array(1) { [0]=> object(stdClass)#13777 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 209

محادثات لإنشاء منتدى استراتيجي بين الناتو ودول الخليج لتنسيق أكثر فعالية

الأربعاء، 30 نيسان/أبريل 2025

لطالما شكلت العلاقات عبر المحيط الأطلسي بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ركيزة الاستقرار الجيوسياسي الغربي. ولقد ساهم هذا التحالف المُتجذر في القيم المشتركة، والمصالح الاقتصادية المتبادلة، والسجل التاريخي الزاخر بالتعاون، في تعزيز الأمن العالمي على مدى سبعة عقود متتالية. ومع ذلك، عاد شبح عدم اليقين ليُطارد هذه الشراكة بين ضفتي الأطلسي مع عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مرة أخرى للبيت الأبيض. وفي خضم المخاوف المُتنامية حيال التزام واشنطن تجاه حلف شمال الأطلسي "الناتو"، وتقاربها المُحتمل مع روسيا، وتغيُر ملامح النظام الدولي، تجد أوروبا نفسها عالقة أمام مفترق طرق.

يستكشف هذا المقال مستقبل العلاقات الأمريكية-الأوروبية، وتقييم السمات المحددة لسياسات ترامب الخارجية، وإلى أي مدى ستعيد أوروبا تقييم وضعها الأمني، فضلًا عن الانعكاسات الأوسع نطاقاً على الاستقرار العالمي. كما يبحث في الديناميات الاستراتيجية الصاعدة طارحًا تأملات حول مسار الشراكة عبر الأطلسي على المدى البعيد.

سياسات ترامب الخارجية: عقيدة استراتيجية جديدة؟

من المتوقع أن تكرس ولاية ترامب الثانية عقيدة "أمريكا أولًا"، التي تُعلي المصالح الوطنية على حساب التحالفات التقليدية. وقد عكست سياسات ترامب الخارجية إبان فترته الرئاسية الأولى بالفعل نهجًا قَائمًا على الصفقات، والتشكيك في أهمية حلف الناتو، والضغط على الحلفاء للحصول على مساهمات مالية أكبر، بجانب دعوته لانتهاج سياسات خارجية ذات طابع أكثر فردية. وعلى الأرجح ستشهد فترته الثانية تسارعًا لهذه السياسات، بالأخص في ظل استمرار تشرذم السياسات العالمية وصعود مراكز جديدة للقوة.

تجلت أبرز سمات نهج ترامب المتجدد فيما يلي:

  1. موقف براغماتي ضبابي تجاه الناتو

بينما قد لا ينسحب ترامب على الفور من حلف الناتو، فإن خطاباته وسياساته كفيلة بإضعاف تماسك بنية التحالف الغربي وإثقال كاهل أوروبا بقسط أكبر من الأعباء الدفاعية. بعد أن شكك الرئيس الأمريكي مرارًا وتكرارًا في فعالية دور التحالف، ملوحًا بعدم مشاركة الولايات المتحدة في الدفاع عن أعضَائه ما لم يفوا بالتزاماتهم المالية. هذه الضبابية التي تكتنف الموقف الأمريكي تجبر زعماء أوروبا على الاستعداد لأسوأ السيناريوهات المحتملة وزيادة الميزانيات العسكرية ودراسة إمكانية عقد ترتيبات أمنية مستقلة. وفي حال تحقق هذا السيناريو، فإنه سيضرب عرض الحائط بمصداقية استراتيجية الدفاع المتبادل المنصوص عليها في المادة رقم 5 من معاهدة الناتو. فضلًا عن، انعكاساته على الجاهزية التشغيلية للناتو. كما أنه في حال أصبحت القيادة الأمريكية لحلف الناتو مشروطة، سيٌلقي ذلك بظلال سلبية على المناورات المشتركة، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، واللوجيستيات الدفاعية نتيجة تراجع مستوى الثقة المتبادلة والتعاون المشترك.

  1. التركيز على النهج الثنائي بدلًا من متعدد الأطراف

ثمة تعارض بين تفضيل الاتحاد الأوروبي للاتفاقيات الجماعية وهوى ترامب للصفقات الفردية التي تنذر بتهميش دور الكتلة الأوروبية كمؤسسة. وذلك بسبب تفضيل الرئيس الأمريكي للانخراط المباشر مع الدول الأعضاء منفردة بما يقوض وحدة الصف الأوروبي. وسوف يؤدي انتهاج ترامب لهذه السياسات إلى تفاقم الصدوع في البيت الأوروبي، واللعب على التوجهات المتباينة للسياسات الخارجية لدول مثل المجر، وبولندا، وإيطاليا، وفرنسا. من شأن هذا النهج الثنائي أيضًا، الحد من النفوذ الأوروبي على الساحة الدولية. وربما تشهد المنصات الدولية متعددة الأطراف مثل الأمم المتحدة، ومنظمة التجارة العالمية، ومنظمة الصحة العالمية-التي لم تسلم بالفعل من نيران الانتقادات-مزيدًا من التراجع في مستوى المشاركة الأمريكية وتقويض الاستجابات الجماعية للتحديات العالمية مثل تفشي الأوبئة، وأزمة تغير المناخ، والإرهاب.

  1. سياسات تجارية واقتصادية صارمة

من المحتمل أن تؤدي سياسات ترامب القومية في المجال الاقتصادي إلى تأجيج حرب التعريفات الجمركية والنزاعات التجارية مع الاتحاد الأوروبي ليتحدى الأساس الاقتصادي الذي تقوم عليه الروابط عبر الأطلسي. فيما تنذر حروبه التجارية، والعقوبات، والنزاعات المثارة حول الدعم المقدم لصناعات مثل الفضاء والزراعة بزيادة التوتر في العلاقات مع الشريك الأوروبي فضلًا عن قراراته بإعادة فرض رسوم جمركية على واردات الحديد الأوروبية، والسيارات، والخدمات الرقمية. كما أن اختلاف المعايير الخاصة بالتكنولوجيا والتنظيم الرقمي (مثل قانون الخدمات الرقمية للاتحاد الأوروبي) وخصوصية البيانات تهدد أيضًا بحدوث تضارب تنظيمي، بخلاف الخطر المحدق بتدفقات البيانات عبر الأطلسي، التي تعد ضرورية للتجارة والابتكار، في حال انهارت الأطر القانونية المتبادلة.

  1. التقارب المحتمل مع روسيا

يمكن أن تؤدي إعادة ضبط العلاقات الأمريكية-الروسية إلى تقويض الأمن الأوروبي، وبالأخص دول منطقة شرق أوروبا والبلقان. لقد أعرب ترامب من قبل عن إعجابه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين وقد يسعى لتهدئة التوترات مع موسكو ربما على حساب الحلفاء الأوروبيين الذين ينظرون لروسيا باعتبارها تهديدًا وجوديًا. وفي حال قررت واشنطن بشكل أحادي تخفيف العقوبات على روسيا أو سحب دعمها للتدريبات التي يجريها حلف الناتو بالقرب من الحدود الروسية، قد تغتنم موسكو الفرصة لتوسيع نطاق نفوذها. بما يشمل ذلك زيادة وتيرة الهجمات السيبرانية، والحرب الهجينة، والحملات الدعائية التي تهدف إلى زعزعة استقرار الديمقراطيات في الاتحاد الأوروبي.

تغير الأولويات في منطقة المحيطين الهندي والهادي

كلما ركزت السياسة الخارجية الأمريكية اهتمامها على مجابهة النفوذ الصيني في منطقة المحيطين الهندي والهادي، كلما أصبح الشأن الأوروبي ذا أولوية ثانوية. وقد تتوقع واشنطن من أوروبا تولي مهمة معالجة تحدياتها الأمنية بمفردها دون تدخل من جانبها، بما يفرض ضغوطا إضافية على أعضاء الناتو من أجل تحقيق اكتفاء ذاتي. ورغم إدراك أوروبا المتزايد لأهمية منطقة المحيطين الهندي والهادي الاستراتيجية، إلا أن قدراتها داخل المنطقة لا تزال محدودة. وبدون الدعم الأمريكي، تصبح قدرة أوروبا على استعراض قوتها في هذه الساحة مُقيدة. كما أن تباين الرؤى بشأن كيفية التعامل مع الصين سيُضفي مزيدًا من التعقيد على التنسيق بين ضفتي المحيط الأطلسي.

الرد الأوروبي الدفاعي على الغموض الأمريكي

الغموض الذي يكتنف مستقبل حلف الناتو دفع دول أوروبا لإعادة تقييم الاستراتيجيات الدفاعية لديها. ورغم أن واشنطن لا تزال محتفظة بمكانتها كشريك أمني محوري، إلا أن البلدان الأوروبية تخطو خطوات كبيرة نحو تحقيق الاستقلال الاستراتيجي. ولا يمكن اعتبار إعادة تقييم أوروبا لوضعها مجرد استجابة للأحداث الجارية، بل هي بالأحرى جزء متنام من رؤية شاملة لتعزيز السيادة الأوروبية في مجالات الدفاع والطاقة والخدمات الرقمية.

زيادة الإنفاق الدفاعي

لقد أعلنت العديد من الدول الأوروبية، لاسيما ألمانيا وفرنسا، عن رفع الميزانيات الدفاعية لديها بهدف تقليص الاعتماد على الضمانات الأمنية الأمريكية. فيما تعهدت ألمانيا، التي لطالما كانت عازفة عن زيادة إنفاقها العسكري، بتلبية هدف الناتو بإنفاق 2 % من إجمالي الناتج المحلي على الدفاع-مما يشير إلى تحول كبير في السياسات. كما عمدت دول أخرى مثل بولندا، وفنلندا، وهولندا إلى توسيع قدراتها الدفاعية. حيث جاءت الحرب في أوكرانيا بمثابة دعوة استيقَاظ للأوروبيين، مسلطة الضوء على أهمية تعزيز جاهزية القوات المسلحة الأوروبية وتحديثها.

تعزيز القدرات العسكرية الأوروبية

يعد برنامج التعاون الهيكلي الدائم للاتحاد الأوروبي "بيسكو" وصندوق الدفاع الأوروبي مؤشرين على التزام أوروبا بتحقيق جاهزية عسكرية مستقلة. وتهدف مثل هذه المبادرات إلى تعزيز البحوث العسكرية المشتركة، وتطوير أنظمة الأسلحة الحديثة، وتحسين قابلية التشغيل البيني لجيوش دول الاتحاد الأوروبي. كما أطلقت أوروبا برامج أخرى للتعاون مثل مشروع منظومة الطيران القتالي المستقبلي، ونظام القتال البري الرئيسي، لتعكس تطلعها إلى تشكيل منصات من الجيل التالي مستقلة تمامًا عن التكنولوجيا الأمريكية الدفاعية.

تزعم فرنسا لرؤية الاستقلال الاستراتيجي

في ظل تراجع مشاركة المملكة المتحدة بعد مغادرتها الاتحاد الأوروبي فيما يعرف بــ "بريكست"، برزت فرنسا كداعم رئيسي للاستقلال الأوروبي الدفاعي، مشددة على أهمية تعزيز قوة الردع النووية والقدرات الاستراتيجية. وقد دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مرارًا وتكرارًا إلى إنشاء "جيش أوروبي" لتقليص الاعتماد على الولايات المتحدة. ساهم النفوذ التاريخي الذي تنعم به فرنسا إلى جانب إرثها الثقافي الاستراتيجي في منحها مكانة فريدة تخولها قيادة جهود الاستقلال الدفاعي. مع ذلك، تواجه باريس تحديات في إقناع سائر دول الاتحاد الأوروبي-بالأخص دول وسط وشرق أوروبا -بإعلاء الحلول الأوروبية على الحلول عبر الأطلسي.

البدائل الممكنة لحلف الناتو

أشار بعض الزعماء الأوروبيين إلى إمكانية إنشاء تحالف أمني منفصل عن حلف الناتو إذا فقد الأخير موثوقيته. وبينما لا تزال مثل هذه النقاشات افتراضية، إلا أن الضبابية المستمرة بشأن التزامات واشنطن تجاه التحالف الغربي، قد تدفع أوروبا إلى إنشاء تكتل دفاعي إقليمي. كما اكتسبت فكرة إنشاء مجلس للأمن الأوروبي زخمًا ملحوظًا، وربما يشمل مشاركة المملكة المتحدة بصفتها شريكًا خارجيًا. ومع ذلك، ثمة العديد من العقبات التشريعية، والتنفيذية، والسياسية التي تعترض هذا المسار. فلا يزال حلف شمال الأطلسي جزءًا لا يتجزأ من البنية الدفاعية الأوروبية، وسوف يستغرق الانفصال الكامل سنوات، إن لم يكن عقودًا، حتى يتحقق.

التطورات الصناعية والتكنولوجية

منح الاتحاد الأوروبي الأولوية للتقنيات الدفاعية الوطنية، وتقليل الاعتماد على المقاولين العسكريين الأمريكيين. ويمثل تطوير مقاتلات أوروبية حربية متقدمة، بالإضافة إلى الدبابات، وأنظمة الصواريخ، خطوة على طريق الاستقلال العسكري. كذلك، حرص الاتحاد الأوروبي على الاستثمار في مجالات الفضاء، والأمن السيبراني، والذكاء الاصطناعي باعتبارها جزءًا من أجندة الابتكار الدفاعي لديه. وتعتبر هذه المجالات ذات أهمية مركزية متنامية للحروب المستقبلية، لذا تسعى أوروبا لضمان عدم تخلفها عن الركب.

التقارب الأمريكي-الروسي: المخاوف الأوروبية والانعكاسات

أحد أبرز بواعث القلق التي تقض مضاجع زعماء أوروبا هو ذوبان الجليد المحتمل في العلاقات الأمريكية-الروسية في ظل رئاسة ترامب الثانية. وتخشى العديد من الدول الأوروبية، بالأخص تلك المتاخمة للحدود الروسية، من سيناريو تمنح فيه واشنطن الأفضلية لتعاونها الاستراتيجي مع موسكو على حساب تحالفاتها الراسخة مع أوروبا.

تنطوي التبعات المحتملة على ما يلي:

  • ضعف قوة الردع الأوروبية: قد يؤدي تقليل الوجود الأمريكي في أوروبا الشرقية إلى إغراء روسيا بتصعيد التهديدات الهجينة أو العسكرية.
  • تشرذم التوافق الأمني الأوروبي: تباين الرؤى بشأن التهديدات المدركة من شأنه زعزعة استقرار السياسة الأمنية والدفاعية الأوروبية المشتركة.
  • الاعتمادية في مجال الطاقة والنفوذ الاستراتيجي: قد تؤدي هيمنة روسيا في مجال البنية التحتية للطاقة إلى تعظيم نفوذها الجيوسياسي.
  • التأثير على الحرب في أوكرانيا: تحول السياسة الأمريكية قد يؤثر على استراتيجيات المعركة داخل الأراضي الأوكرانية والموقف التفاوضي لكييف.

الموقف الأمريكي بشأن أوكرانيا وتآكل نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية

لا تزال الحرب الدائرة رحاها في أوكرانيا قضية حاسمة للعلاقات عبر الأطلسي. وفي الوقت الذي حرصت إدارة الرئيس الأمريكي السابق جون بايدن على تقديم دعم عسكري ومالي جوهري لكييف، تشير تحركات ترامب إلى تحول في السياسات قد يتضمن خفضًا محتملًا في مستوى الدعم الأمريكي أو دفع أوكرانيا للقبول بتسوية تفاوضية لصالح روسيا. وهو ما سيُشكل انفصالًا جوهريًا عن النظام الذي ظل سائدًا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث عملت الزعامة الأمريكية كضامن للسلام الأوروبي. وإذا ما تم تقويض هذا البنيان القائم، قد يميل ميزان القوى العالمي لصالح كفة الدول الاستبدادية الرجعية.

تناقضات في السياسة الأمريكية العالمية ما بين التوسع والانعزالية

تنطوي سياسات ترامب الخارجية على مفارقة واضحة: فبينما يدعو إلى تقليص التدخلات العسكرية الأمريكية، تعكس سياساته موقفًا هجوميًا ليس فقط تجاه خصوم الولايات المتحدة، بل أيضًا حلفائها. وكانت إدارته قد توعدت في السابق دولا مثل كندا على خلفية النزاعات التجارية بين البلدين، ودول أمريكا اللاتينية بسبب قضايا الهجرة والمخاوف الأمنية، حتى أن جزر جرينلاند لم تسلم من أطماع ترامب الإقليمية. وهكذا، فإن عدم القدرة على التنبؤ بسلوك الشريك الأمريكي ستضر بتحالفاته وشراكاتها الدولية. وربما تمنح دفعة قوية لمساعي التحوط من قبل الدول الأخرى من خلال تطوير شراكات استراتيجية موازية -سواء كانت مع الصين، وروسيا، أو إقامة ائتلافات إقليمية-تحد من النفوذ الأمريكي.

صحوة ألمانيا الاستراتيجية

من بين العديد من دول القارة الأوروبية، برزت استجابة ألمانيا للواقع عبر الأطلسي الجديد بشكل لافت. بعدما اتخذت برلين، التي كانت تتبنى تاريخيًا حذرًا حيال الشؤون العسكرية، خطوات كبيرة للاضطلاع بدور أمني أكثر حزمًا، مدفوعة بالحرب التي لاتزال مستمرة في أوكرانيا والغموض المتزايد حول الموقف الأمريكي.

نقطة تحول تاريخية في العقيدة العسكرية الألمانية (Zeitenwende )

في خطابه التاريخي الذي ألقاه عام 2022م، أعلن المستشار الألماني أولاف تشولز عن "نقطة تحول تاريخية" في العقيدة العسكرية "Zeitenwende”، مُتعهدًا بتخصيص 100 مليار يورو لتحديث الجيش الألماني والالتزام بتحقيق هدف الناتو المتمثل في إنفاق 2% من إجمالي الناتج المحلي على الدفاع. يمثل هذا التحول انحرافًا جذريًا عن عقود من التحفظ العسكري منذ انتهاء الحرب الباردة. واعتبارًا من عام 2025م، دأبت ألمانيا على إعادة تسليح نفسها وإعادة تقييم وضعها الاستراتيجي. حيث عززت حضورها داخل الجناح الشرقي لحلف الناتو، إلى جانب مشاركتها في المبادرات الدفاعية التي يتزعمها الاتحاد الأوروبي. ولعبت برلين دورًا متناميًا في مجالي الدفاع الجوي والتبادل الاستخباراتي حتى أن بات ينظر إليها على نحو متزايد باعتبارها مركز قوة الردع الأوروبية-في الوقت الذي تقود فيه فرنسا جهود الاستقلال النووي والاستراتيجي.

قانون التوازن

على الرغم من التزاماتها العسكرية المتنامية، لا تزال ألمانيا شديدة الالتزام بالنهج متعدد الأطراف، وتتوخى الحذر من فك الارتباط الاستراتيجي مع الولايات المتحدة. وتدعو برلين للحفاظ على الدور المركزي لحلف الناتو بموازاة العمل على تعزيز قدرة الاتحاد الأوروبي على التحرك بشكل مستقل إن اقتضى الأمر. وتمت صياغة هذه الاستراتيجية الألمانية ذات المسار المزدوج من أجل الحفاظ على ترابط التحالف الغربي والتحوط في الوقت ذاته ضد تقهقر أمريكي متزايد. كذلك لا تزال ألمانيا محتفظة بمكانتها كلاعب محوري على صعيد استراتيجيات الدفاع التقني والأمن السيبراني لحلف الناتو. وتعمل عن كثب مع الأعضاء الآخرين في تطبيقات الذكاء الاصطناعي الخاصة بمجالات الدفاع، ومرونة الأمن السيبراني، وقدرات مكافحة الحرب الهجينة.

توسع حلف الناتو ومفهوم" ناتو بلس"

أحد أبرز التطورات الديناميكية التي تشهدها استراتيجية الأمن العالمي هو النقاش المُتنامي حول توسع الحلف بعيدًا عن نطاقه الأطلسي التقليدي، سواء من خلال التوسع الرسمي أو الشراكات الاستراتيجية التي تُعقد بموجب إطار "ناتو بلس" المقترح.

الأعضاء الحاليُون والمحتملٌون

ساهم انضمام كل من فنلندا والسويد مؤخرًا إلى حلف الناتو بالفعل في إعادة تشكيل وضعه الشمالي. وبالنظر للمستقبل، فلا تزال عضوية دول مثل جورجيا، والبوسنة والهرسك، وربما حتى أوكرانيا (على المدى الأبعد) مطروحة على الطاولة-ولو أن انضمام الأخيرة يظل معتمدًا بشكل كبير على نتائج الحرب أمام روسيا والإصلاحات الداخلية. مع ذلك، قد تتبدل الحسابات تحت الولاية الثانية لدونالد ترامب الذي، على الأرجح، لن يدفع صوب قبول أعضاء جدد. مما قد يجعل الحلفاء الأوروبيين يسعون لإقامة علاقات أكثر وثاقة مع الدول الطامحة، لاسيما تلك التي تواجه عدوانًا روسيًا أو نفوذًا صينيًا.

مفهوم "ناتو بلس"

يُشير مصطلح "ناتو بلس" إلى مقترح متطور يهدف لتوسيع نطاق الشراكات الاستراتيجية بما يتجاوز نطاق العضوية الكاملة. ويشمل ذلك التنسيق العسكري، والاستخباراتي، والاقتصادي الوطيد مع الدول ذات الفكر المُشابه داخل منطقة المحيطين الهادي والهندي ومنطقة الخليج، بما في ذلك اليابان، وكوريا الجنوبية، وأستراليا، وربما الهند. بموجب هذا الإطار، لن تكون الدول ملزمة بتطبيق البند رقم "5” لكنها قد تشارك في عمليات التشغيل البيني العسكرية، والتعاون في مجال الأسلحة، والتخطيط الاستراتيجي. بالتالي، يتيح هذا النموذج قدرًا من المرونة: حيث يسهم في توسيع نفوذ الناتو ومساعيه التعاونية دون إثارة حساسيات سياسية بشأن التوسع الرسمي.

مجلس التعاون الخليجي و"ناتو بلس": رابطة خليجية استراتيجية

يُعدّ تعزيز التعاون الأمني بين حلف الناتو ودول مجلس التعاون الخليجي أحد التطورات البارزة لهذا الإطار المتنامي. فبفضل موقعها الجيوسياسي الاستراتيجي، ونفوذها الاقتصادي، ومساعيها لتحديث قدراتها العسكرية، تبرز دول المجلس، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر، كشركاء طبيعيين لإقامة تحالف أوثق مع المنظومة الدفاعية الغربية.

المصالح المشتركة في دعم الاستقرار

تتشارك دول الخليج العربي وحلف الناتو المصالح الاستراتيجية على صعيد مكافحة الإرهاب، والأمن البحري، والدفاع السيبراني، وحماية البنية التحتية للطاقة. كما دفعت الحرب الروسية على أوكرانيا دول أوروبا إلى تنويع مصادرها من الطاقة-وتسريع وتيرة التعاون مع دول الخليج في صادرات الغاز وممرات الشحن الحيوية للطاقة. كما استضافت دول خليجية عدة مناورات التدريب وعمليات التنسيق التي يجريها التحالف. في الوقت ذاته، تخدم مبادرة إسطنبول للتعاون كمنصة للحوار المشترك منذ عام 2004. مع ذلك، فإن انعدام الاستقرار العالمي الراهن، وأنشطة إيران الإقليمية، وتهديد الحرب السيبرانية والطائرات المسيرة، جددت الاهتمام بإضفاء الطابع المؤسسي على التعاون بين الخليج وحلف الناتو.

هيكل جديد للتعاون بين الناتو ومجلس التعاون الخليجي؟

تُجرى حاليًا محادثات بشأن إنشاء منتدى استراتيجي يجمع بين حلف الناتو ومجلس التعاون الخليجي يعول على الحوار السابق ويقود في الوقت ذاته إلى تنسيق أكثر فعالية بما في ذلك:

  • القيام بعمليات استخباراتية مشتركة.
  • حماية الملاحة في البحر الأحمر ومضيق هرمز.
  • تكامل البنية التحتية للأمن السيبراني.
  • إعداد الخطط الاستباقية لإدارة الأزمات.

وجود محور يجمع بين الناتو ومجلس التعاون الخليجي يعزز قدرة الجانبين على الاستجابة للصدمات الإقليمية والعالمية-مع ضمان استمرار الدور المركزي الذي تلعبه التكنولوجيا العسكرية والخدمات اللوجستية الغربية في تعزيز استراتيجيات الدفاع الخليجية.

الآفاق المستقبلية: قمة الناتو 2025 في لاهاي

تعتبر القمة المقبلة لحلف الناتو المقرر انعقادها في يوليو 2025م، بمدينة لاهاي لحظة فارقة تلوح في سماء التحالف الغربي. حيث من المرجح أن تصبح حلقة حاسمة لمستقبل التحالف واختبارًا للوحدة عبر الأطلسي في ظل إدارة ترامب الثانية.

الأهداف الاستراتيجية

تهدف القمة لإعادة تقييم الهدف الاستراتيجي لحلف الناتو في ضوء التهديدات العالمية سريعة التغير. وتشمل أجندة الموضوعات الرئيسية ما يلي:

  • إعادة التأكيد على المادة رقم 5: استجابةً للشكوك التي تحيط بالالتزام الأمريكي، من المتوقع أن يضغط العديد من أعضاء الناتو من أجل إعادة التأكيد بشكل واضح ومعلن على مفهوم الدفاع المشترك.
  • تقاسم الأعباء وهدف 2%: انتقادات ترامب المتكررة ستفرض على دول أوروبا ضرورة إظهار تقدم ملموس بشأن الإنفاق الدفاعي وذلك في سبيل دحضها.
  • الناتو والمحيطين الهادي والهندي: يرجح أن يسعى التحالف إلى توضيح موقفه حيال الدور الجيوسياسي المتنامي للصين، وإيجاد توازن بين صلاحياته الأوروبية-الأطلسية والمشهد الاستراتيجي الأوسع.
  • الأمن السيبراني والحرب الهجينة: من المتوقع أن تكشف قمة لاهاي المقبلة عن عقيدة جديدة للأمن السيبراني تواكب التهديدات المحدقة في حرب المعلومات، والتدخل في الشؤون الانتخابية، وتخريب البنية التحتية الحيوية.

مخاطر دبلوماسية عالية

من المتوقع أن تشهد قمة لاهاي المقبلة توتراً ملحوظاً في التفاعلات بين الأعضاء خلف الأبواب المغلقة. وقد يستغل ترامب المنصة لتوجيه تحديات علنية للحلفاء، بينما قد يقترح القادة الأوروبيون خطط طوارئ لتعزيز التعاون الدفاعي بمعزل عن القيادة الأمريكية. وسيكون لنتائج القمة، سواء كانت ملموسة أم لا، تأثير حاسم على مستقبل التحالف الغربي، إذ ستحدد ما إذا كان سيحظى بفرصة جديدة للحياة أو سيشهد تدهوراً ملحوظاً.

رمزية لاهاي

يحمل اختيار مدينة لاهاي، التي ترمز إلى القانون الدولي والتعددية، لاستضافة قمة الناتو المقبلة، دلالة رمزية عميقة. إذ يؤكد هذا الاختيار التزام الحلف بالنظام القائم على القواعد، الذي يواجه تحديات متزايدة نتيجة لتنامي النزعة السلطوية والغموض الاستراتيجي. لن تكون المدينة مجرد منبر للحوار فحسب، بل ستكون دعوة صامتة للحفاظ على التماسك والوحدة في ظل ظروف يسودها عدم اليقين.

الخلاصة: مستقبل العلاقات عبر ضفتي الأطلسي

من المرجح أن تُشكل رئاسة ترامب الثانية منعطفًا حاسمًا في العلاقات بين واشنطن وبروكسل. فإن قرار الولايات المتحدة بإعلاء دبلوماسية الصفقات وخفض التزاماتها تجاه التحالفات التقليدية، سيضع أوروبا بين شقي رحا: إما تعزيز استقلاليتها الاستراتيجية أو البقاء أسيرة لحليف لا يمكن التنبؤ بأفعاله. أهمية هذا الخيار بالنسبة لأوروبا لا تقتصر على تبعاته الاستراتيجية فحسب، بقدر ما يطرح قضية وجودية تقتضي من الاتحاد الأوروبي تحديد ماهية الدور الذي يريد أن يلعبه في القرن الحادي والعشرين -سواء بالاكتفاء بتبعيته للزعامة الأمريكية أو أن يصبح لاعبًا جيوسياسيًا مستقلًا. إن السنوات القادمة كفيلة باختبار مدى صلابة الشراكة عبر الأطلسي بما يُعيد رسم ملامح النظام العالمي لعقود مقبلة. ويبقى السؤال الأهم مطروحًا: هل سيؤدي هذا التحول إلى أوروبا أكثر قوة، أم إلى غرب يعاني التشرذم؟

مقالات لنفس الكاتب