منذ الأزل والإنسان يفكر بذاته والذات المقابلة، وسعى منذ نشوء البشرية إلى (التشوف) والتفكر والـتأمل في حاله وفقاً لاستقراء قدراته الذاتية محاولاً بناء مصفوفة رياضية مفادها أن اليوم القادم هو جدول أعمال ولا بد من التحسب لكل فرصه وتحدياته، ووفق هذا المنظور البسيط تطورت دراسات في حقل (التشوف) والتفكر والتأمل حاولت إضفاء المنهجية والعقلنة على إدارة التفكير الإنساني لتؤطر لنا بعد نشوء الدولة ككيان ذاتي بزوغ الدراسات العلمية في حقل المستقبليات بعد أن تداولتها الأمم والشعوب بصور شتى.
كانت الدراسات المستقبلية قارباً من قوارب التلمس للغد القادم وفتحاً من الفتوحات العلمية لاستقراء الأبعاد والاتجاهات والمشاهد الخاصة بالسلوك الدولي، وهنا تكمن المشكلة التي نحاول الولوج للبحث بها في كيفية توطين هذه الدراسات في البحث العلمي لمراكز ومعاهد الدراسات في العالم العربي والخليج بوجه خاص.
الثقافة السائدة في مجتمعاتنا من المحيط إلى الخليج لا علاقة لها مطلقاً بالتخطيط المستقبلي
وتعاني الدراسات والبحوث في مجال الدراسات الاستراتيجية والسياسية في العالم العربي والخليج بوجه خاص من القصور في الرؤية المستقبلية أو الابتعاد عنها باعتبارها ترفاً فكرياً، وهذا ما نحاول التأسيس له من خلال البحث في الدراسات المستقبلية التي تقدمت جداً في عالم الشمال بينما تراجعت في عالم الجنوب وخصوصاً أن العديد من دول العالم العربي تواجهها بالعزوف.
تطور الرؤية في الدراسات المستقبلية
إن التحديات التي تواجه البشرية ودول الخليج على وجه التحديد باتت في مطلع القرن الحادي والعشرين معقدة ولا يمكن حلحلتها بالجهود الذاتية، وتبدو عصية على الحل، فمعدلات الاستهلاك الحالية للبشر ليست غير متوازنة فقط، بل أيضاً تولد تأثير الغازات الحابسة للحرارة في الغلاف الجوي، وتتسبب في فقدان التنوع البيولوجي، وصعوبات في الحصول على موارد المياه الكافية، وتناقص للموارد غير المتجددة، وتلوث من مختلف الأشكال. وهناك تخوف متزايد من أن بقاءنا على هذا الكوكب مهدد.
ولهذا نحتاج إلى استشراف رؤية مستقبلية بدقة أكبر (سيد يسين، نظرة استشرافية للتطوات العالمية في القرن 21)، لتقود إلى تصور أفضل للمستقبل، وللعمل على تطوير مفهوم (الصالح العام) عبر الكوكب بأكمله، وتعمل على التعامل مع المحيط الحيوي على أنه حديقة الحياة التي تضم عدداً لا نهائياً من النظم البيئية المعقدة والمتفاعلة مع بعضها، والبشرية هي البستاني الحكيم الذي يدير مجمل الموارد الطبيعية. وهدفنا الأسمى هو الحفاظ على صحة المحيط الحيوي وسلامته لصالح الأجيال القادمة (تييرى جودان وآخرون، العلماء المشـتغلون باستقراء المستـقبل).
وإذا كانت دراسات المستقبل في الوطن العربي منذ الخمسينات وصولاً إلى نهاية السبعينات قد وجدتمعوقات متعددة وانتهت إلى أن المستقبل لم يدخل في الإدراك العربي (د. هادي نعمان الهيتي، إشكالية المستقبل في الوعي العربي).
ويلاحظ معظم الباحثين والمتابعين للشأن التنموي في العالم أن (هذه الدراساتالمستقبلية لا تزال محدودة جداً في العالم العربي، وحين يتم إجراء دراسات من هذاالنوع فإنها لا تخرج عن النطاق الأكاديمي، ولا تكون جزءاً من نسيج التفكير الاجتماعي أو من الممارسة الفعلية، سواء على مستوى الحكومة أو على مستوى الأفراد (أزراج عمر، الدراسات المستقبلية بين المفهوم والممارسة: كيف يبنى (علم المستقبليات)؟ ).
صحيح أن هناك شبه انقطاع كامل بين النطاق الأكاديمي الجامعي وبين ما ندعوه بالحياةالعامة في بلداننا، إلى ما يعرف بخدمة المجتمع، ويتجلى هذا الانقطاع الخطير في حصر البحث بالقضايا ذات الصلةبالاقتصاد، أو التوظيف أو الإسكان أو المواصلات مثلاً بين أروقة الجامعة ومراكزالبحث والتخطيط، حيث إن نتائج هذه الأبحاث لا تستفيد منها القطاعات المعنية فيالمحافظات أو الإمارة، وفي البلديات وعلى مستوى واسع. والحال، فإن الثقافة السائدةفي مجتمعاتنا من المحيط إلى الخليج لا علاقة لها مطلقاً بالتخطيط المستقبلي سواء علىمستوى العائلة، أو على مستوى القرية، فالبلدية، والدائرة حتى الهرم الأعلىللدولة.
وفي الواقع فإن فكرة (علم المستقبليات) ينبغي أن تنطلق من حيثالنظرية والتطبيق معاً من العائلة باعتبارها النواة الأولى والأساسية للمجتمعالسياسي.
ومن هنا فإن تحليل الأسبابالأساسية التي توجد وراء ظاهرة غياب الدراسات العلمية المستقبلية عائلياً ومحلياًووطنياً يتميز بالإيجابية: (فحين نفكر بعمق في حال رب الأسرة ذي الموارد المحدودةوالذي ينجب عشرة أطفال من دون أن يكون لديه أدنى فكرة عن الوسيلة التي سيتدبر بهااحتياجاتهم في مختلف مراحل حياتهم المقبلة، نجد الموقف الفكري الكامن من وراء هذاالتصرف هو أن المستقبل في أساسه شيء مجهول، وبالتالي فهو يسمح بكافةالاحتمالات).
نحن إذن أمام المشكلة الجوهرية وهي انعدام ثقافة ضبط الحياةوفق مخططات مدروسة تأخذ في الاعتبار الإمكانات المتوفرة والممكنة في كل مجال منالمجالات (د. عبدالمحسن صالح، التنبؤ العلمي ومستقبل الإنسان).
إن انعدام هذا النمط من الثقافة على مستوى العائلة هو الذي يولدالفشل في إيجاد صيغ ملائمة للتسيير والتنمية على مستوى الدولة، وأتفق هنا معالدكتور فؤاد زكريا بأن (هناك عوامل معروفة ترتبط بهذا النوع من التصرف، مثل انخفاضالمستوى التعليمي والاقتصادي إلخ..)، لكن لا بد من التوضيح أيضاً أن القضية فيالجوهر ذات صلة بالثقافة السائدة في المجتمعات العربية في علاقتها بالتنمية بكلألوانها وأشكالها، حيث إنه لا بد من بناء ثقافة التخطيط، ودراسة الواقع علمياً من دون تدخلالعواطف، والخيالات، والعادات الارتجالية، فالرهان هو على الثقافة بمعناها النظريوالسلوكي العملي (د. جلال أمين، مستقبليات : مصر والعرب والعالم في منتصف القرن 21).
ويلاحظ الدكتور فؤاد زكريا (د. فؤاد زكريا، التفكير العلمي، سلسلة عالم المعرفة )، أن هناك ثلاثة أسباب ينبغي معالجتها وتحليلها لأنها هي التي تنتجالذهنية الارتجالية المعادية للتخطيط المستقبلي، فهو يصنفها ويحللها هكذا: (هذهالظاهرة التي قدمنا من قبل تشخيصاً لها على مستويات مختلفة، تحتاج إلى تعليل، فمنالضروري أن نبحث عن الأساليب التي تؤدي بالعقل العربي– على المستويين الشعبي والرسميوكذلك على المستويين الفردي والجماعي– إلى تجنب الاقتراب من منطقة المستقبل، وتركيزكل جهوده في اللحظة الراهنة وفيما هو وقتي مباشر وترك الميدان المستقبلي للظروف من دونمحاولة للتدخل المسبق فيه). ويرد الظاهرة إلى هذه الأسباب: الدينية، والحضارية، والاجتماعية السياسية.
البحث والتطوير لتقنيات التفكير في المستقبل بحاجة إلى ميزانية أكبر من الميزانيات التقليدية
وبخصوص السبب الديني، فإن انتشارأفكار وذهنيات (التواكلية) والاعتقاد بالمحتوم والقدرية تلعب مجتمعة أدواراً فيطمس التفكير المستقبلي، والعلمي والإنساني، ومن هنا فإن المخرج السليم -حسب وجهة نظرالدكتور فؤاد زكريا- هو التصدي بالنقد لكافة الظواهر التي تتصل بهذا النوع من الفهموالتطبيق الخرافي والمتخلف للدين.
إضافة إلى عامل الفهم المتحجر للدينهناك عامل آخر وهو الحضاري المتمثل تحديداً في علاقة الإنسان العربي بالزمن، حيث إن العلاقة بالزمن تحدد مستوى ضعف أو قوة الحضارة، ففي التحليلات التي يستشهد بهاالدكتور فؤاد زكريا، وهي لكل من الدكتور فهمي جدعان، والأستاذ محمود أمين العالم، فالأول يستنتج أن (التاريخ الإسلامي، بعد عصر الخلفاء الراشدين كان ينطوي علىحتمية (التقدم إلى الأسوأ)، أما الأستاذ العالم فيرى أن (النظرة العربية الإسلاميةفي العصر الوسيط كان يسودها بشكل عام مفهوم للزمن يخلو من الرؤية التطورية، بل كانيغلب عليها الطابع الارتدادي)، إن الموقف من الزمن لا يزال كما هو في الثقافةالعربية الراهنة.
أما العامل الثالث الذي حدّده الدكتور فؤاد زكريا فيالاجتماعي والسياسي، فهو بدوره يلعب دوراً مفصلياً في إفراز عقلية الارتجال وعدمالتخطيط العلمي والمستقبلي، فالإنسان العربي المقهور اجتماعياً وسياسياً يولد لديهالانكفاء إلى الذات المغلقة، وعدم الانفتاح على التجارب المعاصرة الناجحة، ويخلقلديه الخوف من المستقبل، ويدفع به إلى الاحتفال النوستالجي بالماضي للتعويض عنالحاضر القاتم والمظلم.
ولذلك فإن تحليل ونقد العوامل الثلاثة من خلالالتاريخ القديم (قسطنطين زريق، نحن والتاريخ) مروراً بالراهن يمكن أن يسهلا عملية بناء فكر وثقافة وذهنيات بديلة من أجل بناءالإنسان الجديد الذي يتسلح بعقيدة وإرادة الحياة التي تتأسس في الحاضر بوساطةالتخطيط العلمي لمجتمع المستقبل الأكثر تحرراً وتنويراً وازدهاراً وعقلانية.
تحديات تدفق فكرة المستقبل
وعلى الرغم من مضي أكثر من خمسين عاماً على نشأة البحوث والدراسات المستقبلية، الا أن العالم العربي ودول الخليج بما فيها العراق مازالت تعاني من النفور الأكاديمي لا بل حتى المهني في التفكير بالمستقبل، ورغم أن بعض مراكز ومعاهد الدراسات المستقبلية استطاعت أن تخطو خطوات مهمة في هذا المجال إلا أن الانتشار الأفقي لثقافة التفكير في الدراسات المستقبلية مازال عمودي الاتجاه وليس أفقي الانتشار لأنماط التفكير والتفكر في مستقبل الظاهرة السياسية قيد البحث، وهذا يمكن أن يكون مرده إلى وجود إشكاليات متنوعة، نظرية ومنهجية، يرجع سببها إلى (محمد فالح الجهني - الدراسات المستقبلية شغف العلم.. وإشكالات المنهج):
1- المستقبل ليس له وجود كشيء مستقل، لذا لا يمكن دراسته، بل من الممكن دراسة أفكار عنه، وتقود هذه الإشكالية إلى نتيجتين مهمتين هما:
أ- تعقد موضوع البحث المستقبلي بين تعامله مع ظواهر اجتماعية بالغة التعقيد، والعوامل العديدة الكثيرة والمتشابكة التي تواجهه والتي يستحيل حصرها أو التحكم فيها في وقت واحد، كما أن التحقّق التجريبي لنتائجه متعذر تماماً.
ب- موضوعية الباحث المستقبلي أو عدمها، حيث يتعذّر على الباحث المستقبلي تخليص نفسه من المعتقدات والآراء والتعصب أو التحامل المستحوذ عليه عن طريق تعليمه وبيئته أو وسطه الذي خرج منه أو قراءاته أو خبراته.
2- ليس ثمة مستقبل واحد بل مستقبلات (د. مازن إسماعيل الرمضاني، الدراسات المستقبلية في الوطن العربي)، وهذه المستقبلات، التي تراوح بين المحتمل والممكن والمرغوب، مشروطة بظروف وعوامل تاريخية مجتمعية وحضارية.
3- التعقد والتشابك (البينية)، فدراسة المستقبل لا يتسنى لها أن تصبح متكاملة إلا إذا نظرنا إلى هذا المستقبل من خلال عدسات مختلفة التخصصات، وأن تكون معاينته في فترات مختلفة من الزمن.
آليات التوطين والاندفاع
إذاً كيف نعمل على تطوير الدراسات المستقبلية وتوطين هذه الدراسات في البحث العلمي لمراكز ومعاهد الدراسات في العالم العربي والخليج بوجه خاص؟
1- إنشاء وحدات متخصصة بالدراسات المستقبلية داخل مراكز ومعاهد البحوث والدراسات في منطقة الخليج.
2- الاستفادة من تجارب الدول المتقدمة في هذا المجال.
3- دعم البحث والدراسات من خلال تخصيصات مالية مستقلة عن ميزانية المراكز أو المعاهد لأن البحث والتطوير لتقنيات التفكير في المستقبل تحتاج إلى ميزانية أكبر من الميزانيات التقليدية وذلك لتعدد آليات البحث وتقنياته.
4- إنشاء وحدة للدراسات المستقبلية في جسد مجلس التعاون الخليجي من أجل تحديد التحديات والعمل على استشراف أبعاد وتأثيرات ذلك على الأمن الإقليمي الخليجي.
5- إقامة مؤتمر سنوي ترعاه كل مراكز الدراسات والبحوث لبحث تطوير تقنيات التفكير في المستقبل تنبثق من ذلك خلية تكاملية من كل المعاهد ومركز الدراسات التخصيصية لوضع مشروع الخليج 2030م.
ونصل إلى نتيجة مما تقدم مفادها أن العالم العربي ودول الخليج اليوم بحاجة حقيقية إلى التوسع في اتجاهيين: الأول على صعيد نسقي أفقي من خلال مراكز الدراسات والبحوث في منطقة الخليج. والثاني بناء عمودي يتم من خلاله تأسيس وتطوير مناهج الدراسات المستقبلية في الدراسات الجامعية وحتى الدراسات الثانوية لما لها أهمية في فك طلاسم التحديات التي يواجهها البشر في مطلع الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، ناهيكم عن أن دول عالم الشمال وصلت إلى درجة عالية من صناعة الهدف وباتت تفكر ما بعد الهدف، أي أنها تدرك العائد لكنها تلوج للبحث عن الفرص المخفية والتي يمكن إبرازها وجعلها أهدافاً تسعى الدولة إلى نيلها وهذا ما يدفعنا للبحث في موضوع الدراسات المستقبلية ببعدها النظري.
إننا اليوم في دول الخليج بحاجة ماسة إلى بناء رؤية فكرية لمشروع الخليج 2030 ونعمل من خلاله على توظيف وتطويع الطاقات العلمية كافة وكل حسب اختصاصه الهادف إلى بناء استراتيجية منطقة الخليج خلال الـ 20 عاماً المقبلة.