ثمة معوقات سياسية واجتماعية لقيام ومن ثم لنمو وتطور مؤسسات المجتمع المدني التي باتت في العصر الحديث تحتل طليعة المؤسسات المدنية الداعمة للدول والحكومات وبالطبع للمواطنين وتنامي احتياجاتهم.
إذا ما وضعنا جانباً معوقات السياسة ومؤسساتها وثقافتها السلطوية لظهور ونمو، بل ولتطور مؤسسات المجتمع المدني، فإن الثقافة التقليدية تعد في طليعة معوقات حركة مؤسسات المجتمع المدني الحديثة. فمؤسسات المجتمع المدني بشكلها الحديث وبمسؤولياتها وواجباتها الحديثة وبثقافتها المدنية الغربية قد تكون غريبة بعض الشيء عن ثقافة المجتمعات التقليدية التي دائماً على مدى التاريخ كانت تعيش في إطار حركة مؤسسات مدنية تقليدية ذاتية محدودة في كافة مجالاتها وأطرها العملية بل حتى الوظيفية.
بمعنى آخر فإن ثقافة المجتمعات التقليدية تعد في طليعة معوقات ظهور مؤسسات المجتمع المدني الحديث لكونها لا تزال تتقوقع في ثقافتها التقليدية غير ملتفتة لحاجتها الماسة لتبني بعض من ثقافة المجتمع المدني الحديثة بمؤسساتها العصرية وخدماتها العامة. فحاجات المجتمع ومصالحه في حركة مستمرة من التطور المعقد بفعل حركة التطور والتحديث الاجتماعي والاقتصادي والصناعي والتجاري، فيما لا تزال ساكنة إن لم تكن راكدة قوى حركة مؤسساته التقليدية، التي من المفترض أن تنمو لتلبية تلك الاحتياجات والمصالح المتنامية خاصة على المستوى الاجتماعي.
مؤسسات المجتمع المدني بشكلها الحديث قد تكون غريبة بعض الشيء عن ثقافة المجتمع التقليدية
ولكون ثقافة المجتمع، أي مجتمع في العالم، تعكسها شخصية المجتمع بل هويته الوطنية أو (القومية) بجوانبها المادية والروحية وبمكوناتها المختلفة المرئية وغير المرئية التي تكونت بفعل تلاقح الإنسان مع الجغرافيا ومع عامل الزمن عبر سلسلة متصلة من رابطة التاريخ المشترك والعقيدة المشتركة اللذين يصهران تلك العوامل الإنسانية وغير الإنسانية في بوتقة واحدة يطلق عليها الهوية أو الشخصية الوطنية، فإن ظهور أية ثقافة حديثة جديدة يعتبر تهديداً مباشراً للثقافة التقليدية.
وعلى النقيض من ذلك فإن الثقافة الكونية التي يطلق عليها البعض الثقافة الإنسانية تختلف في المبادئ والقيم، والفكر والتصورات، ناهيك عن التوجهات والأهداف عن الثقافة التقليدية ما يعني حتمية ظهور صراع بين الثقافتين المتناقضتين بسبب حركة الإحلال والتصفية الحتمية.
وتتضح ثقافة المجتمع التقليدية في مجمل أفكار المجتمع، كل المجتمع وليس جزءاً منه بقيمه وعاداته وتقاليده ومفاهيمه وتصوراته وعلومه ومعارفه ومداركه التي تعد حصيلة إجمالية للمعرفة الداخلية أو المحلية التي تكونت بفعل الجهود الاجتماعية الذاتية، بالإضافة إلى محصلة احتكاك المجتمع وتفاعله مع الكيانات والجماعات الإنسانية الخارجية القريبة أو مع المجتمعات الإنسانية الأخرى المشاركة لها في عامل الجغرافيا.
ولهذا السبب الرئيسي تحديداً لا تزال حتى الآن مؤسسات المجتمع المدني في غالبية الدول الخليجية والعربية تحبو في مرحلة الطفولة المبكرة. أضف إلى ذلك فإن العوامل التالية (التي تتفرع عن السبب الرئيسي) تسهم بدورها في عرقلة نمو وتطور بل حتى ظهور مؤسسات المجتمع المدني، وهي كما يلي:
1- هيمنة النظرة الفردية على غالبية أفراد المجتمعات التقليدية، فمعظم الأفراد ينظرون إلى مؤسسات المجتمع المدني على أنها مؤسسات يمكن أن تتدخل في شؤونهم وحياتهم الخاصة، كما يمكن أن تؤثر فيها وفي علاقاتهم الخاصة بأفراد المجتمع.
2 - الحرص على تحقيق المصلحة الفردية بجهود فردية لغالبية أفراد المجتمعات التقليدية، حيث عادة ما يعتمد الأفراد في جل نشاطاتهم الاجتماعية وغيرها على أنفسهم وأقاربهم ومعارفهم، الأمر الذي لا يساعد على نمو وتطور مؤسسات المجتمع المدني.
3 - التخوف من العمل الجماعي المؤسساتي. فعادة ما يتخوف أفراد المجتمع التقليدي بثقافته التقليدية من العمل الجماعي المؤسساتي ( بالطبع لا يعني هذا التخوف من العمل الجماعي الأسري أو المعارفي أو القبلي أو حتى الجماعي الديني) الذي يشتمل في عضويته على أفراد من خارج إطار الأسرة أو القبيلة أو جماعات الرفاق التقليدية.
4 - وجود أزمة ثقة بين أفراد المجتمع والعمل المؤسساتي المدني سواء من حيث التنظيم، أو تطبيق التعليمات والقوانين والأنظمة، أو حتى الأهداف والمصالح. فغالبية المجتمعات التقليدية لا تثق بمؤسسات المجتمع المدني، بل إنها لا تؤمن بأهدافها العامة ومصالحها العامة وأساليب عملها العامة أيضاً.
5 - عزوف نسبة كبيرة من أفراد المجتمع عن تقديم معونات ومساعدات وهبات مادية لمؤسسات المجتمع المدني غير الدينية للأسباب السابقة، ولعدم وجود قناعة بوجود مؤسسات المجتمع المدني وغاياتها وأهدافها.
6 - غياب ثقافة العمل التطوعي عن وعي نسبة كبيرة من أفراد المجتمعات التقليدية، حيث دأبت نسبة كبيرة من أفراد المجتمع التقليدي على تلقي مقابل مادي لجهودهم أو نشاطاتهم وبالطبع الخدمات التي يقدمونها خارج أطرهم وكياناتهم التقليدية.
7 - خوف اجتماعي من نشاطات مؤسسات المجتمع المدني سواء من حيث التخوف على ضياع أو تشوه العادات والتقاليد والقيم التقليدية، أو من حيث تهديد مؤسسات المجتمع المدني للخصوصية الفردية والجماعية.
8 - تخوف الأنظمة الحاكمة من نشاطات مؤسسات المجتمع المدني، حيث تعتقد حكومات بعض الدول أن مؤسسات المجتمع المدني تمثل خطورة سياسية وربما أمنية عليها. فيما تعتقد بعضها الآخر أن مؤسسات المجتمع المدني تمثل تهديداً مباشراً لسلطاتها سواء الخوف من المنافسة أو المشاركة في السلطة. ولهذا تحرص بعض الحكومات على منع نشوء مؤسسات المجتمع المدني، وإن لم يكن لها خيار آخر إلا إنشاء مؤسسات المجتمع المدني، فإنها تحرص على إعاقة حركة مؤسسات المجتمع المدني ووضع العراقيل والتنظيمات والقوانين التي تحد من نشاطاتها وانتشار هذه النشاطات.
9 - تخوف رجال الأعمال والمؤسسات الاقتصادية والتجارية من نمو مؤسسات المجتمع المدني، إذ يعتقد البعض من رجال الأعمال أن وظائف وحركة مؤسسات المجتمع المدني قد تقلل من أرباحهم ومن إحكام سيطرتهم على القطاع الخاص وحركة المجتمع الاقتصادية.
10 – تخوف المؤسسات الدينية من مؤسسات المجتمع المدني، حيث تعتقد بعض المؤسسات الدينية أن مؤسسات المجتمع المدني قد تصبح نداً ومنافسة لها وربما قد تعارض سياساتها ما يعني وجود مؤسسات مدنية تمثل خطورة على السلطة التقليدية للمؤسسات الدينية.
والذي يمكن استنتاجه أن الفرد نتاج للبيئة الاجتماعية التي يولد وينشأ ويترعرع في أحضانها سواء كانت بيئته الأسرية أو البيئة الاجتماعية الكلية، وينسحب هذا بالطبع على الجماعة التي تتشكل من الكل، من الأفراد. وإذا ما قلنا إن للبيئة الاجتماعية تأثيراً مباشراً في الفرد وفي الجماعة من خلال منظومة ألقيم والعادات والتقاليد الاجتماعية التي تغذي بدورها ثقافة الفرد والجماعة والمجتمع، فمن الطبيعي أن تتمكن الثقافة التقليدية من منع نشوء أو إضعاف حركة مؤسسات المجتمع المدني في مجتمعاتها.
بيد أنه ورغم وجود نوع من الجفاء أو العداء بين المجتمع المدني بثقافته التقليدية ومؤسسات المجتمع المدني خصوصا في المجتمعات الخليجية، فإنه من الصعب جداً الحكم على البيئة الاجتماعية برمتها بخلفيتها الثقافية والدينية والحضارية من خلال عزوفها عن المشاركة، ناهيك عن دعم وتأييد مؤسسات المجتمع المدني بشكلها الحديث وأساليب عملها المؤسساتي القانوني المنظم. هذه حقيقة لكنها من الحقائق المغيبة عن واقع الوعي الإنساني في المجتمعات التقليدية وتلك المجتمعات التي تنتقدها أو تعتبرها من المجتمعات الدونية.
ولا شك في أن انتشار الثقافة العالمية بعد هيمنة عصر العولمة على حركة العالم الثقافية لا يعني بالضرورة وكرد فعل لها أن (تتصومع) بعض المجتمعات التقليدية تبعاً لتحجر أو صومعة بعض العقول المؤثرة أو المتمكنة في صوامع أيديولوجية مغلقة ترفض كل شيء وتعيق حركة كل من يحاول التحرك. ومن جهة أخرى، لا يعني انتشار الثقافة العالمية في معظم أنحاء العالم أن تغدو ثقافات المجتمعات التقليدية ثقافات متخلفة أو دونية كما يحلو للبعض من المحللين والدارسين في مجال العلوم الاجتماعية أن يشير إليها أو ينعتها أو يسميها.
صحيح أن عدم وجود أو غياب أو ضعف مؤسسات المجتمع المدني في بعض المجتمعات الإنسانية خاصة التقليدية يحرمها من ممارسة الكثير من حقوقها الطبيعية أو القانونية، وقد يمنعها من الحصول أو الحفاظ على حقوقها المشروعة، كما قد يعيقها بالفعل عن تقديم خدمات اجتماعية وثقافية وعلمية وخيرية مدنية ينتفع منها المجتمع كل المجتمع. بيد أن تخلف بعض الجماعات في وعيها الإنساني، بل حتى في وعيها المدني قروناً إلى الوراء، لا يعني بقاء الحال على حاله، ولا يعني أيضاً الخضوع والخنوع لثقافتهم التقليدية ولوعيهم المتقوقع في غياهب الماضي، كما لا يعني الاستسلام لمحاولاتهم لفرض واقعهم التليد على مجتمعاتهم المعاصرة.
والذي يمكن قوله في هذا الصدد، إن صومعة الفكر تفرز ثقافة تقليدية رجعية بدورها تساعد على التقوقع والتشدد والتزمت والأخيرة لا محالة تنتج ثقافة التطرف التي لا يمكن أن تعترف بحقوق الآخرين في ممارسة مسؤولياتهم وواجباتهم المدنية، كما لا يمكن أن تسمح بالحوار أو الجدل معها لمناقشة قضايا وحاجات مدنية ملحة، ناهيك عن أن تسمح بمعارضتها أو حتى مساءلتها في ما يتعلق بالحقوق والواجبات والمسؤوليات المدنية.
إن السجال في عرف ثقافة التطرف سجال لا يكون إلا بالفعل العنيف والسلوك القاتل والمدمر لا بالقول والحوار. ولغة التخاطب المدني في عرف ثقافة التطرف هي لغة القمع والمنع والتحريم وفرضها على الجميع وإن تطلب الأمر فرضها بقوة الحديد والنار والبارود.