array(1) { [0]=> object(stdClass)#13781 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 209

استمرار السياسات الوازنة للسعودية ومصر خير ضمان لهزيمة مشروع نتنياهو للهيمنة الإسرائيلية

الأربعاء، 30 نيسان/أبريل 2025

   منذ تولى دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة للمرة الثانية في يناير الماضي، والتي لم يمض عليها سوى ثلاثة شهور حين اكتملت كتابة هذه الورقة، بدا أن العالم يمكن أن ينقلب رأسًا على عقب بسبب سياسات الرئيس الجديد ابتداءً من رغبته في حسم كل الملفات الشائكة دوليًا كالحرب في أوكرانيا والصراع العربي-الإسرائيلي والملف النووي الإيراني، وانتهاءً بالحرب التجارية العالمية التي أشعلتها سياسات التعريفات الجمركية المرتفعة التي فرضها على الخصوم والحلفاء على حدٍ سواء، ولم يتم حتى كتابة هذه السطور (أبريل٢٠٢٥م) حسم أي من الملفات السابقة بطبيعة الحال نظرًا لتعقدها وقِصَر المدة الزمنية لترامب في السلطة، لكن سياساته ومبادراته أحدثت دون شك تداعيات مهمة لعل أبرزها الانعكاسات على علاقات الولايات المتحدة ببعض من أهم حلفائها، وكذلك الإجراءات المضادة التي اتخذها عديد من الدول التي أُضيرت بتعريفات ترامب الجمركية الجديدة، وتهتم هذه الورقة تحديدًا بتأثير سياسات ترامب على القضية الفلسطينية التي تقع في قلب أحداث الشرق الأوسط بالنظر إلى انخراط قوى عربية وإقليمية رئيسية في التفاعلات المرتبطة بهذه القضية، ولكي يتحقق الهدف من هذه الورقة سوف ينقسم التحليل فيها إلى قسمين رئيسيين يتناول أولهما دروس الخبرة الماضية سواء بالنسبة للسياسة الأمريكية عامة، أو لسياسة ترامب تجاه إسرائيل والقضية الفلسطينية في ولايته الأولى خاصة، بينما يحلل القسم الثاني أبعاد سياسة ترامب تجاه الموضوع ذاته فيما مضى من ولايته الثانية حتى الآن، على أن تنتهي الورقة بخاتمة تحاول أن تستشرف آفاق تأثير قرارات ترامب وسياساته تجاه القضية الفلسطينية على مستقبلها ومستقبل المنطقة بصفة عامة.

 

أولًا: دروس الخبرة الماضية

 

   كما سبقت الإشارة فإن هذه الدروس سيتم استخلاصها من مصدرين أولهما نموذج السياسة الأمريكية بصفة عامة تجاه إسرائيل، والثاني خبرة سياسة ترامب بصفة خاصة في ولايته الرئاسية الأولى (٢٠١٧-٢٠٢١م)، وبالنسبة للمصدر الأول ليس هناك ما هو أسهل من تحديد أبعاد هذا النموذج، فمنذ نشأة إسرائيل١٩٤٨م،  وحتى الآن اتسمت السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل بالدعم المطلق، فطيلة ثلاثة أرباع القرن التي مرت على تلك النشأة لم يحدث أن تصادمت السياسة الأمريكية على نحو جوهري مع إسرائيل سوى مرة واحدة إبان رئاسة دوايت ايزنهاور (١٩٥٣-١٩٦١م) الذي تصدى للسياسة الإسرائيلية الرافضة للانسحاب من شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة اللذين كانت القوات الإسرائيلية قد احتلتهما في سياق العدوان على مصر١٩٥٦م، الذي تواطأت بريطانيا وفرنسا مع إسرائيل فيه، وقد انصاعت إسرائيل للموقف الأمريكي بطبيعة الحال، ويلاحظ أن هذا الموقف من أيزنهاور لم يكن نابعًا من تأييده الحق المصري، فقد كان الموقف الأمريكي الرافض لتمويل السد العالي، والذي دفع جمال عبد الناصر لتأميم شركة قناة السويس هو السبب الأصيل في التواطؤ الثلاثي على مصر، غير أن ما كان يعني ايزنهاور أساسًا في هذا الصدد أن العدوان قد تم من وراء ظهره، ومثل تحديًا للقيادة الأمريكية للتحالف الغربي التي أصبحت حقيقة واقعة على ضوء نتائج الحرب العالمية الثانية، ومثل كذلك تحديًا لأدواتها في ممارسة هذه القيادة، والتي كانت تركز آنذاك على أسلوب التحالفات العسكرية والمساعدات الاقتصادية وليس العدوان العسكري المباشر، ومن الطريف أن النائب الحالي لترامب قد صرح في ١٥أبريل الماضي بأن بريطانيا وفرنسا كانتا على حق في خلافهما مع أيزنهاور حول قناة السويس، وتعكس الألفاظ التي استخدمها والتز عدم دقة معلوماته بخصوص الموضوع أصلًا، فلم يكن ثمة خلاف مطلقًا حول قناة السويس، وإنما حول العمل العسكري الذي أعقب تأميم عبد الناصر لشركتها.

   وفيما عدا "بيضة الديك" التي حدثت في ظل رئاسة أيزنهاور لم يحدث أن اكتملت أي مبادرة من رئيس أمريكي تنطوي على خلاف ما مع السياسة الأمريكية، فقد قطع اغتيال الرئيس كينيدي (يناير١٩٦١-نوڤمبر١٩٦٣م) حواره مع الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان يبشر بتحول ما في السياسة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية، علمًا بأن تقارير أمريكية أشارت إلى ضلوع الموساد في اغتياله لإصراره على التفتيش على مفاعل ديمونة، وفي مارس١٩٨٠م، وافقت إدارة الرئيس چيمي كارتر على قرار مجلس الأمن رقم٤٦٥ الذي طالب إسرائيل بوقف الاستيطان وتفكيك المستوطنات القائمة، وكانت قد امتنعت عن التصويت على قرارين مشابهين في١٩٧٩م، بما سمح بصدورهما، وتقدم الرئيس رونالد ريجان في سبتمبر١٩٨٢م، بمبادرة تنطوي على حكم ذاتي كامل للفلسطينيين في إطار شكل من أشكال الارتباط بالأردن، وعلق الرئيس جورج بوش (١٩٨٩-١٩٩٣م) ضمانات قروض بقيمة ١٠مليارات دولار لاستيعاب هجرة اليهود السوڤيت ما لم تجمد إسرائيل بناء المستوطنات في الأراضي التي احتلتها في١٩٦٧م، وفي ديسمبر٢٠١٦م، أي في الشهر الأخير لولاية باراك أوباما (٢٠٠٩-٢٠١٧م) امتنعت إدارته عن التصويت على قرار مجلس الأمن الذي طالب إسرائيل بوقف الاستيطان مما سمح بصدور القرار، واعتُبر هذا الامتناع انعكاسًا للتوتر الذي شاب علاقة أوباما بنتنياهو، ويُلاحظ أن الأمثلة السابقة كافة لم ترق بحال لمستوى سلوك الرئيس أيزنهاور في١٩٥٧م، والذي أدى لإجبار إسرائيل على تغيير سلوكها تجاه رفض الانسحاب من سيناء وقطاع غزة، بينما لم يكن لأيٍ من الأمثلة السابقة تأثير على السلوك الإسرائيلي، فلم تفض الموافقة المباشرة أو غير المباشرة (من خلال الامتناع عن التصويت) على مشروعات قرارات في مجلس الأمن بوقف الاستيطان الإسرائيلي وتفكيك المستوطنات إلى أي تأثير على نشاط إسرائيل الاستيطاني الذي استمرت معدلاته في الزيادة حتى وصل الحال إلى قرابة مليون مستوطن في الضفة الغربية، وأُجهضت مبادرة ريجان بشأن الحكم الذاتي للفلسطينيين، رغم أنها كانت دون الحقوق الفلسطينية بكثير، وتراجع بوش الأب عن تعليق ضمانات القروض لإسرائيل مقابل مجرد وعود كاذبة من رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إسحاق شامير بتقليص النشاط الاستيطاني، وهكذا يتأكد النموذج العام للسياسة الأمريكية الداعمة لإسرائيل على نحو مطلق فيما عدا ذلك الاستثناء الفريد للرئيس أيزنهاور.

   وفي هذا السياق الداعم لإسرائيل جاء وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض للمرة الأولى في يناير٢٠١٧م، غير أن ترامب تجاوز في قراراته كل المؤشرات السابقة للدعم الأمريكي لإسرائيل، وكانت أولى الخطوات وأهمها هي اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية فيها إلى المدينة المقدسة، ومعلوم أن الكونجرس الأمريكي كان قد أصدر في١٩٩٥م، قانونًا يعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ويدعو الرئيس الأمريكي لنقل السفارة الأمريكية فيها إلى القدس، ولكن القانون سمح للرئيس الأمريكي بتأجيل تطبيقه وفقًا لما يراه بخصوص المصلحة الوطنية الأمريكية، وهو ما فعله ثلاثة رؤساء بعد صدور هذا القانون أمضى كل منهم ولايتين في الرئاسة هم بِل كلينتون (١٩٩٣-٢٠٠١م) وجورج دبليو بوش (٢٠٠١-٢٠٠٩م) وباراك أوباما (٢٠٠٩-٢٠١٧م)، إلى أن تولى دونالد ترامب الرئاسة في٢٠١٧م، فاعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل في ديسمبر من ذلك العام، وفي مايو٢٠١٨م، احتُفل رسميًا بافتتاح السفارة الأمريكية في القدس بالتزامن مع الذكرى السبعين لإعلان دولة إسرائيل، وفي مارس٢٠١٩م، أعلن ترامب مرسومًا اعترفت الولايات المتحدة بموجبه بأن هضبة الجولان المحتلة جزء من دولة إسرائيل، وفي ديسمبر٢٠١٩م، أضاف ترامب خطوة جديدة غير مسبوقة في السياسة الأمريكية بإعلان وزير خارجيته أن الولايات المتحدة لم تعد تعتبر المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة غير شرعية، وذلك على النقيض من السياسات الرسمية لعديد من الرؤساء الأمريكيين الجمهوريين والديمقراطيين منذ احتلال إسرائيل للضفة وغزة في عدوان١٩٦٧م، مثل ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد وجيمي كارتر وجورج بوش الأب وباراك أوباما، وعلى الرغم من أن موقف ترامب من الملف النووي الإيراني يمكن أن تتجاوز مبرراته حماية أمن إسرائيل إلا أن انسحابه من الاتفاق النووي مع إيران في مايو٢٠١٨م، والذي تم التوصل إليه في٢٠١٥م، والمعروف باتفاق (٥+١) أي الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن بالإضافة لألمانيا يعد مؤشرًا قويًا على تماهيه مع الموقف الإسرائيلي المعارض لهذا الاتفاق بشدة، والذي سبب توترًا واضحًا في علاقة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو مع أوباما.

 

ثانيًا-أبعاد سياسة ترامب في ولايته الثانية

   فاز دونالد بالانتخابات الرئاسية التي جرت في نوڤمبر٢٠٢٤م، وعلى الرغم من التوازن النسبي في الأصوات الشعبية بينه وبين منافسته الديمقراطية كمالا هاريس (٥٠٪‏مقابل٤٨.٤٪‏) إلا أن الهامش كان واسعًا بينهما في أصوات المجمع الانتخابي (٣١٢مقابل٢٢٦)، غير أن الأهم دون شك كان ما أسفرت عنه نتائج انتخابات التجديد النصفي للكونجرس، والتي أعطت ترامب سيطرة على مجلسي الكونجرس بما يعني أن يده أصبحت مطلقة في تقرير السياسة الأمريكية، وعلى الرغم من الوضوح التام لأبعاد الدعم الكامل لإسرائيل في ولايته الأولى بما تجاوز سياسات أسلافه على نحو ما رأينا إلا أن البعض تحدث عن احتمالات تغيير في سياسته تجاهها في ولايته الثانية، ويمكن القول بأن ما دفع هؤلاء لمثل هذا الحديث يعود لعدد من العوامل لعل أولها ما تمثل في استنكاره في حملته الانتخابية موقف اليهود الذين لن يصوتوا له رغم كل ما فعله لإسرائيل في ولايته الأولى، والمعروف أن السلوك التصويتي لليهود الأمريكيين يميل لتأييد مرشحي الحزب الديمقراطي أكثر من الجمهوري، وقد قدرت دراسة أجراها مركز بيو للأبحاث٢٠٢٠م، نسبة تعاطف الناخبين اليهود مع الديمقراطيين بــــ٧٠٪‏، وقد حاول ترامب استمالة مزيد من اليهود لصالحه في انتخابات٢٠٢٤م، بتحذيره من العواقب الوخيمة لخسارته على إسرائيل، وقوله أن فوز كمالا هاريس في الانتخابات سوف يعني زوال إسرائيل في سنتين، وهو نموذج للتصريحات غير المنضبطة لترامب التي يقصد بها إظهار حرصه على بقاء دولة إسرائيل فيما هي بالتأكيد تمثل إهانة لها، طالما أن بقاءها يتوقف على تأييد الولايات المتحدة لها فحسب، وقد اتسق التصويت اليهودي في الانتخابات الرئاسية٢٠٢٤م، مع نتائج الدراسة التي سبقت الإشارة إليها حيث حصلت كمالا هاريس على٦٦٪‏ من أصوات اليهود مقابل ٣٢٪ ‏لترامب، ومع ذلك فلم تظهر لهذه النتيجة المخيبة لآمال ترامب في أن يحظى بتأييد يهودي كاسح أي آثار سلبية لسياسته تجاه إسرائيل بعد فوزه.

   أما العامل الثاني الذي دفع البعض للحديث عن تغيرات محتملة في سياسة ترامب تجاه إسرائيل فكان التغيير في سلوك بعض الأمريكيين العرب الذين ذكر تقرير لموقع الحرة الأمريكي أن مدينة ديربورن التي تُعَد المعقل الأساسي للعرب الأمريكيين (أكثر من نصف سكانها من العرب والمسلمين) قد صوتت بنسبة٤٢.٥٪‏ لصالح ترامب مقابل٣٦٪‏ لهاريس، ولا شك أن هذا التحول في السلوك التصويتي للعرب الأمريكيين قد حدث نتيجة لعدم الرضا عن انحياز بايدن لإسرائيل في حربها على غزة، وعجزه عن وقف هذه الحرب رغم المؤشرات المحدودة على تحفظه على السياسة الإسرائيلية، ويُقال أن هذا التحول قد بدأ بعد وعود من ترامب بوقف الحرب حال فوزه، وهي وعود بدت متسقة مع توجهه العام في حملته الانتخابية بالعمل على وقف الحروب وعلى رأسها الحرب في أوكرانيا، لكن صدقيتها كانت موضع شك بالتأكيد بالنظر إلى حصاد سياسة ترامب تجاه إسرائيل في ولايته الأولى، كما أن تلك الوعود إن صدقت قد اتسمت بالغموض، فثمة فارق واضح بين إنهاء حرب ما وبين الكيفية التي يتم إنهاؤها بها، وهو ما اتضح بعد فوز ترامب والخطوات التي اتخذها تجاه غزة خاصة والقضية الفلسطينية عامة، وآخر العوامل التي دفعت البعض للحديث عن تغيير محتمل في سياسة ترامب تجاه هذه القضية وأقلها أهمية هو زواج ابنة ترامب من الأمريكي اللبناني الأصل مايكل بولس الذي كان لوالده دور أساسي في العمل على حشد أصوات العرب الأمريكيين لصالح ترامب، والحقيقة أن الذين راهنوا على هذا العامل لم يشيروا بحرف لتوجهات زوج ابنة ترامب ووالده، خاصة بالنظر إلى ما هو معروف عن التنوع الشديد في توجهات مكونات الشعب اللبناني تجاه القضية الفلسطينية والصراع العربي-الإسرائيلي.

   وبعد ثلاثة أشهر من دخول ترامب البيت الأبيض ووضع سياساته موضع التطبيق يمكن القول بأننا نواجه "قرارات" وليس "سياسات"، وقد تتناقض هذه القرارات مع بعضها، وهو ما ستحاول السطور التالية إلقاء الضوء عليه، فقد بدأ "الرئيس المنتخب" وفقًا للمصطلحات الأمريكية تطبيق سياساته قبل دخوله البيت الأبيض بالفعل، فشارك مبعوثه ستيف ويتكوف مشاركة حقيقية في مفاوضات الهدنة الثانية بين إسرائيل والمقاومة في غزة حتى تم التوصل إلى اتفاق متوازن دخل حيز التنفيذ في ١٩يناير أي قبل تنصيبه رئيسًا بيوم واحد، وقد تفاخر ترامب لاحقًا بأن مشاركة مبعوثه في المفاوضات كانت هي العامل الحاسم وراء نجاح المفاوضات، وكان ثمة ما يشير إلى أن هذا هو ما حدث بالفعل بالنظر لأن إدارة بايدن ظلت تراوح مكانها منذ أن انتهكت إسرائيل الهدنة الأولى في نوڤمبر٢٠٢٤م، بل وبشر المتحدثون باسمها مرارًا وتكرارًا بقرب التوصل لاتفاق دون أن يحدث أي شيء، وأشاعت هذه البداية نوعًا من التفاؤل بجدية ترامب في وقف الحرب، غير أنه سرعان ما تبدد هذا التفاؤل بالتعيينات التي قام بها ترامب لمساعديه في كل ما يتعلق بالسياسة الخارجية عامة، والشرق الأوسط والصراع العربي-الإسرائيلي خاصة، فقد كانت الصفة التي تجمعهم هي الانحياز المطلق لإسرائيل، ومن ناحية أخرى أيد ترامب إسرائيل على نحو كامل في انتهاكها لاتفاق الهدنة بدءًا بوقف دخول المساعدات لغزة منذ مطلع مارس الماضي وانتهاءً باستئناف العمليات العسكرية في الثامن عشر من الشهر نفسه، بل إن ستيف ويتكوف مبعوثه للشرق الأوسط انخرط في جهود للتوصل لاتفاق جديد دون أدنى إشارة لعدم تنفيذ إسرائيل التزاماتها بموجب هدنة يناير٢٠٢٥م، والواقع أن الإدارة الأمريكية سبقت إسرائيل في انتهاك الاتفاق بتهديد ترامب في ١١فبراير بإلغاء الاتفاق إذا لم يتم الإفراج عن جميع الرهائن المحتجزين لدى المقاومة، متوعدًا "حماس" بجحيم حقيقي إذا لم تتم إعادة الرهائن بحلول يوم السبت ١٥فبراير، ولذلك بدا منطقيًا أن تحظى إسرائيل بتأييد أمريكي تام لانتهاكها وقف إطلاق النار، ولهذا الموقف دلالته القاطعة دون شك بالنسبة لصدقية التوصل مستقبلًا لاتفاقات مع إسرائيل والولايات المتحدة.

   وبرز موقف ترامب تجاه مستقبل غزة كعنصرٍ ثانٍ مهم في سياسته تجاه القضية الفلسطينية، فقد فاجأ العالم في مطلع فبراير بحديث غير مسبوق عن سيطرة الولايات المتحدة على قطاع غزة لإعادة إعماره وتحويله إلى ريڤييرا الشرق الأوسط، ونقل سكانه إلى مصر والأردن، وواصل ترامب هذا اللامعقول بحديث لاحق عن شراء غزة، ولا مانع من توزيع أجزاء منها على دول أخرى، وبدا هذا متسقًا مع وصفه لغزة بأنها "قطعة عقارية عظيمة"، وقد سارعت مصر والأردن بدعم من كافة الدول العربية بالاعتراض على هذا المقترح الذي ينتهك أبسط مبادئ القانون الدولي والإنساني، وعُقِدت في القاهرة في ٦مارس الماضي قمة طارئة أظهرت الإجماع العربي على رفض مقترح ترامب الذي من شأنه تصفية القضية الفلسطينية أولًا، والمساس بأمن الدول العربية المعنية ثانيًا، ويُلاحظ أن ترامب بدا متحديًا لمصر والأردن عندما سُئل في مؤتمر صحفي عن معارضة الدولتين لمقترحه بشأن غزة فأجاب بأنهما سينفذان المقترح لأنهما يتلقيان مساعدات أمريكية، غير أن وضوح المعارضة العربية لأفكاره عن غزة قد خفف من ناحية الحديث عن تنفيذه هذه الأفكار، بل أفضى من ناحية أخرى إلى إدلائه بتصريحات فُهِمَت على أنها تراجع عن هذه الأفكار، وذلك عندما صرح في سياق لقائه برئيس وزراء إيرلندا يوم ١٢مارس بأن "أحد لن يطرد أحدًا من غزة"، ومع ذلك فإن إمعان النظر في هذا التصريح لا يعني بالضرورة تخلي ترامب عن أفكاره بخصوص غزة، وإنما قد يشير لتغير في آليات التنفيذ، بمعنى اللجوء لما يُسمى بالهجرة الطوعية لإفراغ غزة من سكانها، والواقع أن صفة "الطوعية" غائبة تمامًا في ظل عمليات القتل الممنهج التي تقوم بها إسرائيل في غزة منذ سنة ونصف، وكذلك بالنظر لحرب التجويع والتعطيش والحرمان من كافة الخدمات الأساسية، وتحويل القطاع لمكان غير قابل للحياة.

 

خاتمة

أفكار حول المستقبل

 

   لعل التحليل السابق يمكن أن يفضي إلى استنتاج مفاده أنه ليس ثمة أدنى شك في الدعم الأمريكي المطلق عمومًا ومن الرئيس ترامب خصوصًا لإسرائيل، ومع ذلك فإن الطابع البراجماتي للسياسة الأمريكية عامة واللامؤسسي لسياسة ترامب خاصة يمكن أن يفتح الباب لتغيير ما في سياسة ترامب تجاه القضية الفلسطينية والمنطقة، والمقصود بالطابع البراجماتي مثلًا أن استمرار إسرائيل في حربها الوحشية في غزة والقطاع، وما أثارته بالفعل من تحولات في دوائر الرأي العام العالمي بل والأمريكي يمكن أن يمثل عبئًا على ترامب، ويهدد بتشويه صورة إدارته، ويعني هذا أن ترامب ليس ضد الحرب على الفلسطينيين في حد ذاتها، ولكن عجز إسرائيل عن حسم الحرب نهائيًا لصالحها حتى الآن، واستمرار صمود المقاومة لا يمكن أمريكيًا أن يستمر للأبد، ومن ثم لابد من مقاربة جديدة قد تفتح الباب لتغيير ما كان أحد مؤشراته الاتصال المباشر بين مبعوث ترامب للرهائن و"حماس"، أما الطابع اللامؤسسي فالمقصود به أن ترامب يكاد أن يكون صانع القرار الوحيد بعد أن أحاط نفسه بمجموعة من المساعدين الذين يتبعونه تبعية مطلقة، ومن الواضح أن مبادراته لا تُبنى وفقًا للآليات المعروفة لعملية صنع القرار، ومن ثم فإنها تنبع من أفكاره ورؤاه، وليس بالضرورة من دراسات متأنية وإجراءات سليمة، وهو ما يفسر تغير مواقفه، بل تراجعها في بعض الأحيان أو على الأقل تعديلها، كما رأينا في الموقف الخاص بتهجير سكان غزة، وبناءً على ما سبق يمكن الاجتهاد في تصور سيناريوهان لمستقبل القضية الفلسطينية والمنطقة أحدهما متشائم والثاني متفائل من وجهة النظر الفلسطينية والعربية.

   أما السيناريو المتشائم فيتمثل في استكمال تحقيق الأهداف الإسرائيلية بفرض الرؤية الإسرائيلية على الضفة من ناحية بضمها الذي سبق لترامب أن وافق على أفعال مشابهة كضم الجولان، ومن ناحية أخرى استكمال السيطرة على غزة أمنيًا سواء بطريق مباشر أو غير مباشر، والنجاح ولو جزئيًا في مخطط التهجير، وقد يفتح هذا الشهية الإسرائيلية للعودة إلى الاستيطان في غزة، وربما تكون هذه مناسبة للإشارة لتناقض ولو ثانوي بين الرؤيتين الأمريكية والإسرائيلية بشأن مستقبل غزة، فالأولى تتحدث كما رأينا عن امتلاك الولايات المتحدة لها وتحويلها لمشروع عقاري ناجح، والثانية بالتأكيد تنظر لغزة من منظور إسرائيل الكبرى، ولذلك يُلاحظ أن كافة المسؤولين الإسرائيليين لا يشيرون عندما يتحدثون عن خطة ترامب إلا إلى بعدها الخاص بالتهجير، وعلى الصعيد الإقليمي يعني هذا السيناريو نجاح إسرائيل بدعم أمريكي في بناء شرق أوسط جديد تُسْتَبْعَد منه إيران بعد هزيمتها في لبنان وسوريا، والنجاح في حل معضلة برنامجها النووي سواء بتفكيكه تمامًا، أو بضمان نزع الصفة العسكرية عنه مع إمكان التنسيق مع تركيا برعاية أمريكية بعد أن قوي وضعها في سوريا، وتبدو الدول العربية في هذا السيناريو في الموقع الأضعف.

   وأما السيناريو المتفائل فيُبنى على أن ترامب لم يحقق نجاحًا كاملًا، وأحيانًا لم يحقق نجاحًا على الإطلاق في كل مبادراته الخارجية، فلا هو أنهى الحرب في أوكرانيا حتى الآن، ولم يستجب كل من زيلينسكي وبوتين لشروطه تمامًا، كما أن أحاديثه الغريبة عن ضم كندا وجرين لاند والسيطرة على قناة بنما وغير ذلك قوبلت بمعارضة لا لبس فيها، وكذلك أفكاره بشأن غزة كما رأينا، كذلك فإنه يواجه حاليًا مفاوضًا إيرانيًا ليس بمقدوره أن يستجيب لمطالب أمريكية بعينها كتفكيك البرنامج النووي وتجميد البرنامج الصاروخي، وإلا تهددت شرعية النظام الإيراني تهديدًا حقيقيًا، ويُلاحظ أن مجرد انخراطه في مفاوضات مع إيران دليل على عدم انصياعه بالضرورة لرغبات إسرائيل التي تفضل الخيار العسكري للخلاص من البرنامج النووي الإيراني، وأخيرًا وليس آخرًا فإن ترامب يواجه مقاومة شرسة في حربه التجارية على العالم، وبالذات من قِبَل الصين، وبالتالي فإنه كما يمكن التوصل لتسويات متوازنة لا تتطابق بالضرورة مع الأفكار الأمريكية بخصوص إنهاء الحرب في أوكرانيا والحرب التجارية وغيرها يمكن كذلك التوصل لتسوية بالنسبة لوضع غزة والضفة لا تتطابق مع وجهتي النظر الإسرائيلية والأمريكية، ولا مع وجهتي النظر الفلسطينية والعربية، وإنما تكون وسطًا بين رؤى الطرفين، وسوف يكون لاستمرار صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته وتقوية ظهيره العربي، والاستفادة من التحولات التي طرأت على الرأي العام الدولي لصالح القضية الفلسطينية، دور كبير في تحسين معادلة التسوية لصالح الفلسطينيين، كذلك فإن استمرار السياسات السليمة للدول العربية الوازنة كمصر والسعودية في رؤيتها لما يجب أن تكون عليه الترتيبات في شرق أوسط جديد سوف يكون -أي هذا الاستمرار- خير ضمان لهزيمة مشروع نتنياهو لبناء شرق أوسط جديد تهيمن عليه إسرائيل.

مقالات لنفس الكاتب