- خلال اثني عشر يوماً، سقط نظام البعث في دمشق، النظام الذي استمر لأكثر من نصف قرن. سقط نظام بشار الأسد، في مواجهة قوة شبه نظامية، أظهرت قدرة فائقة ليس فقط على تنظيم حملة عسكرية للإطاحة بواحد من أعتى أنظمة الحكم الاستبدادية في المنطقة، في وقت قياسي، بل الأهم هنا: القدرة التنظيمية السياسية والأمنية المضبطة، التي أبدتها المعارضة السورية المسلحة، بقيادة هيئة تحرير الشام، على الإحلال اللوجستي والعملياتي، لممارسة السلطة، بصورة فورية، عقب هروب رأس النظام من البلاد واللجوء "الإنساني" إلى موسكو. لقد أظهرت المقاومة المسلحة لهيئة تحرير الشام قدرة فائقة على تطبيق نموذج دولة المدينة في إدلب، الجيب الجغرافي الصغير الواقع في شمال غرب سوريا، على نموذج دولة دمشق القومية، بعد الانهيار المدوي للمنظومة العسكرية لنظام دمشق الشمولي المستبد، اليوم التالي مباشرةً. ذلك أن نظام الأسد، في النهاية: لم يستمد شرعيته، طوال أكثر من نصف قرن على قاعدة شعبية صلبة تتمتع بتمثيل حقيقي للشعب السوري، ذو الأغلبية الساحقة للعرب السنة في سوريا (بلاد الشام التاريخية وحاضرة الأمويين).
الطريق إلى دمشق
ثلاث عشرة سنة، منذ اندلاع الثورة السورية (فبراير ٢٠١١م)، إلى سقوط نظام الأسد (ديسمبر ٢٠٢٤م)، عملت المعارضة السورية، بجدٍ ومثابرةٍ على تحقيق نصرٍ مؤزرٍ على نظام دمشق الفاشي، في وقت قياسي، بشن حربٍ خاطفةٍ، تذكرنا بالحروب الخاطفة، التي استطاع هتلر إخضاع أوروبا، من وسطها إلى غربها، في لا زمن، تقريباً. كانت البداية، بانطلاق حملة ردع العدوان (٢٧ نوفمبر ٢٠٢٤م)، تجاه مدينة حلب غرباً، وما لبثت أن وصلت الحملة لفتح دمشق، إن صح التعبير، في غضون اثني عشر يوماً من بداية حملة ردع العدوان. سقطت خلال هذه الحملة العسكرية تباعاً، مدن الساحل في غرب سوريا (اللاذقية وطرطوس وبانياس)، ثم واصلت الزحف جنوباً لتسقط المدن السورية تباعاً من حماة لحمص، وصولاً إلى دمشق (٧ ديسمبر ٢٠٢٤م)، تقريباً بدون أي مقاومة تذكر من جيش النظام النظامي، ولا من ميلشياته (الشبيحة)، غير النظامية. الأمر الذي يعكس قدرة استخباراتية فعالة لهيئة تحرير الشام، طورتها ضمن تجربة سيادتها لنموذج دولة المدينة في إدلب.
خلال أثنى عشر يوماً لم تتهاوَ فقط وحدات جيش الأسد النظامية.. وقدراته الاستخباراتية، فحسب… بل أيضاً، انهيار قوة وإمكانات حلفائه الإقليميين، الذين استعان بهم، لفرض سيطرته على سوريا، على حساب الملايين من شعب سوريا، خاصةً العرب السنة، بالذات: الإيرانيين وحلفائهم من قوى غير نظامية بالمنطقة، كحزب الله في لبنان.. وقوات الحشد الشعبي في العراق، والمرتزقة الشيعة، من كل صوب وحدب، التي فتح لهم نظام الأسد أبواب سوريا مشرعةً، لتنفيذ مخطط إحلالهم في قرى ومدن الشام، في أبشع جرائم للتصفية العرقية والطائفية ارتكبت في العصر الحديث، منذ الحرب الكونية الثانية.
كل هذه الإمكانات العسكرية والاستخباراتية وشبكة الحلفاء الدوليين والإقليميين، الذين استعان بهم نظام الأسد، لضمان بقائه في الحكم، على حساب سيادة الدولة السورية وشعبها، لم تستطع أن تصمد أمام قوى المعارضة المسلحة، شبه النظامية، ممثلةً في هيئة تحرير الشام، التي اجتاحت سوريا، في اثني عشر يوماً، فقط. قارن هذا بسقوط نظام صدام حسين في بغداد ٢٠٠٣م، الذي استغرق أكثر من ستة أشهر، بتدخل دولي قادته القوة الأعظم في العالم (الولايات المتحدة الأمريكية).
اللافت هنا: أن سقوط نظام بشار الأسد البعثي المدوي، حدث في وقت ظن فيه بشار الأسد ونظامه، أنه انتصر، ليس فقط على المعارضة السورية، بل على قوىً إقليمية عربية، ما لبثت أن استسلمت لواقع حكم الأسد في دمشق، حيث بدأت حملة دبلوماسية منظمة لإنهاء مقاطعة نظام الأسد من قبل النظام الرسمي العربي، توج باستعادة نظام دمشق لمقعد سوريا في الجامعة العربية، كما توافدت كثيرٌ من الدول العربية، الانفتاح على دمشق، باستعادة التمثيل الدبلوماسي مع نظام الأسد، وبدء الحديث عن مشاريع لإعادة إعمار المدن والقرى السورية، دون أي اكتراث لوجود ملايين السوريين، معظمهم من العرب السنة، في المنفى القسري، حول العالم.
من دولة إدلب إلى جمهورية دمشق
اللافت، أيضا: في زحف المعارضة المسلحة باتجاه دمشق، ليس النجاح العسكري والاستخباراتي لإسقاط نظام الأسد البعثي، في سوريا، لكن الإنجاز الحقيقي هنا: القدرة الفعالة والمنضبطة، بالذات السياسية والبيروقراطية، للكوادر المدربة في هيئة تحرير الشام، لممارسة السلطة الفعلية في البلاد فوراً، بعد دخول رموز سلطة الثوار، إلى مقار مؤسسات السلطة الرسمية، في العاصمة دمشق، وبالتبعية: ممارسة السلطة، في اليوم التالي مباشرةً! إنجاز لم يلتفت له الكثيرون ولم يُقَدّر حق قدره.
لكن في حقيقة الأمر، إذا ما حسبنا حساب أربع سنوات، على الأقل، من العمل المضنى والمنضبط والفعال، الذي أظهره رموز هيئة تحرير الشام، في تطوير تجربتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في نموذج دولة المدينة في إدلب، تذهب العديد من علامات التعجب والاستفهام، لتفسير هذا الإنجاز السياسي الكبير، الذي أنجزته المعارضة المسلحة في هيئة تحرير الشام. بدايةً: لابد أن ننوه هنا، إلى أن رموز وجماعات هيئة تحرير الشام، في تجربة دولة إدلب، اعتمدوا أولاً وأخيراً على إيمانهم العميق بقضيتهم، والأهم هنا: الإحساس بمسؤوليتهم الوطنية في استعادة بلدهم ونصرة شعبهم، بالإضافة إلى استشرافهم لحركة التاريخ وهي تتكشف وتنطوي أمامهم.
صحيح أن رموز ومجموعات المعارضة المسلحة في هيئة تحرير الشام، انطلقوا من مبدأ مسؤوليتهم التاريخية في استعادة بلدهم وعودة شعبهم لديارهم في مدن الشام وقراه، إلا أنه كان هناك، قوى إقليمية ودولية، رأت من مصلحتها أن تستثمر في قضية المعارضة السورية في الخارج، لأسباب سياسية وأمنية واستراتيجية. مثلاً: تركيا وإن ساعدت دخول أعداد كبيرة من السوريين للبلاد، إلا أن إمكانات تركيا الاقتصادية، لم تكن مهيأة لاحتواء هذه الأعداد الكبيرة من اللاجئين السوريين، في المجتمع والاقتصاد التركي.
تركيا، من الناحية الاستراتيجية، كانت تنظر للقضية السورية من منظور أمني بحت، لأن تركيا لا تحتمل وجود معارضة كردية على حدودها الجنوبية مع سوريا، تهدد أمنها القومي ووحدة شعبها وسيادتها الإقليمية. لم تكن أنقرة لترضى عن وجود تهديد سوري، بخلفية كردية، مدعومة من الولايات المتحدة والأوربيين، على حدودها الجنوبية، مطلقاً. كما لم تكن تركيا لتتسامح بأن تكون إيران وحلفاؤها الإقليميون في المنطقة، بالذات ميليشيات حزب الله والحشد الشعبي، على حدودها الجنوبية. زيادة على ذلك: علينا ألا ننسى أن الوجود السوري، ممثلاً في وجود جالية كبيرة من السوريين قوامها سبعة ملايين سوري في تركيا، كان يمثل ورقة فعالة لتقوية الموقف التركي تجاه دول الاتحاد الأوروبي، بالضغط بمتغير اللاجئين السوريين، لتقوية الموقف التركي في علاقته مع الاتحاد الأوروبي .. وملف انضمام تركيا للاتحاد.
في المقابل: استفادت المعارضة السورية، من خلفية الدعم التركي للقضية السورية، عن طريق قراءة موضوعية للموقف التركي وأهدافه الاستراتيجية من دعم المعارضة السورية على حدود تركيا الجنوبية، فكان أن تلاقت المصالح التركية مع أهداف المعارضة السورية، ممثلةً في هيئة تحرير الشام، في تكامل سياسي واستراتيجي قوي، تدفعه مصلحة سياسية وأمنية مشتركة. فكانت الصفقة بين الجانبين تتمحور حول منح المعارضة السورية ملاذاً امانًا لمواقعها في محيط إدلب، في أقصى الشمال الغربي من سوريا. في مقابل: توفير شريط أمني على حدود تركيا الجنوبية من سوريا، في مواجهة الثوار الأكراد، عدو تركيا اللدود في تلك المنطقة.
وكان أن ازدهر نموذج دولة المدينة في إدلب، بوصفه مسرح عمليات آمن للمعارضة السورية، تطبق فيه أنظمة وقوانين وممارسات حكم فعالة، تمسك بمقاليد حكم فعلية، بكل جوانبها السياسية والأمنية والبيروقراطية والقانونية والاقتصادية، تمهيداً للمعركة الكبرى، صوب دمشق. ولا ننسى هنا أن المعارضة السورية لهيئة تحرير الشام، استفادت استفادة قصوى من الموارد المتاحة لها في إقليم سوريا الشمالي، لتدبر من خلاله نفقة إدارة نموذج دولة إدلب، بما فيها تنمية القوة العسكرية والأمنية ليس فقط من أجل الحفاظ على منطقة نفوذها، بل أيضاً إقامة صناعة عسكرية، تمهيداً ليوم الزحف تجاه دمشق. كل تلك الاستعدادات تفسر هذا الزحف السريع للمعارضة السورية المسلحة، ممثلةً في هيئة تحرير الشام، الذي لم يتصور أحد عدا الثوار أنه قادر على ما أنجزه بالفعل من نصرٍ مؤزرٍ، على كل التحديات بواسطة أدوات قوة متواضعة، لميليشيات شبه نظامية، ليست نداً لإمكانات نظام قمعي يمتلك قوة عسكرية نظامية وأجهزة استخبارات متمرسة وتحالفات إقليمية ودولية ممتدة، تبعث على اليأس من مجرد التفكير في مواجهتها، دعك من الإقدام الفعلي على تحديها والنزال معها، ومن ثَمّ إسقاطها.
معضلة الأقليات الأمنية
سوريا من بين أكثر الدول العربية اكتظاظاً بالأقليات الدينية والطائفية والعرقية، تأتي مباشرةً بعد العراق. تبلغ الكثافة السكانية للأقليات حوالي 25% من السكان البالغ عددهم حوالي ٢٣.٥ مليون نسمة، ٧٥ % منهم من العرب السنة. هنا تختلف الخريطة الديمغرافية بين العراق وسوريا، بينما في العراق يمثل الشيعة حوالي ٦٥ % من السكان، بينما يمثل العرب السنة ٧٥ % من سكان سوريا، بينما في العراق يمثل العرب السنة ٣٥ % من السكان. لهذا سيطر الشيعة على مقاليد ومؤسسات السلطة في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، بينما سوريا كانت تحكمها طائفة العلويين، التي لم تتجاوز ١٠ % فقط من السكان، لأكثر من نصف قرن.
بصفة عامة: أي خلل في الخريطة السكانية، لأي دولة، يُعد من الناحية السياسية، عامل عدم استقرار، خاصة إذا ما كان هذا الخلل ناتج عن تعددية لا سياسية (دينية أو طائفية أو عرقية). هذا الشكل من التعددية، غير السياسية، يطل عدم استقرار مزمن، وهذا هو حال الدول العربية، التي تبلغ فيها نسبة الأقليات أكثر من ربع عدد السكان، مثل ما هو الحال في سوريا ولبنان. خريطة ديمغرافية لا وجود لمثلها في دول الشمال الديمقراطية، مما يظهر الفرق بين التعددية السياسية في الغرب والتعددية، التي تقوم على أسس دينية أو طائفية أو عرقية، كما هو واقع بعض الدول العربية في منطقة الهلال الخصيب من العراق للدول العربية الواقعة على شواطئ البحر المتوسط الشرقية.
في دول المشرق العربي، مثل سوريا التي هي موضوع هذه العجالة، مشكلة الأقليات، هي في الأساس مشكلة أمنية، وليست سياسية، بالمطلق. تاريخياً الأقليات في هذه المنطقة عانوا من استبداد الأغلبية، ربما أحيناً أكثر من تسلط المحتل الأجنبي. الأقليات، كما هو في حال سوريا، لديهم قناعة، أن الحل الوحيد لتفادي اضطهاد الأقلية يكمن في تقلدهم لزمام السلطة والبقاء فيها. لا أمن ولا أمان لهم، إلا إذا كانوا أسيادًا في مجتمعاتهم، ليسوا بمحكومين. عكس ما هو الحال في المجتمعات المتقدمة في الشمال، حيث المواطنة تؤسّس على قيم الحرية والمساواة، وهي قيم علمانية، توفر الحد الأدنى من مواصفات وامتيازات المواطنة، تعكس التعددية السياسية للمجتمع، وليس الخريطة الديمغرافية التي تتشكل منها التعددية السياسية، برموزها ومؤسساتها غير الرسمية.
المشكلة الأساسية، في مجتمعات الشرق التي تسود فيها التعددية اللاسياسية (الطائفية والعرقية والدينية)، تأخذ مشكلة الأقليات منحىً أمنيًا وليس سياسيًا، بمعادلة صفرية حادة. لن تشعر الأقليات بالأمن والأمان، إلا وهي في سدة الحكم، وإن تطلب ذلك ممارسة قمعية ضد بقية فئات المجتمع، بما فيهم الأغلبية أو الأكثرية السكانية، التي قد تتمتع بها طائفة بعينها.
نظام الأسد البعثي في سوريا منذ استلامه لمقاليد الحكم في دمشق بانقلاب ١٩٧٠م، وهو متمسك بأسنانه وقوائمه ويده، بالسلطة، وإلا فإن العلويين الذي لا يشكلون سوى أقل من 10% من السكان لن ينعموا بالاستقرار والأمان، لو أن الحكم بيد الأغلبية الساحقة من العرب السنة، مهما كان الثمن، حتى لو تطلب الأمر ممارسة تطهير عرقي يأتي على الأغلبية من العرب السنة والاستعانة بأطراف دولية وإقليمية، فقط من أجل بقاء العلويين في السلطة والحؤول دون الأغلبية من العرب السنة الوصول للحكم. من أجل هذا لا تؤمن الأقليات في المنطقة العربية، مثل سوريا بالديمقراطية، لأنها في النهاية ستأتي بالأغلبية للحكم، هذا أمنياً ليس مقبولاً، بالنسبة لهم، بأي شكل من الأشكال. شعارهم في هذا: إما التشبث بالسلطة، بعد الاستيلاء عليها.. أو ضياع الإحساس بالأمان وعدم الاستقرار.
ألغام في طريق سوريا الجديدة.
الطريق ليس ممهداً، دعك من القول: أنه مفروش بالورود، بالنسبة للجمهورية الجديدة في دمشق. هو طريق مليء بالأشواك، بل بالألغام، أمام حكام دمشق الحاليين، الذين يتطلعون لحقبة مبشرة في حكم سوريا، بعودة الأغلبية من العرب السنة للحكم، في ظل دستور يتبنى القيم والممارسة الديمقراطية، يتمتع فيه المواطن بحقوق وحريات متساوية، مهما كانت طائفته وخلفيته العرقية. قيم الممارسة الديمقراطية هنا لا تكفي بالنسبة للأقليات، لأنها ستأتي بالأغلبية للحكم، حيث لا يؤمن استبدادها، وبالتبعية من وجهة نظر الأقليات، سيادة الخوف وعدم الأمن والأمان، لطوائف وعشائر الأقليات، بالذات العلويين النصيرين، الذين جربوا لذة السلطة والتمتع بحصانتها وامتيازاتها، لأكثر من نصف قرن. ترى ما هي هذه التحديات، التي ستواجه أي حكومة جديدة في دمشق، تعكس إرادة الأغلبية، حتى ولو أسست شرعيتها على قيم الديمقراطية، بنسختها العلمانية.
أولاً: قوى الثورة المضادة
نظام الأسد رغم هزيمته العسكرية والسياسية بنجاح هيئة تحرير الشام في إسقاطه سياسياً وعسكرياً، إلا أنه لن يهدأ لرموزه وتياراته السياسية وحزب البعث بال، إلا إذا استعاد زمام الأمور من جديد، ونجحت محاولات الثورة المضادة، التي تنشط هذه الأيام في قض مضجع نظام حكم الأغلبية العربية السنية الجديد في دمشق، حتى يستعيد مقاليد السلطة من جديد.. أو على الأقل الحصول على ضمانات أمنية، ربما ضمان الحصول على نصيب أكبر من "كعكة" الحكم يفوق نسبة العلويين يعادل أعدادهم الحقيقية في المجتمع، وينص على ذلك في الدستور الجديد، باحترام خيارات ومصالح الأقليات في سوريا، والحؤول دون استبداد الأغلبية، حتى ولو جاءت إلى الحكم بالطرق الديمقراطية المرعية.
بالإضافة إلى أن العلويين النصيرين، وحتى بقية الأقليات الأخرى من دروز وكرد، لن يقفوا عن إزعاج النظام الجديد في دمشق، حتى لو استقرت له الأمور وبقي في السلطة بمعايير الديمقراطية المرعية، لأنه لن يعجز عن الحصول على الأغلبية المطلقة، لشغر مؤسسات الدولة السيادية، في أي انتخابات عامة تجرى مستقبلا. هنا يظهر لنا متغير آخر، قد يستغل هذا الصراع بين الأقليات ونظام الأغلبية في دمشق، للضغط على الأخير، من أجل الحصول على عوايد وامتيازات، قد يصل بعضها المساومة على أراضٍ سورية أو امتيازات تنال من سيادة أي نظام قادم في دمشق، قد تجرح في شرعية الحكومة في دمشق، وتظهر عدم قدرتها على الحكم، ومن ثَمّ تفشل، كما سبق وفشلت في المعارضة.
ثانياً: القوى الإقليمية
لا يغيب عنا هنا: أن نجاح هيئة تحرير الشام، لم يضر فقط بنظام الأسد البعثي، بل أضر بمصالح قوىً إقليمية ودولية، استثمرت غالياً في نظام الأسد، مالياً وأمنياً وسياسياً ولوجستياً، وهي لن تقعد مكتوفة الأيدي لتشاهد استثماراتها المكلفة في نظام آل الأسد تذروها الرياح أمام سمعها وبصرها.
إسرائيل، على سبيل المثال، استثمرت في نظام الأسد لأكثر من نصف قرن، مقابل هدوء جبهاتها الشمالية وسكوت نظام الأسد عن احتلال منطقة الجولان، مقابل المساعدة في بقاء نظامه، الذي رأته يتبخر في ١٢ يوم، أمام أعينها، في غياب استخباراتي مدقع وخطير. هذا يفسر كيف أن إسرائيل استغلت حالة عدم الاستقرار التي أعقبت سقوط نظام الأسد، لتتوسع في منطقة الجولان وتحتل المنطقة العازلة في هضبة الجولان، وتكتسح قواتها جبل الشيخ وتتمدد في الأراضي السورية شمالاً، بما يفوق المنطقة المحتلة من قبل، لتقترب من دمشق، التي تبلغ المسافة بينها وبين القوات الإسرائيلية، أقل من أربعين كيلو، مهددة العاصمة السورية بالزحف تجاهها، في أي وقت.
إيران لن تسكت عن خسارة استثماراتها في نظام الأسد. لأربعين سنة، بعد نجاح ثورة الخميني في إيران، كانت سورياً وإلى حدٍ ما لبنان، ترجمةً عملية لشعار تصدير الثورة. أصيبت طهران بالذهول عند تأكيد سقوط نظام الأسد في دمشق، ولم تقوَ قواتها في سوريا ولا قوات عملائها في لبنان ممثلةً في حزب الله أن تتصدى لقوات هيئة تحرير الشام، شاخصةً أبصارها وهي ترى قلاعها التي بنتها في سوريا وهي تتهاوى الواحدة بعد الأخرى. لقد خسرت طهران في أقل من شهرين اثنين من قلاعها في المنطقة (حزب الله ونظام الأسد)، ليظهر عجزها تماماً عن حماية تواجدها الطويل المدى في المنطقة، لتلحق هي بذاتها، وتلقى نفس المصير.
في هذا السياق: علينا ألا ننسى قوة عظمى وجدت موطئ قدم لها في شرق المتوسط، وهي لطالما حلمت بـ"السباحة" في المياه الدافئة، وقد أنفقت الكثير من مواردها السياسية والاقتصادية ورصيدها الأخلاقي في دعم نظام الأسد في حملته ضد المقاومة التي اشتعلت ضمن موجة ثورات الربيع العربي، بداية ٢٠١١م. موسكو التي فر إليها بشار الأسد، بعد أن منحته حق اللجوء "الإنساني"، يُعد ورقة سياسية يشهرها الروس متى أرادوا للضغط على النظام الجديد في دمشق، حماية لمصالحها وتواجدها الاستراتيجي في الأراضي السورية، حيث يتركز هذا الوجود في قاعدة حميميم الجوية قرب اللاذقية.
الولايات المتحدة، أيضاً لها تواجد عسكري في سوريا ضمن القوة الدولية لمحاربة الإرهاب.. وكذا استثمارات في مناطق حقول النفط وسط سوريا، هي الأخرى، ستحاول ابتزاز أي نظام جديد في دمشق لحماية مصالحها العسكرية والاقتصادية في سوريا. كما أن واشنطن، ما لبثت من فينة لأخرى تؤكد على استراتيجية تواجدها على الأرض في سوريا دعماً لما تزعمه من حقوق الأكراد.
هناك، إذن: مصالح متشابكة لقوىً إقليمية ودولية، أورثها نظام الأسد، ينوء بها أي نظام قد يأتي بعده.
ثالثاً: أنظمة المقاطعة الاقتصادية الدولية
سوريا الجديدة، تواجه عقبة كأداء قائمة، ورثتها من النظام البائد. هذه العقبة ممثلة في العقوبات الاقتصادية التي فرضتها عليها قوىً غربية، بجريرة نظام الأسد الفاشي، وتاريخه الأسود في ملف حقوق الإنسان. بالنسبة للدول التي فرضت هذا الحصار على سوريا، منذ زمن في عهد نظام البعث المستبد في دمشق، لن تحرر سوريا والنظام الجديد في دمشق من تلك القيود، إلا نظير تنازلات تفوق الأسباب التي أدت لفرض تلك العقوبات.
صحيح، بعض تلك القوى الدولية رفعت النظام الجديد في دمشق من قائمة الإرهاب، مؤقتاً أو وعدت بذلك .. كما علقت مؤقتاً بعض بنود المقاطعة الاقتصادية ضد دمشق، حتى تتأكد لتلك الجهات الدولية، أن حكومة دمشق الحالية نجحت في تغيير صورة النظام البائد، وإبدالها بصورة ناصعة جديدة لنظام الثورة الجديد في دمشق، خصوصاً أن بعض رموز هذا النظام، مثل رئيس الجمهورية الحالي، كان ضمن فصائل مسلحة اتهمت بالإرهاب، وكان مطلوباً لهذه الدول حياً أو ميتاً ورصدت ملايين الدولارات ثمناً لرأسه.
وإن كانت كثيراً من دول المنطقة والعالم رحبت بانتصار هيئة تحرير الشام وأشادت لزعيمها، حيث زارت دمشق وفود رفيعة المستوى وقابلت الرئيس أحمد الشرع، إلا أن هذه القوى النافذة في النظام الدولي، لا تبدو في عجلة من أمرها بأن ترفع أسماء بعض زعماء الثورة من قوائم الإرهاب، ولا أن ترفع العقوبات الاقتصادية عن الدولة السورية، إلا بعد أن تتثبت هذه القوى الدولية من حسن سير وسلوك النظام الجديد في دمشق، مع الحصول على بعض العوائد السياسية والاقتصادية والأمنية منه، حتى ترضى تماماً عنه وتقبل بإعادة احتضانه، من قبل تلك القوى وإعادة تأهيله وسوريا ضمن عضوية مجتمع الدول.
الخاتمة
سوريا الجديدة، بحكومتها المؤقتة، تواجه تحديات داخلية وخارجية، لاختبار مدى قدرتها على الصمود والانتقال من مرحلة الوصول إلى السلطة، لمرحلة استشراف إمكانات البقاء فيها ومواصلة مسيرة الاستقرار الداخلي والقبول الخارجي. سوريا الجديدة لابد أن تختلف مائة وثمانون درجة عن سوريا نظام البعث، الذي حكم لنصف قرن، ولم يعاني منه الشعب السوري وحده، ولكنه حمل وزر عدم استقرار المنطقة، لأكثر من نصف قرن.
لابد أن يعمل النظام الجديد على تكريس شرعية سياسية وأخلاقية تقوم على إرادة الشعب تعبر عن وجودها، ليس بالشعارات والمسيرات، بل بإقامة نظام لحكم المؤسسات، يعتمد على مناصرة الحريات وتعظيمها للجميع، بعيداً عن الطائفية. حيث تؤسّس شرعية النظام الجديد على مؤسسات لسلطة منتخبة تعكس الإرادة العامة للشعب، بكافة طوائفه، تحمي الحريات.. وتضمن الحقوق، وتبتعد عن أي شبهة لاستبداد الأغلبية، لأي حكومة تأتي عن طريق الآليات الديمقراطية، في مجتمع تحكمه قيم وأعراف طائفية متعددة، مع حساسية أمنية مفرطة للأقليات تعكس موروثًا تاريخيًا طويلًا من الصراع على السلطة، بحثاً عن الأمن والاستقرار، مع شكٍ عميق تجاه من يحكم، سواء جاء من الأغلبية أو كان من الأقليات.
أي نظام يحكم دمشق، لن تتوفر له إمكانات الاستقرار، ما لم تحتضنه بيئة إقليمية ودولية، تعينه على إحداث قفزات واثقة نحو الديمقراطية الحقيقية، بعيداً عن أغلبية مستبدة.. وحكم أقليات غير آمنة. هذا يتطلب دعماً إقليمياً ودولياً مخلصاً، بالذات من الدول العربية، حيث تجمع العرب هواجس وقلق تجاه أمنهم القومي، وسوريا بالذات تشكل تاريخياً قلعة منيعة حضارية وثقافية، تعود لعهد الأمويين، الذين جعلوا من الشام نقطة انطلاق قوية للدفاع عن العرب باتباع استراتيجية الهجوم للتوسع ونشر الإسلام، حتى كان الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك (٦٦٨-٧١٥م)، يحكم ثلثي العالم المعروف آن ذاك، من الأندلس غرباً إلى الصين شرقاً، وحتى شبه الجزيرة الهندية والقرن الإفريقي، جنوباً.
استقرار سوريا، بموقعها الاستراتيجي العبقري، هو استقرار للمنطقة.. وركيزة أساسية لنظرية وواقع الأمن القومي العربي.