يبدو بحث «الحالة السورية» معقداً بعض الشيء ولن يفيد فيه استخدام المنهج المقارن، فمن الصعب إجراء مقارنة علمية واضحة بين سوريا وأية دولة أخرى عربيّة أو إقليميّة، بل وحتّى عالميّة، لذا يبدو المنهج النقدي هو الوحيد الممكن، بمعنى اكتشاف جوهر «الحالة» والبحث عن معنى لهذا الجوهر وظواهره بوجه موضوعي، بعيداً عن المواقف المسبقة تجاه الأحداث، وعن الرغبة أو العاطفة أو الأيديولوجيا.
ومن الواضح أن غالبيّة الدول العربية، خاصة في الخليج، تعيش حالة مستمرة من الاستقرار السياسي والمجتمعي بما يضمن التقدم بسرعة لافتة على طريق التنمية الشاملة بينما تعرف سوريا في تاريخها المعاصر كل شيء إلا الاستقرار مستنداً ضرورياً للتنمية.
صحيح أن دولاً مثل مصر ولبنان والعراق والسودان عاشت أحداثاً عنيفة في بعض المراحل، إلا أن «الحالة السورية» تتميز في أن التغيير المكرر الذي يأتي عن طريق العنف كان عنوانها الرئيس.
البحث عن سبب تفرد الحالة السورية يطول، لكن يبدو أن عنوانه الأساسي هو في تدخل الجيش المستمر بالسياسة والسيطرة على السلطة بقوة.
ويمكن القول بإيجاز إن تميز الأحداث الأخيرة في سوريا يستند إلى ثلاثة أمور:
الأول ــ أن تاريخ سورية المعاصر يتميز بالتغيير العنيف منذ تكوين الدولة عام 1946م، بل منذ انهيار الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى.
الثاني ــ أن سوريا جربت كل أنواع الحكم والأنظمة السياسية الموجودة في العالم.
الثالث ــ أن الأحداث الأخيرة ذاتها تتميز عن الأحداث التي يعج بها تاريخ سوريا بخصائص معينة سيتم التطرق إليها في هذه العجالة.
التحول الأخير مع سقوط نظام الأسد يأتي ضمن سياق هذا التاريخ السوري المشحون بالتغييرات، لذلك يمكن القول بأنه لا جديد تاريخياً، في هذا البلد الذي يتفرد في أنه جرب جميع أنواع الحكم الموجودة في العالم.
البداية كانت بنظام الملكية المطلقة مع الملك فيصل، ثم الملكية الدستورية إثر دستور المملكة السورية عام 1920م، فالانتداب الفرنسي بمرحلتيه، مرحلة فرنسا المستقلة ومرحلة حكومة فيشي العميلة مع الجنرال باتان، وما شهده ذلك التاريخ من عنف وتغيير.
وفي عصر الاستقلال توالت الانقلابات والتغييرات مع حسني الزعيم 1949م، ثم ما تلاه من انقلابات عسكرية أخرى حتى انقلاب أديب الشيشكلي، المشكلة أن فترة 1947 ــ 1954م، لم تكتف بالانقلابات بل تخللتها بعض الفترات الدستورية القصيرة ما يؤكد عدم الاستقرار المستمر.
ثم هناك عهدان لم تشهد مثلهما أي دولة عربية أخرى، عهد الوحدة مع مصر ثمّ ما يسمى بعهد الانفصال.
عام 1963م، بدأ عهد البعث عبر انقلاب عسكري في الثامن من آذار/ مارس، وبعد أشهر قليلة انفجرت معركة عنيفة بين الحاكمين أنفسهم في 18 تموز/ يوليو، وتوالت جولات العنف البعثية في 1965و1970م.وفوق هذا كله كانت حرب1967م، التي خسرت فيها سوريا الجولان وسط ضجيج الشعارات والخطب الرنانة، ثم جاءت حرب 1973م، لتخسر سوريا منطقة جديدة أسموها بالمنطقة العازلة حيث تم فصل القوات على أرض سورية تمتد إلى أقل من 30 كم جنوب غرب العاصمة دمشق. إنه اتفاق سوري ــ إسرائيلي فريد من نوعه في التاريخ البشري حيث وافقت سوريا على فصل القوات على أراضٍ جديدة إضافة إلى الجولان المحتل.
أما عن الأنظمة السياسية فربما كانت سوريا البلد الوحيد في العالم، بعد فرنسا، الذي جرب الأنظمة جميعها من الملكية المطلقة وبعدها الدستورية، ثم الانقلابات العسكرية (وهي اختراع سوري تعلمته أمريكا اللاتينية من السوريين، بل إن أبناء تلك القارة كانوا يسمون الانقلابات بالوصفة السورية)، كما أن جمال عبد الناصر استدعى الشيشكلي إلى القاهرة بعد انقلاب 1952م، ليتعلم منه ماذا يفعل الجيش عندما يستلم الحكم. وجربت سوريا النظام البرلماني ثم الرئاسي (الشيشكلي 1953م) وما يسمى بنظام الشرعية الثورية، ونظام الديمقراطية الشعبية وأخيراً النظام شبه الرئاسي (وكان الاستبداد الفردي مسيطراً منذ عام 1963م، وفي عهد الوحدة مع مصر (1958 ــ 1961م)، وهذا الاستبداد كان الأسوأ على الإطلاق لأنه استند إلى ما يسمى بتمجيد الفرد.
لكن التحول الجديد مع القضاء على نظام الأسد يختلف عن التحولات السابقة جميعها، ويمكن عرض بعض الاختلافات فيما يأتي:
1 ــ النظام الأسدي كان الأطول عمراً على الإطلاق، حيث استمر 54 عاماً.
2 ــ الخلاص منه كان الأصعب، وقد استمر 13 عاماً مع تضحيات بشرية غير مسبوقة ودمار شامل، ناهيك عن الفقر والهجرة وتراجع الاقتصاد والثقافة، وسيطرة الكآبة على نفوس السوريين...
3 ــ التحول الجديد كان شعبياً ولم يكن صراعاً بين العسكريين ونخب السلطة، حيث كان الشعب في جميع تلك الانقلابات متفرجاً وغير مهتم، لأن الأمر تعلق بمجرد تغييرات في البناء السلطوي.
4 ــ التحول الجديد حدث في زمن تطورت فيه العولمة وتكنولوجيا الاتصالات، كما تطور المعادل الثالث تطوراً نوعياً حيث ساد استعماله بشكل كبير.
5 ــ التحول الجديد جرى في إطار تدخل خارجي وحضور عسكري أو دعم مالي لقوى خارجية مهمة (الولايات المتحدة مع التحالف، روسيا، إيران، تركيا، قطر، السعودية، الأردن إلخ...).
6 ــ نظام الأسد استخدم الجيش النظامي مع المجموعات المسلحة من دول عدة فيما شكل تحدياً كبيراً لقوى التغيير والخلاص من الاستبداد، بينما كانت التغييرات السابقة تنحصر في القيادات العسكرية.
7 ـ بسبب هذا الاستعصاء الطويل انهارت مؤسسات الدولة كلها مع الجيش والشرطة، بينما في المرات السابقة اقتصر التغيير على الأوساط السلطوية.
.....
استناداً إلى هذا التشريح الموجز "للمسألة السورية" يبدو أن القضايا الكبرى التي يواجهها العهد الجديد صعبة ومتعددة، من أهمها:
القضية (1): وهي ذات أولوية مطلقة لأن حلها معناه إزاحة الحجر الكبير من مجرى النهر كي تتدفق المياه بسرعة. إنها قضية الإسراع بالانتقال من الثورة إلى الدولة، وهما أمران متناقضان وإن كان الأول سبباً والثاني نتيجة (فالضد يظهر حسنه الضد)..
الحل الضروري: ليس صعباً على السوريين بناء دولة ناجزة بالسرعة الممكنة، فسوريا ليست دولة جديدة، وقد ذكرت فيما سبق أن التغييرات السياسية، وتغيير الأنظمة عنوان سوريا الرئيس.
هذا التاريخ السياسي ــ الشعبي الحافل، إضافة إلى الكوادر المتميزة، يُسهل على السوريين بناء الصرح المنشود. ومن المعروف أن الكوادر السورية أسهمت في بناء دول عربية عدة عبر مساعدتها على وضع الدساتير والقوانين المناسبة.
علماً أن وضع دستور جديد والاستفتاء الشعبي عليه لا يتطلب سوى أسابيع أو أشهر قليلة العدد، إذ لا بد من استعادة هيبة الدولة والقانون على أساس دستور لنظام واضح المعالم (برلماني أو شبه رئاسي). والدولة لا بد أن تكون دولة القانون والعلمانية، والمواطنة والعلانية، والتكافل الاجتماعي. كما لا بد من وضع حلول عصرية لتعزيز دور المجتمع في الحياة العامة بفروعها كلها، وهذا أمر بحاجة لبحوث مركزة، لأن تطور تكنولوجيا المعلومات أعلن بداية عصر الشعوب.
وينبغي التأكيد على أن دور المجتمع المدني لا يكتمل إلا بتعزيز نشاط قسمه المسمى بالمجتمع السياسي أي الأحزاب.
ومن المهم التأكيد هنا على "وحدة السلطة" والسلاح وبناء جيش وطني محترف، ولعل المشكلة الكبرى هي في تعدد الفصائل وتنوع أفكارها وتوجهاتها، واحتمال حدوث صراعات بينها.
إضافة إلى ذلك هناك مشكلة المسلحين غير السوريين، الذين تطالب دولهم بهم.
مرة أخرى لا بد من التأكيد على أن قضية بناء الدولة وإنهاء عصر الثورة هي أولوية مطلقة وشرط لا بد منه كي يبدأ حل القضايا العديدة الأخرى.
القضية (2): التعامل مع البعد الخارجي دولياً وإقليمياً وعربياً، بسبب الحضور الطاغي لهذا الوجود. ومن الواضح أن هناك قواسم مشتركة تجمع اهتمامات الدول المعنية جميعها، يمكن تلخيصها في الآتي:
1 ــ جميعها تؤيد وحدة سوريا أرضاً وشعباً.
2 ـ نظام سياسي عصري ديمقراطي جامع للمكونات السورية.
3 ــ أن تتجه سوريا نحو السلام والتعاون بعيداً عن الطروحات الأيديولوجية.
4 ــ مكافحة الإرهاب بجميع أنواعه. (أي حل مشكلة المسلحين الأجانب في سوريا).
الحل الممكن ـ تقسيم البعد الخارجي إلى أربع فئات:
1 ــ الولايات المتحدة والتحالف الغربي: تهتم الولايات المتحدة بمعرفة طبيعة الدولة الجديدة، واستقرارها وسياستها الإقليمية والدولية، وقدرتها على ضبط الأمن، كي ترفع العقوبات عنها.
وهناك بعض الدول الأوروبية التي لا تخفي تأييدها للفدراليين بما يضمن تلبية مطالب بعض العناصر الكردية. لكن غالبية الدول، خاصة تركيا، تؤيد دولة سورية موحدة حيث لا توجد مناطق إثنية خالصة (الأكراد شرق الفرات لا يشكلون أكثر من 25% من مجموع السكان فيها).
المهم التأكيد على تنوع سوريا الاثني وحماية الحقوق الثقافية وحقوق التعبير للجميع.
2 ــ تركيا: وهي التي أسهمت، مع بعض الدول العربية، في دعم الثورة.
القاسم المشترك الأعظم بين سوريا وتركيا هو التعامل مع المجموعات الكردية المسلحة على أساس وحدة الأراضي السورية، وهناك العنصر الجغرافي والتاريخي والثقافي والاقتصادي الذي يتطلب تعزيز التعاون مع احترام الاستقلال التام للبلدين سوريا وتركيا.
3 ــ الدول العربية: وخاصة السعودية وقطر ومصر وتونس وغيرها من الدول العربية، والأقرب (لبنان، الأردن، فلسطين، العراق). التفاعل هنا له أولوية مطلقة بسبب رابط العروبة (اللغة والتاريخ والثقافة والمصير المشترك)، هذا إضافة إلى جامعة الدول العربية (العنصر القانوني الدولي).
ولا شك في أن الدول العربية ما زالت تترقب التحولات، خاصة الأمن والاستقرار ومكافحة الإرهاب، لذا لا بد من الإسراع في حل هذه المسائل كما تم ذكره أعلاه.
4 ـ روسيا: يبدو أن الأمر هنا أكثر تعقيداً، لكن من الواضح أن هناك دور روسي مهم في تسهيل عملية التخلص من نظام الأسد، بعد أن يئست روسيا من إمكانية إصلاحه ورضوخه لطلبات شعبه.
لا ننسى أن روسيا دعمت عملية التغيير منذ بدايتها، فقد وقعت على بيان جنيف الأول 2012، وهو المستند الدولي الأساسي المطالب بتغيير شامل، وكانت خلف لقاء سوتشي للسوريين، ودعمت القرار 2254 الذي يطالب بالانتقال إلى نظام جديد قائم على الديمقراطية وفق بنود القرار. كما أن روسيا تهتم بمشكلة المسلحين الشيشان والعلاقة مع أوكرانيا (والصين تهتم بمشكلة المسلحين الإيغور).
كما أن روسيا دولة عظمى ولها حضور في سوريا والمنطقة، وعلاقات جيدة مع الدول العربية وتركيا، وبوجه خاص مع السعودية إذ أنها أصبحت عضواً في مجموعة (أوبيك +)..
5 ــ إسرائيل: هنا المشكلة الأكبر تعقيداً، لكنها الأكثر وضوحاً وفق القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة والتطلع الدولي لدولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع (الأمر الذي تؤيده أمريكا نفسها)..
عملياً، مشكلتنا مع إسرائيل هي الأراضي السورية المحتلة، وقد وافقت سوريا على المبادرة العربية (بيروت 2002م) التي تتضمن الاعتراف بإسرائيل عند قيام الدولة الفلسطينية والانسحاب من الجولان المحتل والأراضي اللبنانية المحتلة.
ينبغي ألا ننسى تقاعس نظام الأسد وتفريطه في الجولان، فقد اتخذ مجلس الأمن القرار رقم 1479 عام 1982، الذي يؤكد على أن الجولان أرض سورية محتلة والإجراءات الإسرائيلية لاغية. وهذا القرار واحد من القرارات قليلة العدد التي اتخذت بإجماع أعضاء مجلس الأمن بمن فيهم الولايات المتحدة ولم يتحفظ عليه أحد.. لكن لم يعمل النظام على تطبيق هذا القرار (كما فعل لبنان مع القرار 425)، بل زاد على ذلك في قبوله منطقة عازلة ضمن أراضٍ سورية جديدة..
القضية (3): تتعلق بالاقتصاد وإعادة الإعمار.
إعادة بناء سوريا ليست مجرد عملية إعادة إعمار للمدن والطرقات، بل هي إعادة ترميم للعلاقات الاجتماعية، لاستعادة الهوية الوطنية، وإعادة تأسيس لمفاهيم العيش المشترك. فالتحولات التي مرت بها البلاد أفرزت واقعًا جديدًا يتطلّب حلولًا حقيقيّة تراعي التغيرات الديموغرافية والثقافية التي حدثت خلال سنوات الثورة. ومن هنا، لا بد أن تكون إعادة البناء شاملة، قائمة على أسس العدالة، والمشاركة المجتمعية، وكلّ هذا مرتبط بالعوامل السياسية والأمنية، ولا سيما المجموعات التي تسعى إلى عرقلة الاستقرار عبر أحداث الشغب والاضطرابات في بعض المناطق، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى فوضى منظمة تجعل البيئة غير مناسبة لتأسيس دولة مدنية حضارية بسبب غياب الاستقرار وانتشار الفوضى وغياب الأمن.
وهذا سيستخدم لاحقاً كذريعة للتدخلات الخارجية، سواء من قبل إسرائيل أو بعض الدول العربية والغربية، مما يجعل مسألة إعادة البناء أكثر تعقيداً، خاصة في ظل استمرار الضربات الإسرائيلية على مواقع حساسة داخل سوريا. هذه التدخلات لا تعيق فقط عملية إعادة البناء، بل تفرض واقعًا أمنيًّا متغيّرًا يزيد من تعقيد المشهد السوريّ. أما الدول الغربية، فتستخدم هذه الفوضى كدليل على عدم جاهزية سوريا للاستقرار، ما يمنحها سببًا إضافيًّا لعدم رفع العقوبات ممّا يحدّ من قدرة الحكومة والجهات المحلية على تنفيذ المشاريع التنموية. فالمستثمرون الدوليون والمحليون يترددون في المجازفة بأموالهم في بيئة غير مستقرة، كما أن البنية التحتية التي تتعرض للدمار مجددًا تعيق أي تقدم يُحرز في بعض المناطق. والأخطر من ذلك، أن استمرار هذه الفوضى قد يعيد إنتاج دوامة العنف، مما يطيل من أمد الأزمة بدلًا من حلها.
الحل الممكن: يعتقد عدد من الباحثين بأن حل القضية الاقتصادية هو الأهم على الإطلاق منطلقين بذلك من أن الاقتصاد هو حاجة الناس اليومية والعامل الأول في حياتهم..
هذا صحيح .. لكن كيف يمكن تحريك الاقتصاد إن لم تعالج مشاكلك مع العالم؟؟.. هناك العقوبات الخانقة وقرار معالجتها في واشنطن فكيف يمكن التقدم إن لم ترتب علاقاتك بواشنطن، وكذلك العلاقات مع الدول الخليجية خصوصاً ومصر والجزائر وغيرها من الدول العربية؟؟..
لن يتحرك المستثمرون بقوة، ولن تستطيع أي دولة عربية التعامل معك في مجال الاقتصاد ما دامت العقوبات موجودة، وما دامت الدولة السورية غير ناجزة. في ظلّ استمرار الاضطرابات أو الانقسامات الداخلية التي ستُستخدم كذريعة لاستمرار العقوبات
ولا شك في أن حل القضايا ذات الأولوية (بناء الدولة وتعزيز سيادة القانون، واحتواء أي جيوب فوضى، والتعامل بحكمة مع ملف الأمن الداخلي سيعزز الثقة الدولية ويعيد ترتيب العلاقات الخارجية) سيؤدي تلقائياً إلى إسراع المستثمرين نحو سوريا، وإلى تحريك العجلة الاقتصادية تلقائياً.
أثر الحوار الوطني على الأوضاع في سوريا داخلياً وخارجياً
يبدو مؤتمر الحوار الوطني (دمشق 25/ 02/2025م)، وفق بيانه الختامي، خطوة نوعية بالاتجاه الصحيح والمطلوب دولياً وعربياً وداخلياً. وعلى الرغم من بعض القصور، خاصة فيما يخص العلاقات العربية والدولية لسوريا، إلا أن الخطوة كانت ضرورية وجاءت في وقت يبدو مناسباً..
وليس من مهام البيان أن يرسم خطوات التنفيذ اللاحق، لأنه بيان ميثاقي يركز على المبادئ العامة التي لا بد من احترامها في بناء الدولة. وهذا أمر مهم لأن الأساس إن لم يكن واضحاً ومتيناً يصبح البناء اللاحق كله معرضاً للهدم.
ولا شك في أن القائمين على الحكم الحالي في سوريا كانوا يتطلعون إلى الخارج، في بعده العربي والإقليمي والدولي، لعلهم يلاقون أثراً إيجابياً باتجاه تحقيق الاعتراف الكامل بالدولة الجديدة. ومن أهم مؤشرات هذا الاعتراف رفع العقوبات الخانقة عن السوريين.
إذا كان الناس قد نسوا "هنري كيسنجر"، الاستراتيجي الأمريكي وزير الخارجية في السبعينات، فلا بد من أن يذكروه باستمرار لأن تكتيك ما يسمى "خطوة مقابل خطوة" أصبح قاعدة مهمة في التعامل مع قضايا الخلاف في العلاقات الدولية.
والسبب الأهم في ضرورة العودة إلى "كيسنجر" هو أن "ترامب" يحاول إعادة الحزب الجمهوري إلى نظريته التقليدية، وكان آخر فرسانها كيسنجر في ظل الرئيس نيكسون، بعد أن خرج عن هذه النظرية ريغان وبوش الأب والابن بسبب ظهور سلطة "القطب الأوحد"، بعد انهيار ثنائية القطب عام 1990م.
وعلى الرغم من أن الدولة السورية الجديدة قامت بأول خطوة مهمة باتجاه الاعتراف الدولي، وهي القضاء على نظام الأسد، إلا أن الولايات المتحدة مازالت رافضة التقدم بخطوة نوعية واسعة باتجاه سوريا، ومعروفة فلسفة الغرب في مثل هذه الحالة، إنها الجملة الشهيرة والقصيرة: هذا لا يكفي (Not enough)، ما الذي يكفي؟ من الصعب معرفة ذلك، لكن لنحاول بحث انعكاسات الخطوة التي تمت بانعقاد مؤتمر الحوار.
تبدو طلبات الغرب الأساسية من النظام الجديد في دمشق من النوع السهل الممتنع، وهي هنا منقولة حرفياً من مصادرها الأوروبية الرسمية:
1 ـ إخلاء سوريا من الإرهاب الإسلامي (حسب تعبير وزير خارجية فرنسا)..
2 ـ منع أي انتشار للأسلحة الكيميائية.
3 ـ تشكيل حكومة جامعة.
4 ـ احترام حقوق ما يسمونه "بالأقليات".
5 ـ احترام حقوق الإنسان، خاصة حق الضمير والتعبير.
يعبر الغرب عن عدم اعترافه النهائي بالوضع الجديد، بل إنه يسمي هذا الوضع "بالمرحلة الانتقالية" أي أن الغرب ينتظر ليرى البنية النهائية للدولة السورية. المثير في هذا كله أن الطلبات الخمسة التي يتحدث عنها الغرب تستجيب بوجه عام إلى حاجة السوريين الحقيقية، وهم الذين تعبوا من الأنظمة الفردية منذ عام 1958م، وخاصة بعد عام 1970م.
عنوان هذه الطلبات، الداخلية والخارجية، بناء دولة علمانية عصرية. هذا العنوان واضح في خطوطه العامة ومبادئه، وليس بحاجة لبحوث واختراعات. إن صياغته، عند توفر الإرادة، سهل جداً. قد تخضع بعض التفاصيل للنقاش لكن المبادئ واضحة ويمكن وضع دستور مناسب في وقت قصير جداً..
بالنظر إلى بيان المؤتمر الوطني نستطيع الوقوف على:
* عن أي دولة يتحدث البيان؟
1-عن دولة القانون .. وهذا مهم لأن تعبير دولة القانون هو أكثر دقة من تعبير الدولة المدنية. هذا التعبير الأخير تاريخي ومجازي ولا وجود له عملياً على الأرض.
الدولة المدنية، مثلاً، هي دولة تعاقدية تكون فيها العقود بين الناس مطلقة لا يحدها قانون، وهذا مستحيل في عالمنا الراهن..
الدولة المدنية هي الدولة القائمة على حرية التعاقد، لكن دولة القانون قائمة على التحديد القانوني للحقوق والواجبات، وعلى خضوع الأفراد للمحددات القانونية. لكن ينبغي أن يبنى القانون على مبادئ معينة على أساس النص الدستوري.
2- أما الدولة العلمانية فلا علاقة لها، كما يعتقد البعض، بإهمال الدين. أبداً.. كل الدول الأوروبية، أو غالبيتها، تعترف بالأثر الكبير للدين على الحياة السياسية. بل إن للمسيحية دولة قائمة بذاتها (الفاتيكان)، وهذه "الدولة" عضو مراقب في الجمعية العمومية للأمم المتحدة. كما أن دولاً أوروبية عدة تضع على أعلامها رمزاً دينياً واضحاً (الصليب)، كما تضعه بعض الدول التي يدين غالبية مواطنيها بالإسلام.
وعدد كبير من الدول الغربية ذات النظام الملكي تحدد في دساتيرها، ليس دين الملك فحسب، بل مذهبه أيضاً (طائفته)..
ولعل تركيا واحدة من أهم الدول العلمانية على الرغم من أن 98% من سكانها من دين واحد هو الإسلام. فالدستور التركي لا ينص على وجود دين رسمي للدولة، وإنما يكفل حرية المعتقد (حرية الضمير) وهو من أهم عناصر المواطنة.
ولا شك في أن هناك مكوناً مهماً في الأديان عند الحديث عن المواطنة (المساواة في الحقوق والواجبات) ويتعلق كذلك بحرية الضمير، وهو الأحوال الشخصية كالزواج والإرث، وهذه أمور دينية لكن لا بد للقانون من أن ينظمها على أساس التنظيم الديني وفق مبدأ حرية الضمير..
كما أن على الدولة العلمانية أن تنظم النشاط الديني في المجتمع (وزارة الأوقاف) وأن تشجع البعد التسامحي لدى الأديان، وكذلك البعد الجامع بين الأديان وهو الإيمان بالله وفعل الخير والالتزام بالقيم الإنسانية العامة. ولا شك أنه من المهم هنا التركيز في إطار التربية العامة على أن التطرف والتعصب بجميع أشكاله هو سلوك مناهض لجوهر الدين..
3-يتحدث البيان عن ترسيخ مبدأ المواطنة أيضاً. ويتميز هذا المبدأ في أنه مبدأ شامل، أساسه المساواة في الحقوق والحريات والواجبات. لكن هذا المبدأ لا يستقيم إلا إذا كانت الحريات والحقوق كاملة وفق مبادئ حقوق الإنسان وحرياته المعروفة وتحويلها إلى حقوق المواطن.
أهم حقوق الإنسان هي حق الملكية، وحق العمل، وحق الأمان، وحرية الضمير(المعتقد)، وأهم حقوق المواطن حرية التعبير، وحق الانتخاب ترشيحاً واقتراعاً، حرية الخيار السياسي والتنظيمي (الأحزاب). ولعل من القصور هنا أن البيان لم يتحدث صراحة عن حق الخيار السياسي التنظيمي (الأحزاب).
4- ويتحدث البيان كذلك عن دور المجتمع المدني، وهو في الدولة المعاصرة دور أساسي خاصة بعد التطور النوعي في تكنولوجيا الاتصال. اليوم أضحى المجتمع المدني مشاركاً مهماً في تنظيم الحياة العامة والقيام بوظائف كانت محصورة بالدولة التقليدية في السابق..
وتتميز سوريا بين شقيقاتها العربيات بمستوى متطور من تنظيم المجتمع المدني (نقابات، عشائر، جمعيات خيرية، مجموعات مصالح، أحزاب).
5-لكن القاعدة الأساسية لكل هذا البناء هو الدستـــــور، فهو النص الذي يحدد وينظم الأمور المذكورة كلها، في مبادئه الدستورية وفوق الدستورية. البيان لا يحدد أي توجهات للدستور تاركاً هذا الموضوع للحوار.
وأيضاً هنا لا بد من التأكيد على أن التجارب العالمية غنية ولا حاجة لاكتشاف البارود مرة أخرى. هناك ثلاثة أنماط دستورية للنظام السياسي لكل منها خصائصه المعروفة.
ــ النظام الرئاسي (الولايات المتحدة وبعض الدول الإفريقية) وفيه لا وجود للحكومة بالمعنى الأوروبي وإنما هناك توازن بين سلطتين منتخبتين مباشرة من الشعب، الرئيس والكونغرس (أي المؤتمر ـــ البرلمان).
ــ النظام شبه الرئاسي (وضعه شارل ديغول عام 1958م، وتأسست عليه الجمهورية الفرنسية الخامسة)، وتلتزم به فرنسا وروسيا وغيرها من الدول. ويبدو أن تركيا تنتقل من النظام البرلماني إلى شبه الرئاسي (الرئيس ينتخب من الشعب مباشرة).
ــ النظام البرلماني، حيث ينتخب البرلمان الرئيس، وهو نظام تقليدي في هذا النظام تكون السلطة الأساسية بيد البرلمان الذي ينتخب رئيس الجمهورية ويشكل الحكومة (لبنان ــ إيطاليا).
لا شكّ في أنّ المؤتمر لبّى قسماً مهماً من حاجات المرحلة، داخلياً وخارجياً. على الرغم من ذلك من غير المتوقع أن يكون له أثر ملموس مهم لدى الدول التي تفرض العقوبات على سوريا. أعتقد أن المشكلة يمكن عرضها كالآتي:
1 ـ إن النصوص، مهما كانت جيدة، تبقى بلا أثر إن لم يتم التطبيق في الواقع، ولا شك في أن العالم ينتظر الأفعال لا الأقوال..
2 ـ إن الدول العربية مضطرة للالتزام بالعقوبات، بغض النظر عن عواطفها، لأن الأمر يتعلق بالقنوات التقنية (النظام المالي والنقدي العالمي)، ناهيك عن الاعتبارات السياسية.
3 ـ إن هناك مشكلة مهمة لم يتعرض لها البيان، تتعلق بما يسميه الغرب (الإرهاب) مؤكداً، بشكل غير مباشر، وجوده على الأرض السورية.
ولقد لاحظنا في الأيام الأخيرة عمليات للطيران الأمريكي بقصف مواقع في شمال غرب سوريا (إدلب) بذريعة محاربة الإرهاب. وهذا الهجوم تم وقت انعقاد المؤتمر. الرسالة واضحة على ما يبدو..
4 ـ ولعل أهم قضية على الإطلاق تتعلق بوحدة الأراضي السورية وسيادة الدولة التامة عليها. يبدو أن هذه القضية إشكالية وصعبة بسبب رفض قسد للبيان. إضافة إلى وجود إشكاليات في السويداء، والاحتلال الإسرائيلي لأراضٍ سورية جديدة في محافظتي القنيطرة ودرعا.