array(1) { [0]=> object(stdClass)#13734 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 208

3 سمات للسياسة الخارجية للشرع: الواقعية والتوازن واسترداد عافية الاقتصاد ورفع العقوبات

الأحد، 30 آذار/مارس 2025

أصدر ريتشارد هاس الدبلوماسي الأمريكي المخضرم والرئيس السابق لمجلس الشؤون الخارجية بالولايات المتحدة كتاباً في عام 2013م، بعنوان "السياسة الخارجية تبدأ من الداخل". يُلخص هذا العنوان الصلة الوثيقة بين الأوضاع الداخلية والسياسة الخارجية لأي دولة بمعنى أن السلوك الخارجي للدول يرتبط بظروفها واحتياجاتها ومشاكلها الداخلية.

تنطبق هذه المقولة على سوريا في ظل نظامها الجديد بعد سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024م، والتحديات التي يواجهها داخلياً وخارجياً، فقد ورث النظام الجديد إرثاً ثقيلاً من المشاكل، حيث بدأ حكمه من ناحية أولى بدون مؤسسات أو دستور، ويحتل أرضه قوات أمريكية وتركية وروسية وإسرائيلية، ويتكون جيشه من فصائل وميليشيات مُسلحة تضم مقاتلين أجانب من جنسيات عديدة. ويتنازع شعبها مشاعر مختلطة بين التطلع إلى المستقبل وبناء سورية جديدة وبين الرغبة في الثأر من أهوال السجون وممارسات القمع والتعذيب في العهد القديم أو على الأقل محاسبة المسؤولين عنها وتحقيق العدالة.

 كما أنه يتعامل من ناحية ثانية مع مجتمع ممزق ليس فقط بسبب تكوينه التعددي الديني والمذهبي ولكن أيضاً نتيجة عدم الثقة المتبادلة بين الطوائف والمجموعات المكونة له، والتوترات الاجتماعية الناشئة عن نزوح مئات الآلاف من مساكنهم إلى مناطق أخرى في الداخل السوري. ويستند من الناحية الثالثة إلى اقتصاد متهالك بسبب أعباء الحرب التي استمرت ما يزيد على ثلاثة عشر عاماً، والعقوبات الاقتصادية المفروضة دولياً على سورية، وهجرة الملايين من أصحاب الخبرات والمهارات إلى الخارج.

ويُعمق من كل ما تقدم الطريقة التي انهار بها النظام القديم على يد مجموعة من الفصائل المسلحة ذات الطابع الإيديولوجي بقيادة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، والآثار المترتبة على ذلك في الداخل من حيث مدى توافر الثقة الاجتماعية والسياسية بين مكونات المجتمع، واحتمالات الانفلات الأمني ومحاولات الأخذ بالثأر.

في هذا السياق، فإن متابعة سلوك قادة النظام الجديد في سورية توضح سعيه لتحقيق هدفين: الأول هو بناء ثقة المواطنين، أي كسب الشرعية السياسية من خلال تأكيدات الرئيس الانتقالي، أحمد الشرع، قائد جبهة تحرير الشام، والذي اختاره ممثلو فصائل المُعارضة المُسلحة التي أسقطت النظام، كرئيس للجمهورية السورية في 29 يناير 2025، على إقامة دولة القانون وبناء مؤسسات يتشارك فيها الجميع، وأسس العيش المشترك، والسلم الأهلي، والعدالة الانتقالية. والثاني، إقامة علاقات طيبة مع أكبر عدد من الدول للحصول على اعترافها وتعاونها مع النظام الجديد، أي الشرعية الدولية بأمل أن يؤدي ذلك إلى رفع العقوبات الاقتصادية وتدفق المعونات الإنسانية التنموية.

ويتضح ذلك في الأولويات التي حددها الشرع غداة توليه منصب رئاسة الجمهورية، وهي ملء فراغ السلطة في الداخل، والحفاظ على الأمن والسلم الأهلي، وإعادة بناء مؤسسات الجيش والأمن، واستعادة سوريا مكانتها الإقليمية والدولية.

في ضوء ما تقدم، سوف يتناول هذا التحليل أُسس ومبادئ السياسة الخارجية للنظام الجديد، والممارسات العملية على المستويات العربية والإقليمية والدولية.

أولاً: مبادئ السياسة الخارجية

في إطار الظروف الداخلية الصعبة والأخطار الجسام التي يواجهها النظام الجديد، فإن هدفه الرئيسي هو بناء وتوظيف سياسته الخارجية بهدف حماية النظام واستمراره والحفاظ على وحدة الدولة وكيانها، وتهيئة الظروف لإعادة التعمير والنمو الاقتصادي ولكي يتحقق هذا الهدف فقد سعت القيادة الجديدة إلى ما أسمته بعض وسائل الإعلام بمغازلة كل الأطراف والسعي لإقامة جسور وعلاقات إيجابية معها، ويمكن القول إن هذه السياسة تتسم بثلاث سمات رئيسية:

السمة الأولى، هي الواقعية بمعنى التعامل مع معطيات الواقع الإقليمي والدولي، والتكيف معها، ومن ثم أهمية تطمين الأطراف الأخرى، بأن النظام الجديد يلتزم بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى ويعمل على تحقيق السلم والأمن في الإقليم والعالم في إطار احترام السيادة والمصالح المتبادلة وعدم الدخول في محاور أو استقطابات مع بعض الدول ضد أخرى. أكدت أيضاً تصريحات القادة الجدد على أن النظام لا يتبنى رسالة إيديولوجية يسعى لتصديرها إلى الدول الأخرى، أو إقامة علاقات مع التنظيمات السياسية المشابهة لأفكاره في هذه الدول. ومن ثم جاءت تأكيدات الشرع المتتالية أن اختلافه مع تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية (داعش) دار حول هذه المسألة تحديداً وأن هيئة تحرير الشام منذ وقت، هجرت أي أفكار تتجاوز الوطن السوري. وكان من مظاهر ذلك حظر الأفراد الذين أساؤوا إلى مصر والإمارات انطلاقاً من الأراضي السورية.

السمة الثانية هي التوازن بين الأطراف المختلفة بما يتيح للسياسة الخارجية السورية حرية الحركة واستقلالية القرار. فعلى المستوى الإقليمي، سعى النظام إلى إحداث التوازن بين الدول العربية من ناحية وتركيا من ناحية أخرى. وعلى المستوى الدولي، بين الدول الغربية، أمريكا والاتحاد الأوروبي من ناحية وروسيا من ناحية أُخرى. فلم تشأ دمشق أن تقطع تماماً العلاقات مع موسكو رغم كل ما قامت به الأخيرة من دعم عسكري وتدخل مباشر للطيران الروسي لدعم نظام بشار الأسد. وهو ما يعكس نظرة عقلانية ورشيدة في إدارة العلاقات الخارجية تهدف إلى تنويع مصادر التعاون والتأييد الخارجي وعدم الاعتماد على مصدر واحد.

       ويدل على ذلك التصريحات التي أدلى بها أحمد الشرع عشية اختياره رئيساً، بعد لقائه بوفد روسي، والتي أشار فيها إلى أن الإدارة السورية تلتزم بالتعامل مع جميع أصحاب المصلحة بشكل مبدئي لبناء مستقبل لسوريا يتأسس على العدالة والكرامة والسيادة، وأن استعادة العلاقات مع روسيا ينبغي أن تقوم على تصحيح أخطاء الماضي وتحترم إرادة الشعب وتخدم مصالحه. أكد هذا التوجه وزير الدفاع السوري في تصريح له لصحيفة الواشنطن بوست يوم 6 فبراير بأنه في السياسة لا يوجد أعداء دائمون. وربما يمكن تفسير الموقف السوري بأنه يُمثل إدراك قادتها للمصلحة الوطنية لسورية في هذه المرحلة من حيث الاستفادة من كل الفرص والأطراف، والرغبة في استخدام الورقة الروسية للمساومة مع الدول الغربية.  

السمة الثالثة، هي أولوية استرداد عافية الاقتصاد ورفع العقوبات فعندما تعجز الدولة عن الوفاء بأبسط الاحتياجات الاقتصادية لمواطنيها من خدمات وتوظيف وتعليم وصحة، فإنها تفقد شرعية وجودها وتندرج ضمن الدول الهشة أو الفاشلة. لذلك، أعطى النظام الجديد الأولوية لدول الخليج، وفي قلبها السعودية، تقديراً منه أنها الأطراف القادرة على الإغاثة الإنسانية والإنعاش الاقتصادي، وأنها يمكن أن تقنع واشنطن والعواصم الأوروبية برفع العقوبات الاقتصادية. وأثار الرئيس الانتقالي الشرع هذا الموضوع في لقاءاته مع مبعوثي الدول، وفي زياراته الخارجية. فأكد وغيره من كبار المسؤولين السوريين على أن هذه العقوبات تمثل اليوم عقاباً للشعب السوري وأن النظام الذي فُرضت عليه لم يعد قائماً ومن ثم فإنها "غير شرعية وليس لها أساس قانوني".

ثانياً: العلاقة مع الدول العربية

شغلت علاقات سورية العربية المرتبة الأولى في اهتمامات النظام الجديد، ويُمكن التمييز في هذا المجال بين مرحلتين يفصلهما إعلان الشرع رئيساً انتقالياً:

المرحلة الأولى، تضمنت تكوين وفد برئاسة وزير الخارجية وعضوية كل من وزير الدفاع ورئيس الاستخبارات العامة، لنقل رسالة طمأنة إلى الدول العربية والدعوة لفتح صفحة جديدة في العلاقات مع سورية، كان المقصد الأول هو منطقة الخليج فقام الوفد برحلة بدأت في الثاني من يناير لمدة ستة أيام شملت الرياض والدوحة وأبو ظبي، كانت المحطة الأولى المملكة العربية السعودية. وكان الرد السعودي إيجابياً، فأكد على استقلال سورية ووحدة أراضيها، والرغبة في دعم تقدمها وازدهارها.

وكانت المحطة التالية هي قطر التي كان لها دور بارز في دعم عملية إسقاط نظام الأسد. فأكدت الشراكة مع النظام الجديد والاستعداد للمشاركة في عملية البناء وإعادة الإعمار، ووقع الطرفان خطاباً مشتركاً يدعوان فيه إلى رفع العقوبات الاقتصادية، ثم كانت محطة دولة الإمارات التي صبت في نفس الاتجاه.

 وألحق الوفد ذلك في 7 يناير بزيارة للأردن، دولة الجوار التي عانت كثيراً من تهريب السلاح والمخدرات من سورية إلى أراضيها، فأكد الوفد لمسؤوليها أن سورية لم تعد مصدر تهديد بأي حال، وتم الاتفاق على تشكيل لجنة مشتركة لضمان أمن الحدود بين البلدين.

وفي المقابل، استقبل الشرع عددًا من الوفود العربية، كان أولها في 22 ديسمبر 2024م، وفد سياسي وشعبي لبناني بقيادة وليد جنبلاط قدم التهنئة بانتصار الثورة السورية، ثم في اليوم التالي 23 ديسمبر وزير خارجية الأردن، وأعقبة في 24 ديسمبر وزير الخارجية السعودي، وفي 11 يناير 2025 م، زار نجيب ميقاتي رئيس وزراء لبنان وقت ذاك ناقش فيها مع الشرع القضايا المعلقة بين البلدين ومن أبرزها ضبط أمن الحدود بين البلدين والمعتقلين في سجون البلدين، وأعقبها زيارة رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري في 16 يناير. وعلى مستوى الاتصالات التليفونية، تلقى وزير الخارجية السوري مكالمة من نظيره اللبناني في 25 ديسمبر 2024م، أعقبها اتصال تليفوني من وزير خارجية المغرب في 31 ديسمبر.

أما المرحلة الثانية، فقد قادها الرئيس بنفسه فاستقبل في الأول من فبراير أمير قطر الذي كان أول رئيس دولة يقوم بزيارة دمشق فهنأه بتولي المنصب، وأكد دعم بلاده لسورية. ولم يقم أي رئيس دولة أخرى بمثل هذه الزيارة حتى كتابة هذه السطور في 15 مارس.

 وفي المقابل، كانت أول زيارة خارجية للشرع إلى السعودية في 2 فبراير، ثم تركيا في 4 فبراير، فالأردن في 26 فبراير. قام أيضاً بزيارة مصر في 4 مارس للمشاركة في مؤتمر القمة العربية الطارئة بشأن فلسطين، والتقى على هامش المؤتمر بالرئيس المصري في جلسة خاصة. وفي اليوم التالي، صرح بأن سوريا في "مكانها الطبيعي بين إخوانها العرب"، وأن "مصر والشام جناحان لطائر واحد". وتعد هذه الزيارة هامة بالنظر إلى برودة العلاقات بين القاهرة ودمشق، والمخاوف الأمنية للقاهرة بشأن العناصر المصرية المتهمة بالإرهاب، والهاربة التي أصبحت جزءًا من كيان الجيش السوري الجديد.

 ورغم ذلك، حافظ البلدان على العلاقات الودية، فأعرب وزير الخارجية السوري في 28 ديسمبر 2024م، عن تطلعه "إلى بناء علاقات هامة واستراتيجية مع مصر". وأكدت البيانات الصادرة عن الخارجية المصرية دعم مصر لاستقلال سوريا ووحدة أراضيها، وأدانت انتهاك الجيش الإسرائيلي لإقليمها. وهنأ الرئيس المصري في تغريده له، الرئيس السوري بتوليه منصبه، هذا إضافة إلى الاتصالات التليفونية بين وزيري خارجية البلدين.

هناك أيضاً علاقات ملتبسة بين النظام السوري والحكومة العراقية. فمن ناحية، قام رئيس جهاز الاستخبارات العراقية بزيارة دمشق في ديسمبر 2024م، والذي نقل مخاوف بغداد بشأن عودة أنشطة تنظيم داعش الإرهابية، وضرورة ضبط الحدود لضمان عدم تسلل عناصر التنظيم إلى العراق. وهي المخاوف التي كررها وزير الخارجية العراقي في 14 فبراير. لم تبعث بغداد ببرقية تهنئة إلى الرئيس السوري بعد توليه منصبه. ولكن تم توجيه الدعوة إليه لحضور مؤتمر القمة العربية المزمع عقده ببغداد في مايو 2025م، كما وجه وزير الخارجية العراقية دعوة إلى نظيره السوري بزيارة بغداد لمناقشة القضايا العالقة بين البلدين، فتأجلت أكثر من مرة حتى تمت في 14 مارس، وكانت زيارة ناجحة حسب تصريحات وزيري خارجية البلدين.

ثالثاً: العلاقة مع القوى الإقليمية

اختلف مسار علاقات النظام الجديد مع الدول الإقليمية تركيا، وإيران، وإسرائيل، اختلافات بينية، فبينما كانت تركيا الرابح الرئيسي من سقوط نظام الأسد، فإن إيران هي الخاسر الرئيسي، أما إسرائيل فقد انتهزت الفرصة للتوسع واحتلال مناطق شاسعة في الأراضي السورية.

كانت تركيا التي قامت بدور مهم في دعم عملية إسقاط نظام بشار الأسد، أول من أرسلت رئيس مخابراتها إلى دمشق بعد أربعة أيام فقط من سقوط النظام، وبعدها بعشرة أيام- في 22 ديسمبر- زار وزير الخارجية التركي دمشق. وكان أرفع مسؤول أجنبي زارها حتى هذا الوقت، وأعقب ذلك زيارة الوفد الثلاثي السوري الذي سبق له زيارة السعودية ودول عربية أخرى إلى أنقرة في يوم 14 يناير. قام الرئيس الشرع بزيارة أنقرة في الرابع من فبراير، وكانت ثاني دولة يزورها بعد السعودية، حيث التقى بالرئيس التركي، ووجه له دعوة لزيارة سورية وناقشا العلاقات بين البلدين بما في ذلك مشكلة المسلحين الأكراد في شمال شرق سورية، فيما دعا أردوغان الدول العربية والإسلامية لدعم النظام الجديد.

ومع أن تركيا تحظى بنفوذ خاص في دمشق بحكم الصلة التاريخية، والدعم المتواصل لسنين عديدة فإنه لا يمكن قبول ما يتردد من أن تركيا قد ورثت النفوذ الإيراني في سورية، فالنظام الجديد يُفصح عن استقلالية قراره في العلاقة مع تركيا. ومن ذلك، أن النظام الجديد لم يمنح قوى المعارضة السورية التي تتخذ من تركيا مقراً لها، وهو ما يُعرف بمنصة إسطنبول، أي ميزة مقارنة بالتنظيمات الأخرى وطالبتها بحل نفسها، وكذلك طلبها من حكومة الائتلاف المؤقتة والتي كانت تسيطر على بعض المعابر الحدودية مع تركيا، أن تسلمها إلى السلطات السورية.

على الطرف المناقض، فإن إيران التي دعمت نظام الأسد بالمال والسلاح والرجال، فقد أصبحت بالضرورة عدواً لمن أسقطوا هذا النظام، وهو ما يُفسر اقتحام سفارتها في دمشق وإتلاف محتوياتها في يوم سقوط النظام، ومع ذلك لم يُعلن النظام الجديد عن اتباعه لسياسة عدائية تجاه إيران وذكر الشرع في ديسمبر 2024م، أن بلاده لا يُمكن أن تظل بمعزل عن إقامة علاقات مع دولة إقليمية كبيرة  مثل إيران على أن تستند تلك العلاقات إلى مبادئ احترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وأعقب ذلك تحذير وزير الخارجية السوري في 24 ديسمبر 2024م، لإيران من التدخل لبث الفوضى في بلاده ودعاها إلى احترام إرادة السوريين.

أما عن إسرائيل، فقد انتهزت فرصة انهيار الجيش السوري والفراغ السياسي في الأيام التالية لاحتلال المنطقة منزوعة السلاح بين البلدين وفقاً لمعاهدة وقف إطلاق النار عام 1974م، ثم توسعت بعد ذلك لتضم منطقة جبل الشيخ ذات الموقع الاستراتيجي الهام.

رابعاً: العلاقة مع القوى الدولية

تنوعت أيضاً مواقف القوى الدولية تجاه النظام الجديد. فقد نظرت واشنطن والعواصم الغربية إلى سقوط نظام الأسد على أنه تطور إيجابي، خاصة أنه أنهى الوجود الإيراني في سورية، وحرم طهران من حليف مهم لها، وقطع خط إمداد السلاح والمال إلى حزب الله في لبنان، وإن كانت قد أفصحت عن تخوفاتها بشأن التوجهات السياسية للحكام الجدد، ومدى قدرتهم على بناء نظام سياسي تشارك فيه المكونات الاجتماعية المختلفة. تطلع النظام الجديد إلى التعاون مع الغرب، بهدف إزالة هيئة تحرير الشام وقادتها من قوائم الإرهاب، ورفع العقوبات.

حرصت إدارة الرئيس بايدن – رغم أنها كانت في أسابيعها الأخيرة-على التواصل مباشرة مع النظام الجديد، فقام وفد أمريكي برئاسة مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى بزيارة إلى دمشق في 20 ديسمبر 2024م، والتقى الشرع. وفي 6 يناير 2025م، أصدرت وزارة الخزانة الأمريكية قراراً بتخفيف بعض العقوبات المالية لمدة ستة أشهر.

من ناحيته، أعرب الرئيس ترامب عن رغبته في عدم التورط في الشأن الداخلي السوري، وامتنعت واشنطن عن تأييد بيان مؤتمر باريس الذي انعقد في 13 فبراير لدعم المرحلة الانتقالية في سورية، ولكن ذلك لم يوقف الاهتمام الأمريكي بالتطورات السورية، وكان لواشنطن دور رئيسي في إقناع قوات سوريا الديمقراطية لتوقيع اتفاق مصالحة في 10 مارس يقضي بدمج كافة المؤسسات المدنية والعسكرية التابعة للإدارة الذاتية الكردية في إطار الدولة السورية.

لم تمنع الرغبة السورية في التقارب مع واشنطن، من التضامن مع الموقف العربي العام، وتعبيرها عن رفض أفكار الرئيس ترامب بشأن تهجير الفلسطينيين من غزة، والموافقة على قرارات مؤتمر القمة العربية الطارئة في هذا الشأن.  

وبخصوص العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، فقد زار وزيرا خارجية فرنسا وألمانيا، دمشق ْفي 3 يناير 2025م، كممثلين للاتحاد، بغرض التواصل مع النظام الجديد. وتبعها في الأسبوع التالي، زيارة وزير الخارجية الإيطالي في 10 يناير والذي بعث برسالة إيجابية عن نجاح مهمته من خلال زيارته للمسجد الأموي ودعوته لرفع العقوبات. وأعقب ذلك، زيارة وزير الخارجية الإسباني في 16 يناير.

 أسفرت هذه الاتصالات عن موافقة وزراء خارجية دول الاتحاد في 24 فبراير على تعليق القيود المفروضة على قطاعات الطاقة والتي تشمل النفط والغاز والكهرباء، وقطاع النقل، وقطاع البنوك فتم إنهاء تجميد أصول خمسة بنوك سورية، وتخفيف القيود على مصرف سورية المركزي.

 كان الرئيس الفرنسي "ماكرون" هو أول رئيس دولة غربي يتصل تليفونياً بالشرع في 5 فبراير، والذي أكد فيه دعم بلاده لإجراءات المرحلة الانتقالية، وأن فرنسا تسعى لرفع العقوبات، مؤكداً على ضرورة استمرار الحرب ضد الإرهاب، ودمج القوات الكردية في العملية الانتقالية.

وتلى ذلك بيومين، اتصال المستشار الألماني "أولاف شولتز"، الذي أكد أيضاً على ذات المعاني، وفي 13 فبراير انعقد في باريس مؤتمر دولي لدعم المرحلة الانتقالية في سورية شارك فيه وزراء خارجية 20 دولة وممثلون للأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، والجامعة العربية، ومجلس التعاون الخليجي.

جدير بالذكر، أن أوكرانيا وهي ليست عضوًا بالاتحاد الأوروبي، سبقت الجميع في إرسال وزير خارجيتها إلى دمشق في 30 ديسمبر 2024م، تعبيراً عن ابتهاجها بالخسارة التي لحقت بروسيا، وسقوط حليفها الأسد.

 وعلى غرار وضع إيران، كانت روسيا في الجانب الخاسر بحكم علاقتها الوثيقة ودعمها العسكري للنظام السابق ومنحها رخصة اللجوء الإنساني لرئيسه. مع ذلك، اتبع النظام الجديد نهجاً واقعياً وبعث الشرع مبكراً بتطمينات بشأن الوجود العسكري الروسي في سورية، فلم يُطالب موسكو بالانسحاب من قاعدتي حميميم الجوية، وطرطوس البحرية، إنما أمرت قواتها بإحكام القبضة على المنافذ المؤدية لها حتى لا يستخدمها أنصار نظام الأسد سبيلاً للهروب خارج البلاد، انتقد المسؤولون السوريون دعم روسيا العسكري للنظام السابق، وطالبوها بالاعتذار، ولكن دون شن حملات إعلامية ضدها. وقد يكون ذلك رغبة منهم في الحفاظ على "شعرة معاوية" مع موسكو وإمكانية الاستفادة من العلاقات معها مستقبلاً.

 ويؤكد ذلك، زيارة وفد رفيع المستوى برئاسة نائب وزير الخارجية " ميخائيل بوجدانوف" إلى دمشق في 28 يناير، بهدف إعادة بناء الثقة وتنظيم العلاقات بين البلدين على أساس من احترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. وتصريح وزير الدفاع لجريدة واشنطن بوست الأمريكية في 6 فبراير عن أن الموقف الروسي تجاه بلاده قد تحسن، وأن سوريا منفتحة على فكرة احتفاظ روسيا بقواعدها في سورية طالما أن ذلك يصب في مصلحتها. وتلى ذلك إعلان موسكو في 12 فبراير عن إجراء اتصال تليفوني بين الرئيسين بوتين والشرع، وحسب البيان الصادر عن الرئاسة السورية فإن الشرع أكد على المصالح الاستراتيجية العميقة التي تربط البلدين والانفتاح السوري على كل الأطراف بما يخدم مصالح الشعب السوري. وتداولت وسائل الإعلام في بداية مارس معلومات بشأن وجود مباحثات غير معلنه بين البلدين للإبقاء على القاعدتين العسكريتين، في مقابل استثمارات روسية ضخمة في سورية في عديد من القطاعات الاقتصادية.

أما الصين التي أيدت نظام الأسد واستقبلته مع زوجته في 2023م، فقد سارع وزير خارجيتها في 13 ديسمبر 2024م، بالدعوة لرفع العقوبات الأحادية المفروضة على سوريا، وأعقب ذلك في 17 ديسمبر 2024م، بإعلان أن بلاده سوف تستمر في دعم الشعب السوري وسوف تعمل على منع القوى الإرهابية من استثمار الفرصة لاستعادة نشاطها، ودعم استقرار سورية وسلامة أراضيها، وكان أول اتصال علني بين مسؤولي البلدين هو لقاء الشرع مع السفير الصيني بدمشق في 21 فبراير 2025م.

حرص النظام الجديد على المشاركة في المحافل والمنتديات الدولية الكبرى أرسل وفوداً للمشاركة في مؤتمر دافوس في يناير 2025م، وكل من مؤتمر باريس وميونيخ للأمن في شهر فبراير.   

وختامًا، فقد انطلق هذا المقال من مقولة الترابط الوثيق بين السياستين الداخلية والخارجية، وأن السياسة الخارجية للنظام الجديد في سورية، ارتبطت بالأوضاع والاحتياجات الداخلية. وترتب على ذلك، أن نجاحه في تحقيق السلم الأهلي والتوافق الوطني بين مكونات المجتمع، أدى إلى دعم مختلف الدول له، بينما كان من شأن الأحداث الدامية التي شهدتها بعض مناطق الساحل في مطلع مارس، أن عبرت بعض الدول الأوروبية عن تخوفاتها، وأصدر مجلس الأمن بياناً رئاسياً تم التوافق عليه بالإجماع في 14 مارس أدان بشده تلك الأحداث ودعا "جميع الأطراف إلى الوقف الفوري للعنف وحماية المدنيين".

 سوف يكون من شأن إعلان تقرير اللجنة المستقلة لتقصي الحقائق عن تلك الأحداث، ونشاط اللجنة العليا للسلم الأهلي، واللتان شكلهما رئيس الجمهورية إضافة إلى بناء مؤسسات الدولة على أسس تشاركية وتوافقية، الأثر البالغ في استكمال النظام الجديد الشرعيتين السياسية الداخلية، والخارجية الدولية.

مقالات لنفس الكاتب