كتب فرنسيس فوكوياما مقالة في عدد يناير 2012 من مجلة ( Foreign Affairs)، تحت عنوان "مستقبل التاريخ" ، وقد أبدى فوكوياما قلقة على مصير الديمقراطية الليبرالية ، وكان فوكوياما قد كتب مقالة في خريف 1989 في مجلة( The National Interest) الأمريكية موسومة " نهاية التاريخ " وكان قد بشر فيها بانتصار الديمقراطية الليبرالية بعد أن سقطت الماركسية في الوقت الذي كان الاتحاد السوفيتي يحتضر ثم سقط رسميا في عام 1991. ولكنه اليوم يبدي تشاؤمه حول مصير الديمقراطية الليبرالية . فما هي الأيديولوجية القادمة بعد الشيوعية والديمقراطية الليبرالية ؟
نهاية التاريخ ونشوة النصر
اعتبر فوكوياما سقوط الماركسية بزوال الاتحاد السوفيتي انتصارا أيديولوجيا للرأسمالية الأمريكية ، وقد أثارت مقالة نهاية التاريخ جدلا واسعا بين المفكرين ليس على مستوى الولايات المتحدة فقط بل على مستوى العالم ، وعلى إثر ذلك طور دراسته ونشرها فيما بعد في كتابه " نهاية التاريخ والانسان الاخير " ولكن مقولة نهاية التاريخ وجدت تحديا من أستاذه في جامعة هارفارد والذي أشرف على رسالته للدكتوراه صموئيل هنتنجتون في مقالته في صيف 1993 في مجلة (Foreign Affairs) " صدام الحضارات " والتي أيضا أثارت جدلا واسعا حتى الآن ، ويرى هنتنجتون أن التاريخ لا ينتهي بالديمقراطية الليبرالية بل ستواجه تحديا بصدام الحضارات ، وركز هنتنجتون على الصدام بين الحضارة الإسلامية والغربية واضاف لهذا الصدام الحضارة الكونفوشسية (الصين) ، وقد تأثرت سياسية الولايات المتحدة في عهد بوش الابن بنظرية صدام الحضارات ، والواقع أن فوكوياما وأستاذه هنتنجتون نظر كل منهما من زاوية عرقية (عنصرية ) ، وكأن التاريخ والفكر محتكرا على الحضارة الغربية ، وهناك حضارات وتيارات فكرية خارج العالم الغربي لعبت دورها في التاريخ الإنساني ، سواء الحضارة الإسلامية أو الصينية ، وهذا يذكرنا بكتاب إدوارد سعيد " الاستشراق " الذي انتقد فيه دراسات المستشرقين عن الحضارة الاسلامية ووصفهم بعدم الموضوعية والحقد الذي أبعدهم عن الحقيقة ، وقد تراجع فوكوياما فيما بعد عن نهاية التاريخ لأنه ليس أول مفكر قال بنهاية التاريخ فقد قالها من قبل كل من الفيلسوف الألماني هيجل عندما أصابه الغرور وقال عندي ينهتي التاريخ " بالجدلية المثالية " وجاء من بعد هيجل ماركس ، بقوله عندي ينتهي التاريخ عندما طرح النظرية الماركسية ، فانتهت المثالية وسقطت الماركسية ولم ينتهي التاريخ ، وكذلك تراجع فوكوياما ، وهو يتحدث اليوم عن مستقبل التاريخ وكأنه رثاء للديمقراطية الغربية.
واليوم وبعد عقدين ونيف يتأسف فوكوياما على مصير الديمقراطية الليبرالية التي كانت دفعت نشوة النصر على الاتحاد السوفيتي لأن يبشر بالديمقراطية الليبرالية ، الديمقراطية الأمريكية ، ولكنه في ظل الأزمة الاقتصادية التي تواجهها الرأسمالية والمظاهرات الشعبية تجتاح وول ستريت في نيويورك ، المركز المالي والتجاري، الذي يمثل رمز القوة الاقتصادية الأمريكية ، يتباكى فوكوياما على الديمقراطية الليبرالية ، في ظل غياب الطبقة الوسطى ، بسبب الفجوة الواسعة بين الأغنياء والفقراء .
نهاية هيمنة الرأسمالية الأمريكية
لقد حمل الرئيس البرازيلي السابق ليولا دي سيلفا الأزمة المالية العالمية للولايات المتحدة بقوله " إن الأزمة سببها الناس ذوي البشرة البيضاء والعيون الزرقاء " وحتى فوكوياما نفسه اعترف بأن الرأسمالية الأمريكية لم تعد جذابة لأحد في العالم اليوم . ويقول شارل كيوبشان أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جورج تاون منذ عام 2008 لقد فقد عدد من الأمريكيين منازلهم ووظائفهم ومدخرات التقاعد ورجعوا إلى عهد الركود في أجور الطبقة الوسطى ، ففي العشر سنوات الأخيرة فقد أصحاب المنازل 10 في المئة من دخلهم ، وإن الفارق في الدخل قد ارتفع بين الأمريكيين مما جعل الولايات المتحدة الدولة الأولى بين الدول الصناعية التي فيها التفاوت في الدخل ، وحسب ما يقوله كيوبشان تراجع منافسة العمالة الأمريكية في ظل العولمة " الأمركة " ، فعلى سبيل المثال فإن شركة جنرال موتور الأمريكية التي تقدر ب 35 مليار دولار ، وتوظف في داخل الولايات المتحدة 77 ألف عامل ، بينما على مستوى العالم خارج الولايات المتحدة 208 ألف موظف ، وهذا يعني البحث عن الربح لرخص العمالة خارج الولايات المتحدة ، ويكون على حساب العامل الأمريكي ، وهكذا الشركات العملاقة الأخرى .
أثارت مقالة نهاية التاريخ لفوكاياما جدلا واسعا بين المفكرين على مستوى العالم
يرى هنتنجتون أن التاريخ لا ينتهي بالديمقراطية الليبرالية بل ستواجه تحديا بصدام الحضارات
أزمة الاتحاد الأوروبي وتراجع الاقتصاد الياباني
وإذا كانت الرأسمالية الأمريكية في تراجع ، فالاتحاد الأوروبي يواجه أزمة مالية في دولة من دوله تعاني أزمة الديون تهدد بمصير الاتحاد الأوروبي ، وهي أزمة اليونان ، وهناك من يتوقع أزمة لإسبانيا ، والجدل في داخل الاتحاد الأوروبي حول من يتحمل المسؤولية لحل أزمة اليونان ، وتتجه الانظار إلى ألمانيا الدولة الاقوى اقتصاديا في الاتحاد الأوروبي ، وبغض النظر في قضية أزمة اليونان ، فالاتحاد يواجه مشكلات أخرى وهي شيخوخة السكان في الوقت الذي يقع في جنوب المتوسط دولا تتميز بالشعوب الشابة الباحثة عن عمل ، وفي وقت عجزت أوروبا عن دمج السكان المسلمين في المجتمع الأوروبي ، فأوروبا تواجه أزمة اقتصادية وأزمة اجتماعية تضع مسألة الاتحاد الأوروبي في محل استفهام ، خاصة أن الاتحاد الأوروبي منذ معاهدة روما 1957 ، كانت ويلات الحرب العالمية الثانية وملايين القتلى , رأوا في الاتحاد خلاصا لهم من شبح حرب أخرى ، ولكن الجيل الجديد في أوروبا لم يشهد أو يعاني من الحروب حتى يتفهم ضرورة الاتحاد ولكنه باحث عن عمل ولحل عن مشكلاته الاقتصادية ، مما يهدد الاتحاد في حالة الفشل في ايجاد حلول لمشكلات الجيل الجديد.
أما الرأسمالية اليابانية فهي في تراجع فمنذ نهاية عقد الثمانينات من القرن الماضي حدث تراجع في دخل الطبقة الوسطى في اليابان ، وصعود في عدم المساواة في في اليابان ، فقد كانت نسبة الفقر في أواخر الثمانينات 7 في المئة باليابان ، أصبحت 16 في المئة مع عام 2009 ، وهي نسبة عالية في دولة مثل اليابان ، كانت في عام 1989 ، تحتل المرتبة الرابعة في الاقتصاد العالمي ولكنها احتلت المرتبة 24 في عام 2010 ، فقد عانت اليابان في الوقت الذي يتصاعد فيه النمو الاقتصادي عند جيرانها الصين الشعبية والنمور الآسيوية .
إن الغرب يعاني أزمة الرأسمالية الاقتصادية ويعاني ايضا من أزمة الديمقراطية الليبرالية ، فالليبرالية الجديدة التي تبناها كل من ريغان في الولايات المتحدة ومارغريت تاتشر في المملكة المتحدة عندما تركت العنان للحرية الاقتصادية وبدون قيود ، أدت إلى هذه الكوارث الاقتصادية .
روسيا والصين : أنظمة سلطوية واقتصاد ينمو
إن الصين أكبر دولة في العالم سكانا والأولى في النمو الاقتصادي في العالم لها نظام اقتصادي متفرد الوجهة، وكذلك روسيا تشهد نموا في ظل نظام سلطوي، مما يجعل الصين كما يقول عايز جات الدولة العظمى السلطوية في العالم ، فالصين ذات اقتصاد موجه ليست الحرية مطلقة فالدولة ما زالت تتدخل في السياسية الاقتصادية وليست دولة حارسة . وفي ظل تراجع الرأسمالية الغربية والديمقراطية الليبرالية ، التي أدت إلى عدم المساواة وتعاظم فارق الدخل وهيمنة أقلية تملك المال على الحياة الاقتصادية وحتى في التشريع الذي يحد من نفوذها ، فجماعة المصالح التي تملك الثروة تشكل مشكلة في الولايات المتحدة جعلت فوكوياما يتشائم في ايجاد حل في المستقبل القريب لتراجع الدخل وغياب الطبقة الوسطى وجشع رأس المال ، ولكنه يتمنى أيدولوجية جديدة.
فوكوياما وأيديولوجا جديدة : نهاية هيمنة جماعة المصالح
وحيث أن الديمقراطية الليبرالية تحتضر كما يراها فوكوياما ، فإنه يطرح خطوطا عريضة لأيديولوجية جديدة : تتحرر سياسة الديمقراطية من هيمنة الاقتصاد ، وجعل شرعية الحكومات مرتبطة بتحقيق المصلحة العامة ، وإعادة هيكلة القطاع العام بعيدا عن هميمنة جماعة المصالح ، أيديولوجية تحقق مصالح العباد وتحمي الطبقة الوسطى ، وأن لا يكون اقتصاد السوق غاية في ذاته بقدر ما هو وسيلة لتحقيق مصلحة العباد ، وكأن فوكوياما يرى تدخلا للدولة لحماية المواطن من جشع الرأسمالية المتوحشة التي أطلقت لاقتصاد السوق العنان بلا قيود مما جعل فئة قليلة في المجتمع الرأسمالي تملك المال تتحكم في العباد وتفرض أجندتها القائمة على الربح بلا حدود ، حتى تحكمت في السياسة في المجتمعات الرأسمالية . إن التوزيع العادل للثروة هو جوهر ما يطرحة فوكوياما وليس مصلحة فئة تملك المال وتستخدمه لصالحها ، فالقطاع المالي في واشنطن أفسد الحياة السياسة على حد تعبيره حتى أن هذه الفئة الصغيرة تقاوم التغيير خوفا على مصالحها، فليس غريبا أن نشهد مظاهرات في شوارع وول ستريت تردد شعارات اسقاط أصحاب المال، مطالبة بعيش كريم ، فسبحان مغير الأحوال ، إذ لم تعد واشنطن أرض الفرص السانحة ، وكأن حال رأسمالية السوق والديمقراطية الليبرالية في طريقهما إلى مصير الشيوعية .
الأيديولوجية القادمة: لا شرقية ولا غربية
إن الأزمة المالية التي اجتاحت الغرب ، بسبب الجشع المالي وعندما فقد الناس منازلهم بسبب سياسة الليبرالية الجديدة ، نادى البابا قبل عامين وعلى صفحات صحيفة الفاتكان بأن تأخذ البنوك الغربية بأخلاقية المصارف الإسلامية الي كانت إلى حد كبير بعيدة عن الأزمة المالية ، وبعيدة عن الربا المحرم ، وهذه دفعت كثيرا من البنوك الغربية بأن تسمح بالتداول في بعض جوانبها بالمصرفية الإسلامية ، وأخذت دول أوروبية تستقطب المالية الإسلامية لإنقاذ نفسها ، فهل في المستقبل تكون المصرفية الإسلامية ، هي السائدة ، قد يكون ذلك يحتاج إلى وقت وجهد من القائمين على المصرفية الإسلامية ، وبالتالي ـ فالاسلام أيديولوجية جاءت بالحلول لمشكلات الإنسان الاجتماعية والاقتصادية وغيرها ـ فهي أيدديولوجية شاملة ، تحترم الفرد والجماعة ، وليست أفكار فوكوياما هي الأيديولوجية التي تحل مشكلات العالم ، ففي ظل التغيرات العالمية ، فالأيديولوجية لمستقبل العالم ستكون من الشرق الأوسط ، مهد الديانات السماوية ، ويبقى الإسلام هو المنقذ لأزمات العالم الاقتصادية وغيرها من أزمات.