array(1) { [0]=> object(stdClass)#13667 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 207

حميدتي محور التدخل الأجنبي واستهداف العرب في السودان بإحلال عناصر إفريقية زنوجية الثقافة

الخميس، 27 شباط/فبراير 2025

احتدمت الأزمة السياسية في السودان أواخر سني حكم الرئيس البشير، واشتد أوارها منذ ثورة الشعب السوداني في 2018م، وما تبعها من تطورات وتدخلات، الأوساط العربية والإفريقية والدولية. وتُعد هذه الأزمة أخطر ما واجهته الدولة السودانية منذ انفصال الجنوب، وهي تُجسِّد مجموعة من التحديَّات على النحو التالي: 

 أولاً-حدود التحديات والتهديدات التي تواجهها السودان ودول الجوار

1-احتمال تفكك الدولة وتقسيمها إلى أقاليم تسودها الفوضى، فضلاً عن سيطرة قوة من الميليشيا على العاصمة، وهي المعبّر عن مركزية الدولة ثقافيًا وسياسيًا، وهي قلب المعمور السكاني للتوجه العربي الإسلامي.

2-جلب عناصر سكانية غير كاملة التعريب ويشوب إسلامها شطحات العنف تحت مسمى جهادي غير صحيح، وهي عناصر سكانية تسللت من وسط وغربي القارة الذي سمي على مدار الحضارة العربية / الإسلامية السودان الأوسط والغربي، ويزعم هؤلاء أنهم من أسس حضارة وادي النيل في مصر والسودان في العصور القديمة، وأنهم من بنوا أهرامه مما تدعيه جماعات من الأفرو-أمريكانز Afro-Americans وتروِّج له تحت مسمَّى النظرية المركزية الإفريقية Afrocentrism.

3-فتحت اضطرابات ما بعد الثورة المجال للتدخل الأجنبي القائم على تقاسم غريب لنفوذ قادة دول مثل الإمارات وإثيوبيا وبقية دول الجوار، فضلاً عن روسيا "مجموعة فاجنر"، والولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية، والتي تعمل من منظور استراتيجي شامل يربط بين الشرق الأوسط وإفريقيا، ويصبُّ في المشروع الشرق أوسطي وبرامج التطبيع مع إسرائيل. وذلك في نوع من إحداث رجَّات لنظم الحكم القائمة في البلاد العربية لاقتيادها إلى المخطط الكبير لشرق أوسط صهيوني وقارة إفريقية خانعة.

4-أدَّى التقدم الذي أحرزته قوات الدعم السريع إلى تحدٍ كبير للشعب السوداني كان يوشك لو انتصر أن يغير البنية الديموغرافية للمواطنين السودانيين العرب، ويؤدى إلى اختراق أجنبي كبير يمتد من مضيق باب المندب وسواكن عبر السودان إلى جبل عامر للذهب الذي يسيطر عليه الدعم السريع، متقاطعًا مع النفوذ الروسي في شرق ليبيا ودول غربي إفريقيا، لا سيما بعد سلسلة الانقلابات في دول الصحراء الكبرى.

5-ولو اتحدت نتائج هذه التحديات والتهديدات التي يواجهها السودان فإن النفوذ الإثيوبي سوف يتضاعف في شرقي السودان، وبصفة خاصة في إقليم الفشقة الذي يقع على الحدود، ويحتوي على خمسة ملايين فدان من أخصب الأراضي الزراعية. لتصبح إثيوبيا بذلك صاحبة القول المعلَّى في الشأن السوداني، وتتمكن بالتالي من مدِّ هيمنتها في القرن الإفريقي وحوض النيل، مما ستكون له نتيجتان كبريان: الأولى، الانفراد بالهيمنة على الإقليم مع زعزعة دوله المنتمية إلى جامعة الدول العربية الصومال، جيبوتي، السودان. والثانية، فرض مشيئتها في كافة مسائل قضايا مياه النيل، وهذا يشكِّل تهديدًا وجوديًا للسودان ومصر.

6-ومع وجود أربعة ملايين إثيوبي بالسودان، فضلاً عن قرابة مائتي ألف مقاتل من مهاجري غربي إفريقيا جرى تجنيدهم في الدعم السريع، فقد جرت عملية إخلاء السودان من السكان قسرًا، وتجريف العاصمة ومنازلها من المواطنين، وتخريب المنشأت والأعيان المدنية والحكومية، مما دفع السودانيين إلى الهجرة إلى الجهة الوحيدة التي رأوها آمنة وهي مصر، ومن ثمَّ تحول قسم من التحديات التي يواجهها السودان مباشرة إلى الدولة المصرية.

    لذا فإن ما يجري بالسودان ليس صراعًا بين الجيش الوطني وقوات الدعم السريع، بل هو مخطط إجرامي يستهدف دولة عربية ويحل مكان سكانها مجموعات إفريقية الطابع وزنوجية الثقافة تنتمي إلى غرب القارة أكثر من انتمائها إلى سودان وادي النيل، وهذا في حد ذاته يشكل كارثة أفضت إلى عمليات اغتصاب لحرائر السودان اللائي لم يجربن هذه الانحرافات العنصرية من قبل.

    ولعلَّ هذه التحديات تستدعي البحث المعمَّق في أسباب الأزمة السودانية على النحو التالي:

ثانيًا-أسباب الأزمة السودانية

     ترجع أسباب الأزمة السودانية إلى عوامل عدَّة يمكن تركيزها فيما يلي:

1- تعقيدات نظام الحكم، حيث ورث السودان نظامًا ديمقراطيًا يقوم على الانتخابات منذ فترة الحكم الذاتي (1953- يناير 1956م)، والتي أسفرت عن هيمنة أحزاب سياسية مثل حزب الأمة والحزب الاتحادي، وهما يستندان إلى روابط قبلية واجتماعية، فالحزب الأول، تهيمن عليه طائفة الأنصار (المهديين)، وأغلب انتشارها في الجزيرة وغرب السودان، والثاني تسيطر عليه الطائفة الختمية، وأغلب أنصارها في الشمال والوسط، مما أدَّى إلى تبرم من القوى الجديدة من المثقفين والذين بدأوا في البحث عن مكونات سياسية معاصرة، هذا فضلًا عن إهمال العمل السياسي في الجنوب المتسم بشيوع التجمعات العرقية المتصارعة.

2-أدى احتكار الحزبين السابقين للسلطة وتناوبهما على المناصب العليا إلى إفراز تجليات أيديولوجية: كالليبراليين والشيوعيين والإسلاميين. وقد عمل هؤلاء على بناء هياكل من الأتباع تقوم على الأفكار الحديثة على سبيل النكاية في الحزبين التقليديين السابقين، ولو أدَّى ذلك إلى تبنِّي أفكار لا يؤمن بها الشعب السوداني مع فرضها على الواقع الاجتماعي عبر الصحافة والإعلام ووسائل الاتصال الحديثة.

3-اللجوء إلى الجيش الوطني كل مرحلة تاريخية متأزمة، وذلك لأن روابط الانتماء في الجيش تكون للوطن وليس للطائفة أو القبيلة او الإقليم، ولكن يعمل الحزبيون على توظيف الجيش من وراء الستار لإحداث التغيير بعيدًا عن صناديق الانتخاب، وذلك كما حدث فيما يلي:

أ-عام 1959م، سلّم الفريق أول عبد الله خليل-رئيس وزراء السودان في ذلك الوقت والمنتمي لحزب الأمة-السلطة للفريق إبراهيم عبود قائد الجيش، ومع ذلك فإن الحزب نفسه هو الذي قاد الشارع السياسي ضد الفريق إبراهيم عبود عام 1964م.

ب-دبّر القوميون والشيوعيون انقلاب جعفر نميري عام 1969م، تخلصًا من حكومة الصادق المهدي زعيم حزب الأمة.

ج-رتَّب الدكتور حسن الترابي (الإخوان المسلمين) لانقلاب عمر البشير ليبدأ حكمًا يقوم على أيديولوجية الإسلام السياسي المنافية لفكرة الممارسة الديمقراطية التي يريدها الشعب السوداني، ومن سوء حظ السودان أن هذه المرحلة الإسلاموية امتدت قرابة الثلاثة عقود، وسادتها درجات من العنف المجتمعي والكبت السياسي وملاحقة الأحزاب الأخرى، وتحويل الممارسة السياسية من الرأي، والرأي الآخر إلى أحكام تستند إلى معطيات الرؤى الإسلاموية بغض النظر عن المصالح الوطنية.

د-كانت خاتمة ممارسات نظام البشير (رئيس الدولة) والترابي (رئيس البرلمان) هي صدام بين الرجلين المنتميين للجبهة الإسلامية القومية، انتهى بعزل الثاني، ومن ثم غلبت القبضة العسكرية على القبضة الأيديولوجية، وهنا قرر البشير تجنيد عناصر من القوى الاجتماعية الإسلاموية، واستخدامها ضد الخصوم الأمر الذي جعل الصراع الاجتماعي في دارفور صراعًا دمويًا اضطر المجتمع الدولي على أثره إلى إصدار قرارات بالتدخل لوقف العنف وتقديم الإغاثة في دارفور (القوة الهجين أممية وإفريقية).

    وهنا رأى البشير تشكيل قوات الدعم السريع كقوات عسكرية غير نظامية، ومن ثم أصبح بالسودان ثلاثة أنواع من القوات العسكرية: قوات المتمردين الذين يحملون السلاح ضد الحكومة في دارفور، وقوات الدعم السريع وهي ميليشيا اجتماعية مالت إلى تجنيد المتحدثين بالعربية من الأفارقة سواء من داخل السودان أو من خارجه، وأقحمت هؤلاء في مجازر ضد المواطنين، وأخيرًا الجيش السوداني الذي سحب منه البساط وسار الاهتمام به محدودًا، كما صار سلاحه متخلفًا قياسًا إلى الفريقين السابقين. فالفريق الأول مدعوم من دول الجوار الإفريقية، والفريق الثاني مدعوم من الدولة نفسها حيث غدا الجيش السوداني يدبر أموره بميزانية تقل عن ربع ميزانية الدعم السريع. وصارت كلمة الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي-وشعبيًا حميرتي) مسموعة في كل قرار، رغم أميته وكونه فريق ميليشيا وليس نظاميًا، إذ لم يمر على أية كلية عسكرية.

4-على هذا النحو تيسر للقوى الأجنبية بقيادة الولايات المتحدة فرصة التدخل وفرض التسوية السياسية التي أدت إلى انفصال جنوب السودان بعد حرب أهلية استمرت من عام 1955م، حتى عام 1972م، وتواصلت من عام 1983 إلى عام 2009م، وفي هذا العام الأخير جرت عملية فصل جنوب السودان فصلاً نهائيًا عن الدولة بعد استفتاء شكلي، وبعد اغتيال القائد الجنوبي د.جون جارنج الذي كان مؤيدًا للوحدة.

     وبذا فإن الضغط في غربي السودان أسفر عن استسلام البشير لانفصال الجنوب، وأدى هذا إلى نتيجتين: الأولى توجيه اللوم للرئيس وللحركة الإسلاموية من المجتمع المدني الذي ينشد حكمًا مدنيًا ديمقراطيًا، والثانية انحسار الاهتمام الدولي بدارفور مع إبداء الرغبة في محاكمة القيادات السودانية أمام محكمة الجنايات الدولية.

ثالثًا-الثورة السودانية

بعد انفصال الجنوب تعالت المطالبة بالتغيير السياسي واسع النطاق، وتنحية النظام بكامله عن الحكم وإجراء انتخابات حرة وشفافة تعود بالأحزاب السياسية إلى الحكم وفقًا لقواعد الممارسة الديمقراطية والحكم المدني، وعدم تدخل الجيش في السلطة. ومن واقع الانتقال السياسي السوداني المتكرر بين حكم مدني وآخر يوصف بأنه عسكري، فإن الأحزاب السياسية ذاتها هي التي أفضت لقيام الحكم العسكري، وذلك على اعتبار أنه الأكثر تمثيلاً للمجتمع السوداني، والأقل انخراطًا في الارتباطات القبلية والطائفية. وقد حاول نظام البشير الالتفاف على مطالب المجتمع المدني بتشكيل "لجنة للحوار الوطني" لتخفيف الضغوط على الحكم، وهي اللجنة التي سماها المواطنون لجنة "الحمار الوثني"، وعانت الحكومة في هذا الوقت من مضاعفات فقدان عائد بترول الجنوب الذي كان يشكل ثلاثة أرباع إنتاج السودان والمورد الرئيس لقوة النظام.

    على جانبٍ آخر فإن حكومة الجنوب وجدت نفسها بصدد حكومة في جنوب السودان قتلتها لعشرات السنين، وصارت تهيمن على الأحواض النهرية في بحر الغزال وبحر الزراف وبحر الجبل وبحر العرب ومشار، كما فقد السودان اتصاله الأرضي المباشر بحوض نهر سميلكي المشترك بين النيل والكونغو، والذي كان يمكن أن يجلب عشرات المليارات من الأمتار المكعبة من المياه للسودان ومصر، كما صارت هناك منازعة بين السودان وجمهورية جنوب السودان الوليدة على إقليم أبيي، وأدى هذا إلى حمل السلاح وإن كان بشكل أقل وتواصل الرافضين للبشير في جنوب السودان وفي دارفور.

   وقد لجأ الرئيس البشير إلى أسلوب استقطاب قيادات من الأحزاب المختلفة، ومنحها مناصب عليا في الدولة، الأمر الذي أدى إلى درجات متفاوتة من الخلل في الروابط الداخلية لكل حزب بين منْ تعاون مع النظام ومنْ رفض.

    ولم تؤد هذه المعالجات جميعًا إلا إلى انفجار الأوضاع في المجتمع السوداني وصار طلاب الجامعات وقودًا مقدمًا للثورة، الأمر الذي دعى البشير إلى تكليف قوات الدعم السريع إلى التدخل، فاقترفت مجازر شتى لا سيما في عام 2013م. بعد أقل من عامين على انفصال جنوب السودان، ومن الواضح أن السودان ورغم أنه قد غادرته أقلية غير مسلمة، فإن المجتمع المسلم لم يتوافق على ما كان يعتبره الجنوبيون عودة إلى الوراء. فقد رأت الأحزاب الشمالية ذاتها أن استمرار النظام انتكاسة ديمقراطية.

    كما توصلت لجنة الحوار الوطني إلى مطالبة الرئيس بطرح مبادرة وطنية تنتهي إلى دستور ديمقراطي، وإلى انتخابات حرة يقرر فيها السودانيون ما يشاؤون، وهو ما رفضه الرئيس رفضًا باتًا.

    وقد أدت أحداث الربيع العربي التي اجتاحت عددًا من دول المنطقة إلى إتاحة فرصة للشباب السوداني لتكرار نماذج توظيف وسائط التواصل لإرباك النظام، ونجحت في هذا نجاحًا باهرًا، وصارت الدولة تعاني من أزمة شرعية، كما أصبح الاقتصاد الوطني يعاني الهشاشة إلى الحد الذي صارت الأطراف كافة مطالبة بالبحث عن مخرج.

   ومع مأزق البشير ونصائح الحادبين على السودان والكارهين لنظامه على السواء أصبح من المهم أن تحدد الأطراف المختلفة موقفًا وجرى ذلك على النحو التالي:

أ-التزمت القيادات العسكرية بموقف وطني نبيل طالما اعتادت أن تقفه إزاء حالات ضعف السلطة المركزية وذلك بالتدخل للحفاظ على الدولة وليس النظام، والعمل على بقاء السودان وعدم تفتته إلى شظايا إقليمية، ودعوة كل من يحملون السلاح إلى الجلوس معًا والتفاهم لبناء السودان الجديد، تكون الكلمة فيه للمواطن وليس للجبهة الإسلامية الحاكمة والتي يقودها حزب المؤتمر الوطني.

ب-أدركت قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو أنها ستسقط مع البشير إذا سقط، وأنها ستفقد الامتيازات التي منحها إياها والتي وفرت لها أموالاً طائلة عبر الاستثمار في المناجم، لاسيما جبل عامر في دارفور، والذي مكنها من شراء الأسلحة بالتعاون مع قوى إقليمية مثل دولة الإمارات التي كانت تحصل على ناتج التعدين من معادن نفيسة مقابل ما تقدمه للدعم السريع من سلاح. وفي نفس الوقت فإن قوات الدعم السريع التي أنشأها البشير من قيادات غير نظامية ولم تتخرج في الكليات العسكرية، وكان أفرادها من ميليشيات شعبية من دارفور (الجنجويد) لا تستطيع أن تقف وحدها في مواجهة شعب ثائر، وعلى ذلك قام قائد الدعم السريع بمناورة كبرى، حيث اتفق على دعم إزاحة البشير واتخاذ ذات الموقف الذي يتخذه الجيش السوداني.

ج-أما الأحزاب السياسية فقد حاولت لملمة شعاثها وتوحيد صفوفها المهترئة، وسعت إلى تأييد الثورة الشعبية مع دعوة الجيش إلى التدخل وإعلان فترة انتقالية معبرًا إلى عودة الديمقراطية. وبهذا صار الطريق أمام القوات المسلحة معبدًا فقامت باتخاذ خطوة استلام السلطة وبدأت في الإعداد لمرحلة الانتقال إلى دستور جديد وانتخابات برلمانية.

    تقاطع مع هذا كله تدخل إقليمي ملحوظ من كل من إثيوبيا وجنوب السودان وتشاد، ولكن الأخيرة انشغلت باغتيال رئيسها إدريس ديبي وتولي ابنه محمد السلطة، وأما إثيوبيا فأطلقت ميليشياتها -الشفتا-في شرق السودان والعاصمة، وعملت مع عددٍ من القوى الدولية وعلى رأسها بريطانيا والولايات المتحدة لتعطيل المصالح، ولعل ذلك التدخل كان السبب في تأخر توافق السودانيين على الإجراءات التي من شأنها ضمان تحديد الفترة الانتقالية ومدتها وتوقيتات التحول إلى نظام مدني ديمقراطي عبر إعداد دستور جديد. ونجحت هذه القوى في لفت انتباه الدكتور عبد الله حمدوك الذي اختاره الجيش والمدنيون بتوافق تام لرئاسة الوزارة. فبدأ في الاستجابة للمتطاولين على الجيش الذي أنقذ البلاد من موقف الانهيار وشجع استمرارهم في تعطيل العمل والسيطرة على الشارع والحيلولة دون الوصول إلى أي تقدم في المسار السياسي. وقام الدكتور حمدوك باختيار عناصر مدنية كبيرة السن غير قادرة على التجاوب مع الوضع الثورى، كما قام بإيلاء اهتمام خاص بالشباب صغير السن الذي أمسك بالإعلام وبالشارع السياسي، والأخطر من ذلك أنه استعان بعدد من العاملين بالسفارة البريطانية كمستشارين غير معلنين الأمر الذي أغضب القوات المسلحة إلى أبعد مدى.

 والخطير في الأمر أن قلة الدراية السياسية لمحمد حمدان دقلو قائد الدعم السريع دفعته إلى قرارين خطيرين: الأول منهما استخدام القوة ضد الشباب المتظاهر على نحو ما كان يفعل زمن البشير، والأمر الثاني اتخاذ إجراءات لدعم قوات الدعم السريع في العاصمة السودانية بمزيد من الدعم من دول الجوار الغربي؛ بوركينا فاسو وتشاد ووسط إفريقيا والنيجر ومالي. حيث قامت هذه القوات بالسيطرة على مقرات الدولة السودانية بدءًا من ليل 13 أبريل 2023م، وأتمت حصار القيادة والقصر الجمهوري في 15 من نفس الشهر. كما نشرت بعض القوات في اتجاه الأقاليم المختلفة لمنع تقدم أي دعم للجيش السوداني، وبذا تأكد للجيش السوداني أنه بصدد مؤامرة إقليمية ودولية للسيطرة على الدولة السودانية. وبذا تفجرت الأوضاع في السودان لتصبح صراعًا بين الجيش الوطني الأقل تسليحًا والأقل عددًا (120 ألف مقاتل) وبين ميليشيات الدعم السريع الأكثر تسليحًا، والأكثر عددًا (180 ألف جندي مقاتل)، والأسوأ أنه مجرد الهجوم على القيادة العامة تم حصار الفريق البرهان، ومن ثم تعطلت آليات التوجيه العسكري لقوات الجيش.

     وبذا تأخر حسم المعركة، حيث كان الجيش عاجزًا عن هذا الحسم للشهور الأولى للحرب، وذلك اقتضى منه أن يتخذ مجموعة قوية من المراكز يتحصن بها ويدافع عنها، مكبدًا قوات الدعم السريع المهاجمة خسائر فادحة، ريثما يقوم بإعداد قوات أخرى للهجوم وترتيب الأوضاع وتثوير الشعب السوداني ضد قوات الدعم السريع، بعدما استبان اقترافه لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وممارسته للسطو المسلح والقتل على الهوية، ناهيك عن الاغتصاب، وهذه أمور لم يعرفها الشعب السوداني على الإطلاق حتى في إطار عشرات السنين من المواجهات مع جنوب السودان.

    وقد نجح الجيش السوداني في امتصاص الهجمات التي قام بها الدعم السريع بسحب قواته إلى مناطق حصينة، ومن ثم طالت خطوط مواصلات الدعم السريع وتشتت قواته على المواقع وأمكن لمدافعي الجيش أن يكبدوه خسائر فادحة. وبعد مضي عام من الحرب بدأ الجيش في عملية الكرّ على قوات الدعم السريع وتصفيته لأهم مراكزه حتى دانت له الأقاليم الشرقية والشمالية، واستلم العاصمة في يناير عام 2025م. ولا شك أن الفارق كان كبيرًا في خبرة إدارة المعارك بين قادة قوات الجيش الذين تخرجوا من كليات عسكرية راقية، وبين سفّاكي الدعم من الميليشيات شبه الرعوية. ومن ثمَّ طاردت قوات الدعم السريع في دُرة المناطق التي استحوذوا عليها في العاصمة ومنطقة الجزيرة، وبتحرير ود مدني فتح الطريق إلى المعقل الأخير لقوات الدعم السريع في الجزيرة. والآن ينحسر وجود الدعم السريع من الأقاليم، حيث يتوقع تمركز بقاياه في دارفور معقله الأول.

رابعًا-الأزمة والأمن الإقليمي

شهد الصراع في السودان تدخل دول الجوار بشكل أو بآخر وفتح شهية إثيوبيا بصفة خاصة للمطالبة بميناء سيادي في الصومال، مما استتبع مواقف رافضة سواء في السودان وإريتريا والصومال ومصر، إلى الحد الذي تَشكّل فيه تحالف استراتيجي ضد المطامع الإثيوبية. وعلى جانب آخر تفاقم الصراع القديم في كل من تشاد وجنوب السودان وإثيوبيا ذاتها، وذلك عكس ما كانوا يأملون، وثبّتت مصر موقفها كداعم رئيسي لدول المنطقة العربية.

وقد جذب الصراع دول الجوار الإقليمي للتدخل في الشأن السوداني، بل ومحاولة التربح منه بما في ذلك بعض القوى عبر البحر الأحمر وعبر البحار. ويمكن القول بأن التدخلات الإقليمية والدولية كانت تسعى للوصول إلى ما أتيح من ثروات سودانية يمكن اقتطافها بسرعة، فثمّ تدخل إثيوبي لمحاولة استعادة منطقة الفشقة الخصيبة والتي كانت إثيوبيا تستأجرها من نظام عمر البشير مقابل منح ومزايا على بحيرة تانا، وتنسيق استخباراتي ضد القوى المعادية للنظامين الإثيوبي والسوداني، فاندفعت ميليشيات الشفتا إلى المنطقة بيد أن الجيش السوداني تمكن من تكبيدها خسائر فادحة بمعاونة مصرية كانت ملحوظة. وسعت الإمارات إلى انتهاز الفرصة لزيادة وجودها في سواكن على البحر الأحمر في شرقي السودان، وأيضًا في أقصى غرب السودان، حيث اتخذت مواطئ قدم لانتهاز الفرصة للقيام بعمليات تهريب واسعة النطاق للذهب من جبل عامر. ومع إبداء الجيش السوداني رفضه لهذا الوضع، قام بنقل الحكومة من الخرطوم المحاصرة إلى ميناء سواكن ليحول دون استشراء النفوذ الإماراتي في الميناء الشرقي، مما دفع الإمارات إلى التركيز في دارفور وبالقرب من جبل عامر، ومن ثم زاد انكشافها أمام الجيش والرأي العام السوداني.

واتخذت الإمارات مواطئ قدم لها في تشاد واستمرت في نقل الذهب إلى مطار غير رسمي فيها، كما حرصت على دعم وجودها حول ميناء سواكن. كان ذهب جبل عامر هو المكافأة التي تناولتها الإمارات من الدعم السريع مقابل ما سلمته لها من أسلحة، وذلك مثلما كان هذا التسليح مكافأة للدعم السريع نظير ما قدمه من خدمات أثناء الحرب ضد الحوثيين في اليمن.

على جانب آخر، فقد حاولت قوات فاجنر الروسية الموجودة في شرق وجنوب ليبيا نيل نصيب من ذهب جبل عامر مقابل مزيد من الأسلحة للدعم السريع، وذلك في وقت كانت فيه روسيا تعمل من بنغازي على ضمان وجود لها في ميناء سواكن السوداني على البحر الأحمر وكانت مناطق ما يلي الميناء هي نقاط اتصال مع فاجنر لتسليم أسلحة للدعم السريع لدعم موقفها ضد الجيش السوداني في شرقي السودان وفى الخرطوم.

وكانت مصر من أقوى الأطراف دعمًا للجيش السوداني رغم تردي أوضاعه العسكرية. ففضلًا عن حسن استقبال المواطنين السودانيين على الأراضي المصرية، تلقى الجيش السوداني من الدعم المعلوماتي ومن التسليح ومن التدخل المباشر في الأوقات الحاسمة لمنع الانهيار العسكري الشامل. كما تواصلت الجهود المصرية لمحاولة احتضان السياسيين السودانيين في مصر والتأليف بينهم وطرح مبادرة سودانية للتوافق على حل سياسي للأزمة تدور على محور أساسي هو وحدة السودان وسلامة أراضيه ورفض التدخل الخارجي وتبني موقف الدعم للقوات المسلحة، ورفض عمليات العنف ضد المدنيين السودانيين من قبل عصابات الدعم السريع. وقد عملت الدولة السودانية في هذا المأزق التاريخي على إبراز وحدة الشعب السوداني مع الجيش ضد جنجويد حميدتي وتأكيد الرغبة الجامحة لتخليص السودان من المقتحمين لأرضه من الأفارقة، ومن العناصر المسلحة التي حملت السلاح ضد الدولة. ومن الملاحظ أنه كان يتقاطع مع هذا كله تحرك من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ومن ورائهما قوات الناتو لمنع انهيار قوات الدعم واستمرار الأزمة.

وقد تمثل هذا المحور في قواعد القوات الأجنبية في جيبوتي، والعمل من خلال أديس أبابا مباشرة وصولاً إلى أماكن قوات الدعم السريع مع تكليف المبعوث فولكر بأن يعمل من قلب الخرطوم في وسط السودان على قلب ظهر المجن للجيش السوداني وتحريض قطاعات واسعة من السياسيين الذين فرضوا أنفسهم على المجتمع المدني السوداني لتحريضه على إحراج الجيش، وتوجيه دعم غير مباشر من خلال عدة فعاليات كان أبرزها قوى الحرية والتغيير (قحت) ومن بعدها (تقدم)، وكان المحرك في الصدارة هو الدكتور عبد الله حمدوك، الذي كان موظفًا دوليًا لثلاثة عقود، وكان يتصرف كموظف غربي.

ومن ثم يمكن القول بأن التدخلات الأجنبية كان محورها محمد حمدان دقلو (حميدتي) الذي شكّل مجمع المصالح الخارجية ومؤشر التقسيم للوطن السوداني. وقد عملت المملكة العربية السعودية على تأسيس منبر جدة لمحاولة حل الصراع عبر التفاوض، ورغم الاتفاق المبدئي على إيقاف القتال وانسحاب قوات الدعم السريع من الأعيان الحكومية والمدنية، فإن قوات الدعم السريع نكثت بعهودها رغم تعدد جلسات منبر جدة، الأمر الذي جعل قادة الجيش يقررون إخراج كل من يحمل السلاح من القتال بكل الوسائل مع فتح نافذة لمن يريد أن يتراجع عن موقفه وينضم للجيش والشعب السودانيين.

وقد لاحت في الأفق بوادر حملة الجيش السوداني على مواقع سيطرة الدعم السريع وإخراجه من شمال وشرق السودان ومن منطقة الجزيرة ومن الخرطوم. ويشكل التقدم الذي حدث في الخرطوم في الأسابيع القليلة الماضية -منذ مطلع العام-ملمحًا مبشرًا باقتراب الحسم العسكري، وانطلاق عودة اللاجئين السودانيين في مصر وإثيوبيا وجنوب السودان إلى ديارهم، دليلًا على قناعة الشعب السوداني بالمسار الذي اتخذه الجيش السوداني.

ويبدو أن دارفور قد تحتاج بعض الوقت حتى يتم التحرير الكامل لمدينة الفاشر العاصمة، وأنها ستكون آخر نقطة يخرج منها رجال الدعم السريع، وهي التي كانت أول نقطة يدخلون منها إلى قلب العاصمة.

مجلة آراء حول الخليج