ، عقد وزراء خارجية الدول المشار إليها، باستثناء أرتيريا، اجتماعاً في العاصمة التشادية نجامينا في 7 أغسطس 2023م، وانبثقت من مداولاتهم التوصيات الآتية: "أهمية التكامل والتنسيق الفعال بين مبادرات الاتحاد الإفريقي والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (إيغاد) والدول المجاورة للسودان"؛ والاستئناس "بخطة الاستجابة الإنسانية التي أعدتها الأمم المتحدة ودعوة البلدان والمنظمات المانحة إلى التعجيل بدعم هذه الخطة"؛ و"إنشاء مستودعات إنسانية في دول الجوار لنقل الإغاثة السريعة والرعاية الطبية للضحايا؛ وإبقاء "الممرات الإنسانية مفتوحة باسم المبدأ العالمي لمساعدة الأشخاص المعرضين للخطر. كما أوصى اجتماع وزراء الخارجية بإلزام أطراف النزاع في السودان بتسهيل تقديم المساعدة إلى السكان وفقاً للقانون الدولي الإنساني؛ ثم وضع إجراءات "محددات وقف دائم لإطلاق النار." ووضع الاجتماع الوزاري خطة عمل، تهدف إلى وقف دائمٍ لإطلاق النار، ثم أوصى بتنظيم حوار شامل بين الأطراف السودانية لإدارة القضايا الإنسانية. بَيْدَ أن هذه التوصيات لم تر النور؛ لأن دول الجوار التي تقف خلفها لم تكن محايدة، بل كان لها أجندتها المتقاطعة مع الطرفين المتحارب من طرف، ومع مصالحها الاستراتيجية المتعارضة في السودان من طرف آخر. والدليل على ذلك أن إثيوبيا لم تطمئن لقيادة مصر لمبادرة دول الجوار لحل الأزمة السودانية، خوفًا من ترجيح كفَّة مصر في نزاع سد النهضة، ولذلك دعا أبي أحمد إلى ربط مبادرة دول الجوار بالمبادرة الإقليمية للاتحاد الإفريقي و"إيغاد، والتي رفضها الجيش السوداني لاحقًا.
مساندة جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي
اختصر دور جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي في معالجة الأزمة السودانية على إبداء نوعٍ من الاهتمام العام، وحث أطراف الأزمة على الاحتكام إلى صوت العقل، وإيقاف الحرب المدمرة لبنيات السودان التحتية والمشردة لمواطنيه العزل. وكذلك الإشادة بالمبادرات التي أصدرها منبر جدة، والهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد)، والاتحاد الإفريقي، ودول الجوار في أوقات مختلفة وبأجندات متقاطعات؛ لكنهما لم يقدما مبادرات بعينها، أو يسعيا إلى مناقشة المبادرات الصادرة من جهات أخرى وطرح آليات لتنفيذها على أرض الواقع. ولذلك حصرا دوريهما في الإشادة والمناشدة أكثر من أن يكون لهما دور بارز في طرح الحلول الممكنة وإنشاء الآليات المنفذة لها. والشاهد على ذلك ترحيب منظمة التعاون الإسلامي بالتوقيع على إعلان جدة في 11 مايو 2023م، والذي يقضي بإلزام طرفي الحرب بحماية المدنيين وتوصيل المساعدة إليهم. ولذلك نلحظ أن حسين إبراهيم طه، الأمين العام للمنظمة، "قد أعرب عن أمله في أن يكون "إعلان جدة خطوة مهمة في سبيل إنهاء النزاع المسلح في السودان"، وتعزيز "الأمن والسلام والاستقرار." كما أشاد "بجهود المساعي الحميدة التي بذلتها المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية" في جمع طرفي الحرب للتفاوض في جدة، والتوصل إلى إعلان المبادئ المشار إليه، ونوه إلى "أهمية التزام الأطراف الموقعة ببنوده؛ لضمان وصول المساعدات الإنسانية والصحية للمتضررين" الذين يعانون من سوء أوضاعهم الإنسانية في السودان.
الخاتمة: الحلول الأطروحات والتحديات
يعكس واقع المبادرات الَّتي طُرحت في الفترة من مايو 2023 إلى ديسمبر 2024 م، لمعالجة الأزمة السُّودانيَّة أنَّ الحلول الممكنة للأزمة كانت تسير عبر مسارين متقاطعين. أحدهما، مسار منبر جدَّة، الَّذي يهدف إلى الاتِّفاق على هدنٍ قصيرة الأجل لتسهيل وصول المساعدات الإنسانيَّة، ثمَّ اتِّخاذ الإجراءات اللَّازمة لإيقاف الحرب بصفة مستدامة، دون التَّطرُّق إلى المشكلات السِّياسيَّة الَّتي أفضت إلى اندلاعها. وثانيهما، مسار الحلِّ السِّياسيِّ، الَّذي تبنَّاه الاتِّحاد الإفريقي بالمشاركة مع الهيئة الحكوميَّة للتَّنمية (إيغاد) وكذلك دول الجوار، بهدف معالجة جذور المشكلات السِّياسيَّة الَّتي أفضت إلى اندلاع الحرب عن طريق إجراء لقاءات ثنائيَّة مع طرفي الحرب، وإشراك الأحزاب والقوى السياسية ومنظَّمات المجتمع المدنيِّ في ذلك. لكن كلا المسارين قد اصطدما بخمسة أنماط من التَّحدِّيات الرَّئيسة. أوَّلها نابع من واقع الدِّيناميَّات السِّياسيَّة والعسكريَّة المحرِّكة لطرفي الصِّراع (الجيش والدَّعم السَّريع) في السُّودان وخارجه، والقائمة على مفهوم حسم المعركة "بالضَّربة القاضية" دون الحاجة إلى "نقاط طاولة التَّفاوض"؛ وثانيها متعلِّق بتضارب أهداف المبادرات وأجنداتها الَّتي طُرحت، وضعف الآليَّات المقترحة لتنفيذها؛ وثالثها متَّصل بتعارض مصالح الوسطاء الاستراتيجيَّة على مستوى علاقاتهم الدَّوليَّة المتقاطعة مع السُّودان، والَّتي بموجبها تحدِّد مواقفهم تجاه طرفي الحرب. ورابعها تعدُّد منابر المبادرات وغياب الآليَّة الَّتي تنسِّق بين أهدافها وأجنداتها وتنظيم اجتماعاتها والمخرجات المتوقَّعة منها. وخامسها بروز روح التَّنافس بين أصحاب المبادرات أنفسهم؛ لأنَّ كلَّ منهم يضع في أجندته الخفيَّة مصالحه الاستراتيجيَّة الَّتي يمكن أن يحقِّقها إليه انتصار أحد طرفي الحرب سياسيًّا أو عسكريًّا في موطن الأزمة، دون النَّظر في آثار التَّنافس السَّلبيَّة، الَّتي أفرغت بعض المبادرات من حيادها الإيجابيَّ، الَّذي يمثِّل قاسم الإقناع المشترك لطرفي الحرب وتفعيل درجة استجابتهما لها. ولهذه التَّحدِّيات مجتمعةً قد عجزت المبادرات والوساطات المشار إليها عن وضع حلول ممكنة لحلِّ الأزمة السُّودانيَّة.