من المحتمل أن يؤدي التدخل الأجنبي في سوريا الجديدة إلى تغيير مسار الصراع الإقليمي ورسم ملامح خريطة جيوسياسية جديدة تعكس التداخلات المتنوعة للمصالح الخارجية والتوازن السياسي الدولي في المنطقة العربية والشرق الأوسط بشكل عام. ومنذ عام 2011م، تشهد سوريا تدخلات من قوى كبرى وإقليمية تسعى لتعزيز مصالحها وتحقيق أهدافها الاستراتيجية. ومع دخول سوريا مرحلة انتقالية جديدة، قد تسعى هذه القوى لاستغلال هذا التحول لتعزيز مصالحها الخاصة.
وبناءً على ما سبق، نناقش فيما يلي رؤية ودوافع ومصالح القوى الدولية والإقليمية في التدخل الخارجي في سوريا، وكذلك الاستراتيجيات المتوقعة لحماية هذه المصالح في ظل النظام الجديد:
إيران
تسعى إيران إلى تعزيز وجودها في سوريا كجزء من مشروعها التوسعي المعروف باسم "حزام واحد، طريق واحد"، الذي يربطها بحلفائها في لبنان والعراق. كما تهدف إيران إلى تأمين خطوط إمداد حزب الله في لبنان، مما يعزز من قدرته على مواجهة إسرائيل والحفاظ على وجوده في المنطقة.
على مدى العقود الماضية، استثمرت إيران بشكل كبير في دعم النظام السوري، الذي يُعتبر ركيزة أساسية لاستراتيجيتها متعددة الأوجه. فسوريا تمثل القناة الوحيدة لإيران لتوفير الإمدادات العسكرية واللوجستية لحلفائها. بالإضافة إلى ذلك، تُعتبر سوريا حلقة وصل مهمة للتفاعل الاقتصادي والثقافي والديني مع قوى المحور. ومع ذلك، فإن انهيار نظام الأسد لم يؤثر فقط على وجود إيران في سوريا، بل ألحق أيضًا أضرارًا جسيمة بمصالحها في العراق ولبنان واليمن ودول أخرى. وقد أثرت هذه الخسائر على الثقة الداخلية للجماعات المسلحة المرتبطة بالمحور، مما أدى إلى شعور بالإحباط وخيبة الأمل داخل الهياكل التي تتبع النفوذ الإيراني.
بعد سقوط الأسد، قد تبدأ إيران في اتخاذ خطوات نحو المفاوضات، وهو السيناريو الأكثر احتمالاً، بهدف ضمان دورها في تشكيل مستقبل سوريا بعد انهيار النظام. قد تسعى إيران إلى إقامة قنوات اتصال مباشرة مع القيادة السورية الجديدة، مما يعكس استراتيجيتها العملية الجديدة. كما يمكن لطهران أن تحاول تعديل الوضع الإقليمي المضطرب من خلال تنفيذ تحولات تكتيكية مرنة تهدف إلى تخفيف التوترات في المنطقة.
لذا، ستركز استراتيجية إيران لحماية مصالحها على تقديم الدعم العسكري والسياسي، بالإضافة إلى الدعم العسكري المباشر للحكومة السورية الجديدة. ومن الضروري أيضاً إنشاء قواعد عسكرية في سوريا لتعزيز نفوذ إيران وتوفير الدعم اللوجستي للقوات الموالية. كما سيتعين تعزيز التعاون مع روسيا وتركيا لضمان بقاء النظام السوري كحليف رئيسي لإيران.
تركيا
مما لا شك فيه أن الدور الذي تلعبه تركيا في سوريا يمثل تحولاً كبيرًا في توازن القوى الإقليمي، مع التزام تركيا بضمان استقرار سوريا وتحررها من الإرهاب. ومع تراجع نفوذ إيران وتحول استراتيجية روسيا، يبدو أن تركيا تظل في طليعة التطورات في سوريا، على الرغم من التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها. فتركيا تأمل في استغلال الفراغ السياسي الناتج عن انهيار النظام السوري لتعزيز نفوذها الإقليمي وتأمين حدودها الجنوبية. من جهة، تسعى تركيا إلى إعادة توطين اللاجئين السوريين في المناطق الآمنة التي أنشأتها داخل الأراضي السورية، مما يزيد من شعبيتها المحلية ويخفف من الأعباء الاقتصادية والاجتماعية التي يفرضها وجود اللاجئين على تركيا. ومن جهة أخرى، تُعتبر الحد من النفوذ الكردي في شمال سوريا أولوية، حيث تعمل تركيا على إضعاف وحدات حماية الشعب الكردية التي تعتبرها امتدادًا لحزب العمال الكردستاني. هذا يعكس رغبة تركيا في تعزيز وجودها السياسي المستقبلي في سوريا، إذ ترتبط حركات المعارضة السياسية والعسكرية والمدنية التي ساهمت في إسقاط الأسد بشكل كبير بتركيا، حيث يتم تنسيق معظم أنشطتها عبر تركيا أو بشكل مباشر أو غير مباشر معها، مما يتيح لتركيا فرصة البناء على هذه الحركات واستثمارها في السنوات القادمة.
تتجلى مصالح تركيا في سوريا من خلال تعزيز وجودها العسكري المستقبلي هناك، وذلك عبر إعادة بناء القطاع الأمني والعسكري. كما تسعى لمواجهة الحركات الانفصالية، لاسيما الأكراد، الذين يشكلون تهديدًا لوحدة سوريا وتركيا على حد سواء. ومن ثم، فإن دور تركيا في تسليح الجيش السوري الجديد، من خلال تشكيلاته وهياكله العسكرية (التي ساهمت في إعداد وتجهيز بشار الأسد قبل سقوطه)، يهدف إلى منع قيام كيان كردي مستقل على حدودها الجنوبية، مما قد يؤدي إلى تعزيز النزعات الانفصالية داخل تركيا. بالإضافة إلى ذلك، تسعى تركيا للتوسع الجغرافي والسيطرة على المناطق الحدودية الشمالية لسوريا لتعزيز نفوذها وتأمين طرق التجارة والطاقة.
لذلك، من المرجح أن تركز استراتيجية حماية مصالح تركيا في سوريا على شن عمليات عسكرية ضد وحدات حماية الشعب الكردية وتثبيت وجودها. وتقديم الدعم السياسي للمعارضة الموالية لتركيا في سوريا لضمان الاستقرار في المناطق التي يسيطرون عليها. والتعاون الإقليمي مع دول الخليج ومصر ومنطقة المغرب العربي لدعم سياسة تركيا في سوريا وتعزيز التحالفات الإقليمية. كذلك تعزيز الحضور الاقتصادي لتركيا، خاصة في عمليات إعادة الإعمار. والتعاون المشترك في وثيقة غاز شرق البحر الأبيض المتوسط، من خلال ترسيم الحدود البحرية والتنقيب المشترك عن الغاز في المياه الإقليمية والاقتصادية للبلدين، وهي واحدة من أهم الوثائق في أولويات سياسة تركيا خلال العقد الماضي، حيث تعاني تركيا من أزمة طاقة وتعتمد على الواردات لنحو 95% من احتياجاتها من الغاز الطبيعي.
لكن تركيا تواجه تحديات في التعامل مع القوى الإقليمية مثل إيران وروسيا، خاصة أن انهيار النظام السوري يعيد خلط الأوراق الجيوسياسية في المنطقة.
روسيا الاتحادية
بعد سقوط نظام بشار الأسد، وجدت روسيا نفسها أمام واقع سياسي جديد في سوريا، يتطلب إعادة ترتيب أوراق روسيا ومصالحها في المنطقة. فلفترة طويلة، كانت سوريا الحليف الاستراتيجي الأول لروسيا في الشرق الأوسط ونقطة ارتكاز مهمة لسياسة روسيا الإقليمية. لا سيما مع تدخل روسيا المباشر عام 2015م، لدعم نظام بشار الأسد. ومنذ هذا التدخل أصبحت روسيا لاعباً رئيسياً في الوضع في سوريا، خاصة من خلال تقديم الدعم العسكري والسياسي لنظام بشار الأسد في سوريا. ومع ذلك، فإن التحولات الأخيرة وانهيار النظام السابق جعلت روسيا تواجه صعوبات كبيرة.
وتعتبر القواعد العسكرية الروسية من أهم ركائز النفوذ الروسي في سوريا، إذ تشكل حجر الزاوية في استراتيجية روسيا للحفاظ على وجودها في البحر الأبيض المتوسط، وهو الوجود الذي يمنح روسيا القدرة على التأثير في القضايا الإقليمية والدولية، ويمكنها من مواجهة النفوذ الأمريكي والغربي في المنطقة.
مع انهيار النظام السابق وصعود قوى المعارضة المختلفة، برزت الحاجة إلى إعادة تقييم سياسة روسيا تجاه هذه القوى الصاعدة والبدء في التفكير بشكل عملي والسعي إلى استغلال التغيرات السياسية في سوريا لحماية مصالحها الاستراتيجية وذلك لضرورة الحفاظ على تحالف استراتيجي مع النظام السوري كضمان لنفوذ روسيا في الشرق الأوسط وضد التوسع الغربي.
ويشكل الوجود الروسي في سوريا جزءًا هامًا من استراتيجيتها العالمية. وهذا يجعل التخلي عنها أمرًا صعبًا من الناحية الجيوسياسية. ومن ناحية أخرى، يشكل سقوط نظام الأسد تحدياً مزدوجاً لروسيا. فمن ناحية خسارة حليف استراتيجي تاريخي، ومن ناحية أخرى، يجبر روسيا على التعامل مع نظام سياسي جديد بأجندة وأولويات مختلفة.
بالإضافة إلى ذلك، يعتبر الوضع الاقتصادي في سوريا عاملاً أساسياً في تحديد مستقبل البلاد. تواجه روسيا تحدياً إضافياً يتمثل في تقديم الدعم الاقتصادي لسوريا الجديدة، في ظل الانهيار شبه الكامل للاقتصاد السوري نتيجة سنوات من الحرب والعقوبات الدولية. ومع ذلك، قد تكون قدرة روسيا على تقديم هذا الدعم محدودة، حيث تواجه هي أيضاً تحديات اقتصادية خاصة بها نتيجة العقوبات الغربية المفروضة عليها بسبب أزمة أوكرانيا.
وستكون استراتيجية روسيا لحماية مصالحها في سوريا من خلال الدعم العسكري، بما في ذلك الدعم الجوي والبري واستخدام الأسلحة المتقدمة والتدريب العسكري. فضلاً عن العمل كوسيط في المفاوضات الدولية لضمان استمرار الدعم الروسي والحد من الاضطرابات الأخرى. كذلك تعزيز الوجود العسكري في سوريا وزيادة عدد القوات والمعدات العسكرية الروسية لتعزيز القدرة على الرد السريع على أي تهديد. لذلك فإن استمرارية الموقف الروسي الحالي وطبيعة المرحلة المقبلة من العلاقات الروسية السورية ومآلات الصراع الجيوسياسي في سوريا تنحصر في سيناريوهين:
السيناريو الأول: استمرار وجود روسيا في سوريا. والحفاظ على وجود روسي جزئي من أجل الحفاظ على الاتصالات والمناورات الخارجية بين مختلف القوى، بالإضافة إلى أن تركيا قد لا تدعم انسحاباً روسياً كاملاً من أجل الحفاظ على جوانب معينة من المناورة ضد الغرب والولايات المتحدة. وقد تقبل روسيا أيضًا وجودًا رمزيًا في سوريا وتعمل على إعادة تقييم موقفها بدلاً من سحب قواتها بالكامل. بالإضافة إلى أنه من المرجح أن تلعب روسيا دوراً مهماً في إعادة الإعمار في بعض المجالات التي لا تستطيع أوروبا وتركيا تنفيذها بمفردهما. ولذلك، فإن سوريا قد تكون في حاجة ماسة إلى روسيا في المستقبل.
السيناريو الثاني: وهو تراجع النفوذ الروسي وإمكانية الانسحاب، لما يواجه الوجود الروسي في سوريا من معارضة شعبية واسعة النطاق من شأنها أن تقوض الاتفاق مع روسيا التي تقاتل السوريين منذ سنوات. بالإضافة إلى محاولة القوى الغربية، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، تقديم مقترحات اقتصادية ووعود رفع العقوبات الاقتصادية والحصول على المساعدة الدولية، وإزالة مسؤولي الحكومة السورية الجدد من قائمة الإرهاب، بشرط أن تقوم الحكومة الجديدة بتقليص نفوذ روسيا في سوريا.
إسرائيل
منذ أن تولى الشرع منصبه، رأيناه يحاول إظهار الوضوح والبرجماتية والاعتدال في خطابه حول إسرائيل، من خلال توخي الحذر والمحافظة، بل والإيجابية في بعض الأحيان. على سبيل المثال: التعهد بالالتزام باتفاقية فك الارتباط لعام 1974م، بين إسرائيل وسوريا. والتصريح بأن سوريا ليس لديها نية للصراع مع إسرائيل ولكنها كانت مهتمة بإعادة بناء البلاد. وعدم السماح باستخدام سوريا كقاعدة لشن هجمات ضد إسرائيل أو أي دولة أخرى.
من وجهة نظر إسرائيلية، فإن تشكيل نظرة إيجابية لمستقبل سوريا ينطوي على عدة عوامل رئيسية: وهي غياب محور المقاومة الإيراني ونفوذه. ووجود نظام جديد مستقر وغير معادٍ لإسرائيل ومستعد لإجراء محادثات دبلوماسية ووجود جيش سوري لديه القدرة على التعامل مع تهديدات الجماعات المتطرفة مثل تنظيم داعش. وعلى المدى الطويل، إذا ظهرت حكومة مركزية معتدلة ومستقرة، فقد تكون هناك فرصة لاستئناف المفاوضات الدبلوماسية بين سوريا وإسرائيل. مما يمكن إسرائيل من تعزيز مكانتها ونفوذها في المنطقة.
وتدرس إسرائيل سيناريو سلبي آخر يتمثل في القلق من أن يتحول النظام السوري الجديد إلى نظام جهادي إسلامي معادٍ لها، مما قد يعزز من قوة المعسكر الإسلامي في المنطقة ويؤدي إلى تفشي عدم الاستقرار والعنف على طول حدودها. هذا الوضع قد يتيح لإيران ووكلائها فرصة لاستئناف نشاطهم في الساحة السورية. نتيجة لذلك، اتخذت إسرائيل إجراءات عدائية ووقائية، حيث نفذت سلسلة من الضربات الجوية والبحرية بهدف إضعاف القدرات العسكرية للجيش السوري ومنع وصول الأسلحة إلى الجماعات المعادية، بالإضافة إلى السيطرة على المنطقة العازلة التي تم إنشاؤها بموجب اتفاق وقف إطلاق النار لعام 1974م.
ووفقاً لتقرير بحثي نشره المعهد الإسرائيلي لدراسات الأمن القومي، فإن وجهة نظر إسرائيل هي أن الإستراتيجية التي توصي بها إسرائيل للتعامل مع الوضع في سوريا ستشمل ما يلي:
- تطوير استراتيجية جديدة للدفاع عن الحدود
ونظراً لعدم اليقين الذي يحيط بمستقبل سوريا، فيجب وضع خطة جديدة لتأمين الحدود. ويجب أن تتضمن الخطة معالجة قضية المنطقة العازلة ودور قوات الأمم المتحدة في مراقبة فض الاشتباك.
- تدمير الأسلحة الاستراتيجية السورية
وهذا مهم للغاية بالنسبة لإسرائيل. خاصة وأن سوريا لا تمتلك أسلحة بيولوجية أو كيميائية.
- فتح قنوات الاتصال مع النظام الجديد
وسيكون هذا مشروطًا بحماية مصالح إسرائيل الدبلوماسية والأمنية في الجولان وأماكن أخرى. وتوضيح استراتيجية إسرائيل أمام القوى الفاعلة المحلية والإقليمية والدولية بشأن جدولها الزمني للبقاء في الأراضي التي تسيطر عليها، في حين توضح الشروط اللازمة للانسحاب.
- توضيح استراتيجية إسرائيل للفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين
وهنا يوصي التقرير بضرورة تقديم إسرائيل تقديم توضيح استراتيجي للقوى المحلية (الدروز والسنة المعتدلين) والإقليمية (تركيا) والدولية بشأن جدولها الزمني للبقاء في الأراضي التي تسيطر عليها، مع تحديد الشروط اللازمة للانسحاب.
- بناء علاقات مع القوى السورية
حيث سيتعين على إسرائيل تسريع المفاوضات مع القوى المعتدلة في سوريا، بما في ذلك تقديم مساعدات إنسانية رمزية، لتخفيف المشاعر المعادية لإسرائيل. تنسيق هذه الخطوات مع النظام السوري الجديد كإجراءات لبناء الثقة.
- تجنب المواجهة مع تركيا
فمن مصلحة إسرائيل الاستراتيجية تجنب تحويل تركيا إلى خصم. وعلى الرغم من السياسات التي تنتهجها تركيا، بما في ذلك موقفها من الحرب في غزة، فإن المصالح طويلة الأمد تتطلب الحد من التوترات.
- تعزيز الحوار مع الأردن ودول الخليج
ينبغي على إسرائيل تكثيف حوارها مع الأردن ودول الخليج للمساعدة في تشكيل مستقبل سوريا ومنع إيران من استعادة نفوذها في سوريا.
- دعم المبادرات الدولية التي تقودها الولايات المتحدة
وهنا المطالبة بدعم إسرائيل مبادرة دولية تقودها الولايات المتحدة لتشكيل لجنة مكونة من أربع دول: تركيا وروسيا وإسرائيل والولايات المتحدة. وتتمثل الأهداف الأساسية لها في تحقيق الاستقرار للحكومة السورية الجديدة وحماية الأقليات. وفي هذا الإطار، فإن الولايات المتحدة ستكون مسؤولة عن الأكراد، وإسرائيل مسؤولة عن الدروز، وروسيا مسؤولة عن العلويين، وتركيا مسؤولة عن الجماعات السنية.
- استغلال الأزمة الاقتصادية السورية كفرصة استراتيجية
فالأزمة الاقتصادية الحادة التي تواجهها سوريا، مع نقص السلع الأساسية مثل الوقود والقمح والمياه، توفر فرصة استراتيجية لإسرائيل للعب دور واستخدام مزاياها التكنولوجية، بما في ذلك في القطاع الزراعي، للمساهمة في إعادة إعمار سوريا وتعزيز نفوذها الإقليمي.
- الاعتراف بالنظام السوري الجديد
ولكن مسألة اعتراف إسرائيل بالنظام السوري الجديد وأي مساعدة تٌقدَم له ستعتمد على ضمانات واستيفاء متطلبات محددة، بما في ذلك تأمين الحدود ومنع تهديدات الجماعات المتطرفة. ووقف إعادة تنظيم محور المقاومة ومنع نقل الأسلحة إلى حزب الله بلبنان. وتجنب الانتقام من الجماعات العرقية والدينية. وتنفيذ عملية انتقالية وإعادة إعمار تحت إشراف دولي.
الولايات المتحدة الأمريكية
على الرغم من التناقضات في السياسة الأمريكية تجاه سوريا، بدءًا من انسحاب القوات العسكرية في عام 2019م، ثم تصريحات ترامب حول ضرورة احتفاظ أمريكا بحصتها من عائدات النفط السوري وأهمية بقاء بعض القوات لحماية حقول النفط، وصولًا إلى تراجع بايدن عن ذلك وعدم تجديد عقد شركة النفط الأمريكية التي كانت تعمل في الحقول السورية، تثار تساؤلات حول ما إذا كانت الولايات المتحدة ترغب في البقاء والسيطرة أم لا. لا تزال الولايات المتحدة تسيطر على معظم حقول النفط السورية من خلال وجودها العسكري أو عبر التحالف مع قوات سوريا الديمقراطية. وقد تمكنت هذه القوات من الاستفادة من عائدات النفط من خلال بيعه للنظام السابق أو لقوات المعارضة المسلحة، أو عبر تهريبه إلى العراق بموافقة الولايات المتحدة. تتركز المصالح الأمريكية في سوريا على الأمن القومي ومحاربة الإرهاب، ومنع تنظيم الدولة الإسلامية والفصائل المتطرفة من استعادة السيطرة على المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، تسعى الولايات المتحدة إلى الحد من نفوذ إيران وروسيا وتقليل تأثيرهما في سوريا لضمان توازن القوى في الشرق الأوسط بما يتماشى مع مصالحها.
لذا، ستعتمد الاستراتيجية الجديدة لحماية المصالح الأمريكية في سوريا على تعزيز الدعم العسكري لقوات سوريا الديمقراطية وفصائل المعارضة، لضمان استمرار القتال ضد داعش والجماعات المتطرفة. كما ستُفرض عقوبات اقتصادية على الجهات الداعمة للنظام السوري السابق، مثل إيران وروسيا، بهدف تقليل قدرتها على التدخل في سوريا الجديدة. بالإضافة إلى ذلك، سيتم التعاون مع حلفاء مثل تركيا وإسرائيل لتحقيق أهداف الأمن القومي والحد من نفوذ إيران وروسيا.
الصين
تتطور رؤية الصين للوضع في سوريا في إطار نظام ما بعد بشار الأسد. من منظور المصالح الأساسية للصين في منطقة الشرق الأوسط، فإن الأهمية الاستراتيجية لسوريا ليست كبيرة. عند النظر إلى خريطة "مبادرة الحزام والطريق" الصينية، يتضح أن سوريا ليست مدرجة فيها، سواء من حيث الطرق البرية أو البحرية. وقد وقع الأسد على هذه المبادرة في عام 2022م. وهذا لا يعكس فقط استراتيجية العديد من الدول لعزل سوريا على الصعيدين الدولي والإقليمي، بل الأهم هو أن البراغماتية التجارية للصين في المنطقة تستند إلى مصالحها الأساسية، حيث لا تعتبر سوريا محوراً رئيسياً أو لاعباً مؤثراً.
أما بالنسبة لنهج الصين تجاه قضايا الأمن الإقليمي، فإنه يعتمد على المشاركة الناعمة من خلال المساعدات في سياق إعادة الإعمار. ومع ذلك، فإن القلق الرئيسي لبكين في سوريا يتمثل، أولاً وقبل كل شيء، في كونها امتداداً للحرب وزعزعة الاستقرار في بلد تتداخل فيه مصالح الصين الأساسية مع مصالحها الحيوية في أمن الطاقة، ودورها في ضمان التنمية الاقتصادية المستدامة وأمن النظام الصيني. يتعلق القلق الثاني أيضًا بأقلية الأويغور، حيث سافر أكثر من خمسة آلاف شخص إلى سوريا للقتال ضمن صفوف بعض الجماعات المسلحة مثل هيئة تحرير الشام، التي تصنفها الصين كمنظمة إرهابية.
أما القلق الثالث، فيتمثل في أن بكين، وفقًا لرؤية بعض المتخصصين في الشؤون الصينية، قد تواجه صعوبة في التعامل مع سوريا بعد سقوط نظام الأسد، خاصة أن سياستها الدبلوماسية تستند إلى مبادئ احترام سيادة الدول وعدم الاعتراف بالجهات الفاعلة غير الحكومية. ومع ذلك، وبالنظر إلى الأهمية الجيوسياسية والجيواقتصادية لأفغانستان بالنسبة للصين، كانت بكين أول دولة تتعامل مع طالبان بعد انهيار الحكومة المركزية. من جهة أخرى، فإن سوريا لا تعتبر ذات أهمية كبيرة للصين، لذا من المتوقع أن تتبع بكين سياستها الخارجية التقليدية المتمثلة في عدم التدخل، أي اعتماد نهج "استراتيجية الانتظار واغتنام الفرصة"، مما يجعلها واحدة من آخر الدول التي تعترف بشرعية الحكومة الانتقالية السورية.
السيناريوهات المستقبلية
نظرًا لتعقيد المصالح المتضاربة وصعوبة الوصول إلى حل سياسي شامل، من المحتمل أن يستمر التدخل الأجنبي في سوريا. ستواصل القوى الخارجية سعيها لتعزيز نفوذها وحماية مصالحها عبر الدعم العسكري والدبلوماسي والاقتصادي. وستكون عملية إعادة الإعمار والتنمية في سوريا مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالاستقرار السياسي والأمني. طالما أن البلاد تحقق مستوى كافٍ من الاستقرار، فإن المنظمات الدولية والدول الداعمة يمكن أن تلعب دورًا حيويًا في تمويل المشاريع وإعادة بناء البنية التحتية. كما أن الجهود الرامية إلى تحقيق استقرار نسبي من خلال اتفاق سياسي شامل ستساهم في تمهيد الطريق لإعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية.
باختصار، ستظل سوريا مركزًا لصراع جيوسياسي معقد يجمع بين مصالح ودوافع دولية وإقليمية متعددة. يستمر التدخل الأجنبي بأشكال متنوعة، حيث تسعى كل دولة لحماية مصالحها من خلال استراتيجيات مختلفة تشمل التوسع الجغرافي وتعزيز الأمن القومي. يعتمد مستقبل سوريا بشكل كبير على قدرة الأطراف المعنية على التوصل إلى حل سياسي شامل والتعاون الدولي لدعم استقرار البلاد وتنميتها. ورغم التحديات الكبيرة، فإن الإرادة السياسية والتنسيق الدولي يمكن أن يساهما في تحقيق تقدم ملموس.