إن عملية تحري المستقبل في أي مكان تقوم على دراسة واقعية لكافة العوامل الممكنة والتي تشكل في مجموعها محددات شكل ذلك المستقبل المتوقع. وهذه العملية تسمى بناء السيناريوهات، أي أن شكل مستقبل معين يقوم على وجود مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية بحيث تجتمع هذه العوامل وتتفاعل مع بعضها البعض لتشكل وضعًا مستقبليًا معينًا.
الهدف من بناء السيناريوهات هو رسم صورة مستقبلية حقيقية، وذلك من خلال الكشف عن المعلومات الخفية التي لا تظهر في الإعلام والكشف عن الفرص والمخاطر وتتحدى الفرضيات القصيرة النظر بالاعتماد على مصادر البيانات المختلفة لتوسيع مدى التفكير من أجل الوصول إلى العناصر والعوامل التي تشكل صورة واضحة للمستقبل. كما أن الهدف هو تحديد العناصر والعوامل التي تشكل الصورة المستقبلية المرغوبة لصانع القرار وذلك من أجل تعظيم فرص حدوثها وتركيز العمل على خلق عوامل تتفاعل بشكل إيجابي لتحقيق ذلك السيناريو. بالمقابل، تهدف عملية بناء السيناريوهات إلى تحديد السيناريوهات غير المرغوبة والعمل على إضعاف العوامل والعناصر التي تؤدي إلى تلك السيناريوهات.
من هذا المنطلق فإن وضع سوريا المستقبلي سيعتمد على وجود مجموعة من العوامل المتفاعلة مع بعضها لتشكيل سيناريو معين. هناك ثلاثة سيناريوهات لمستقبل سوريا: سيناريو التفاؤل وسيناريو التشاؤم وسيناريو ركود الوضع القائم.
قبل التعرض لهذه السيناريوهات من المفيد وصف الوضع القائم في سوريا وخلفياته التاريخية.
سوريا لم تتكون ككيان طبيعي، ولكن، كباقي دول العالم الثالث رسمت أثناء الاستعمار وحسب ما تقتضيه مصلحة المستعمر. لقد تحددت أراضي سوريا ضمن اتفاقية سايكس/ بيكو عام 1916م، والذي تقاسمت فيه فرنسا وبريطانيا بلاد الشام. وكانت سوريا من نصيب المستعمر الفرنسي. أثناء الاستعمار حاربت جميع القوى الوطنية السورية ضد الاستعمار. مسلمون ومسيحيون ودروز، أما الأكراد فكانوا مهاجرين جدد هاجروا من تركيا منذ عشرينيات القرن الماضي. لذلك لا يوجد لهم ذكر في الحرب على الاستعمار، ولكن برز قادة منهم في المجال السياسي بعد الاستقلال.
استقلت سوريا عن الاستعمار الفرنسي في 17 أبريل 1946م، ولكن منذ الاستقلال وإلى اليوم عانت سوريا من فترات طويلة من عدم الاستقرار السياسي وطغيان الأيديولوجيا على العقلانية في صنع القرارات السياسية. هذا الوضع الذي تسعى السلطات الحالية إلى تغييره وترسيخ الاستقرار وحكم القانون. هؤلاء القادة الذين ثاروا على حكم فردي وطائفي دام لفترة طويلة جداً يسعون إلى صناعة أجواء من التفاؤل نحو سوريا الجديدة.
هذا يقودنا إلى دراسة السيناريوهات المختلفة وإمكانية تحقق كل منها.
سيناريو التفاؤل
هذا السيناريو والذي يسعى النظام الجديد إلى تحقيقه سينتهي بسوريا مستقرة ذات اقتصاد منتج وعملية سياسية سلمية تتشارك فيها كافة فئات المجتمع السوري وإقامة علاقات إقليمية ودولية تقوم على العقلانية والمصالح المتبادلة. لهذا السيناريو أن يتحقق، يجب أن تتوافر مجموعة العوامل التالية:
أولاً: نجاح العملية السياسية والتي بدأت بمؤتمر للحوار الوطني الذي عقد في 24 و25 من فبراير الماضي وهدف إلى تعزيز التفاهم بين مختلف الأطياف السورية وتحقيق العدالة الانتقالية، وإطلاق حوار وطني شامل يضمن مشاركة الجميع في صنع القرار السياسي والتوصل إلى خارطة طريق سياسية شاملة للمرحلة القادمة.
كما يتضمن نجاح العملية السياسية كتابة دستور جديد. لقد تم تشكيل لجنة دستورية في الثاني من مارس الحالي من مجموعة من الخبراء الحقوقيين لكتابة "إعلان دستوري" مع التأكيد أن هذا فقط لسد الفراغ الدستوري وليس بديلاً عن دستور دائم. تتبقى عملية كتابة دستور دائم ضرورة وأحد أهم عوامل الاستقرار المستقبلي.
وأخيراً، من المهم أن تحتوي العملية السياسية على تشكيل حكومة تمثيلية تعكس التنوع المجتمعي السوري أي تمثيل المرأة والأقليات الإثنية والدينية. كان هناك وعد بتشكيل هكذا حكومة، ولكن تأخر التنفيذ بسبب تغير الأولويات، إن تشكيل هكذا حكومة ضرورة ويجب أن تكون حكومة كفاءات وذات تمثيل واسع.
ثانياً: بناء الاقتصاد
إن الاقتصاد السوري في أسوأ أحواله بحسب تقارير البنك الدولي، فإن الاقتصاد السوري قد انكمش بنسبة 60% منذ عام 2010م. كما أن الليرة السورية قد انخفضت قيمتها بشكل كبير جداً. ففي العام 2010م، كان الدولار يساوي حوالي 50 ليرة سورية. أما الآن فإن الدولار يساوي ما بين 1250-3000 ليرة وهذا يعني أن نسبة التضخم تساوي 300%. كما أن البطالة في تزايد مستمر. فحتى قبل الأزمة الحالية كانت نسبة البطالة بين الشباب تصل إلى 20,4%، أما الآن فلا يوجد إحصاءات ولكن من المؤكد أن النسبة أكبر بكثير. بالإضافة لذلك، فإن الطبقة الوسطى العاملة التي كانت تشكل حوالي 60% من سكان سوريا، أصبحت الآن تتراوح بين 10-15%. أما القطاع الزراعي فقد تم تدميره بسبب الهجرة القسرية للمزارعين الذين تركوا الزراعة وأصبحوا يعملون في أي عمل للحصول على قوت يومهم.
ومن أسباب معاناة الاقتصاد السوري أيضاً، نظام العقوبات الذي حرم الدولة من توفير الموازنات لدعم المواد الأساسية كالخبز والوقود، ودعم الخدمات كالصحة والتعليم، مما تسبب في آفات اجتماعية كالانقطاع عن التعليم وزواج القصر الذي شاع في الريف السوري بعد الحرب الأهلية.
بالإضافة لذلك، فإن خدمة الكهرباء قليلة جداً ولا تساعد في إعادة بناء الصناعة وتوفير الوظائف والنمو الاقتصادي فإنتاج الطاقة انخفض بنسبة 80%، كما أن 70% من محطات الكهرباء وخطوط الإمداد قد دمرت بالكامل.
أما بالنسبة لمستويات المعيشة فإن الفقر يبرز كسمة واضحة لاقتصاد متهالك، فقد ازداد الفقر بشكل كبير جداً. فحسب تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي فإن نسبة الفقر ازدادت من 33% قبل الحرب الأهلية إلى 90% اليوم، ونسبة الفقر المدقع ازدادت من 11% إلى 66%
إن الوضع الاقتصادي السوري سيء جداً وأي سيناريو تفاؤلي يجب أن يعالج الأزمة الاقتصادية. حالياً نسبة النمو الاقتصادي هي 1,3% أي أن سوريا بحاجة إلى 55 عامًا للعودة إلى حالة ما قبل الحرب إذا بقيت نسبة النمو على حالها. للإسراع في عملية البناء الاقتصادي، على الحكومة وبالتعاون مع الدول المانحة ومنظمات الأمم المتحدة القيام بالعمل على رفع العقوبات الاقتصادية بأسرع وقت لتوفير المال اللازم لإعداد موازنة تقدم الخدمات الأساسية وتعيد بناء البنية التحتية وهذا يتطلب استراتيجية متكاملة وشاملة تعالج إصلاح عملية الإدارة وصنع الاستقرار الاقتصادي وتنشيط القطاعات المختلفة وإعادة بناء البنية التحتية وتعزيز الخدمات الاجتماعية. هناك بوادر مشجعة تصب في تحقيق سيناريو التفاؤل، فقد قادت المملكة العربية السعودية جهدًا دوليًا يدعو إلى رفع العقوبات. نجم عن ذلك الجهد أن أعلنت العديد من الدول العربية رفع العقوبات والعودة إلى التبادل التجاري، كما أبدت الدول الخليجية استعدادها للمساهمة في إعادة الإعمار. كما أعلن الاتحاد الأوروبي رفع العقوبات المفروضة في بعض القطاعات الرئيسية، كالطاقة والنقل والخدمات المصرفية. إن رفع العقوبات قد يسهم في تقليل التضخم وزيادة القدرة على التبادل التجاري مع دول العالم، مما سيؤدي إلى إنعاش الاقتصاد بشكل كبير. بالإضافة إلى هذه الجهود، فإن عودة اللاجئين السوريين ستخفف الأعباء عن الدول المضيفة، وستنتعش قطاعات حيوية مثل البناء والنقل والتجارة، مما سيزيد من فرص الاستثمار الأجنبي المباشر، سواء من الدول العربية أو الدولية.
ثالثاً: الأوضاع الاجتماعية وبناء العلاقات مع الأقليات العرقية والدينية.
لا زالت سوريا أكثر دولة في العالم معاناة من أزمة اللجوء. فحسب تقرير لمفوضية الأمم المتحدة العليا لشؤون اللاجئين، فإن أكثر من 14 مليون سوري أجبروا على الهروب من مساكنهم بحثاً عن الأمن. من هؤلاء 7,2 مليون نسمة لاجئين داخل سوريا. وحسب نفس التقرير فإن 70% من السكان بحاجة إلى معونة إنسانية. منذ الثورة السورية في ديسمبر الماضي، عاد حوالي مليون إنسان إلى مساكنهم منهم فقط 292,150 من خارج سوريا والباقي من لاجئي الداخل.
بالإضافة إلى مشكلة اللجوء، هناك مشكلة الأقليات الذين يخشون التهميش، وتستغَل أوضاعهم وتؤجج من مشاعرهم قوى خارجية معادية.
خلال الشهر الماضي استطاعت الحكومة أن توقع اتفاقاً تاريخياً مع الأكراد لإشراكهم في العملية السياسية، ولكن في نفس الوقت كانت هناك أعمال عنف في منطقة الساحل حيث نسبة كبيرة من العلويين تسكن فيها. كما أن إسرائيل تسعى لإقناع الدروز بعدم المشاركة في العملية السياسية.
إن إجراءات الحكومة فيما يتعلق بالأقليات تبدو ناجحة وهناك إمكانات لضم الجميع في العملية السياسية وإخراج سوريا من حالة الاحتقان الطائفي. تبقى مشكلة اللاجئين والفقر مستعصية على الحل. سيكون هذا من أهم تحديات سيناريو التفاؤل. إن إعادة اللاجئين إلى مساكنهم وحل مشكلة الأقليات ستصب في مستقبل مشرق لسوريا.
رابعاً: العلاقات الإقليمية والدولية
على مستوى الإقليم وكذلك على مستوى العالم، هناك ثلاثة أنواع من الدول في علاقاتها مع سوريا: هناك الدول المؤيدة للحكومة الانتقالية وإجراءاتها وترى فيها أداة استقرار ونمو مستقبلي وهذه تضم الدول العربية والأوروبية. وهناك دول معادية ترى في الحكومة الحالية عدو يجب إفشاله وهذه تضم اسرائيل وإلى حد ما إيران وممكن روسيا. وهناك دول تنظر بتوجس لإجراءات الحكومة الحالية ولكن لا تعاديها وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
إن من المشجع جداً أن الحكومة الانتقالية أولت موضوع العلاقات الخارجية أولوية قصوى، حيث قام رئيس الدولة بعدد من الزيارات الخارجية إلى كل من المملكة العربية السعودية والأردن وتركيا واستقبل عددًا من القادة والمسؤولين من الدول العربية والأوروبية.إن الجهود التي تبذلها الحكومة لتحسين صورتها إقليمياً وعالمياً تبدو ناجحة وبدأت تأتي ثمارها في استعدادات أوروبية وعربية لرفع العقوبات والاستثمار المباشر في الاقتصاد السوري. ولكن في نفس الوقت يجب التنبه لما تحيكه بعض الدول لإفشال هذه الجهود.
بشكل عام، هذه هي العوامل التي قد تؤدي إلى سيناريو التفاؤل وبالتالي تضع سوريا على طريق إعادة البناء والتنمية. بعض هذه العوامل نجحت القوى السياسية في تحقيقه جزئياً كالعملية السياسية والعلاقات الخارجية. وتبقى العوامل الأخرى تشكل تحدياً حقيقياً على الدولة مواجهته بصبر ودرجة عالية من العقلانية والشفافية.
سيناريو التشاؤم
هذا السيناريو الذي تسعى الدولة السورية لتفاديه ولكن بعض القوى الداخلية والخارجية تسعى لتحقيقه وهو تحويل سوريا إلى دولة فاشلة وهامشية أو مقسمة إلى كيانات طائفية متناحرة وبدون أي تصور مستقبلي ناجح.
وهناك مجموعة من العوامل التي قد تقود إلى هكذا سيناريو وهي:
أولاً: التاريخ.
سوريا الحديثة اتسمت بشيوع الصراعات الداخلية الدموية. فمنذ ستينيات القرن الماضي كانت هناك صراعات ذات طابع طائفي أو أيديولوجي. الفترة الوحيدة التي كان فيها درجة من الاستقرار هي فترة حكم الرئيس حافظ الأسد في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي وإلى بدايات القرن الحالي. ولكن هذا الاستقرار كان قائماً على حكم ديكتاتوري دموي لم يسمح بأي نوع من المشاركة السياسية لأي جهة خارج إطار الجهة الحاكمة. الآن هناك تجربة جديدة يسعى فيها قادتها إلى بناء استقرار يقوم على الشفافية والمشاركة للجميع. التاريخ والتوجس المجتمعي قد يقف عائقاً في تحقيق نجاح التجربة ومما يصب في تحقيق سيناريو فشل الدولة.
ثانياً: التدخلات الخارجية
منذ نجاح الثورة السورية في تغيير نظام الحكم في سوريا كان هناك تدخلات خارجية. فإسرائيل كانت تقوم بأعمال استفزازية بشكل متواصل وحتى أنها احتلت بعض الأراضي السورية بما يخالف اتفاقية الهدنة لعام 1974م. وطائراتها الحربية قصفت الكثير من المواقع السورية في معظم مناطق سوريا. وفي أحداث الساحل في الشهر الماضي حيث قامت مجموعات مسلحة بالهجوم على المراكز الأمنية الحكومية في منطقة ذات أغلبية علوية، أوضحت السلطات السورية أنها تواجه "حرباً خفية"، وبينت إحدى التحليلات أن هناك جهات تتبع للخارج "استغلت حالة الاحتقان لتأجيج الأزمة. بل أن الكثير من المحللين السوريين يرون أن حالة عدم الاستقرار ليست مرتبطة بأي من مكونات المجتمع السوري وإنما هي نتيجة لوجود أطراف ذات أجندات خارجية تعمل على نشر الفوضى وتؤجج الحرب الأهلية".
إن التباطؤ في صنع جيش وطني مسلح وقادر على حماية البلاد سيزيد من شهية الخارج على التدخل المباشر وغير المباشر في الشأن السوري مما سيساهم في إضعاف الدولة وبالتالي زيادة فرص تحقق سيناريو التشاؤم.
ثالثاً: الانقسام الطائفي.
تتكون سوريا من أغلبية إسلامية سنية (77%) ولكن هناك أقليات دينية أخرى فيشكل العلويون 9% والدروز 3% والمسيحيون حوالي 8% بالإضافة إلى أعداد قليلة من الطوائف الإسماعيلية واليزيدية. أما التقسيم العرقي فإن الغالبية الساحقة هي من العرب 93% وهناك 5% من الأكراد و2% عرقيات أخرى. هذه الأقليات لم تستطع الدولة السورية دمجها في إطار وطني يشمل الجميع. فقد بقيت الهوية العرقية أو الدينية سائدة، بل وتكونت ميليشيات وجماعات اتسمت بطابع طائفي أو عرقي وتم تغذيتها مالياً وتسليحياً وبشرياً من الخارج.
إن هذه الهويات العرقية والدينية تشكل عاملاً أساسياً في تفكك الدولة وتحقيق سيناريو التشاؤم الذي تكون فيه الدولة السورية إما مقسمة أو فاشلة. لقد استطاعت الدولة أن تقنع الجماعات الكردية بالانضمام إلى الدولة ودمج أجهزتها العسكرية مع الجيش السوري ولكن هذا لم يتم مع العلويين بعد أو مع الدروز. وحتى في موضوع الأكراد، لا يزال الوضع بانتظار التنفيذ المستقبلي وبناء الثقة.
إن الدولة السورية تسعى وبشكل حثيث إلى دمج كافة الفئات المجتمعية ضمن إطار وطني شامل لإفشال هكذا سيناريو ولكن لا يمكن الجزم بالنجاح وبالتالي فلا يزال هذا العامل مكون رئيسي في سيناريو مرفوض.
رابعاً: ضعف الاقتصاد ومحدودية الخدمات
إن الدول التي وصفت بالفاشلة خلال العقدين الماضيين مرت بظروف اقتصادية صعبة وكانت خدمات الدولة الأساسية شبه معدومة. إن الوضع الحالي في سوريا مشابه. فكما تم ذكره في سيناريو التفاؤل حيث تعمل الدولة على الخروج من حالة الاقتصاد الهش والفقر ضمن استراتيجية شاملة تحقق ذلك، فإن الفشل في هكذا استراتيجية سيؤدي إلى موجة نزوح جديدة وعودة إلى الصراعات العرقية والدينية وانتشار الجريمة وبروز شبح التقسيم إلى كيانات متعددة تسيطر عليها ميليشيات مسلحة. وهذا بدوره سيزيد من صعوبة الأزمة الاقتصادية حيث العقوبات ستتواصل والاستثمار الخارجي سيتوقف.
إن احتمالات تحقق سيناريو التشاؤم وتحول سوريا إلى كيانات مقسمة ومتناحرة أو دولة فاشلة ضعيفة، فمع وجود العوامل المسببة لهذا السيناريو، فإن القوى الداخلية والحكومة بالإضافة إلى العديد من القوى الخارجية تتفاعل وتتعاون لمنع هكذا سيناريو من التحقق. فإذا استطاعت الدولة أن تبدأ بتقديم الخدمات الأساسية وتحريك الاقتصاد وثم رفع العقوبات، ستنخفض إمكانية تحقق هذا السيناريو بشكل كبير جداً. بالمقابل فإن المحاولات الخارجية الساعية إلى تهميش أو تقسيم سوريا لا زالت قائمة ومن المهم اليقظة والتنبه لما يحاك ويخطط.
سيناريو ركود الوضع القائم
في هذا السيناريو تبقى الأمور كما هي. هناك توتر منخفض الشدة، الاقتصاد يتحسن بشكل طفيف. الخدمات تقدم بشكل قليل وهي معرضة للانقطاع على الدوام. العالم الخارجي في حالة انتظار لما ستؤول إليه الأمور. الركود يعني عدم مقدرة الأطراف وعدم رغبتها في ممارسة الصراع المسلح ولا الدخول في عملية سياسية سلمية. كما أن الحكومة الانتقالية لا يتوفر لديها الكوادر المهنية التي تستطيع أن تقوم بمهام صعبة جداً كإعادة بناء الدولة.
إن الركود السياسي عبارة عن حالة لا تستطيع فيها الدولة صنع السياسات أو إصدار القوانين بسبب الخوف من مواجهة القضايا الملحة، مما يؤدي إلى عدم الاكتراثية وبروز الفردية وفقدان الدولة للشرعية الشعبية.
من أهم عوامل هذا السيناريو هو تردد الجهة الحاكمة في معالجة القضايا الهامة بالنسبة للمواطنين. في الحالة السورية إن أهم القضايا التي تواجه الدولة هي تحقيق العدالة الانتقالية وتحريك الاقتصاد وبناء الوحدة الوطنية. يفهم من التردد أن الدولة لا تريد التحرك بسرعة في مواجهة قضايا صعبة قد تؤدي إلى نتائج عكسية كارثية. ولكن إطالة أمد التردد قد يؤدي أيضاً إلى نتائج عكسية أكثر كارثية.
أما العامل الثاني الذي يساهم في تحقق هذا السيناريو فهو ضعف التعيينات في الأجهزة الحكومية الرسمية. فمن الملاحظ أن كبار القادة كالرئيس ورئيس الوزراء يتحدثون في كل صغيرة وكبيرة. من المهم إيجاد ناطق رسمي في كل وزارة يخاطب الجمهور ووسائل الإعلام ليطمئن الناس العاديين على وجود منظومة عمل ستؤدي في النهاية إلى الخروج من مأزق الركود السياسي.
هذا السيناريو، من سماته أنه مؤقت، قد يطول أو يقصر، ولكن سيؤدي في النهاية إلى أحد السيناريوهين الآخرين: التفاؤل والتشاؤم. إن المقدرة في الخروج من حالة الركود بأسرع وقت وباستراتيجية ناجحة سيؤدي إلى تحقق سيناريو التفاؤل وبروز دولة قوية ذات مصداقية وقدرة على استيعاب ومواجهة الصعوبات والقضايا التي تواجهها. أما الفشل في ذلك والإبقاء على التردد والركود قد يقود إلى العكس تماماً.
إن سوريا ليست الدولة الوحيدة التي مرت بظروف الحرب الأهلية ثم الانتقال إلى التغيير. فكمبوديا أصبحت دولة مستقرة وعضو في منظمة الآسيان بعد سنوات من حكم الخمير الحمر، وتشيلي أصبحت واحدة من أفضل ديمقراطيات امريكا الجنوبية بعد ديكتاتورية بينوتشيه وجنوب إفريقيا بعد عقود طويلة من الحكم العنصري أصبحت من أقوى دول إفريقيا. أما البوسنة ومن خلال التدخل الدولي الإيجابي تم إنهاء الحرب الأهلية وتكوين دولة أوروبية مستقرة. بالمقابل فإن الصومال والسودان بقيا في حالة من حرب أهلية تلد أخرى ولا يوجد أفق إيجابي في المدى المنظور. وكذلك الأمر في عدد من الدول الإفريقية كتشاد والكونغو ومالي.
لذلك، فإن كل السيناريوهات ممكنة التحقق، ويعتمد هذا التحقق على توافر عدد من العوامل وتوقيتها وطرق تفاعلها مع بعضها البعض ومع البيئة المتواجدة فيها. هذه العوامل لا تتواجد صدفة وإنما يتم التخطيط لها من قبل جهات تسعى لتحقيق سيناريو معين. هذا التخطيط قد ينجح أو يفشل بناء على قدرات المخططين في تصور الوضع القائم والوضع المرغوب، بالإضافة إلى توافر البيئة المناسبة في الوقت المناسب.
لكي تنجح الإدارة السورية في الانتقال السريع إلى سيناريو التفاؤل، يجب تحقيق ثلاثة مطالب على وجه السرعة: أولاً التعامل الجدي مع حركات الإسلام السياسي الموجودة ضمن الهيئة الحاكمة. وهذا الموضوع يجب أن يحسم بشكل نهائي وبشفافية عالية بحيث يتم إقناع الداخل والخارج أن الحكومة هي عقلانية ومعتدلة وللجميع.
ثانياً: تحقيق العدالة الانتقالية لطمأنة أهالي ضحايا النظام السابق من جهة، ومن جهة أخرى، لمنع الأعمال الانتقامية الفردية التي ستقود إلى سيناريو التشاؤم وفشل الدولة أو الركود السياسي على أقل تقدير.
ثالثًا: إعادة تقديم الخدمات الأساسية خاصة الكهرباء لأنها الأساس في إعادة بناء الاقتصاد ومشجع رئيس في عودة اللاجئين وزيادة فرص الاستثمار الأجنبي المباشر.
يبدو من خلال دراسة الأوضاع الحالية في سوريا والسياسات والإجراءات الحكومية فإن فرص التفاؤل بمستقبل تفاؤلي ينتهي بسوريا مستقرة ومنتجة ممكن، ولكن هناك العديد من التحديات والكثير من المخاطر.