array(1) { [0]=> object(stdClass)#13750 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 208

3أسس للاستراتيجية التركية نحو سوريا: الأمن ـ اللاجئين ـ التدخل الخارجي

السبت، 29 آذار/مارس 2025

تأثرت سوريا والعديد من الدول العربية من مخلفات الحربين العالميتين الأولى والثانية كثيرًا، وخضعت جميعها لشروط الهزيمة على مستوى التجزئة السكانية والجغرافية والسياسية بين أبناء الأمة الواحدة، وعلى حساب بناء دول سياسية وطنية وقومية متناقضة مع إرادة الشعب العربي وهويته الحضارية، فوقعت معظمها في تركيبة جغرافية مصطنعة كان يمكن أن تكون أكبر من ذلك أو أصغر، وفي تناقض في نسيجها الاجتماعي القومي والاثني والعرقي واللغوي وغيرها، وهذا ينطبق على سوريا وعلى غيرها من الدول العربية والإسلامية منذ الاستقلال الأول المشروط، وما زاد من معاناة الشعب السوري موقعه الجغرافي الاستراتيجي في الوطن العربي وحدوده مع دولة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والجولان السوري منذ عام 1967م.

ولعل من أكبر أسباب معاناة الشعب السوري في تاريخه الحديث هو عدم استقراره السياسي داخليًا، وبالأخص أن سوريا منذ تأسيسها الحديث خضعت لظاهرة الانقلابات العسكرية المتواصلة من أحزاب قومية عربية ويسارية واشتراكية، فكان وصول أحزاب البعث اليسارية إلى السلطة في سوريا هو عقبة وأزمة وطنية بحد ذاته، إذ اعتمدت الدولة السياسية هويات متناقضة مع مكونات الوطن الواحد أولاً، وزاد أزمتها فشلها في تحقيق مفهوم المواطنة العادلة ثانيًا، فأدى ذلك إلى تفاقم أزمات سوريا وطنيًا وقوميًا واجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا، وحال دون بلوغ الشعب السوري الأمن الاجتماعي والسياسي، فقد فشلت قياداته الحزبية والعسكرية في تأمين حقوق الشعب، وفشلت في تأمين التقدم الاقتصادي والصناعي، إضافة لما أدخلت شعبها فيه من مغامرات وفتن وحروب أهلية داخلية وصراعات خارجية مع دول جوارها.

لم يكن الشعب السوري يرى أدنى مصلحة في وصول عائلة الأسد إلى قمة السلطة السياسية بانقلاب عسكري أطلق عليه حافظ الأسد وصف الحركة التصحيحية عام 1971م، بحكم أن الصراع على السلطة بدأ وبدا منذ ساعاته الأولى صراعا على السلطة بين أجنحة القوى البعثية التي تنتمي إلى طائفة واحدة في الغالب هي الطائفة العلوية النصيرية، وهم أقلية في قيادات حزب البعث السوري، مما أدى إلى إقصاء واضطهاد كافة طوائف الشعب السوري وزجهم في السجون الرهيبة بما فيهم أبناء الطائفة العلوية المعارضين لحافظ الأسد، ولكن الصراع الأكبر والأقسى كان مع أغلبية الشعب السوري المتمثل بأهل السنة السوريين العرب.

كل ذلك أدى إلى دخول سوريا في ظلام فكري ثقافي، وإلى زعزعة الاستقرار السياسي والأمني، ولو تستر حافظ الأسد بالاستعداد لمحاربة العدوان الإسرائيلي واتهام كل معارض وطني له بأنه خائن وعميل لإسرائيل، وبالقمع والسجون والاستبداد في كل سنوات حكم حافظ الأسد وابنه واسرته ما يزيد عن ستة عقود تقريبًا، تواصلت فيها الاحتجاجات الشعبية ضد أسرة الأسد، حتى انتهت بسقوط بشار الأسد ونهاية حكم أسرة الأسد أواخر عام 2024م، ووصول بعض فصائل الثورة السورية إلى السلطة السياسية، وإقامة حكومة مؤقتة ثم رئاسة مرحلية برئاسة أحمد الشرع، لحين تأمين ظروف ضامنة لإجراء انتخابات حرة وديمقراطية، فمستقبل سوريا داخليًا تحدده المؤتمرات التحضيرية من كافة قوى الشعب السوري وهوياته، وهي تحت مراقبة شديدة وحثيثة من المجتمع الدولي.

 

النظام السوري الجديد وأولويات الدولة والشعب:

 

يواجه النظام السوري الجديد كثيرًا من التحديات والأولويات، فنظام بشار الأسد السابق كان على وشك الانهيار منذ عامين قبل سقوطه، بسبب الضعف الاقتصادي الداخلي والعقوبات الاقتصادية الخارجية والتي تزعمتها أمريكا بفرضها عقوبات كبيرة على نظام بشار الأسد، من أهمها قانون قيصر الأمريكي، وتبعها في العقوبات دول الاتحاد الأوروبي والعديد من الدول الإقليمية، فجاءت أولويات العمل للحكومة الجديدة تفرض نفسها بأنها:

 

أولاً: الأمن الغذائي، بتأمين الغذاء والدواء لكل المواطنين.

ثانياً: الأمن الاجتماعي، بإطلاق صراح السجناء والمعتقلين، وتأمين عودة المواطنين إلى بيوتهم من داخل سوريا وخارجها، بعد تهجير ملايين المواطنين داخليًا وخارجيًا لأكثر من عشر سنوات، وتأمين الإمكانيات المالية لبناء البيوت التي تهدمت جراء قمع جيش بشار لقوى المعارضة السورية بكافة أطيافها.

ثالثاً: الأمن الاقتصادي، بتأمين الحركة التجارية الفردية والمؤسساتية للمواطنين السوريين، وتأمين النفط والغاز لكل القطاعات المستخدمة من مساكن المواطنين ووسائل النقل والمصانع وغيرها.

رابعًا: الأمن السياسي، بتأمين حركة المواطنين بين المدن والقرى والأحياء والأرياف بأمن وسلام، وحرية تأمينهم لمتطلبات حياتهم، ورفع التهديدات السابقة التي كانت المنظمات الانفصالية وتجار الجريمة والسلب والنهب تمارسها قبل إسقاط الأسد.

خامسًا: الأمن الإقليمي، بتأمين حدود الدول المجاورة لسوريا، وتطمينها بأن حدودها مع سوريا آمنة من الحركة العشوائية للمواطنين، سواء في تهريب الأشخاص أو تهريب المخدرات أو تهريب الأسلحة أو غيرها.

سادسًا: الأمن الدولي، حيث أن القيادة السياسية التي تولت السلطة السياسية والأمنية والاقتصادية في سوريا كانت من فصائل مقاومة سورية جهادية، وبالأخص جبهة النصرة التي كان يتزعمها أحمد الشرع بكنيته أبو محمد الجولاني، وقريبة من التنظيمات الجهادية التي توصف من معظم المؤسسات الأمنية الدولية بأنها تنظيمات إرهابية، وهذا يحمل القيادة السياسية الجديدة مسؤولية تبني سياسات داخلية مطمئنة للدول الخارجية، وأن تسير وفق الخطط التي تطمئن المجتمع الدولي بأن من في السلطة اليوم يسعون إلى بناء دولة مدنية وديمقراطية ودستورية وقانونية، بمشاركة كافة أبناء الشعب السوري، ومن كافة كفاءاته العلمية والتكنوقراطية، وأنها حريصة على احترام القانون الدولي بالتوازي مع مطالبة المجتمع الدولي ومؤسساته الدولية والاقتصادية في تحسين الأوضاع في سوريا، والعمل معها لزيادة تسارع رفع العقوبات الدولية والاقتصادية، وأن تسرع في التعامل مع الحكومة الشرعية الجديدة بثقة ودون مخاوف.

 

هذه أولويات يفرضها ثقل الحمل الذي يواجه الحكومة السورية المؤقتة، بعد سنوات طويلة من المعاناة الداخلية والخارجية، وبعد سنوات من فقدان الأمن، وتمزق البلاد إلى مناطق انفصالية لأسباب أمنية أو قومية أو عرقية أو إقليمية أو طائفية أو دولية، سواء بموافقة الحكومة السورية السابقة مثل التواجد الروسي العسكري، أو التواجد الإيراني العسكري وقوات ميليشياتها الطائفية اللبنانية أو غيرها، أو رغمًا عنها مثل التواجد العسكري الأمريكي شمال شرق سوريا، أو التواجد العسكري التركي في مناطق شمال غرب سوريا، أو غيرها.

 

تأثير القوى الدولية والإقليمية في صناعة مستقبل سوريا

 

لم يتم التوافق الدولي والإقليمي بقيادة أمريكية على إسقاط نظام بشار الأسد لتقع سوريا في المجهول، فلا شيء يتم إقليميا إلا بتوافق مع المملكة العربية السعودية على المستوى العربي، وعلى توافق مع تركيا على المستوى الإقليمي، وعلى توافق مع أمريكا وروسيا وإسرائيل على المستوى الدولي، والاتفاق على إقامة دولة سوريا الجديدة رهن اتفاق وتنسيق هذه الأطراف الإقليمية السعودية وتركيا والأطراف الدولية أمريكا وروسيا وإسرائيل، والحيلولة دون تخريب عناصر دولية أخرى للمرحلة الانتقالية، أو تعيير في أحد الأطراف التي رسمت عملية التغيير الكبرى، والحكومة السورية الجديدة معنية بإرضاء هذه الأطراف الإقليمية والدولية والتنسيق معها، وإلا دخلت في أزمات أكبر لا يمكنها تحملها، وهذا لا يعني أن سوريا ولو كانت تحت إشراف هذه القوى الدولية أو الإقليمية إلا أنها لم تتجاوز كل مخاطرها، فلا تزال بعض الأطراف الدولية الخاسرة من سقوط بشار الأسد تعمل لإفشال استقرارها، ولو بالمظاهرات والاحتجاجات أو الحوادث الأمنية المتفرقة، أو بالمكائد الدولية والمؤامرات الاقتصادية ومنع أو تأخير رفع العقوبات الدولية عن سوريا إلا بشروط تعجيزية.

لقد كان السبب الأكبر لسقوط بشار وقوع تغيرات في الاستقرار الدولي، ومنها تأثر الحرب الأوكرانية على روسيا أولاً، وتأثيرات معارك طوفان الأقصى الفلسطينية وامتداداتها في لبنان وسوريا والعراق واليمن وإيران، فقد سحبت روسيا الكثير من قواتها الأساسية من سوريا واضطرت إلى سحب أكثر من خمسين ألف من أصل أربع وستين ألفا كانوا في سوريا قبل الحرب الأوكرانية، وتم سحب أربع أسراب طائرات حربية من أصل ست اسراب طائرات مقاتلة في سوريا، والأهم أن القيادة الروسية أدركت أنها تواجه حربًا في سوريا دون القدرة على حسم الصراع فيها، وأنها ستتحول إلى حرب استنزاف لروسيا في سوريا، وبحكم قرب الحرب الأوكرانية من الأراضي الروسية أصبحت الحرب الروسية في سوريا حربا ثانوية، وكان ظهور بوادر سقوط نظام الأسد دافعًا لتغير الموقف الروسي بعدم التورط في سوريا أكثر، وبالأخص أن تركيا رفضت التدخل العسكري الروسي بعد بدأ حركة قوات المعارضة السورية نحو الجنوب، وتراجع الجيش السوري بالدفاع عن الأسد، لقد كان التدخل الروسي في سوريا خطأً فادحًا في تاريخ روسيا الاتحادية وقيادة فلاديمير بوتين.

ولم يكن موقف الجمهورية الإيرانية أقل فداحة، وخطأهم الأكبر أكثر من روسيا أنهم اعتبروا الصراع في سوريا حربهم، فقبل أن تبدأ الثورة بتاريخ 17/3/ 2011م، بدأ ما يسمى دول محور المقاومة المكون من إيران وسوريا والعراق وحزب الله اللبناني، بدراسة مخاطر ما أطلق عليه ثورات الربيع العربي الذي انطلق في تونس ومصر قبل سوريا، وقرر مواجهة الاحتجاجات في سوريا بالقوة الأمنية المسلحة، وقد تزايد التدخل الإيراني بعد انطلاق الثورة السورية حتى نهاية عام 2011م،  ودخلت قوات حزب الله اللبناني الأراضي منذ النصف الأول من عام 2012م، للسيطرة على الأراضي السورية المحاذية للبنان في القصير والقلمون والزبداني عمومًا، وقام قاسم سليماني رئيس الحرس الثوري الإيراني في ذلك الوقت وبتوجيهات المرشد خامنئي بإقناع بوتين إلى ضرورة التدخل العسكري الروسي، وبالأخص السلاح الجوي الروسي بتاريخ 30/9/2015م، دون أن يتمكن الأخير من القضاء على فصائل الثورة السورية، وبعد سقوط بشار الأسد لا زالت التصريحات الإيرانية باسم المرشد وقائد حرسها الثوري توجه التهديدات لسوريا، وأنها تعد قواتها لإعادة السيطرة على سوريا، وتؤازرها في هذه التهديدات بعص الميليشيات العراقية بزعامة نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي الأسبق، وزعيم ميليشيات طائفية في العراق، مما يعني أن استقرار سوريا قد يحتاج إلى سنوات قبل التأكد من استقرارها الأمني والسياسي.

إن مسؤولية الاستقرار ونجاح التغيير في سوريا ليس من مسؤولية الشعب السوري وحده، وإن كان صاحب الحق في ذلك، وإنما هي مسؤولية الدول الإقليمية قبل غيرها، فالاستقرار في سوريا هو استقرار للإقليم العربي والتركي والكردي والإيراني معا، والمخاطر التي يتهددها الاستقرار في سوريا ليست على سوريا وحدها، وإنما على دول الإقليم كله وشعوبه.

 

سوريا الجديدة والتوازنات الإقليمية والدولية

صنع استمرار الحرب الأهلية في سوريا بسبب التدخلات أزمة لما يحدث بعد انتهائها، ولعل السبب الأكبر لطول الأزمة السورية هو عدم وجود رغبة دولية لسرعة الحل السياسي في سوريا منذ اندلاع الثورة لأهداف دولية ماكرة، فأمريكا خدعت فصائل الثورة السورية والدول العربية والإقليمية المعنية بالأزمة السورية بضرورة انتقال السلطة في سوريا بالطرق السلمية، وعدم السماح لفصائل الثورة حسم الأمر ، فدعت أمريكا إلى مؤتمر جنيف1 يونيو 2012م، ومؤتمر جنيف2 يوليو 2013م، ولكن الجهود الأمريكية لم تكن حازمة لإنهاء حكم بشار الأسد، بسبب ضغوط إسرائيلية بعدم الاستعداد للتعامل مع واقع جديد بعد نظام الأسد، وبسبب مخاوفهم من هوية الثورة السورية الجهادية الإسلامية في ذلك الوقت، بينما كانت فصائل الثورة السورة على بعد مئات الأمتار من قصر بشار الأسد، وأخرت أمريكا سقوط الأسد لأكثر من اثنى عشر عاما تقريبا، وفي نفس الوقت فتح الضوء الأخضر للفصائل الجهادية الدولية للتورط في سوريا، ولم تمانع منذ ذلك الوقت من مشاركة مقاتلين وميليشيات وجيوش دول إقليمية في الحرب الأهلية في سوريا، وهذا فتح الباب لوزارة الدفاع الأمريكية أن تنشأ الكثير من القواعد العسكرية في شمال شرق سوريا، ودفعت روسيا إلى زيادة قواتها وقواعدها العسكرية في سوريا أيضًا، وهذه الأسباب الدولية أطالت الأزمة الأولى قبل سقوط الأسد وهي نفسها التي ستطيل الأزمة السورية بعد سقوط الأسد.

وهكذا يمكن قراءة الوضع في سوريا بعد الأسد بأنه في أزمة جديدة أيضاً، لأسباب دولية وليست داخلية فقط، فمستقبل سوريا أصبح بيد الدول المتورطة في الأزمة السورية، فقد كان كل طرف فصائلي أو دولي مشارك في الحرب الأهلية السورية يسيطر على جزء من الأراضي السورية، بما فيها من مكاسب سيطرة وسرقة ونهب خيرات تلك البقعة الجغرافية من نفط وغاز وصناعة ومنتجات زراعية وغيرها، وما الوضع شمال شرق سوريا ومنظمة سوريا الديمقراطية قسد إلا خطرًا ماثلًا من مخلفات الحرب الأهلية.

حاولت الرؤية الأمريكية للأزمة السورية أن تمسك بخيوط تلك الأزمة، بما فيها منع سقوط النظام ومنعه من القدرات التي تمكنه من القضاء على الثورة السورية، فكانت امريكا هي اللاعب الأكبر في الحرب السورية بحكم مكانة أمريكا في العالم، التي كانت تعمل لتقسيم سوريا إلى ستة دول بحسب تصريحات سفير أمريكي سابق في سوريا، لتثبيت أكبر تواجد عسكري لها في الشرق الأوسط.

إن سعي الرؤية الأمريكية لتقسيم سوريا، فرض على تركيا اعتبار مستقبل سوريا جزءًا من الأمن القومي التركي أولاً، لأن الأحزاب الكردية وهي المتمثلة اليوم باسم قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، تعلن عن مشروعها الانفصالي عن سوريا، وباسم أحزاب سياسية كردية مسلحة تنتمي لحزب العمال الكردستاني المعادي لتركيا.

يرى محللون أن أمريكا تعمدت فتح دخول الفصائل الجهادية أو الأصولية أو الراديكالية المتشددة إلى سوريا، واتهم الرئيس الأمريكي ترامب إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق أوباما بإنشاء تنظيم داعش لتمرير مشاريع الفوضى الخلاقة التي رسختها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس، وأن ذلك عاد على أمريكا وعلى سوريا والعراق والشرق الأوسط بالخراب والدمار.

إن الفشل الأمريكي في تقسيم سوريا في عهد بشار الأسد لا يعني أن أمريكا فقدت الأمل في تقسيمها اليوم، إلا في حالة النجاح في خلق نظام سياسي في سوريا خاضع لبيت الطاعة الأمريكي، والمدقق في إجراءات إسقاط بشار الأسد يدرك أن عملية التغير كانت بيد أمريكا وجنرالاتها، كما أن قادة فصائل الثورة السورية لم يجدوا بدًا من التعاون مع الجنرالات الأمريكيين في عملية إسقاط بشار الأسد وتحييد أركان الجيش السوري التابع له.

وكذلك فإن خروج سوريا عن السيطرة الأمنية في عهد الأسد اضطر أمريكا إلى إعادة النظر بالأزمة السورية والتنسيق مع تركيا والفصائل الثورية السورية المتعاونة معها للتحرك جنوبًا للسيطرة على كامل الأراضي السورية باستثناء الأراضي التي تسيطر عليها أمريكا شمال شرق سوريا عبر قسد، لأن فيها القواعد العسكرية الأمريكية، والهدف المعلن منع ظهور داعش من جديد، وتصفية التواجد العسكري الإيراني وقوات حزب الله اللبناني والفصائل الشيعية الموالية لإيران.

إن نجاح التعاون الأمريكي والتركي والأوروبي بإسقاط نظام بشار الأسد، وإخراج الميليشيات والجيش الإيراني من سوريا، ومحاولة إخراج الجيش الروسي من شمال غرب سوريا من طرطوس وحميميم، أو التقليل منها لأقصى درجة، هو أحد أهم ملامح صورة سوريا المستقبل.

بينما لن تقبل تركيا إخراج قواتها من سوريا إلا بعد سيطرة الجيش السوري على كامل الأراضي السورية وتحرير شمال شرق سوريا من قوات سوريا الديمقراطية قسد، وتأمين الأمن القومي التركي حدوديًا، وفي داخل سوريا معا، بل تشير بعض التقارير أن الحكومة السورية الجديد تعمل على توقيع اتفاقيات دفاع مشترك مع تركيا، قد تشمل إقامة قواعد عسكرية لتركيا في سوريا.

أثر التدخل الإسرائيلي على القوة العسكرية لسوريا القادمة:

إن مسارعة الحكومة الإسرائيلية إلى احتلال كامل أراضي الجولان السورية وتدمير الثقل العسكري الذي خلفه نظام الأسد السابق، يؤكد أن لدى إسرائيل مخاوف كبيرة من سوريا الجديدة، وهي نفس المخاوف التي جعلتها لا تستعجل سقوط بشار الأسد منذ ثلاثة عشر عامًا، بل تمانع سقوطه لأسباب أمنية بالدرجة الأولى، ولذا فإنها ستبقي أجهزتها الأمنية والاستخباراتية متابعة لكل إجراءات الحكومة السورية الجديدة، سواء كانت إجراءات سياسية أو عسكرية أو اقتصادية أو صناعية أو دستورية أو اتفاقات دولية، وبالأخص مع الحكومة التركية برئاسة رجب طيب أردوغان، بحكم اتهامه بمعاداة السياسات الإسرائيلية منذ سنوات.

لا بد أن تعتبر إسرائيل نفسها من الخاسرين من سقوط نظام آل الأسد، وإن أعلنت أنها هي من قامت بذلك بعد حربها الأخيرة في لبنان 2024م، وما إسراعها لتدمير ما لدى الجيش السوري من أشكال القوة والمعدات العسكرية إلا لعدم اطمئنانها بسقوطها بأيدي الدولة السورية الجديدة، وبالأخص أن إسرائيل لا تملك فصائل عسكرية مسلحة تعمل لصالحها في سوريا، وما تعاونها ومدها لقوات سوريا الديمقراطية بالأسلحة والمعدات والمسيرات العسكرية إلا محاولة للتأثير على مستقبل سوريا وتهديد تركيا في نفس الوقت.

سيادة سوريا والحاضنة العربية والإقليمية:

ترسخت مكانة الدولة السورية بوصفها دولة عربية مؤسسة لجامعة الدول العربية، ودولة مؤسسة لمنظمة التعاون الإسلامي، ولها علاقات سياسية دبلوماسية قوية مع معظم دول العالم، قبل نشوء الثورة السورية عام 2011م، وقامت معظم الدول العربية بتجمد علاقاتها مع سوريا بقرارات جامعة الدول العربية عام 2012، وقبل سقوط نظام الأسد بسنتين قامت بعض الدول العربية بتحسين علاقاتها مع نظام الأسد، وحضر بشار الأسد القمة العربية الأخيرة في الرياض، دون أن يمثل ذلك تبني ولا قبول لسياسات القمع التي كان نظام بشار الأسد يمارسها حتى سقوطه.

وبذلك فإن الدول العربية والإقليمية التي كانت معنية بانتهاء الأزمة السورية سلميًا أو عسكريًا قد رحبت بخروج سوريا من أزمتها الأولى ونهاية حكم بشار الأسد، ولكنها في نفس الوقت حريصة على خروج سوريا من أزماتها الثانية المتمثلة بأزمات سوريا ما بعد الأسد مع النظام السوري الجديد، وإسناده لمعالجة مشاكله الداخلية، بما فيها تناثر السلاح بين فصائل الثورة وعموم الشعب السوري، وجمعها وحصرها بيد الحكومة السورية، وإنهاء مرحلة عمل الفصائل الثورية بإقامة حكومة سورية رسمية واحدة تتولى شؤون البلاد في كل مناحيها الأمنية والعسكرية، وحصر السلاح بيد الحكومة الشرعية، والسيطرة على الحدود الخارجية ومنع التهريب منها بكل أنواعه، وذلك يتطلب التنسيق مع كل دول الجوار السوري للتعاون في تنفيذها وضبطها.

إن مسؤولية استقرار سوريا وتمكين حكومتها الجديدة من إدارة سوريا الجديدة بنجاح وتقدمها هي مسؤولية جمع الدول العربية، وبالأخص دول الجوار العربي في الأردن والعراق ولبنان، وبدرجة موازية ولا تقل أهمية مع الدولة التركية، التي كانت علاقاتها مع فصائل الثورة السورية متميزة وعالية بدرجة كبيرة، وما كانت تمثله الأراضي التركية من مسار أساسي للفارين من النظام السابق والهجرة إلى أوروبا.

إن استخلاص العبر من دروس الأزمة السورية يؤكد في أهم أبعادها ضرورة تقليل عدد الدول التي لها أطماعًا في سوريا، بما فيها الدول الكبرى روسيا وأمريكا وأوروبا والصين، فهذه الدول جعلت من الأزمة السورية السابقة وكأنها ساحة معركة دولية كبرى، ولا يقل خطورة عن ذلك الدول الإقليمية الكبرى، مثل المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة وتركيا وإيران وغيرها، كل بحسب موقفه من المجازر التي تعرضت لها، وما يتخوفه البعض من نتائج الثورة على نظمها السياسية.  

   دور تركيا وإعادة إعمار سوريا أمنيًا وعسكريًا وصناعيًا:

كان لتركيا دور كبير في مساعدة الشعب السوري منذ انطلاق الاحتجاجات الشعبية السلمية، وأيدت مطالبها الشعبية في الإصلاح السياسي والدستوري، دون أن يكون لها أطماع جغرافية أو تاريخية، وبحثت ذلك مع بشار الأسد دون نجاح، وتتحدد الاستراتيجية التركية نحو سوريا بعد الأسد على الأسس التالية:

أولاً: المطلب الأمني الحدودي

المطلب التركي الأساسي هو الأمن القومي التركي، ومنع إقامة كيان انفصالي كردي شمال شرق الفرات، وهذا يتطلب تغير نظرة أمريكا حول مسألة قسد.

ثانيًا: حل أزمة اللاجئين السوريين في تركيا:

كانت تركيا من أوائل الدول التي فتحت حدودها للسوريين الفارين من القتل وبطش الأجهزة الأمنية عند اندلاع الثورة السورية عام 2011م، وفي تركيا اليوم ملايين اللاجئين السوريين، الذين أحدثوا انقسامات سياسية بين الأحزاب التركية والتماسك الاجتماعي التركي، لا تسعى الحكومة التركية إلى فرض رحيلهم عن الأراضي التركية بحكم انتظار استقرار سوريا أولاً.

ثالثاً: أفضل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية

تسعى تركيا إلى التعاون مع القيادة السورية الجديدة، ودعمها بكل ما يلزمها اقتصاديًا وسياسيًا، والحفاظ على سوريا دون تدخل خارجي إقليمي أو دولي على النحو الذي كان قبل تغيير النظام، فتركيا كانت آخر الدول من حيث التدخل العسكري، فكان التحرك العسكري الأول في أواخر عام 2016م، بعد أن حاولت كل الدول التي تملك جيوشًا في سوريا السيطرة على شمال سوريا وإقامة كيانات انفصالية فيها، تمثل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي التركي، ومن المرجح أن يتم تنظيم التواجد العسكري التركي في سوريا بتوقيع اتفاقات جديدة مع الحكومة الجديدة.   

مجلة آراء حول الخليج