لطالما شكلت العلاقات عبر المحيط الأطلسي بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حجر أساس للاستقرار العالمي، والرخاء، والقيم المشتركة. إلا أن النظام الدولي الذي تَشكل في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وترسخ إبان حقبة الحرب الباردة أصبح يتعرض لضغوط غير مسبوقة.
أشعل فوز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بولاية رئاسية ثانية في عام 2024م، فتيل نقاشات متجددة داخل مختلف أنحاء أوروبا والولايات المتحدة حول مستقبل التحالف بين الجانبين، ومسَار السياسة الخارجية الأمريكية، ومدى صلابة النظام العالمي الليبرالي. فيما أثارت العديد من التصريحات الصادرة عن إدارة ترامب شكوكًا داخل أوروبا حيال موثوقية الحليف الأمريكي. بما في ذلك تشكيك واشنطن في حلف شمال الأطلسي "ناتو"، وفرضها رسومًا جمركية وقيودًا متبادلة مع الجانب الأوروبي، بجانب التلويح باحتمالية ضم جزر جرينلاند، التي تعتبر جزءًا من الأراضي الدنماركية. في المقابل، سلك الرد الأوروبي مسارًا من بين مسارات متعددة تحاول استيعاب مطالب الإدارة الأمريكية مع وضع تصور محتمل لتحقيق قدر أكبر من الاستقلال الاستراتيجي. ورغم أن انفصالًا تامًا بين ضفتي المحيط الأطلسي ليس مطروحًا بعد على الطاولة، إلا أنه يتضح جليًا أن تغير الحقائق الجيوسياسية، والاضطرابات التكنولوجية، والضغوط الشعبوية في الداخل، جعلت مسار العلاقات الأمريكية-الأوروبية غير محسوم وموضع جدل ونزاع متزايد.
المسار الحالي للولايات المتحدة: ولاية ثانية لترامب وأبرز سماتها من المنظور الأوروبي
لقد بلورت عودة ترامب للبيت الأبيض مجموعة من الأولويات في السياسة العامة التي تبتعد عن النهج متعدد الأطراف القائم على الإجماع، والذي ظل لسنوات عِدة السمة المميزة للسياسات الخارجية الأمريكية ما بعد الحرب الباردة. وبناء على ما حققه خلال فترته الرئاسية الأولى التي كرست بالفعل لمبدأ سيادة "أمريكا أولا"، والدبلوماسية القائمة على الصفقات، والتشكيك الحاد في المؤسسات الدولية، والتركيز المتجدد على النزعة الاقتصادية القومية، حرص ترامب على تكثيف وتيرة هذه السياسات مع بداية الولاية الثانية. وهو ما شكل صحوة مُفزعة للعديد من الأوروبيين الذين كانوا يأملون في أن تكون ولايته الثانية بشكل أو بآخر إعادة تكرار لسنوَاته الأولى في الحكم.
أحد السمات المميزة لولاية ترامب الثانية هي إعادة التأكيد على استقلالية الولايات المتحدة عن التحالفات التقليدية. حيث اتخذت واشنطن خطوات لتقليص التزاماتها المالية تجاه حلف الناتو، ومارست ضغوطًا متزايدة على الحلفاء من أجل زيادة إنفَاقهم الدفاعي. بلغ الأمر حد التشكيك في البند الخاص بالدفاع المتبادل المنصوص عليه ضمن المادة ال (5) من المعاهدة التأسيسية للتحالف الغربي. كما صرح الرئيس الأمريكي في مارس 2025م، خلال حديثه عن حلفاء الناتو متسائلًا: "هل تعتقدون انهم سَيلبون النداء الأمريكي إذا ما واجهتنا مشكلة ويهبون لحمايتنا؟ من المفترض أن يقوموا بذلك. ولو أنني لست واثقًا". كما أشار إلى أن دفاع واشنطن عن حلفائها في الناتو مرهوُنًا باستيفاء نسبة إنفَاقهم الدفاعي، موضحًا:" إن لم تكن تنوي سداد فواتيرك. فلن نقوم بحمايتك". واصفًا التحالف بأنه كيان" عفا عليه الزمن" ومشككًا في أهميته في معالجة التحديات العالمية الراهنة.
بالتوازي، سعى البيت الأبيض لإجراء مفاوضات أكثر مباشرة وفي أغلب الأحيان تكون ثنائية المستوى مع القوى العظمى-بما في ذلك الخصوم والمنافسين الاستراتيجيين لواشنطن-ليظهر تفضيلًا للدبلوماسية الفردية عن التعاون المؤسسي. كما هدد ترامب -في كلمته أمام تجمع انتخابي بولاية جنوب كارولينا في فبراير 2024م، -بأن واشنطن لن تكون ملزمة بالدفاع عن أعضاء الناتو الذين لم يفوا بالتزاماتهم المالية وربما ستشجع روسيا على فعل ما يحلو لها، في حال عودته مرة أخرى للبيت الأبيض. ومؤخرًا، وجدت أوروبا نفسها منعزلة عن المحادثات الأمريكية-الروسية، وتلك الأمريكية -الأوكرانية، رغم أن العدوان الروسي على أوكرانيا يمثل تهديدًا وجوديًا لها. وتضاءلت الاجتماعات بين الإدارة الأمريكية الجديدة والدبلوماسيين الأوروبيين، حيث لم يلتقِ وزير الخارجية ماركو روبيو بعد بنظيِرته في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس.
بالنسبة لأوروبا، يُعد ميل الولايات المتحدة الظاهر نحو التقارب مع روسيا أحد أبرز بواعث القلق وإثارة الجدل بشأن سياسات ترامب الخارجية. وبينما قد يُسهم هذا التحول الدبلوماسي، من الناحية النظرية، في تخفيف حدة التوترات القائمة، لكنه يثير الريبة في نفس العديد من زعماء أوروبا -لاسيما رؤساء دول أوروبا الشرقية والبلقان. حيث أن احتمالية ذوبان الجليد في العلاقات الأمريكية-الروسية تُغذي المخاوف بشأن تهميش حلف الناتو وتقويض استراتيجيات الردع الأوروبية. فيما تخشى دول مثل بولندا، وإستونيا، ولاتيفيا من أن اتفاقًا ثنائيًا بين واشنطن وموسكو قد يغفل مصالحها الأمنية أو يتغاضى عن تجاوزات روسيا داخل أوكرانيا، وجورجيا، ومولدوفا. كذلك فإن أي قرار يتخذ بشأن رفع العقوبات المفروضة على روسيا -رمزيًا كان أو فعليًا-كفيل بإحداث صدع في وحدة الصف الأوروبي، لاسيما إن تم تنفيذه فرديًا من قبل واشنطن. الشاغل الأكبر هو أن يؤدي التحول إلى نهج المواءمة مع موسكو إلى تشجيع العدوان الروسي، وتقويض مصداقية حلف الناتو، وإضعاف روح التكاتف والتآزر عبر الأطلسي.
تنطوي سياسات ترامب الخارجية على باعثين آخرين للاستياء الأوروبي. أولًا، إصرار إدارته على التركيز على البُعد الاقتصادي للسلطة الوطنية. فمن خلال إعادة إجراء المفاوضات التجارية، والرسوم الجمركية، والسياسات الصناعية، سعت إدارة ترامب لإعادة توطين سلاسل الإمداد، وتقليص الاعتماد على الصين، وتأكيد الريادة التقنية والاقتصادية للولايات المتحدة. وبناء على الفرضية التي طرحها الرئيس ترامب بأن "الغرض من إنشاء الاتحاد الأوروبي هو الإضرار بالولايات المتحدة، وأنه وُفِقَ بنسبة كبيرة في تحقيق هذا"، أعلن البيت الأبيض في 2 إبريل فرض رسوم جمركية متبادلة بنسبة 20% على كافة الواردات الأوروبية بما ينذر باندلاع حرب تجارية شاملة، في ظل توعد رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، بالرد بالمثل، مؤكدة أن الاتحاد الأوروبي "مستعد للتصدي".
ثانيًا، التحدي الأكثر جوهرية يتمثل في الدعم المقدم من قبل الإدارة الأمريكية للأحزاب اليمينية الشعبوية داخل أوروبا، بما يمثل تدخلًا مباشرًا في الشأن الأوروبي المحلي. وفي خطابه أمام مؤتمر ميونخ للأمن في فبراير 2025م، انتقد نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس "الجهود الأوروبية لتهميش أحزاب اليمين المتطرف"، مؤكدًا أن مثل هذا الإقصاء يقوض العمليات الديمقراطية. كما التقى المسؤول الأمريكي بزعماء حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني في الوقت الذي لم يكن هناك لقاء يجمعه بالمستشار الألماني. كذلك أعلن الرئيس ترامب على دعمه الكامل لزعيمة اليمين المتشدد في فرنسا مارين لوبان في التهم الموجهة إليها باختلاس أموال عامة، والتي وصفها بأنها "حملة شعواء" مدفوعة سياسيًا، موضحًا بالقول: "يبدو لي أن ما حدث خطأ بسيط في المحاسبة". كما قام ستيف بانون، مستشار الرئيس ترامب السابق للشؤون الاستراتيجية، بتأسيس منظمة أسماها "الحركة"، التي تتخذ من مدينة بروكسل مقرًا لها-وتهدف إلى دعم الجماعات الشعبوية والقومية اليمينية في مختلف البقاع الأوروبية.
نتيجة للمعطيات سالفة الذكر، يعبر المسؤولون الأوروبيون بشكل متزايد عن قلقهم إزاء مستقبل المصالح الاستراتيجية طويلة الأجل مع الولايات المتحدة. حيث تواصل الولايات المتحدة التركيز على احتواء تطلعات بكين على الساحة العالمية، وتأمين هيمنتها في مجال الطاقة، والحفاظ على تفوقها العسكري. ولكنها في سبيل تحقيق ذلك سلكت مسارًا أحاديًا ضبابيًا أضعف بنية التحالفات التقليدية التي تعتبر أدوات للعمل الجماعي. مع ذلك، تنظر إدارة ترامب لمثل هذه التحالفات باعتبارها أعباء أو أدوات للضغط على واشنطن أكثر من كونها التزامات بقيم مشتركة. وأصبح هذا المنظور، الذي لا يعد وليد اللحظة، عاملًا رئيسيًا في تشكيل الرؤية الاستراتيجية للولايات المتحدة، ليدفع زعماء أوروبا إلى إعادة تقييم لأي مدى يمكن الاعتماد على واشنطن كشريك على المدى الطويل.
الرد الأوروبي: تعزيز الاستقلال الاستراتيجي
في ظل ترقب احتمالية انسحاب الولايات المتحدة من حلف الناتو، أو على أقل تقدير، تقليص التزاماتها العابرة للأطلسي، شرعت أوروبا في إعادة ترتيب أوضاعها الأمنية. ودأب أبرز أعضاء الكتلة الأوروبية بزعامة كل من فرنسا، وألمانيا، وبولندا، على تسريع وتيرة دعم القدرات الدفاعية سواء بشكل فردي أو من خلال الأطر الجماعية مثل التعاون الهيكلي الدائم "بيسكو" وصندوق الدفاع الأوروبي. وفي إطار برنامج "إعادة تسليح أوروبا"-المعلن عنه من قبل رئيسة المفوضية الأوروبية فون دير لاين في مارس 2025م، -تُخطط أوروبا لحشد ما تصل قيمته إلى 800 مليار يورو لدعم الصناعات الدفاعية والجاهزية العسكرية. ويشمل ذلك جمع 150 مليار يورو عبر آليات الاقتراض المشترك وتوفير القروض للدول الأعضاء من أجل تغطية النفقات الخاصة بالشق الدفاعي. فيما تهدُف الاستراتيجية الأوروبية للصناعات الدفاعية للحد من التشرذم في صناعة الدفاع الأوروبية وتقليص الاعتماد على واردات الأسلحة الخارجية.
لقد كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في طليعة الداعين إلى تحقيق استقلال أوروبي استراتيجي، طامحًا إلى رؤية قارة أوروبية تتمتع بقدر أكبر من السيادة والقدرة على الدفاع عن نفسها بصورة مستقلة. وعلى هذا الأساس، بدأت الحكومات الأوروبية الأخرى، بما في ذلك الحكومة الألمانية التي لطالما عرفت بحذرها التقليدي تجاه الحزم العسكري، في إظهار استعداد متزايد لتحمل مسؤولية الأمن الأوروبي. فيما تضمنت الإعلانات الصادرة مؤخرًا إمكانية قيام القوات الأوروبية بدور ضامن أمني لوقف محتمل لإطلاق النار بين أوكرانيا وروسيا، بالإضافة إلى اقتراح بإمكانية توسيع المظلة النووية الفرنسية لتشمل الحلفاء الأوروبيين. كما يبحث الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة سبل توثيق التعاون المشترك في قضايا الدفاع.
وبينما لا يزال الاتحاد الأوروبي بعيدًا عن تحقيق الاستقلال الاستراتيجي المنشود، إلا أن هناك تقدمًا ملحوظًا يتحقق في مجالات حيوية مثل عمليات الشراء المشتركة، وتعزيز الدفاع السيبراني، وتبادل المعلومات الاستخباراتية. بالتالي، فإن احتمالية تقليص الولايات المتحدة مشاركتها في حلف الناتو أتاحت حافزًا للمناقشات بشأن إنشاء جيش أوروبي أو تعزيز قدرات الانتشار السريع تحت رعاية الاتحاد الأوروبي.
إن تضاؤل الثقة في ميثاق التحالف عبر الأطلسي قد يمهد الطريق لظهور تحولات جديدة في معادلات الشراكات الدولية. فالدول الأوروبية، على سبيل المثال، تسعى حثيثاً لتوسيع أطر حواراتها الاستراتيجية مع قوى عالمية أخرى، كاليابان والهند وأستراليا، وذلك في سياق جهودها الرامية إلى تحقيق تنوع استراتيجي. بشكل مماثل، يعزز الاتحاد الأوروبي مشاركته مع المؤسسات الدولية متعددة الأطراف مثل الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية للحفاظ على النظام الدولي القائم على القواعد في ظل تقهقر الدور الأمريكي. النقطة الإيجابية بالنسبة لأوروبا هي أن دولًا أخرى في مناطق الشرق الأوسط، وشرق آسيا، وأمريكا اللاتينية تسعى بنفس القدر للتحوط ضد التقلبات المحتملة في السياسات الأمريكية، مما يفتح آفاقاً رحبة لتعزيز العلاقات مع الاتحاد الأوروبي. ولعل خير مثال على ذلك، المفاوضات التي اختتمت مؤخرًا بشأن اتفاقية التجارة بين الاتحاد الأوروبي وتكتل ميركوسور.
على الرغم من بعض التقدم المحرز والزخم الجديد الذي تشهده رؤية استقلال أوروبا الاستراتيجي عن الولايات المتحدة في عهد ولاية ترامب الثانية، إلا أنها تواجه عقبات كبيرة. يشمل ذلك، اختلاف الرؤى بشأن المخاطر المُحدقة، والافتقار إلى قيادة أوروبية موحدة؛ ناهيك عن التكامل العسكري، والاستخباراتي، والتقني المترسخ مع الحليف الأمريكي والذي لن يكون استبداله مهمة سهلة أو سريعة. فضلًا عن الانقسامات السياسية الداخلية في بعض بلدان الاتحاد الأوروبي مثل المجر وإيطاليا التي قد تتخوف من استعداء الولايات المتحدة أو تمكين بروكسل من السيادة الوطنية على أراضيها.
خلاصة القول، إنه برغم أن إدارة ترامب الثانية منحت دفعة قوية للطموحَات الأوروبية، إلا أن تحول رؤية الاستقلال الاستراتيجي لقدرة حقيقية أو بقائها مجرد شعار سياسي يتوقف على توافر الإرادة السياسية والتنسيق بين دول الاتحاد. إلى جانب أهمية دور التمويل والاستثمارات واسعة النطاق والمُتسقة في القدرات العسكرية والتقنية، وتوافر الإجماع الاستراتيجي بشأن أهمية الدور العالمي لأوروبا، وتوافر الدعم الشعبي لزيادة المشاركة الدفاعية.
مع ذلك، لم يعد الاستقلال الاستراتيجي لأوروبا مجرد نقاشًا نظريًا، بل أصبح ردًا حتميًا للعلاقات المضطربة عبر ضفتي الأطلسي ونظام دولي متشرذم. ورغم أن تبعيات أوروبا الهيكلية للولايات المتحدة لا تزال قائمة، إلا أن الإدراك السياسي لأهمية امتلاكها القدرة للدفاع عن نفسها وتقرير مصيرها أضحى السائد الآن داخل بروكسل والعواصم الأوروبية. حتى إنه ربما يُنظر، على المدى البعيد، إلى القلاقل التي أحدثها ترامب باعتبارها الصحوة التي أيقظت أوروبا من غفلتها، وأجبرت التكتل على النمو من كونها عملاق القوة الناعمة إلى لاعب عالمي أكثر توازنًا، ومرونة، وتمكُنًا استراتيجيًا.
إعادة تقييم الشراكات الدولية
التساؤل الرئيسي الذي يُغلف أغلب النقاشات الأوروبية بشأن السياسية الخارجية الأمريكية يتمحور حول الاتجاه الذي ستسلكه واشنطن، وإذا ما كان يُبشر بمرحلة جديدة من التوسع أم عودة إلى الانعزالية. بالأخص وأن سياسات الرئيس دونالد ترامب تعكس ملامح لكلا الاتجاهين. فمن جانب، ثمة تأكيد واضح على الهيمنة الأمريكية من خلال التركيز على القوة العسكرية، والنفوذ الاقتصادي، والمنافسة الأيديولوجية-بالأخص أمام المارد الصيني-ولعل الموقف العدائي الذي تتبعه إدارة ترامب في التجارة، وتسليح العقوبات، ومطالبتها لحلفائها بتحمل قدر أكبر من الأعباء ينم عن مفهوم موسع للمصالح الأمريكية. على الجانب الآخر، يُشير تشكيك ترامب في جدوى التدخلات العسكرية، والتركيز على "إنهاء الحروب التي لا تنتهي"، والعزوف عن الانخراط في جهود بناء الدولة إلى موقف أكثر تحفظًا. هذا النموذج المختلط-الذي يجمع ما بين الحزم العسكري والاقتصادي دون تشابكات طويلة الأمد-يخلق ضبابية حول نوايا أمريكا على الساحة العالمية. وفيما يتعلق بأوروبا، فإن هذا الغموض يضفي تعقيدًا على الخطط المستقبلية ويقوض الثقة في الاعتماد على الشريك الأمريكي. الخوف ليس فقط من تخلي واشنطن عن التزاماتها، بل أن يقترن ذلك بتخبط استراتيجي ما بين التدخل تارة والانسحاب تارة أخرى، ليترك الحلفاء في حالة دائمة من عدم اليقين.
تشهد الساحة الدولية تحولات متسارعة تنذر بإعادة تشكيل ملامح تحالفات ما بعد الحرب العالمية الثانية. فبدلاً من شراكات راسخة الجذور وقائمة على قيم مشتركة، تتشكل ائتلافات أكثر مرونة، تحركها المصالح الآنية. وفي خضم هذا التغير، يتوقف مستقبل العلاقات الأمريكية-الأوروبية على قدرة الطرفين على التكيف مع عالم يمضي نحو تعددية قطبية متزايدة، وتنافس محموم، وغيابٍ للوضوح. بالنسبة لأوروبا، قد يعني هذا الاستثمار في رؤية الاستقلال الاستراتيجي، وتعزيز التماسك الداخلي، والاستعداد لعالم لم يعد الدعم الأمريكي فيه من المسلمات. أما فيما يتعلق بالولايات المتحدة، فالخيار سيكون إما الحفاظ على التحالفات القائمة والمؤسسات التي تخدم كركائز للنظام العالمي، أو العودة لنمط من المشاركة الدولية تغلب عليه السمة الفردية والتركيز على الصفقات.
أخيرًا، لا يزال استمرار العلاقات عبر المحيط الأطلسي مرهونًا بتوافر الإرادة السياسية المشتركة، والاحترام المتبادل، والقدرة على مواءمة المصالح الاستراتيجية في عالم يميل إلى التكيف أكثر من التشبث بالمُتعارف والمعهود. وفي ظل تنامي التحديات -بدءًا من أزمة تغير المناخ إلى عودة حكم الديكتاتوريات -تبدو الحاجة إلى التعاون بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أكثر إلحاحًا عن أي وقت مضى. والسؤال هو إذا ما كان من الممكن الحد من اتساع الفجوة الحالية بين جانبي الأطلسي خلال الفترة المتبقية من ولاية ترامب الثانية؟ مع ذلك، يبدو أن التوجه نحو تحقيق قدر أكبر من الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي نتيجة لا مفر منها.