array(1) { [0]=> object(stdClass)#13777 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 209

التحولات الراهنة تتيح تعظيم مكانة وقوة السعودية لتكون العمود المؤسس للفضاء الاستراتيجي الإقليمي

الأربعاء، 30 نيسان/أبريل 2025

بعبقريته الفذة، جسد شكسبير في مسرحيات الملك لير وهاملت ملامح عصر الانتقال العاصف من اليزابيث الأولى لعصر اليعاقبة، حيث يتعفن القديم وتتعثر ولادة الجديد وتتفتت الدول، وينتشر الفساد والخيانة، ويطغى الطموح الفردي الجامح، وليعم التخبط وعدم اليقين على أفعال الدول والزعماء. وما أشبه زماننا بهذا العصر الشكسبيري.

تاريخيًا، ومع دخول العالم عصر الثورة الصناعية الأولى، تنافست الدول الكبرى على الموارد وخطوط النقل البحري. فما كان لدولة أن تنتج المطاط أو الفولاذ دون أن تسيطر على مواردها وتحمي خطوط إمدادها بالجيوش والأساطيل.

لما يقرب المئة عام، بعد هزيمة نابليون 1815م، وحتى عام 1914م، مرت أوروبا، بحقبة سلام نسبي، لم تخض فيها الدول الأوروبية الكبرى إلا حروباً طرفية في المستعمرات. وتم ذلك بفضل قادة ودبلوماسيين أوربيين مرموقين مثل مترنيخ إلى بسمارك.

لكن، ومع تفكك الامبراطوريات الكونية الخمس -الألمانية، البريطانية، الروسية، النمساوية-الهنغارية، والعثمانية، انهارت مقومات سلام بسمارك، لتشتعل أوروبا من جديد في حروب امتدت من 1914-1945م.

بنهاية الحرب العالمية الثانية، رسمت اتفاقيات يالطا، تقسيم المغانم والعمل بين المنتصرين. من جهتها وجدت الولايات المتحدة نفسها، الدولة الوحيدة التي خرجت من الحرب معافاة وصاعدة، حيث شكل دخلها القومي 45٪ من الدخل العالمي. في حين دمرت الحرب الدول الثماني عشرة الأخرى.

وفي مناخ التهديد الشيوعي، كان الحلفاء الغربيون على أتم استعداد للقبول بالزعامة الأمريكية. وتبلورت هذه التحالفات في نظام بريتون وودز 1945م، الذي تمثل جوهره بفتح الأسواق الأمريكية الهائلة للدول الحليفة، على مصراعيها، وحماية طرق التجارة بالأساطيل الأمريكية، وتسريع النمو الحضاري والاقتصادي لدول العولمة الغربية.

وبالمقابل اشترطت أمريكا أن تقف هذه الدول بجانبها، بل وأمامها في مجابهة الشيوعية وأن يكون الدولار الأمريكي أساس هذا النظام. (بدورها حاولت المنظومة الشيوعية خلق سوقها المستقل – الكوميكون-لكنه كان مشروعًا خائبًا). وبعد تأسيس الأمم المتحدة، عززت الدول الغربية هذا المشروع حزمة كبيرة من المنظمات والاتفاقات الدولية بدءًا بصندوق النقد الدولي ووصولًا لمنظمة الصحة العالمية.

لكن التاريخ، يبدو ملولًا جدًا في هذا العصر، إنه يكره الثبات والركود!

وسرعان ما اختطفت الصين من معسكر السوفييت. وتحت ضغط بريتون وودز، واتفاقات هلسنكي 1975م، انهارت الشيوعية 1991م، وانهارت معها اتفاقيات يالطا، وبدأت دول عديدة تسعى للخروج من منظومة الدولار.

بذلك، بدأت التشققات تدب في صرح عولمة بريتون وودز لتصير برسم التداعي.

ورغم أنها استمرت في النمو اقتصاديًا وثقافيًا واجتماعيًا، ليصبح كل شيء أسرع وأفضل وأرخص وأكثر تنوعًا. وتفرع عن سلاسل إنتاج معقدة ومبتكرة، وعابرة للقارات.  

في غضون ذلك، اندفعت الولايات المتحدة في العقود الثلاثة التالية ودونما بوصلة واضحة نحو مغامرات عبثية فاشلة في العراق وأفغانستان وغيرها.

فما الذي تحول في عالمنا الآن؟

  1. قديم يحتضر:

من حيث المبدأ، تلاشت موضوعيًا مصلحة الولايات المتحدة في استمرار منظومة بريتون وودز، لتبدو الحقبة التاريخية بين 1945-199م، لحظة شاذة من السلام، شابت الصراع العسكري التاريخي للدول الكبرى وللعلاقات الدولية.

في تسعينات القرن الماضي، تمثلت الإرهاصات الطريفة لهذا التداعي، في عودة القرصنة لبحر الصومال، وانسحاب أمريكا منها. أما الآن فيعبق الاضطراب والغموض بمناخات عالم مضطرب أشبه بالعقد الذي سبق الحرب العالمية الأولى.

والآن، إذ ترتفع مؤشرات عدم اليقين والتوجس في سلوك دول العالم، تجد بعض الدول نفسها محشورة في أزمات وجودية تدفعها نحو الهاوية، ودول تستشرس بضراوة لالتهامها. فمن القرم لأوكرانيا، لغزة، لباناما، لغرين لاند، وتايوان، تنحدر العلاقات الدولية، من جديد، نحو قانون الغاب. ويرتد النظام العالمي، لما قبل 1938م.

مع هذا التحول ومع سقوط منظومة بريتون وودز، لم تعد الأرقام البسيطة للمصالح الاقتصادية تحكم العلاقات الدولية والحسابات القومية والأمنية. بل تعود الجيو-استراتيجيا لصدارة صنع القرار وتعود القوة ببعدها المادي والمعلوماتي والروحي لتفرض نفسها معيارًا لكل الحسابات في العلاقات الدولية.

وإلى أن تستقر موازين القوى في عالم جديد تنهار مقومات ضبط السلام والمصالح وتنهار توافقات تقسيم العمل الدولي، وتخبو وظائف المؤسسات الدولية التقليدية لتفقد التوافقات المؤسسة لوظيفتها وتفقد القاعدة الاقتصادية والسياسية الدولية لتنهار موضوعيا منظومة القواعد والقوانين والحقوق.

  1. مخاض عسير للجديد:

تبدل معايير القوة

لم تكتف ثورة الذكاء الصناعي الكمومي العلمية التقنية بقلب العلاقات الدولية، بل هي غيرت مفاهيم القوة والهيمنة من أصلها. وكما أثبتت حروب العقدين الأخيرين، لم تعد القوة الغليظة والقدرات المادية عاملًا جوهريًا في الهيمنة والتفوق، بل أصبحت أنظمة المعلومات ومخدمات الذكاء الصناعي هي القلاع الحصينة للقوة والتفوق والهيمنة التي تخاض الحروب من أجلها وعليها. لتصبح معايير السيادة الوطنية للدول رهنًا بقدرتها على تحقيق سيادتها في الفضاء السيبراني.

نحن إذًا، أمام منعطف هائل، قد يدوم حتى نهاية القرن الحالي، تقوده بجبروت قاطرات ثور ة الذكاء الصناعي والكوانتي. إنها تخلق كائنات اجتماعية حديثة، تتخطى حدود الدول، وتعيد تشكيل مصير الأفراد والمجتمعات والعلاقات الدولية. ذلك أن شركات التكنولوجيا العابرة ما عادت تبيع منتجاتها فحسب، بل تعيد هيكلة المجتمعات والدول لتغيير علاقات الناس والدول ببعضهم، وتحدد اتجاهات تطورهم وتعيد رسم موازين القوى.

وحين تطلق شركة خاصة صاروخًا لإنقاذ رواد علقوا في الفضاء لمؤسسة NASA   ، تتضح بجلاء حقيقة من يمسك بعصا التطور والريادة ومن يمتلك ناصية هدم البنى القديمة على صعيد الدولة والمجتمع، ومن يملك وضع استراتيجيات التحول وآفاقه.

يقول الانثروبولوجيون، أن البشرية مرت بشيء مشابه وإن كان، في حينه أقل خطورة! كانت أقوام البشر تقتات على قطاف الثمار والحبوب مما تتيحه الطبيعة عفويًا. ثم جاءت الزراعة، قفزة نوعية وفرت للبشر قدراً كبيراً من الطاقة الكثيفة الكامنة في حبوب القمح والأرز.

سمح هذا التطور العاصف بنشوء مدن وإمبراطوريات ما بين النهرين والنيل والنهر الأصفر الخ.. وبفضل هذا "السلاح الاستراتيجي"، تمكنت الأقوام الزراعية من إخضاع أقوام القطاف والرعي، التي لا تملك الأرض الخصبة والمعرفة الزراعية. لكن، في نهاية الأمر استسلمت تلك الشعوب وأصبحت، طوعًا أو حربًا، جيوشاً من العبيد، تعبد ملوك الحضارات الزراعية.

ورغم أن خبراء الذكاء الصناعي ذاتهم يعترفون أنهم لا يدركون أبعاد المنعطف الراهن، ولا يقدرون على التنبؤ بتداعياته، فإنهم يقولون إن خمس سنين أو أقل، تفصلنا عن استتباب هذا المنعطف، الذي يكتشفون أنه سيكون أهم وأخطر منعطف في تاريخ البشر.

وحين يحذر الخبراء من التخلف البائس لصانعي السياسة والرأي، بأدواتهم العتيقة، المتمثلة في أحسن الأحوال بالإنترنت والبريد الإلكتروني، ها هي قاطرة التحول المتسارعة تطيح بهم. بل يذكر الخبراء بتهكم كبير جلسة الاستماع في الكونغرس الأمريكي مع مارك زوزنبورغ، مدير "فيسبوك"، ليظهر جهلهم معلنًا وعاريًا، أمام التكنوقراطيين الشباب.

وكذا الأمر بالنسبة للزراعة في هذا العصر! حيث يقول هؤلاء الخبراء أن البشرية تمكنت من تخفيض قوة العمل اللازمة لإنتاج طن من القمح بمقدار خمسين مرة منذ نشوء الزراعة، وهم يتوقعون الآن أن يخفض الذكاء الصناعي كلف الإنتاج مئات، بل آلاف المرات خلال السنوات الخمس المقبلة. وسيتحقق ذلك لمن يملك القدرة على التكييف ويمتلك التقنية والعلم. 

ذلك أنه لم يعد ثمة فرق بين القطاعات الاستراتيجية العسكرية والقطاعات المدنية في أية دولة. لقد تحولت جميعًا، من الصحة إلى الجامعة والصناعة، إلى كافة مناحي الحياة ميادين للتنافس والاختراق الاستراتيجي والأمني.

  1. رقائق الذكاء الكمومي بؤرة الصراع الكوني:

تحتكر بضع دول وشركات عصب التحول العاصف الراهن، ألا وهي، صناعة رقائق الذكاء الكمومي! وفيما تنقسم الرقائق لرقائق منخفضة الدقة (نستعملها الآن في حياتنا اليومية)، ومتوسطة وفائقة الدقة. تستفرد الشرائح الفائقة وحدها بتقنيات الذكاء الصناعي، لتندلع حولها حرب دون رحمة.

تدعي الولايات المتحدة أنها تمكنت من تكوين تحالف استراتيجي احتكاري للسيطرة على سلاسل إنتاج الرقائق الفائقة، وتوظف الصين في هذا السباق المحموم مئات المليارات في تقنيات الرقائق والذكاء الصنعي. فالقضية هنا ليست تجارية، بل استراتيجية وتجتهد الصين بكل طاقتها لكسر هذا الاحتكار.

يخلق هذا التحول نظامًا عالميًا جديداً، منفصلًا تمامًا عن نظام الأمن القومي والدولي التقليدي. بل يُدخل هذا النظام، العالم في مرحلة جديدة من التقسيم الطبقي بين البشر والدول. تقسيم طبقي جديد يتراتب فيه الناس والشركات والدول بقدر امتلاكها وسيطرتها على قاطرة الذكاء الصنعي الكمومي الجامحة. سينعكس ذلك عاجلًا على علاقات العمل، وعلاقات الشركات بالدول، وعلاقات الأمن بالتقنيات، وصولًا لهيمنة التقنية الكمومية على الثقافة والقيم، وعلى العلاقات الدولية.  

بهذا المعنى، يتوقع بعض الخبراء تراجع دور الدولة الوطنية على صيغة "فستفاليا"، التي شكلت افتراضيًا حجر الأساس في بنية العلاقات الدولية. وهم يراهنون بالتالي، على تراجع تدريجي لموقع وجدوى الدولة الوطنية، لصالح كيانات عولمية وإقليمية جديدة، تولدها التحولات التكتونية الجارية. 

ما الذي يجري الآن؟

لم يعد هذا التحول ماردًا يقرع الباب، بل يخترق المارد باحة كل حي ومدينة ليفتح الصراعات على مصراعيها. وتدفع أمريكا الآن، غرامة الكسل الاستراتيجي والبطر المفرط للنخب ورجال الأعمال الأمريكيين في العقود الثلاثة الماضية، ذلك أنها بدل أن تصيغ تصورًا لموقع أمريكا في عالم ما بعد بريتون وودز والحرب الباردة، فقدت بوصلتها بعد أن افتقدت العدو الأيديولوجي والواضح. وها هي تكتشف بنفسها مقدار تخلف وسائل الإنتاج الأمريكية عن باقي الدول المتقدمة في إدماج أنظمة المعلومات والسيبرنيتيك في علميات الإنتاج وفي حياة المجتمع.

وفي حين لم تعد صناعتها العتيقة تشكل أكثر من 12٪ من حجم اقتصادها، يتضخم قطاع الخدمات ليصير عابرا للحدود، ويتفاقم بأرقام فلكية الدين العام، في حين تكتشف أمريكا شيخوخة بنيتها القانونية والسياسية، ليتعمق فيها صراع الأجيال على القيم والثروة والفرص. بل تكتشف أمريكا أيضًا أن دولًا كبرى من حلفائها، تسحب البساط من تحت الدولار عصب قوتها الكونية والقوة المؤسسة لرفاهها، لتنشأ دوليًا تحالفات علنية وباطنية تقوض زعامتها.

صار السؤال الصارخ في واشنطن: ما العمل؟

بعجالة متسرعة تستدير الولايات المتحدة بعنف لتخوض معركتها وتدارك الزمن الضائع. أنها تنفض عن كاهلها تحالفاتها، لتخوض المنافسة لا على الموارد فهي تملك منها الكثير، بل في مجال التنافس التقني المعلوماتي والكمومي والصراع على الأسواق.

وإذ تجعل الولايات المتحدة الصين خصمها الرئيسي، وإذ يستخدم ترامب الرسوم الجمركية الواسعة لتفكيك منظومة بريتون وودز، تفكك الولايات المتحدة آخر ما تبقى من أواصر التحالف الغربي، ليسقط دون رجعة دورها كـ "شرطي" ضامن للسلم والقانون والاقتصاد العالمي، لتمضي العلاقات الدولية نحو عالم يفعل فيه الكبار ما يشاؤون، وتعاني فيه الدول الصغيرة من هيمنة الدول الكبرى التي تتصارع عليها وتتقاسمها حصصًا في تقسيم عمل دولي جديد.

صار عالمنا حكمًا متعدد الأقطاب. لكن هذا التحول لا يعني الانكفاء بالنسبة للولايات المتحدة عن دورها العالمي، بل يعني إعادة تموضعها بما يعيد هيكلة فضائها الجيو-استراتيجي.

فبدلاً من أن تحمل عبء النظام العالمي بمكاسبه وتكاليفه، وبدلًا من عبء وتكاليف حماية التجارة والاقتصاد والنظام الدولي، وبدلًا من حروب الموارد، وبدلًا من تبعيتها الكارثية للصين، بدل كل ذلك، تنكفئ الولايات المتحدة نحو محيطها الاستراتيجي المباشر وتركّز تعزيز هيمنتها عليها وتوسيع أسواقها، وتسحب نحو أراضيها القاعدة الصناعية التي بنتها في أنحاء العالم، وتنمي حصتها من الطاقة الأحفورية. لكن أمريكا، قبل كل شيء، توظف ترليونات من الدولارات في دفع ثورة الذكاء الصنعي.

ولئن كانت الولايات المتحدة تضغط على فضائها الاستراتيجي -المكسيك وكندا وبعض دول أمريكا اللاتينية – لتعزيز هيمنتها عليه، فذاك من باب إخضاع محيطها لشروط شراكة متجددة.

أمريكا، الاعتداد بالنموذج:

يعتد الأمريكيون بنموذجهم لا لأنه الأكثر أخلاقية، ولا لأنه الأعدل، بل لأنه الأشرس في تسريع المنافسة والتقدم. عبر خضم مضطرب من الصراع، يجمع النموذج الأمريكي بين الابتكار، والمنافسة الجامحة، والتلاحم بين الأكاديمية والتكنولوجيا وقطاع الأعمال. إنهم يعتدون بأن نموذج دولتهم يسمح لتكييف درامي عاصف للاقتصاد ويتيح للمجتمع تغيير جلده السياسي بحسب تحول التحديات. وبذات القدر من الغرور، يراهنون على فشل نموذج الدولة المركزية ورأسمالية الدولة الاحتكارية لدى منافسيهم الصينيين.

ديموغرافيًا، تجد أمريكا نفسها متخلفة عشرين سنة عن مستوى انخفاض الخصوبة الخطر في الدول المتقدمة في أوروبا وروسيا والصين وشرق آسيا! وهي تجد في ذلك خيراً. ورغم انحدار معدلات الخصوبة في أمريكا فإنها لا تزال مقبولة نسبيًا بما يضمن قاعدة استهلاكية واسعة، الأمر الذي يعطيها فرصة للتكيف مع التحولات في قوة العمل نحو السيبرنيتك والاقتصاد الكمومي-الذكي. إذ لا يزال الكثير من الأمريكيين يعيشون في بيوت الضواحي الرحبة التي تتيح المناخ المناسب لعائلة متعددة الأولاد.

ورغم كل ما يجري الحديث عنه فيما يتعلق بالمهاجرين، تبقى الولايات المتحدة مستمرة في تعويض تراجع الخصوبة عبر استيعاب المهاجرين والماهرين بشكل انتقائي.

بالمقارنة مع ذلك يتدهور الموقف الديموغرافي في الدول المتقدمة الأخرى بتسارع كبير. حيث يعيش المهاجرون من أرياف هذه الدول في الشقق الصغيرة في ضواحي مدن آسيا وأوروبا، وتنخفض الخصوبة وتصبح الأحياء المكتظة بالكهول والمتقاعدين عبئًا على النمو الحضاري، لتنكمش السوق، ويزداد الاعتماد على التصدير.

وإذ تحتفظ الولايات المتحدة بسوقها الداخلية الهائلة، فإنها تعتمد بارتياح على حقيقة أنها لا تتبادل مع الخارج إلا بنسبة 12٪ من دخلها القومي، بل أن نصف هذا التبادل يجري مع جوارها الأمريكي واللاتيني. والآن يرمي الرئيس ترامب إلى رماد التاريخ بالعقيدة الاقتصادية الريغانية وبلا رجعة، مستفيدًا من قصور أسلافه الرؤساء، فيما يعتقده من فرصة لإعادة اختراع الحكومة بأكملها والقطيعة النهائية مع الريغانية.

مع كل منعطف في العلم والتقنية ومع كل قفزة في وسائل الإنتاج وعلاقات العمل، تعاني أمريكا من مخاض تحولات عسيرة تكاد تمزقها. كان هذا حالها بعد 1929م، وكان كذلك في السبعينات: الهيبز وفيتنام وكينيدي ولوثر كينغ الخ. وهذا حالها الآن! لتصبح الديمقراطية أداة لخدمة الحرية، وليست هدفًا بحد ذاتها. فهل تنجح الآن؟

التلاحم الأوروبي، معجزة ترامب غير المقصودة!

منذ زمن شارلمان وحتى 1945م، كان تاريخ أوروبا صراعاً داميًا، بل متوحشاً. ومثل شرقنا الأوسطي الراهن، كانت أوروبا داراً لكل العصبيات الاثنية والقومية، تتقاسمها الكنائس، والأمجاد التليدة للأعراق، وقدسية "كل شبر" من الأرض، ليقول المؤرخون، إن أوروبا عصية على السلام! فرغم تراثها وواقعها المتقدم حضارياً، بدت أنها أبعد ما تكون عن حكمة التوافق ونعمة السلام. فبقدر ما جمعت الجغرافية أوروبا، بقدر ما فرقتها المشاعر القومية وتاريخها الفظيع الدامي. لكن التاريخ يعلمنا أيضًا أن لا شيء يوحد أوروبا بقدر المخاطر الخارجية. فلطالما توحدت ضد نابليون وضد هتلر وضد الشيوعية.

بدورها بطرت أوروبا، وأعطت الأولوية للمصالح الاقتصادية البحتة بحجة أن الروابط الاقتصادية، تشكل ضمانة ضد الحروب. متجاهلة دروس تاريخها ذاته حيث كانت العلاقات البريطانية الألمانية في أوجها قبيل الحرب العالمية الأولى. رغم ذلك، سرحت أوروبا ثلثي جيوشها، و80٪ من بحريتها وصناعتها الحربية، بل صدرت الصناعات الثقيلة ذات العمالة الكثيفة بعيدًا عن أراضيها.

ثم صارت أوروبا محاصرة بالتهديدات شرقاً وغرباً. فبعد أوكرانيا، واندلاع الصراع داخل أوروبا وتنامي التهديد النووي، يسارع الرئيس ترامب لتطبيق عقوبات كاسحة على الاقتصاد الأوروبي ويمضي في التخلي عن الالتزامات الأطلسية لبلاده. لتشعر أوروبا بالانكشاف الاستراتيجي الكامل.

أمام تسونامي المخاطر القادم من الشرق والغرب تندفع أوروبا، بكل طاقتها لدرئها. وها هي اسكندينافيا تنخرط مع دول البلطيق ودول البلقان وبريطانيا في سعي مستعجل لتكوين جدار استراتيجي واقٍ.

من جهتها، تعكف الصناعات الحربية الأوروبية كما تنخرط جيوشها التي لم تسهم في حروب جدية منذ عقود، في عمليات تدريبية، وشبه قتالية وموحدة.  

تشد الدول الاسكندنافية التي انخرطت بأكملها في الحلف الأطلسي، حزامها، لتتحول لقلاع بحرية تهيمن على بحر الشمال وبحر البلطيق. وتتحول تركيا لباحة صناعية خلفية داعمة لأوكرانيا وتنخرط بريطانيا في الجهود الأوروبية لمواجهة تعريفات ترامب وتعزيز الدفاعات الأوروبية في شرق أوروبا لتدخل في تحالفات ثانوية ملزمة مع أوكرانيا ودول البلطيق والدول الإسكندنافية.

اقتصاديًا تحتاج ألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا، كما لم تحتاج يوماً، لفضاء أوروبي مندمج. ورغم البركسيت، تعود بريطانيا ببطء للدفء الأوروبي.

ملامح مقتضبة للمقاربة الصينية للوضع الدولي

تعمل الصين من منطق حكيم طويل الأمد، يعتمد على المكاسب الصغيرة التراكمية في سياق تجنب تحدي النظام العالمي. ويشكل الاستقرار الداخلي في الصين أولوية جدية. لكن جوهر هذا الاستقرار يكمن في ضمان التوسع الشاقولي في التنمية مع الإبقاء على وتيرة نمو أفقية عالية وتطوير الطبقة الوسطى والسوق المحلية وحل المعضلة الكبيرة المتمثلة في تفاوت مستويات التطور، وتفاوت الأنماط الاقتصادية.

لكن الخبراء يقدرون أن القيادة الصينية لا تزال تتمتع بقدرة طويلة الأمد على استمرار التحالفات والتوافقات بينها وبين مجتمع رجال الأعمال الصينيين بهدف الاستمرار في إنجاح التجربة القائمة. كما تستند بشكل كبير على ازدهار البنية الأكاديمية الصينية المتنامية.

تجد الصين مخاطر استراتيجية حقيقية من احتمال محاولة الولايات المتحدة لفرض هيمنتها المباشرة على الممرات الاقتصادية الدولية وخاصة تجاه خطوط التجارة العالمية عند باب المندب والبحر الأحمر ومضيق ملاكا في المحيط الهندي. لذلك تحاول الصين الاستعداد للانتقال لتلعب دورها في ضمان خطوط النقل البحرية التي تهمها، بالاعتماد على قدراتها وتحالفاتها الخاصة. لكنها لا تزال بحاجة لمراكمة المزيد من المقدرات والإمكانيات لتصبح جاهزة لمثل هذه المهمة.

تحولات الاقتصاد العالمي

كما أسلفنا، يتحول العالم تدريجيًا من الصراع على الموارد نحو الصراع على الابتكار والأسواق.

وفي هذا السياق يلعب الاعتماد على الصادرات دورًا حاسمًا في مدى ارتباط دورة الإنتاج القومي. وتعتمد درجة هذا التأثير على مدى تكامل الصادرات مع الإنتاج الوطني وأسواق العمل والابتكار والمرونة الاقتصادية.

تعتمد الصين على التصدير بشكل مفرط بما يزيد على 25٪ من الناتج المحلي الإجمالي تقريبًا، الأمر الذي يوفر للصين القدرة على توليد عشرات الملايين من الوظائف، كما تمول فوائض الصادرات عملية التوسع في البنية التحتية والاستثمارات في قطاع البناء.

لكن، بالمقابل، يفتح النموذج الصيني، الاقتصاد الوطني لتقلبات الطلب العالمي، وانخفاض شهية الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على الشراء من الصين، الأمر الذي يضرب مراكز التصنيع الوطنية وخاصة في المناطق الساحلية.

وفي حين تعتمد الولايات المتحدة بشكل منخفض على الصادرات التي تصل تقريبًا لــ 11٪ من الناتج المحلي الإجمالي، فإن ثقافة الاستهلاك تحفز زيادة إنتاجية العمل، وتوسيع السوق المحلية. ويعتقد الخبراء في الولايات المتحدة، أن سعة السوق المحلية الأمريكية، تجعل الاقتصاد أكثر مرونة في الأزمات العالمية، وتمكنه من توسيع خياراته النقدية والمالية.

من جهتها تعتمد منطقة اليورو اعتمادًا مرتفعًا جدًا على الصادرات بما يقارب 55٪ من الناتج المحلي الإجمالي. وفي حين يسمح التكامل عبر الحدود بتغذية الصادرات الداخلية والخارجية، فإنه غالبًا ما يخفي الاعتماد على الأسواق الخارجية وضعف الاستهلاك المحلي وتباطؤ الطلب الداخلي مما يجعل منطقة اليورو حساسة للغاية للاضطرابات التجارية العالمية وأسعار الطاقة وأنظمة العقوبات.

تحالف اقتصادي عسكري أوروبي وآسيوي

من ماكرون فرنسا، إلى ميرتز ألمانيا، إلى ستارمر بريطانيا، وكارني كندا ينضم الأستراليون وحتى نيوزيلندا واليابان في محادثات عاجلة لوحدة الأسواق والتحالف الاستراتيجي والاقتصادي.

"كان هذا الطلاق مع الولايات المتحدة دعوة كبيرة للاستيقاظ لنا جميعا" هكذا تعلق الصحافة العسكرية الأوروبية. في حين تستعد كندا لتعليق صفقة طائرات بقيمة 13 مليار دولار مع الولايات المتحدة، صدمت بريطانيا الولايات المتحدة بالعرض الذي قدمته لكندا وغيرها من الدول الحليفة، مثل أستراليا والسويد والمملكة العربية السعودية لتزويدها بطائرات GCAP من الجيل السادس البديلة لطائرات F-35 الباهظة الثمن. وأمام العثرات التقنية العديدة التي تعاني منها طائرات F-35 الأمريكية، تُعرض الطائرات الأوروبية بتكاليف أقل وفوائد تشغيلية موازية للــ F-35 بل تتفوق عليها في بعض المواصفات.

وتعرض المملكة المتحدة برنامج GCAP Open Door برنامجًا مشتركًا للقتال الجوي يشمل اليابان وإيطاليا التي تشارك في تطوير طائرة من الجيل السادس. حيث تتفاعل معطيات المعلوماتية "للعيون الخمس" (الدول المشتركة في النظام الكوني للمعلومات) مع القدرات المستجدة للذكاء الصناعي وأجهزة الاستشعار، وحرب الشبكات.

يفتح هذا التحالف بدوره مجالات تعاون تقنية رائدة واقتصادية واسعة، بديلة للتحالف مع الولايات المتحدة. وبدورها ألغت البرتغال طلبها F35، لتتبعها دول أوروبية كثيرة. بل يتحدث الكنديون أنهم يمتلكون جميع الموارد الطبيعية اللازمة لإعادة بناء دفاعاتهم الوطنية وبناء الطائرات، والمسيرات، والدبابات، والسفن. ورغم الموقع المركزي لاتفاقات AUKUS   الخاصة، لشراء الغواصات الأمريكية العاملة بالطاقة النووية، تفاقم لدى أستراليا عدم اليقين بالسياسة الأمريكية ووضعت خطة لتنويع شراكاتها الدفاعية والانضمام لمشروع GCAP الدفاعي.

ماذا عن المنظومة الإقليمية في الشرق الأوسط؟

في زمن يتحول فيه الاقتصاد العالمي إلى فضاءات حمائية. يقدم الخبراء تنبؤاتهم فيما يتعلق بالدول الأكثر دينامية في هذه المنافسة الصاعدة. ويضعون جملة من المواصفات للدول التي تتمتع بأكبر الفرص للاستجابة للتحولات الكونية. 1. الديموغرافية المتوسطة والمرنة التي تستطيع تحريك مقدراتها ومواردها بمرونة. 2. الأهمية الاستراتيجية في النظام متعدد الأقطاب 3. اقتصاد متقدم ديناميكي يستقبل مشاريع الإقلاع المتقدمة.4. الاستقرار السياسي والسلم الأهلي 5. سوق داخلية نشيطة تسمح بازدهار الصناعة المحلية.

الوضع الإقليمي في الشرق الأوسط والخليج:

تفرض الشروط الكونية عملية تحول عميقة في الشرق الأوسط سواء تعلق الأمر بالممرات البحرية الحيوية أو بالنسبة للاقتصاد العالمي، او بآفاق التنمية ونمو الصناعة والتقنيات والتحضر في الإقليم. ليصبح سؤال تكوين فضاء استراتيجي – اقتصادي موحد في الإقليم سؤال بقاء حيوي لمجمل المنطقة.

تتمتع دول الخليج العربية بقدرات استراتيجية وسياسية رائدة لتكون العمود المؤسس لهذا الفضاء الاستراتيجي الإقليمي. وتتيح التحولات الهيكلية المؤسِّسة التي يقودها سمو الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، والتي تشمل جميع نواحي الحياة في المملكة، من بنية الدولة، إلى المجتمع والسياسة والثقافة والابتكار، أفاقًا واسعة. كما يتيح التحالف المجتمعي الواسع لقوى الشباب تعزيز التماسك والهوية ويكرس دور المملكة الإقليمي والدولي

لذلك نستطيع القول بثقة أن التحولات الراهنة تتيح تعظيم مكانة وقوة المملكة العربية السعودية لتكون العمود المؤسس لهذا الفضاء الاستراتيجي الإقليمي.

إنه الفراغ الكبير الذي يبحث عن المملكة لتملأه!

ثمة فراغ استراتيجي في الريادة الإقليمية نتيجة تراجع عوامل الاستقرار وتفاقم مخاطر الحرب الإقليمية. وثمة فراغ استراتيجي في إدارة أمن الممرات البحرية وثمة فراغ فادح في حماية سلاسل التوريد والإنتاج الإقليمية والدولية، وثمة فراغ في إدارة البعد العقائدي والثقافي المشرقي والإسلامي الكوني في القرن الحالي. حيث يقع العالم الإسلامي في قلب التحولات الاستراتيجية الواعدة اقتصادياً سواء من حيث الموارد والخامات أو من حيث أهميته الإنتاجية والسوقية.

وبعد أن قطعت الحرب الباردة، لعدة عقود، التواصل الاستراتيجي بين شمال البحر المتوسط وأوروبا من جهة وبين جنوب المتوسط وفضاء جزيرة العرب من جهة أخرى، فإن الضعف الذي تعاني منه العديد من الدول المتوسطية، يعطي المملكة مكانة استثنائية في جسر الهوة من موقع الحليف الند.

لا يستتبع هذه الوقائع، اندراج المشرق العربي والجزيرة العربية وبخاصة المملكة العربية السعودية، في أي من الأقطاب المتصارعة في العالم، بل على العكس لعل الموقف الندي وعلاقات الشراكة ستكون هي التموضع المناسب للمملكة وللإقليم.

في زمن تحتل فيه السياسة المرتكزة على ترجيح السلام ودرء الحروب، وتجنب التورط في أي من النزاعات، قوة كامنة هائلة بالنسبة للدول العربية الخليجية، تصبح هذه الدول عاملًا جوهريًا في تعظيم قدرات جذب المنظومة الإقليمية الشرق أوسطية.

إنها فرصة تاريخية لبناء محور إقليمي جديد، عقلاني، مرن، يوازن بين الهوية الوطنية والانفتاح الإقليمي، ويتجاوز منطق الحروب والاستقطاب. وبقدر ما تكون الفرص كبيرة بقدر ما تكون مخاطر تجاهلها أكبر وأفدح.

فالدول التي تفقد قدرتها على الحوكمة، ستفقد قريبًا وجودها كدولة. ذلك أن الغرب لم يعد يرى نفسه مسؤولاً أخلاقياً عن انهيار الدول وفشلها في ظل تفكك العولمة الراهن. بل يتجه العالم نحو منطق أكثر نفعية وبراغماتية لتصير كل دولة مسؤولة عن ذاتها، وعن بناء نموذجها الاقتصادي التنموي، وإلا ستُترك خلف القطار.

لا يفيدنا التاريخ في استشراف ما بعد العاصفة، لكنه يعلمنا دون شك التنبؤ بها، ويعلمنا أن نرى ملامح التشقق في الحاضر واستحالة دوامه، ويعلمنا التحسب والتحضير للطوفان.

وكما تقول الأسفار، لو انتظر نوح الطوفان كي يبني سفينته، لغرقت الكائنات عن بكرة أبيها.

مقالات لنفس الكاتب